الخبز خير من الشعر

رسالة …
رسالة من مايازوكوف إلى القديسة:

عزيزتي القديسة الجميلة، الساعة تشير إلى الواحدة صباحًا، هنا في الحانة لا أدري كم الساعة في الخارج؟ فلِمالِك المشربِ ابنٌ غريب مستهتر، لا يجعلنا نثق بشيء هنا بالداخل، لا الخمر ولا الزمن ولا حتى عيني الساقية الحلوتين كعينيك، الساقية اسمها أولغا التي قد يعني عندها كأس الويسكي زجاجة فودكا، أو كأس جعة، أو حتى خروف مشوي، أو قد لا يعني شيئًا غير فتاة ليل … فإذا قلت لها كم الساعة الآن يا أولغا؟ تقول لك وبدون تردد ودون أن تنظر إلى ساعتها: الواحدة تمامًا.

أعيش الآن في قرية صغيرة على ضفاف نهر لينا، حيث ولد جدي الأكبر «شميلوف» بعد أن ضجرت موسكو ومن عليها، فالوضع هنالك قنبلة موقوتة، وشظايا المافيا الروسية، وتجار المخدرات، وشبكات الرقيق الأبيض، وأسوأ ما في الحضارة الغربية، أقصد الخلاعة والاستهتار بكل شيء.

دعيت مرة إلى ندوة بمعهد جوركي للآداب بعنوان «موت الواقعية الاشتراكية» وكان عنوانًا واضحًا ومحددًا؛ ولكنه كان غريبًا بالنِّسبة لي كمثقف له رؤية خاصة في الأشياء تجعله لا يفهم معنى لموت أي فكر إنساني، أو خلقه من العدم، ورغم ذلك ذهبت، وأوَّل ما أثارني شِعار الندوة الذي عبارة عن لوحة فيها الأديب الروسي مكسيم جوركي بالمايوه، وعلى رأسه طاقية من السعف، وهو يمشي نحو هاوية مرعبة ويسحب خلفه جثة دب متقيحة يتطاير حولها الذباب وبيت من الشعر:

You fell like stone
I died beneath it.

كانت أبيات في سكولوف مُتناثرة كأنها ذبابات تحتفل بالقيح، أمَّا تمثال مكسيم جوركي المشيد في مدخل المعهد، فقد جلس عليه فتًى يلبس الجينز ويدخن المارجونا وهو يرحب بالقادمين صائحًا: اي … هاي … ول كم بيبي.

ورغم ذلك انقسم المنتدون إلى أقسام كثيرة بشأن الواقعية الاشتراكية، فأكد أحدهم أنَّها أسوأ ما أنتجه النظام الشيوعي السابق، وأنها خلقت أدبًا مُلتزمًا دعم الشمولية ودكتاتورية إستالين، ولسببٍ، لستُ أدريه، سبَّ المتحدث جورج لوكاتش واصفًا إياه باللواط الفكري. ورأي آخر يقول: إن الواقعية الاشتراكية فهم إنساني يستطيع أن يواكب كل الأزمنة بتفهمه لمعطيات الواقع الجديد، وإنَّه يحمل شفرة تجدده واستمراريته … وهنالك رأي يقول: إنَّ الواقعية الاشتراكية كانت مهمة في مرحلة تاريخية محددة ولأسباب موضوعية خاصة بالتحرر والاستغلال، أمَّا الآن فلا مكان لها. أمَّا الرأي الرَّابع فهو فهمٌ يُؤَكِّد أن لا قيمة لشيء، لا للواقعية الاشتراكية ولا لمدارس الفن من أجل الفن، ولا جدوى من الأدب فهو ترف برجوازي، وخير منه بعض الحشيش، كأس ويسكي، سرير رخيص بفندق رخيص أو حتى بماخور، عشاء وامرأة رخيصة بعض الشيء إن وجدت.

ومِنَ الغريب أن يستشهد أحدهم بقول بول ايلوار:

الخبز خير من الشعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤