التاريخ يفسر التضخم والتقلص

تعريف التضخُّم والتقلص

إن كلمة التضخم هذه Inflation التي نسمعها الآن في كل مكان لم تكن معروفةً قبل الحرب الماضية إلا في بعض كتب الاقتصاد، ولم يتفق بعدُ خبراءُ علم النقود على تعريف التضخم، فبعضهم وصفه بأنه الكثرة في النقود، وهذا تعريف بدائي، وبعضهم ارتقى به قليلًا فقال: إنه الكثرة في النقود والأثمان، وقال بعض الكُتَّاب المعاصرين: إنه عبارة عن زيادة المقدِرة الشرائية عند الجماعة، وهذا قريبٌ جدًّا للحقيقة؛ لأن مجرد كثرة النقود أو كثرة النقود والأئتمان معًا — وإن كانت في أغلب الحالات من أسباب التضخم — إلا أنها قد لا تؤدي إليه.
ومن ثَمَّ فمن المتعين أن ننظر إلى الثروة الحقيقية عند الجماعة، فإن زادت النقود زيادة متكافئة معها فلا تضخُّم؛ لأن حالة الجماعة تقتضي تلك الزيادة التي تُمليها، ونحن نرى أن نُعرِّفَ التضخم بأنه: الزيادة في النقود عن الحد الواجب لها بالنسبة للسلع والخدمات في بلد من البلاد، ونتمسك بعبارةِ عن الحد الواجب رغم ما في تلك العبارة من تعميم لا يُستَحبُّ في التعاريف، ولكنه هنا مقصودٌ؛ حتى يكون التعريف منطبقًا على الحقيقة، أو أكثر انطباقًا عليها من أي تعريف آخر، ونرى التقلص Deflation — عكس التضخم — هو عبارة عن قلة النقود عن الحد الواجب لها بالنسبة للسلع والخدمات في بلد من البلاد.

نظرية كمية النقود بين التحليل والمعارضة

المسألة إذن مسألةُ مقدار النقود الواجب توافرها في بلد من البلاد لِسدِّ حاجاته المختلفة، إن قَلَّ ذلك المقدار أُصيب الناس بضيق؛ لأنهم لا يملكون ما يكفيهم من نقود، وإن كثر كان في أيديهم ما هو فوق حاجتهم منها فبذلوه ليشتروا السلع فرفعوا أثمانها؛ لذلك كانت السياسة الرشيدةُ في تدبير النقود هي الوقوف بالنقود عند الحد الواجب لها في غير إفراطٍ أو تفريط في كميتها؛ لتكون الأسعار معقولةً والثروات ثابتة، والأرزاق جارية مجراها الطبيعي، فلا يُضار قوم بالضيق أو بالغلاء، ولا تسعد جماعة بشقاء جماعة.

تلك الظواهر الاقتصادية الخطيرة التي شهدناها في الفترة ما بين الحربين الماضية والحاضرة، والتي أخذت تتمثل لنا الآن بعض مقدماتها قد ذكرها المقريزي في رسالة النقود التي ألَّفها سنة ٨١٧ هجرية، وشرح فيها كلَّ ما نسميه الآن بالتضخم والتقلص شرحًا عمليًّا. كما تكلم فيها عن تدهور العملات وإعادة تقديرها، وعن الجيد والرديء من النقود، وعن قواعد السك، وأثر النقود في الأسعار، وقد اقترب من النظرية التي نسميها الآن نظرية كمية النقود، تلك النظرية التي وضع الحجر الأول في بنائها Davanzati سنة ١٥٨٨ ميلادية في كتابه Lezione sulle Monete حين قال فيه:

إن ما يطلبه الناس من أشياء توازي قيمته قيمة ما عندهم من ذهب وفضة ونحاس.

وأخذ Locke تلك العبارة فضرب عليها مثلًا بميزانٍ توضع النقود في إحدى كفتيه والسلع في الكفة الأخرى منه؛ ليكون بينهما قياس وموازنة.
ولكن النقود لا تجلب الخيرات مرة واحدة ثم يبطل عملها، بل هي تنتقل من يد إلى أخرى لتؤدي مهمتها عدة مرات، شأنها في ذلك شأن السفينة تُقاس حمولتها الفعلية بمقدار ما تسير فيه من رحلات، ذلك هو الانتقاد الذي وُجه إلى تلك النظرية في أول دور من أدوارها، وقد تأثر به John Stuart Mill عندما قال بأنه: لو كانت كل قطعة من قطع النقود تُتداول عشر مرات ليبيع بها الناس سلعًا قيمتها مليون من الجنيهات، فإن مائة ألف جنية تكفي، وقد أوضح Sismondi هذه الفكرة بقوله: إن مقدار النقود وهي تُتداول في المعاملات ببلد ما توازي مقدار الدفعات في وقت معين مقسومًا على عدد المرات التي تتداولها الأيدي في ذلك الوقت.
ذلك تطور المعادلة التي تثبت النظرية العتيدة، نظرية كمية النقود Quantity Theory of Money تلك النظرية تؤكد وجود علاقة وثيقة بين كمية النقود وبين الأسعار، وقد عارضها بشدة Hidelbrand، حين كتب في سنة ١٨٨٣ يقول: إنها نظرية سقيمة متكلفة؛ إذ لا محل لربط النقود بالسلع والناس يتبايعون في المعاملات ليحققوا التزاماتٍ معينة المقادير مقدرة القيم عند حدوثها، فلا محل لافتراض كميات غير معينة لنبني عليها نظريات، ولا محل أيضًا لإسناد السرعة في التداول إلى النقود وتشبيه النقود بالسفينة في رحلاتها؛ لأن ذلك قياسٌ مع الفارق، فالسفينة إنما تتحرك حركةً ذاتية بدافع خاص فيها، بينما النقود عملها سلبيٌّ محضٌ يحركها الناس طبق أغراضهم.

وهذه المعارضة — وأكثر منها — لم تنل من النظرية التي بقيت متمكنة في أفئدة الاقتصاديين حتى لاقتْ أخيرًا مناقشات وتحليلات أشبه بالنقد منها بالطعن على النظرية، بعد أن تعدَّدت مصادرُ النقود وتشعبت أغراضها في التقدم الحالي وما استحدثتْه البنوك من نُظُم مؤثرة على سرعة تداول النقود وطرق تداولها، فضلًا عن كون النقود لم تعد فقط تلك القطع المعدنية التي تسكها الحكومات، وإنما جاءت البنوك مالًا لمن لا مال في يده، فهي تأخذ من مدخرات أشخاص لتقرض آخرين، وهذه البنوك فوق ذلك قد تَبسط يدها وقد تَغُلها، وقد تُحْسن إدارة الأموال وقد تسيئها فتسبب النجاح أو الإخفاق للمشروعات وللأعمال الحرة.

هذه الاعتبارات — وغيرها مما تقضي به ظروف وقتنا الحاضر — قد جعلت كُتَّاب النقود يتجادلون فيُكثرون الجدل عند دراستهم للطلب والعرض على النقود لمعرفة حاجة الناس إليها وقيمتها أيضًا عند تأثيرها على الأسعار؛ فمنهم Aftalion يقول: بأن الإيراد القومي هو المسيطر على الموقف الرافع الخافض للأسعار، ومنهم Fisher يرى العبرة بالقدرة الشرائية للنقود عند الجماعات فعليها وحدها المعول، وهذا منطقٌ سليمٌ؛ لأننا لا نقصد النقود لذاتها، بل للمعنى العالقِ بأذهاننا، وهو أنها مجلبة الخيرات، فقدرتها على تحقيق ما نبتغيه منها — بلا شك — أهم العوامل وأبعدها أثرًا في تقدير حاجتنا إلى النقود.

حذار من النظريات والإحصاءات

ذلك عرضٌ عاجل لنظرية كمية النقود، وما وُجِّهَ إليها من نقد نرى أنه لم يزحزحها عن مكانتها، إنما كان في الواقع شرحًا لها وتعليقًا عليها، ولا نُحبُّ أنْ نتوسع في هذا الصدد، فلسنا نرى الأخذ بالنظريات الاقتصادية إلا في تحفُّظ؛ لأنها تختلف عن النظريات الهندسية الواجبة التطبيق في كل زمان ومكان، ونرى أنه من المتعيِّن عند تطبيق أية نظرية اقتصادية أن نقيم وزنًا لجميع الظروف المحيطة بالبلاد التي يُراد التطبيق فيها.

هذا، ولا شيء أبغض إلى نفسي من تلكم المعادلات التي يسلط فيها فقهاء الاقتصاد قواعد الجبر على نظريات النقود كلما أرادوا أن يثبتوا رأيًا لهم أو يقيموا عليه الأدلة. وأكره أيضًا الرسوم البيانية التي يديرونها مستندين فيها على الإحصاءات التي تُصدرها الحكومات والمعاهد العلمية والمالية؛ لتُبيِّن بها فعل النقود بأسعار السلع ونفقات المعيشة. وأعتقد أن هذه الإحصاءات لا تمثل الحقيقة تمامًا، وكثيرًا ما تكون خادعة، فإذا أردنا أن نستخدمها في أي غرض من أغراضنا فليكن على اعتبارها وسيلة تقريبية كثيرًا ما تخطئ.

وإني — لهذه الأسباب — لا أتمسك كثيرًا بالنظريات، ولا أرى أن أعتمد عليها في هذا البحث إلا بقدر؛ لأني أريد أن أجرب طريقة أُخرى تعتمد على الواقع الملموس، فأجعل التاريخ يُحدثنا عن التضخم والتقلُّص، وأجعل التضخم والتقلص كلًّا منهما يفسر لنا نفسه بنفسه، وسبيلي في ذلك أنْ أختار من قصص النقود منذ عرف العالم النقود إلى الآن صورًا نموذجية أشرح بها هذا الموضوع الهامَّ في الوقت الحاضر.

التقلص يسبب أزمة سنة ٥٩٤ق.م في أثينا

كنت أُريد أن آتي هنا بشاهد من تاريخ الليديين، وهم أولُ شعب سك النقود على أصحِّ الأقوال، ولكن لم أعثر على ذلك إلا في تاريخ الإغريق الذين نقلوا عن الليديين فكرة ضرب النقود ونشروها في العالم، فقد جاء ذكرٌ لأزمةٍ حدثتْ بأثينا في سنة ٥٩٤ق.م في كتاب الإيقونوميقا Oeconomica التي توهم بأنها من تأليف أرسطو، وقد وُضعت في القرن الرابع قبل الميلاد، وقال واضعها: إنها مجموعة الوسائل الجديرة بالذكر التي اتَّبَعَها القدماء ليحتالوا بها على جمع المال، وهذا العلم يفيد المرء في تدبير شئونه ومعاشه.

تلك الأزمة سببها قلة النقود عن الحد الواجب لها، فهي — بغير جدل — أزمة تقلص نقدي، ومن المتفق عليه عند المؤرخين أن صولون قد عالج تلك الأزمة التي شَبَّتْ بسببها ثورةٌ بين الدائنين ومدينيهم في أثينا، ولا خلاف بين المؤرخين أيضًا في أن صولون قد حَرَّرَ المدينين، ومنع الدائن أن يسترق مدينه حتى يوفيه دينه، ولا خلاف أيضًا في أن صولون قد عالج تلك الأزمة بتخفيض ثلث قيمة الديون، ولكن الخلاف على الطريقة التي اتبعها صولون في الوصول إلى ذلك التخفيض.

يستفاد من الرأي المنسوب إلى أرسطو أن صولون أكثر من النقود بإخراجه لسداد الديون دراخمة جديدة أقل وزنًا من القديمة بمقدار الثلث، ويستفاد من رأي بلوطرخ أن صولون قد جعل كل سبعين دراخمة تعمل في السداد عمل مائة دراخمة، وقد اتضح أخيرًا أن الرأي الأول هو الصحيح، وعليه فيكون صولون قد اتبع الطريقة التي اتبعها الرئيس روزفلت سنة ١٩٣٤ عندما أنزل وزن الدولار ٤٠٫٩٤٪ من وزنه، ومسيو فان زيلند في سنة ١٩٣٥ عندما خفض البلجا ٢٨٪ من وزنها ليعالج كل منهما أزمة التقلص في بلاده بما نسميه الآن Reflation.

التضخم سنة ٤٠٦ق.م بأثينا

ومن المحن التي مرت على أثينا ضائقةٌ ماليةٌ سببها الحرب بينها وبين أسبارتا، تلك الضائقة قد اضطرت حكومة أثينا إلى الاستيلاء على كل ما عند الأفراد، بل وما في المعابد من المعادن النفيسة، حتى التماثيل الذهبية أخذتْها الحكومة وسكَّتْها لتُكثر من العملة بعد أن فرضت على الناس مختلف الضرائب الفادحة؛ لتتمكن من الإنفاق على تلك الحرب، ومن المهم أن نذكر أن الحكومة الآثينية قد أجبرت الشعب على استعمال نقود من النحاس مموهة بطلاء من الفضة، وهذا هو نفس ما تستعمله الآن الدول في سكِّها نقودًا برونزية بدل النقود الفضية وورقًا تصدره خزاناتها بفئات صغيرة يسمى نقود الطوارئ والضرورات Emergency Currency.

سياسة فيليب وابنه الإسكندر في النقود

لم يستعمل الإغريق الذهب الذي استولوا عليه من الأفراد والمعابد في نقودهم، وإنما استعملوه في أغراض التجارة الخارجية حتى إذا صارت لمقدونيا الزعامة على بلاد الإغريق، وأراد فيليب أن يضع نظامًا عامًّا للنقد في تلك البلاد؛ كان من المتعين عليه أن يوفِّق بين محبة الإغريق للفضة وتعصُّبهم لقطعة الدراخمة التقليدية وبين ضرورات التجارة الخارجية التي أفسدها عليهم الفرسُ باستعمال عملتهم المعروفة «بالدارية» التي كانت مفضلة عند جميع الشعوب؛ لأن عيارها كان ٩٧٠ من الألف ذهبًا خالصًا، فضرب قطعًا من الذهب أجاز التبايع وإبراء الذمم بها أو بالقطع الفضية.

وهكذا اعتمد فيليب في عمله على النظام المعروف في كتب الاقتصاد الحالية بنظام المعدنين Bimetallism، وساعدته على ذلك زيادة محصول الذهب الناتج من مناجمَ اكتُشفت في تراقيا ومقدونيا، ولكنه لقي صعوبات كبيرة في حمل الإغريق على هذا النظام؛ لأنهم أحبوا الفضة واتخذوا الدراخمة عملة قومية لا يريدون الذهب لها منافسًا في بلادهم، ولما مات فيليب وخَلَفَه ابنه الإسكندر استشار أساتذته الحكماء فأشاروا عليه بأن يحترم شعور الإغريق في محبتهم للفضة وأن يرفع من شأنها، على أن يَستكثر في الوقت نفسه من الذهب ما أمكن ليقضي على سياسة الفُرس في التجارة الخارجية، تلك السياسة التي أرهقت الإغريق بالعسر والخزي في أرزاقهم، وسياساتهم، وكرامتهم.

وعمل الإسكندر برأي أساتذته فَسَكَّ عملته الذهبية التي جعل وزنها ١٣٥ قمحة، وعيارها ٩٩٧ في الألف من الذهب الخاص والثلاثة الباقية من الفضة؛ لتكون أرقى من عملة الفرس، وهذا عيار لم يُسمع بمثله في ضرب النقود.

هزم الإسكندر الفرس واستولى على كنوز الذهب في آسيا، فكثر عنده ذلك المعدن النفيس كثرةً أنزلت من قدره بالنسبة لمعدن الفضة، حتى صارت نسبته إليها كنسبة بدلًا من .

ارتفعت إذن قيمة الفضة، واستتبع ذلك ضيقٌ شديد ونزول في أسعار السلع عند الإغريق.

ولم يكن أمام الإسكندر إلا علاجٌ واحدٌ وهو أن يضخم النقود الفضية بطريق إنقاص وزنها، وجعله الوزن الذي كان متبعًا أيام والده، ثم أمر بأن تُصرف كل قطعة من نقوده الذهبية بعشرين قطعة من القطع الفضة الجديدة، وقد نجح بهذا التضخم في رفع الأسعار في بلاده، كما نجح في التغلب على الفرس حربيًّا، واقتصاديًّا.

مصر في عهد البطالسة

لم يثبت أن مصر قد ضربت النقود قبل أن فتحها الإسكندر، والصحيح أنها كانت تستعمل الأجرام المعدنية في شكل حلقات مقدرة الوزن يتبايع بها الناس، وتلك طريقةٌ أفضلُ من استعمال النقود التي عرَّضت الشعوب لمعضلات كثيرة. ولما دخلها الإسكندر ضرب لنفسه فيها عملة، قيل: إنها عملة، وقيل: إنها تذكار لفتحه مصر، وقد رسم نفسه واضعًا على رأسه خوذة قد أطل منها قرنان هما شعار الإله آمون الذي انتسب إليه في معبد سيوة، فَسُمِّي لذلك السبب بذي القرنين كما ورد في القرآن الكريم.

وقفل الإسكندر راجعًا إلى آسيا ليستأنف غزواته، فمات بها وآل ملك مصر إلى قائد من قواده هو بطليموس الذي أسس بها دولة البطالسة، وهؤلاء وإن استقلوا بمصر إلا أن الطابع والوزن الإغريقيين كانا متغلبين على نقودهم، ثم لم يلبثوا أن استحدثوا قطعًا جديدة في طابعها ووزنها، ففي الفضة سَكُّوا قطعة بقيمة ثمانية دراخمات وعشر دراخمات، ولم يكن ضربهم لقطع الذهب يجري بانتظام إلا في مناسبات تتويج البطليموس أو زواجه، وكانت نقودهم رائجة في التجارة الخارجية أيام كانت الإسكندرية وطن العلوم والأموال.

واستمرَّ الحال على ذلك حتى أوشك أن ينضب مَعِينُ الذهب والفضة في مصر لعهد كليوباترة، التي أسرفت على نفسها وعلى الجيش، واضطرت أن تسك عملات الفضة من عيار واطئ، وأكثرتْ من القطع الفضية القليلة الوزن والقطع البرونزية الكبيرة الحجم لِتُنفق على حروبها مع الرومان.

ولَمَّا هزمها الرومانُ ودخلوا الإسكندرية ارتفعتْ أسعارُ السلع في مصر، بل وفي جميع بلاد العالم وقتًا قصيرًا؛ لكثرة النقود وتضخُّمها، ثم حدث رد فعل كما حدث بعد الحرب العالمية الماضية، ثم نزلت بعده الأسعار نزولًا فاحشًا، وزاد على الأزمات محاربة الرومان للصناعة في مصر ليجعلوها مزرعة تقدِّم لهم الحبوب. تلك السياسة الاستعمارية القديمة جرَّت الكوارث والمحن على الإسكندرية ومصر كلها، وعصفت بهما عصفًا أتى على ما في البلاد من طارف وتليد.

الصراع بين روما وقرطاجنة

ومن الحروب القديمة ما هو قريب الشبه بالحربين الماضية والحاضرة، تلك حرب روما وقرطاجنة، ظاهرها خصومة بين جنسين، وحقيقتُها تنافسٌ على التجارة والملاحة في البحر الأبيض مدة نصف قرن من الزمن خرج منها الرومان منتصرين، ولكنهم دفعوا في النصر ثمنًا غاليًا، فقد غرقوا طويلًا في الديون حكومةً وشعبًا.

لم يكن لروما بُدٌّ من أن تضخم نقدها وميزانيتها أثناء تلك الحروب وبعدها، وقد ذكر لنا بليني أن الرومان خفضوا الآس إلى سدس وزنه في أوائل سني الحرب، ولكن فستوس يُرجع تنقيص وزن الآس إلى أواخر سني الحرب حين لم يجد الرومان مناصًا من العمل على تخفيض وطأة الديون، ويقول في سياق كلامه عبارة تستحق منا الإعجاب وهي: «أن الدائن قد ضاع عليه جزءٌ من دينه بسبب تخفيض وزن العملة، ولكنه من ناحية أُخرى قد اكتسب؛ لأن الضرائب الفادحة التي كان يؤديها للحكومة قد قلَّت قيمتها»، في تلك العبارة قد أوجز بها المؤرخ فستوس ما يحتويه التضخم من معانٍ اقتصادية؛ إذ التضخم ييسر للمدين دفع دينه ويظلم الدائن حين يقبض دينه بعملة قوتها الشرائية منحطة، وهذا هو ملخَّص ما ذهب إليه الأستاذ فيشر في كتابه Money Illusion.
والصحيح هو ما قاله بليني من أن الرومان أَنْقَصوا وزن عُملتهم في أوائل سني الحرب؛ بدليل أنهم لم يُنقصوا فقط وزن الآس النحاس الذي كان عماد نقدهم، وإنما سكوا عملة فضية جديدة سموها Quadrigatus تصرف بدينار ونصف دينار، لم يلبثوا أن استبدلوها بأخرى في نصف وزنها ثم سموها Victoritatus تيمنًا بأنها ستؤدي إلى النصر.
وحين جرى هانيبال في زحفه إلى روما، أصدر مجلس السنات قانون Lex Flamina الذي خفض الآس إلى جزء من اثنى عشر من وزنه، كما أنقص أيضًا ١٤٪ من وزن الدينار وجعله يُصرف في المعاملات بستة عشر آسًا فقط، ولكنْ أبقاه بالنسبة للجنود مقدرًا بعشر آسات، فكان للآس في صرفه قيمتان: إحداهما لأفراد الشعب والأُخرى للجنود، وهذا شبيهٌ بما فعلته ألمانيا في المارك وإيطاليا في الليرة، فقد جعلت كُلًّا من هاتين الدولتين سعرين لصرف عملتها لتجتذب السائحين قبيل الحرب الحاضرة، بل لقد أخذت ألمانيا هذه الفكرة وطبقتها في نظام دقيق محكم على سعر الصرف الخارجي لتُساعد صناعتها على المنافسة الدولية.

ولما تعذر استيرادُ الرومان للفضة بفعل الحصار البحري الذي ضربته قرطاجنة على شواطئهم، أمر السنات بسك عملة نحاسية عليها طلاءٌ من الفضة تقوم في التداول مقام القطع الفضية، وناشد الرومانَ أن يقبلوا، فأقبلوا عليهم مضحين لفرط وطنيتهم وافتخروا بامتلاكها، وانتصرت روما، ولكنها رزحت طويلًا تحت أعباء الديون والعملات الفاسدة التي غرقت في كثرتها، إلى أن أمكنها أن تسترد العملات الرديئة، وتُخرج بدلها عملات جيدة بعثت الثقة في الناس، ووضعت حدًّا لتقلبات الأسعار، فاستطاعت روما بعد ذلك أن تنهض لتبني إمبراطوريتها العظيمة.

أمثلةٌ من التاريخ الإسلامي

التاريخ الإسلامي حافلٌ بكثير من الأمثلة مما حدث لِدُوَلِهِ المتعددة في ثوراتها وحروبها مع البلاد الأخرى، فقد عرف أحسن النقود وأسوأها، كما امتاز بأجمل النقوش التي أثَّرت على أشكال النقود في زخرفها، ونَقصُر كلامنا على ثلاثة أمثلة: أولها في صدر الإسلام في عهد عمر، والثاني في العصر العباسي، والثالث أثناء الحروب الصليبية وما بعدها وهو الأهم؛ لِما لهذه الحروب من تأثيرات اقتصادية في العالم.

أما في عهد سيدنا عمر فقد حدثنا المؤرخون عن قحط شديد عام الرمادة، أصاب العرب بنقص الثمرات والأموال، استغاث فيه الخليفة عامله عمرو بن العاص فحفر الخليج من حاشية الفسطاط إلى القلزم، وأرسل فيه الأقوات لمكة والمدينة، ونرى ذلك القحط أزمة إنتاج ونقود مما يحدث عقب الحروب، عالجها عمر باستيراد المحاصيل من الخارج، وأدرك بثاقب فكره أنه لا بد من تضخيم النقود وإكثارها لتفي بحاجات المسلمين التي كثُرت وزاد فيها التعامل بالدراهم المعروفة بالدراهم البغلية «نسبةً إلى أحد سراة الفرس واسمه رأس البغل»، أمر عمر دار الضرب الفارسية أن تنقص وزنها فتجعله ستة مثاقيل لكل عشرة دراهم بدلًا من مثقال لكل درهم، وأن تكتب عليها «الله أكبر»، وهذا الذي فعله عمر هو ما نسميه بلغة الاقتصاد تضخيم النقود بتخفيض الوزن.

ومن التضخُّم ما حدث في عهد العباسيين حين أنقص عبد الله بن محمد وزن الدرهم حبة، ثم حبتين، فيما ضربه من النقود بالأنبار؛ وقد اضطره إلى ذلك قلةُ موارده من الفضة وكثرة ما أنفقه في القضاء على الفتن والثورات التي شرد وقتل فيها الكثيرين، حتى لقَّبوه بالسفاح.

أما هارون الرشيد فإنه وإن حارب الروم في بعض معارك بريةٍ وبحريةٍ، إلا أنها كانت قصيرة لم تؤثر على ميزانيته التي ضخَّمها وزيره جعفر البرمكي المتلاف الذي نشر البذخ على الأعوان، والإسراف في القصور والإصلاحات، فلم يكن ليستطيع ذلك لولا أنه أنزل من وزن الدرهم ثلاثة أعشاره، كما أنقص من وزنه الدينار، حتى إنك لتجد في المتحف البريطاني نقوده هذه أقل وزنًا وعيارًا عن نقود أسلافه. ولما قَتَلَ هارون جعفرًا عَهِدَ إلى السندي بإصلاح العملة ففعل.

تأثير الحروب الصليبية في مصر

وقع العبء الأوفى من هذه الحروب على مصر واضطلع به الأيوبيون وبعض المماليك، ومن الواجب أن نذكر أن تلك الحروب وإن كانت دينية في مظهرها، إلا أنها كانت اقتصادية في بواعثها التي من أهمها تفوق مصر في التجارة الخارجية، وقام صلاح الدين بقسط كبير من الدفاع عن الإسلام في وقت لم تكن مصر قد شفيت فيه من أزمات متلاحقة بسبب تلك الحروب، ومما يشهد لهذا السلطان العظيم بحسن السياسة المالية أنه استطاع أن يحتفظ لديناره الذهبي بوزنه «يعادل ٤٫٢٧٦ جرامات»؛ ليُبقِيَ له مكانته في التجارة الدولية التي اعتمدت على الذهب في تلك المدة، ولكنه ضرب نقوده الفضية من عيار ٥٠٠، وما كان له أن يفعل غير ذلك لينفق على القتال ويمد جيوشه بما احتاجت إليه من مؤن وسلاح.

وقد انتصر السلطان حربيًّا وماليًّا، فأضحتْ كلمتُه مسموعةً في الحكومات ونقودُه منتشرة حتى في بلاد أعدائه الذين استعملوها في شراء ما راقهم من سلع الشرقيين. ولكن النتائج الحتمية لهذه المعارك ظهرت آثارُها الاقتصادية في مصر أيام السلطان العادل سيف الدين، فقد قلَّت النقود والمعادنُ وانخفضت الأسعار بعد صعودها، وضاعف البلاء أن قَلَّ فيضان النيل، فحدثت مع الأزمة مجاعةٌ وانتشرت النقود المزيفة والناقصة الوزن.

وتوالت على مصر الأزمات، حتى إذا جلس على تختها الظاهر بيبرس حاول أن يصلح العملة، ولكنه بعد أن أصلحها اضطر بدوره إلى تضخيمها في حروبه وغزواته الكثيرة التي استمرت بعدها الأزمات حتى اختفت من مصر نقود الذهب والفضة وصارت العملة المتداولة من النحاس وحده.

قال المقريزي: إنها كثرت كثرة سببت لها البوار، حتى بيعت على العربات، ونودي عليها بالمزاد العلني: «حراج، حراج»، وقد أدرك المقريزي المعنى الحقيقي للتضخم وشرحه شرحَ عليمٍ بأسبابه ونتائجه، وساقها في أُسلوب قصصي جذاب.

تأثير الحروب الصليبية على نقود أوروبا

وقد حدث في أوروبا مثل الذي حدث في مصر وزيادة، فقد توالت الأزمات عليها واختفت منها النقود الجيدة والمعادن النفيسة، بل امتازت أوروبا بفساد لم يُسمع بمثله في حكومة من الحكومات؛ ذلك أن حكوماتها كانت تساعد المزيِّفين على التزييف نظيرَ جُعلٍ كانوا يقدمونه إليها، وكانت تلك الحكومات تجيز ذلك رسميًّا، وقد سَمَّتْه تبرعات للحرب، وكانت تدعي بأن النقود المزيَّفة سيستعملها المزيفون في جلب البضائع من الخارج فلا ضرر على بلادهم تزييفها.

وانتهى الأمر بأن طردت النقود الرديئةُ الجيدةَ، فغرقت أوروبا كلها شعوبًا وحكومات في خضم من نقود مزيفة لم يلبث الناس أن رفضوها في المعاملات. أما حكومة فرنسا فإنها استعملت القوة فاستولت على النقود الجيدة والمعادن النفيسة المخبأة عند الأفراد. وأما إنجلترا فقد جربت كل حيلة ممكنة، ولما أعيتها الحيل أقفلت دار الضرب زمنًا طويلًا؛ لأنها كلما سكت عملة أخذها الصُّياغ فصهروها سبائك، حتى لا تعود إلى التداول فيربحوا من قيمتها المرتفعة عندما يعطونها للقرصان ليهربوها ويتجروا بها في الخارج. واضطرت إنجلترا سنة ١٢٩٩ إلى أن تصدر قانونًا يقضي بإعدام المهربين واستعانت ببعض القرصان على البعض الآخر، فأحلت لهم ما غنموه من المهربات.

وصارت التجارة الخارجية تعتمد فقط على السبائك الجيدة فبيعت بها السلع، وهكذا رجعت الدول إلى عهد ما قبل النقود حين كانت الأجرام المعدنية تؤدي دور الوساطة بين الناس في المعاملات، وخصوصًا الخارجية، إذا تعذر التبادل عينًا، وحَلَّت فلورنسا والبندقية المعضلةَ بإخراج عملات فضية كبيرة الحجم سميت Grosso قلدها الجرمان وسموها Grochen، وهو اللفظ الذي حرَّفه الأتراك إلى غروش والمصريون إلى قروش.

مؤتمر جنوة النقدي

حلَّت بأوروبا أزماتٌ طاحنة بسبب حرب المائة سنة، بدأتْ بارتفاعٍ شنيعٍ في أسعار المحاصيل الزراعية والمصنوعات، أفاد منه المزارعون والتجار والصناع أكبر الفوائد أثناء تلك الحرب وفي الفترة التي أعقبتْها، ولكن ذلك الربح الفاحش الذي جناه المنتجون والتجار أتى بعده، كما هي العادة، نزولٌ شنيعٌ هوى بالأسعار إلى الحضيض أضرَّ بالحكومات والأفراد، لم يفلح فيه تسعير المعادن وتغيير وزن النقود وعيارها، حتى إن الحكومة الإنجليزية فضَّلت أن تقفل دار الضرب وأن تعطي جعلًا لمن يضرب النقود الفضية أو يستورد المعادن لهذا الغرض من أوروبا، أما في فرنسا فقد أصبحت لكل مقاطعة عُملة، بل عملات متضاربة متنافسة، وضَجَّ بالشكوى التجار ومعاهد المال؛ لأن المقرض أو التاجر لم يكن ليعرف بأية نقود سيقبض دَيْنه.

ولما رأت الدول سوء تلك الحالة قررتْ عقد مؤتمر اقتصادي عُقد في جنوة؛ لأنها كانت مركزًا تجاريًّا هامًّا امتاز بالوسطاء في الحوالات الدولية، واستمر المؤتمر منعقدًا من أكتوبر سنة ١٤٤٥ إلى يونيو سنة ١٤٤٧ يبحث ويدرس فيه مندوبو الدول والبيوت التجارية والمالية الكبيرة، وقد اختلفوا، كما هي العادة في المؤتمرات الاقتصادية التي يتعصب فيها مندوبو كل دولة لمصلحتها، فيؤدي بهم ذلك إلى فشل المؤتمرات أو تأجيلها.

وخلاصة ما وصلوا إليه أنهم انقسموا إلى فريقين، فريق الأقلية الذي اقترح على الحكومات أن تتخذ ثلاثةَ أنواع من النقود: نقود ذهبية بمقدار الثلث، ونقود فضية بمقدار الثلث، ونقود من الفضة الرديئة الوزن والعيار بمقدار الثلث كذلك، وحجة هذا الفريق أن ذلك هو الحل العمليُّ الذي يوفِّق بين مقتضيات التجارة الخارجية وبين الحالة التي وصلتْ إليها النقودُ في كافة الدول، أما الفريق الآخر — وهو الأغلبية — المكون من مندوبي البيوت التجارية والمالية العالمية، فقد اقترح أن يكون الذهب هو «الأساس» الذي تعتمد عليه الدول في ضربها للنقود؛ لأنه: «يثبِّت الأسعار وينشط التجارة الخارجية»، وأشار هذا الفريق على حكومة جنوة أن تستبقي نظامها المؤسَّس على عملة الفلورين الذهبية، وقد أخذت بهذا الرأي تلك الحكومة فأصدرت قانونًا يُلزم التجار بدفع ما يُحكم عليهم من غرامات بالعملة الذهبية ويمنعهم من قبول أي تحويل على جنوة إلا إذا كان معقودًا بالعملة الذهبية. تلك أول محاولة بذلها مؤتمرٌ عالميٌّ لاتخاذ نقد دولي مثبت على أساس الذهب.

ويذكِّرنا الخلاف الذي وقع في مؤتمر جنوة، بالخلاف الذي وقع بين مندوبي فرنسا وإيطاليا وبلجيكا من جهة، وبين مندوبي الولايات المتحدة في مؤتمر لندرة الاقتصادي سنة ١٩٣٢، وكان سببًا في فشله مراعاةُ كلِّ فريقٍ مصالحَهُ الخاصة.

كثرة المعادن النفيسة تؤدي إلى التضخم

تقلص آخر ظل للإمبراطورية الرومانية الشرقية حين استولى العثمانيون على القسطنطينية سنة ١٤٥٣، وسد هذا الفتحُ في وجه الأوروبيين طريقَهم المألوف للاتجار مع الشرق الأقصى، فالتمس بارتلميودياز وفاسكودجاما طريقًا إلى الشرق بالدوران حول أفريقيا، كما ذهب كولومبس من ناحية أخرى لمثل هذا الغرض في رحلة جريئة فوقع على أمريكا، وبذلك دخل الأوروبيون في دور استعمار البلاد النائية الذي جلب لهم المعادن النفيسة في القرن الخامس عشر وما بعده من أفريقيا وآسيا وأمريكا.

قدر العلامة سويتبير Soetbier ما استولى عليه الأوروبيون من ذهب أفريقيا خلال القرن السادس عشر بما لا يقل عن ٦٩٠ مليون مارك ذهبًا معظمه من غينيا التي سمي باسمها الجني الإنجليزي الذي لعب دورًا هامًّا في نقود إنجلترا، وقدر العلامة Lexis ما استولى عليه الإسبان من ذهب الأنتيل والمكسيك من سنة ١٥٠٠ إلى سنة ١٥٢٠ بما لا يقل عن ١٥ مليون مارك ذهبًا، وما صدَّرت المكسيك وحدها من سنة ١٥٢٢ إلى سنة ١٥٤٧ بما لا يقل عن ٨٠ مليون مارك ذهبًا، تلك أرقام هائلة إذا قورنت بثروة أوروبا في تلك السنين.

أما الفضة التي استولى عليها الإسبان فقد كانت في مبدأ الأمر قليلة؛ لأنهم وجهوا جهودهم إلى البحث عن الذهب الموجود بكثرة قرب الشواطئ بعكس الفضة التي كانت مناجمها داخل البلاد، فلما توغلوا فيها استنزفوا مناجم المكسيك، وبوليفيا، وبيرو، وكان محصول الفضة في بوليفيا وحدها يرجح بإنتاج أمريكا وأوروبا في معظم السنين.

ولن ينسى التاريخُ الصحيح للأوروبيين أنهم ارتكبوا من الفظائع في سبيل الحصول على المعادن النفيسة ما تقشعرُّ له الأبدانُ، فكم أهلكوا من القبائل الوطنية وحرقوها وبلادها لمجرد الظن أنها بلادٌ تحتوي على معدنٍ نفيس، ولم تأخذ الأوروبيين رحمةٌ أو شفقةٌ بالشعوب الوطنية. تلك هي الوحشيةُ التي سَمَّوْها الاستعمار، وواجبُ الرجل الأبيض نحو تمدين الشعوب الملونة.

أثَّرت كميةُ المعادن الهائلة التي غنمها الإسبان على أسعار السلع فرفعتْها في إسبانيا ارتفاعًا هائلًا، ثم اطَّرد الارتفاع، حتى بلغ حدًّا غير معقول في أواخر القرن السادس عشر، وانتقل من إسبانيا إلى فرنسا بحُكم الجوار والصِّلات في التعامل، ومن فرنسا إلى إنجلترا، ولكنه لم يبلغ فيهما ما بلغه في إسبانيا؛ لأنه لم يَزِدْ على أمثال ما كانت عليه الأسعارُ قبل الغلاء في هاتين الدولتين. ولكن ذلك الارتفاع الذي عَمَّ أوروبا حدث بسببه ما يحدث في كل تضخم من رَدِّ فعل شنيعٍ يُصيب العالم كله بالكوارث والمِحَن من نزولٍ فادح في الأسعار، وخرابٍ لبيوت عامرة.

ومن سنن التضخم في الأفراد والدول أن يَشقى به أول مَن أسعده، وطبيعي أن تكون إسبانيا — وهي أول مَن نَعِمَ بالتضخم — أُولى ضحايا هبوط الأسعار، ومن المهم هنا أن نذكر أن الشعب الإسباني لم يكن قد استفاد من الصعود في الأسعار، إنما الذي استفاد من الصعود هم حُكام الإسبان السفهاء الذين بذروا الأموال الجمة في شراء الكماليات، وسلع الترف الغالية التي اشتروها من الخارج بأبهظ الأثمان.

وحدث عكس ذلك في فرنسا وإنجلترا؛ لم يستفد الحكام وإنما الذين استفادوا هم الطبقات الوُسطى والصناع الذين باعوا مصنوعاتِهم إلى ثُراة الإسبان، وحكامها وأخذوا منهم أموالًا طائلةً احتفظوا بها وأحسنوا القيام عليها، فكانت منها أساس ثروات قومية علموا أن سبيلها هو التعامل مع الخارج والنزوح إلى البلاد البعيدة في طلب الرزق، فهاجر الكثيرون منهم إلى أمريكا وأفريقيا والهند استجلابًا للخيرات وبحثًا عن المعادن النفيسة، وقام من ورائهم رجالٌ أمدوهم بالمال، فكانت نهضة الاستعمار والتوسع المشئوم الذي جَرَّهم إلى ما قام ويقوم بينهم من حروب.

اتبع الإسبان سياسة الاستئثار بالمعادن النفيسة وخصوصًا الفضة التي حرموا الإنجليز منها ليَبذلوها في الحروب التي أثاروها لنشر مذهبهم الكاثوليكي، وكان الإسبان — تحقيقًا لهذا الغرض — ينقلون المعادن النفيسة على مراكب إلى جنوة ومنها تُوَزَّع على البلاد التي اعتنقتْ مذهبهم، فأُغلقت دار الضرب الإنجليزية، لولا أن جبابرة القرصان الإنجليز وقفوا للإسبان في عرض البحار وسلبوهم تجارتهم ومعادنهم.

ولما اصطلح الإنجليز مع الإسبان سنة ١٦٣٠ اشترطوا عليهم في معاهدة كوتنجتن أن ينقلوا الفضة في المراكب الإنجليزية إلى أنتورب وغيرها من بلاد الشمال الكاثوليكية التي كانت إسبانيا تريد أن ترسل إليها الفضة، واشترط الإنجليز فوق ذلك أن تفرغ المراكب الإنجليزية شحنتها في لوندرة؛ ليأخذ منها الإنجليز كل كفايتهم من المعادن النفيسة، ثم تعود فتحمل ما بقي بعد حاجتهم إلى حيث يريد الإسبان، وقد كسب الإنجليز بذلك كسبين: الأول استخدام مراكبهم في أعمال النقل البحري، والثاني جعل لوندرة سوقًا للمعادن النفيسة تَعوَّدَهُ الإنجليز مع الزمن فصار من تقاليدهم المالية.

التضخم نتيجة المغامرات المالية

من أروع مآسي جمع المال قصة الإسكتلندي John Law الذي ضاقتْ بآماله وبمشروعاته إنجلترا فرحل إلى فرنسا ووثَّق علاقات بوصيِّ العرش، ورجال البلاط فشاركوه في أعماله، وأسس جون لو سنة ١٧٢٠ بنك Banque Royale؛ ليجعله بنكًا للدولة، كما أسس مئات الشركات بعضها معقول ناجح والبعض الآخر اندفع في تأسيسه تحت تأثير التضخم المالي الذي أحدثه، فكانت منه شركاتٌ فجة وشركاتٌ أملتْها المغامراتُ التي يبعثها التضخم من النوع المسمى شركات «الفقاقيع»، وأقبلت الأيام على الرجل فامتلك ثروة لم يحلم بها أحد، واجتذبت فرنسا معهُ أموالًا من الدول الأخرى لتُستَغَلَّ في تلك الشركات، ثم أدبرت عنه وعن شركاته الأيام، فأفلسوا وحلَّت بفرنسا بل وبأوروبا الأزمات، أما أكبر مالي عرفه العالم، وأما الرجل الذي يرجع إليه الفضل في كثير من أوراق المصارف ونُظُمها فقد سار في شوارع البندقية يسأل الناس الصدقات حتى مات.

أوراق الثورة الفرنسية

وفي إبان الثورة الفرنسية أخرجت حكومتُها ورقًا على الخزانة سمَّتْه Assignats، وقالت: إنه مغطًّى بأملاك التاج والكنيسة، وضمنت له أيضًا ربحًا؛ ليُقبل الناس عليه، ولكنها أكثرتْ منه إلى حدٍّ جَعَلَه عديمَ القيمة، كما حدث للمارك الألماني — مما سنذكره فيما بعد — كلاهما ضاع بسبب الكثرة وتدهور الغطاء.

نتائج حروب نابليون

وحين جدَّ نابليون في غزواته هلعت أفئدة الماليين واندفعوا يطلبون ودائعهم من البنوك، كما حدث في أوائل الحرب الماضية، فتعرضت بنوكٌ كبيرةٌ للإفلاس، فإذا كانت سنة ١٨٩٧ ذاع أن نابليون قد أعد أسطولًا لينزل به في إنجلترا، فتوالى السحب على البنوك، حتى بات بنك إنجلترا نفسه في مأزقٍ حرجٍ لم يجد معه مخرجًا إلا أن يلجأ إلى الحكومة الإنجليزية لتصرح له بالتوقف عن دفع ما يُطلب منه نقدًا، وفعلًا أجابته الحكومة في ٢٦ فبراير إلى ما طَلَبَ، ثم أسرعت باتخاذ الإجراءات اللازمة لحض الناس على قبول البنكنوت الصادر منه بدلًا من مطالبته بالعملة الذهبية التي نضب معينُه منها، وناشدت الحكومة وطنية الإنجليز أن يضحوا، فكانوا عند ظنها بهم، وكانت أخلاقهم القويةُ كفيلةً بالخروج من المأزق العسير، فقرر الماليون والشركات أن لا يسحبوا أموالهم، وأن يَقبلوا البنكنوت في المعاملات.

لكن الذهب قد اختفى والبنكنوت قد كثُر، حتى فقد ما لا يقل عن ٤٠٪ من قيمته بسبب التضخُّم الذي اقتضتْه ظروف بنك إنجلترا الذي أصدر كمية كبيرة من البنكنوت أعطاها للحكومة التي زادت نفقاتها، وللبنوك الأخرى التي أُلزم بمعاونتها لتستطيع البقاء في ذلك الوقت العصيب، وارتفعت الأسعار كما هي العادة في الحروب، بسبب كثرة النقود المتضخمة وقلة الأغذية والبضائع التي كانت تُستورد من الخارج.

ولما هُزم نابليون أخذت الأحوال تعود تدريجيًّا إلى مجراها الطبيعي وأخذت الحكومة بسياسةٍ من شأنها أن يَقلَّ المتداول من البنكنوت، فأخذ سعره يرتفع، حتى أوشك أن يصل إلى سعره الأسمى، وقدمت للبرلمان عرائض يطلب موقعوها فيها أن تُصلح الحكومة شأن النقود، وأن تَرجع البلاد إلى ظروفها العادية، فأجابتهم الحكومة إلى ما طلبوه، وأصدرت قانون ٢٢ يونيو سنة ١٨٦٦ المعروف بقانون اللورد ليفربول الذي نص فيه على أن الدفع لكل دَين يزيد عن ٤٠ شلنًا لا يكون صحيحًا إلا بعملة الذهب، فإن قلَّ الدَّين عن ذلك أمكن سداده بالقطع الفضية.

وحدث لإنجلترا ومستعمراتها بسبب العودة إلى الذهب ما حدث لها بعد سنة ١٩٢٥ من تقلُّص في النقود، توالت بسببه أزماتٌ وشدائدُ على الحكومة وشعوب الإمبراطورية البريطانية.

نظرة عامة للنقود أثناء الحرب العظمى الماضية وبعدها

يتلخَّص ما حدث للنقود أثناء الحرب الماضية في أن الحكومات قد أعفت البنوك المصرح لها بإصدار البنكنوت من استبداله بالقطع الذهبية ومن اتخاذ الذهب غطاءً له، واقترضت الحكومات قروضًا من الأفراد ومن البنوك المركزية أدت إلى زيادة النقود وتضخمها؛ لتنفق على القتال حتى تحرز النصر بأي ثمن، خصوصًا فرنسا التي أرهقت بنكها بطلب اعتمادات متكررة بين وقتٍ وآخر.

وأصدرت الدول نقودًا ورقية من فئات صغيرة؛ لتسد بها في التعامل الفراغ الذي سبَّبَهُ اختفاء القطع الفضية «المعاونة»، رأينا منها في مصر ورقًا بقيمة خمسة قروش وبقيمة عشرة قروش.

ولم تقف حكومات البلاد المحاربة عند حد الاستدانة من شعوبها وبنوكها، بل اقترضت من بلادٍ أخرى محايدةٍ ومحاربةٍ، وكان من جرَّاء ذلك أن الولايات المتحدة أصبحتْ دائنةً لأوروبا بعد أن كانت مدينةً لها.

وعقب إعلان الهدنة أوقفت إنجلترا مشترى الدولارات، وعقد القروض في الولايات المتحدة، فكان من نتائج هذا الإيقاف ثبات سعر الاسترليني بالنسبة لصرف الدولار عليه، فنشطت مؤقتًا صناعة الإنجليز وأخذ الاسترليني يرتفع تدريجيًّا لهذا السبب وللثقة بمتانةِ ماليةِ إنجلترا، وأخذت إنجلترا في تنقيص المتداول من نقودها بناء على مشورة لجنة Cunliffe التي أشارت على الحكومة أيضًا بالاقتصاد في الاقتراض من بنك إنجلترا.

أما فرنسا فإن دخول الولايات المتحدة الحرب وإرسالها جيشًا إلى فرنسا؛ ليحارب فيها فقد أفادها ما أنفقه ذلك الجيش من أموالٍ جسيمةٍ ساعدت الفرنك على الصعود مؤقتًا، ثم نزل، ثم صعد بعد الهدنة على أثر احتلالها إقليم الرور وإثباتها في المعاهدة تعويضًا كبيرًا قبل ألمانيا.

أما المارك الألماني فلم يفقد كثيرًا من قيمته أثناء الحرب؛ بسبب السياسة الفذة التي سار عليها بنك الريخ، ولكنه بعد هزيمة الألمان أخذ يتدهور، حتى كَثُرَ في سنة ١٩٢٣ كثرةً جعلته لا يوازي قيمة الورق الذي يُكتب عليه، كما سنُبَيِّنُهُ بعد قليل.

مؤتمرٌ للنقود في بروكسل ثم آخر في جنوة

كان من المُعيَّنِ على الدول أن تعمل على الرجوع إلى الحالة الطبيعية؛ لتستأنف نشاطها الاقتصادي، وتسترد علاقاتها التجارية بعد أن خمدت نار الحرب وسكنت لغة السيف والمدفع، ولكن كيف السبيل إلى ذلك والنقود كثيرةٌ تعبث بالأسعار وبالإنتاج، فلا يحكمها ضابط ولا يحد من سلطانها وعبثها أي اعتبار.

نقودٌ من الورق من شتى الأوضاع صادرةٌ من البنوك المركزية والحكومات، وقروضٌ اقترضتها الحكومات وأباحت لتلك البنوك أن تستعملها في غطاء ما تصدره من بنكنوت، وقروض اقترضها الأفراد من البنوك والشركات للتجارة والصناعة، وبلاد لم تكن زراعية طمعت في أن تكون زراعية، وأُخرى لا عهد لها بالصناعة أنشأت الصناعات وراحت تحرص عليها في ظل التضخم الذي ساد جميع البلاد.

عقدت الدول مؤتمرين لبحث الموقف ووصف ما ينبغي له من علاج، أولهما في بروكسل سنة ١٩٢٠، وثانيهما في جنوة سنة ١٩٢٢، وانتهى المؤتمر الأول إلى رغباتٍ يدعو بها الدول إلى منع التضخم وسرعة الرجوع إلى قاعدة الذهب تدريجيًّا، مع ضرورة وجود بنك مركزي في كل دولة. أما المؤتمر الثاني فقد كرر هذه الرغبات، واقترح أيضًا على الدول أن توازن ميزانياتها وأن تقتصد في النفقات وأن تثبِّت عملتها على سعر جديد إذا استحال الرجوع إلى السعر القديم.

وأخذت بعض الدول بتلك المقترحات فثبتت عملتها على وزن أقل في ظروف معينة، فالنمسا في سنة ١٩٢٢، والروسيا في سنتي ٢٣-١٩٢٤، ثم المجر في سنة ١٩٢٥، وبلجيكا في سنة ١٩٢٦، وإيطاليا في سنة ١٩٢٧، وفرنسا في سنة ١٩٢٨. أما إنجلترا فقد عادت إلى الذهب عودًا أبى عليها كبرياؤها أن تحدث أيَّ تخفيض في قيمة النقود، فسبب ذلك تقلُّصًا في بلادها والبلاد المتصلة بها. أما ألمانيا فقد انطلقت نقودها في كثرةٍ جامحة، حتى قضت ثم بعثت في شكل جديد؛ ولذلك قد أفردنا لها بحثًا مستقلًّا باعتباره النموذج السيئ الذي ندرس في ضوئه أضرار التضخم إذا وصل إلى حد غير معقول، كما سنتكلم في بحث خاص على رجوع إنجلترا إلى الذهب باعتباره نموذجًا لتقلُّص جازفت به تلك الدولة في غير أوانه فكان عاملًا هامًّا فيما حاق بها وبغيرها من الدول المتصلة بها من أضرار.

كارثة المارك، ندرس في ضوئها أسباب ونتائج التضخم المخرِّب

ربما كان التضخم المعقول مفيدًا في تنشيط عجلة الأعمال الحرة كما يقول العلامة J. M. Keynes، ولكن التضخم إذا زاد عن الحد أفلتت النقود من يد القابضين على زمامها، وقد رأينا أمثلةً في التاريخ من النقود المعدنية في الدول في العصور القديمة والوسطى، وجئنا بمَثَلَين من الورق النقدي في تاريخ فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وها نحن نضرب مثلًا من التاريخ الحديث بمحنة المارك؛ يرينا أن كثرته التي لم يُسمع بمثلها قد رفعت الأسعار رفعًا لم يُسمع بمثله، ثم انتهت بالخراب والإفلاس للحكومة والشعب الألماني.

التضخم يُلهب الإنتاج والاستهلاك والتجارة، ثم يهوي بها

جُنَّ المنتجون بالإنتاج في ألمانيا أثناء الكثرة المطردة في إصدار المارك، وهذه الكثرة كان صعود أسعار السلع أكثر منها عَدْوًا في طريقه، فكل سلعة تباع بربح كبير عما تَكَلَّفَه إنتاجها بسبب الزيادة المتوالية في مقدار النقود، وتزيد أيضًا قابلية المستهلكين على الاستهلاك والمشترين على الشراء؛ لأنهم يملكون نقودًا تقل قيمتها في كل يوم عن اليوم السابق عليه، والناس لا يدرون ما يفعلون بها ولا ماذا يكون شأنها في غدهم.

ويسرف المستهلكون والمشترون في الشراء وفي الاستهلاك، حتى السلع الكمالية يُقبلون عليها ولو لم يكن لهم بها من حاجةٌ؛ لأنها — على كل حال — خيرٌ من النقود، وهم يفضلون السلع التي تحتفظ بقيمتها ولا يلحقها التلف قيمتها فيها Sachwaren، ويتزاحمون على شرائها واقتنائها؛ لأن في ذلك تأمينًا لهم ضد الهبوط المتوالي في قيمة النقود.

وتُقبِلُ الدول الأخرى على شراء المصنوعات الألمانية؛ لتستفيد من نزول قيمة المارك بالنسبة لعملائها فتنشط تجارتها نشاطًا لا يُستغرب في مثل تلك الظروف الشاذة.

وينتهز أصحاب المصانع تلك الفرصة فيسرعون بتنظيم مصانعهم، حتى تُصبح القوة الكهربائية المستخدمة فيها في سنة ١٩٢٢ ضعف ما كانت عليه يوم عقد الهدنة، وتزيد صناعة المواد الكيمائية ١٧٣٪ في تلك المدة، لكن ما جناه الألمان من أرباح طائلة كانت وهمًا وخيالًا لا وجود له في عالم الحقيقة.

وحين تنبهت المصانع والشركات المتعاملة مع الخارج إلى تلك الحقيقة، أو حين أخذت الحكومة تتنبه لها طلبت من المتعاملين مع الخارج أن يدفعوا ما عليهم لألمانيا بنقود محترمة كالجنيه الإنجليزي، أو الفرنك السويسري، أو الدولار الأمريكي، وتحصر الحكومة الألمانية في بنوك معينة كل الحوالات الخارجية، وأيضًا صرف النقود على عملات الدول الأخرى، وتضع له سعرًا رسميًّا وتُعاقب كل من لا ينفذ ذلك لتمنع الأجانب من استنزاف ثروة ألمانيا وتبذل كل جهد ممكن، ولكن المارك رغم هذه الجهود أخذ في الاحتضار.

ومن الحيل التي لجأ إليها أصحابُ الصناعات الكبيرة ذات السمعة العالمية لإنقاذ صناعتهم إنشاءُ فروع لها في الخارج، واشتغلت هذه الفروع بهمَّة فائقةٍ، حتى صارت هي الأصل، والأصل في ألمانيا مجرد مكاتب وإدارات لها تصدر الفواتير وتُراجع الحسابات وتُعد الميزانيات السنوية لتتلوها على الجمعيات العمومية عند انعقادها آخر العام.

تأثير التضخم على السندات والأسهم

وفي بدء التضخم يقل الإقبال على السندات عن الإقبال على امتلاك السهوم، وذلك مرده إلى كون السندات — حكومية كانت أو على الشركات — تعطي فوائد ثابتة مقدرة لها، بعكس السهوم فإن الإقبال عليها ينشط وهي محل رغبة؛ لأن ما تعطيه من ربح يصعد بصعود أرباحها المتزايدة، والشركات في أثناء التضخم سواء كان في وقت الحرب أو بعده تُدر أرباحًا طائلة تفوق في كثير من الأحيان رأس مالها.

وكلما زاد التضخم زاد الإقبال على السندات والسهوم؛ لأن الناس لا يحسون فعل التضخم إلا بعد وقت قليل، فإذا تنبهوا له أقبلوا على الأوراق المالية معتقدين أن امتلاكها خير من امتلاك النقود المتدهورة، تلك حالة نفسية لها دخل كبير في سير التضخم.

التضخم يزيد في عدد الشركات وفي رأس مالها

ومن نتائج التضخم أن تزيد الشركات زيادة غير معقولة، وتزيد رءوس الأموال المستغلة فيها؛ طمعًا في الربح، ففي كل يوم تؤسس شركات، وفي كل يوم تزيد شركاتٌ في رءوس أموالها، وإذا استثنينا شركات الملاحة، التي لم يستطع الألمان مباشرتها أثناء الحرب بفعل الحصار وتعقب العدو للسفن وإغراقها، فإن عدد رءوس أموال شركاتهم الصناعية والتجارية قد تضخم بِدَوْرِهِ تضخمًا هائلًا لا تجيزه ظروفهم — لو أنها كانت طبيعية.

والتضخم من نتائجه الحتمية إنشاء شركات فجة غير مدروسة لا تلبث أن تنافس بعضها البعض، بل تنافس أيضًا الشركات ذات الخبرة والمران، ويقوم بين الشركات التي تعمل في غرض واحد أو أغراض متقاربة صراعٌ لا تؤمَن عواقبه، يؤدي بكثير منها إلى الإفلاس.

تأثير التضخم على الأجور والأسعار

ترتفع الأجور والأسعار كلما تضخمت النقود، فالأجير لا يستطيع على الغلاء صبرًا وهو مرهق بالعمل، يرى صاحبه يجني الأرباح الطائلة فيطالبه برفع أجره، ثم لا يفتأ يطالبه بالزيادة، وهو مُحق في طلبه؛ لأن نفقات المعيشة تغلو غلاءً فاحشًا فلا يعود في مكنة الأجير أن يعيش إلا بأجر يطرد ارتفاعه كلما اطرد ارتفاع تلك النفقات.

وفي أوقات التضخم تقع أسوأ النتائج على الأجير كلما طالت مدة الدفع له، فالأجير الذي يقبض مرتبه كل شهر يُضار أكثر من الأجير الذي يقبض أجره كل أسبوع، والأجير الذي يقبض أجره كل أسبوع يُضار أكثر من الأجير الذي يقبض أجره كل يوم. فكلما طالت المدة في قبض الأجر كلما تعرض الأجير للضرر الحادث من الارتفاع المتزايد يومًا عن يوم، وربما كانت الأسعار في المساء غيرها في الصباح في يومٍ واحد.

وأكثر الناس شقاءً بارتفاع الأسعار هم المهذبون الذين لا يغضبون أو يلجئون إلى العنف كأساتذة الجامعات الذين ضُرِبَ بهم المثل على البؤس في تضخم المارك فقيل عنه «البؤس العلمي».

أما الارتفاع في الأسعار فيطرد كلما كثُرت النقود، ولكنه يمتاز بميزتين:
  • (١)

    لا يكون الارتفاع بنسبة واحدة في السلع.

  • (٢)

    لا يكون الارتفاع بنسبة متوافقة مع الزيادة المتوالية في النقود.

وهذا يتناول السلع المختلفة الأنواع، كما يتناول السلع التي من نوع واحد؛ لأن ظروف السلع تختلف من حيث نفقات الإنتاج ومن حيث ظروف العرض والطلب، والحالة النفسية للمنتج والمستهلك والتاجر لها دخلٌ كبير.

الاستعداد الشخصي للتنبُّه وفهم القوة الشرائية وتأثيرهما على سير التضخم

ومن أهم العوامل في تأثير التضخُّم على الأسعار كون الناس لا ينتبهون للتضخم الذي يجري تحت أبصارهم بدرجةٍ واحدة Inflation Consciousness؛ لاختلاف أمزجتهم واستعدادهم الذهني والعلمي، فكثيرٌ منهم لا يفقد الأمل في رجوع النقود إلى قيمتِها السابقة، وبعضُهم لا يستطيع تعليلَ ما هو حادثٌ من غلاء، وبعضهم لا يدرك فعل القوة الشرائية للنقود، بل أكثر من هذا ربما كان منهم من يدركها ولكن تضره فطنته فتودي به إلى التفاؤل أو التشاؤم فيضل الطريق وهو مبصر.

تأثير التضخم على البنوك والشركات

صفى معظم البنوك الخصوصية أعماله، وذلك النوع من البنوك كان منتشرًا في كثير من أحياء برلين والبلاد الأخرى الهامة، وأصحاب هذه البنوك أو مديروها قد أساءوا إلى الشعب الألماني؛ لأنهم ضاربوا بما كان مودعًا في بنوكهم، وبعضهم احتال على إخراج ماله إلى البلاد المحايدة ثم أفلس بالتدليس. أما البنوك الكبيرة فقد سارت في أعمالها تحت النظام الذي فرضته لها الحكومة فاستطاعت بصعوبة زائدة أن تنجو، أما بنوك التسليف العقاري فقد سدد لها المدينون ما عليهم بعملة رسمية لم يمكنهم رفضها، وأكثرهم صفى أعماله أو تحول إلى شركات تتجر في أراضي البناء والزراعة.

اختلال الميزانية وإفلاس الحكومة

لا تستطيع حكومة أن تسير في مثل تلك الظروف بغير أن تختل ميزانيتُها، فكل تقدير إنما هو رجمٌ بالغيب، وكل شهر يُظهر فرقًا عظيمًا بين الإيرادات والمصروفات، ولم يسبق أن تعرضت حكومة في العالم إلى ما تعرضت له الحكومة الألمانية في سنة ١٩٢٣؛ فتخبطت تخبط المفلس الذي فقد عقله، وأصدرت في مارس من تلك السنة قانونًا تأمر به جُباة الضرائب أن يُراعوا عند تحصيلها مقدار سقوط المارك، ولكنها عجزت عن تنفيذه وكان بمثابة إشهار للإفلاس العام.

واستأنفت عهدًا جديدًا بإصدار مارك جديد، ولكنها اضطرت أن تعدل نظامها النقدي عندما بَحَثَ Dawes مقدرتها على دفع التعويضات واقترح لها قرضًا مقداره ٨٠٠ مليون مارك ذهبًا؛ لتنظيم عملتها على قاعدة الذهب، فنظمتها؛ إجابةً لطلب الحلفاء وأفادت أكبر فائدة.

إنجلترا تأخذ بسياسة التقلص فتضر نفسها والبلاد المتصلة بها

أما إنجلترا فإنها اتَّبَعت سياسةَ تنقيص النقود والقروض الحكومية، عملًا بمشورة لجنة كَثليف التي حَضَّتْهَا على ذلك وعلى الاستزادة من غطاء البنكنوت وموازنة الميزانية البريطانية، واكتسبت إنجلترا ثقةَ العالم فتدفقت عليها أموالٌ عظيمةٌ من الخارج، حتى وصل الجنيه الإنجليزي إلى ٤٫٦٨٥ دولارات، فكان من الطبيعي أن تتطلع الحكومة البريطانية إلى استرجاع مركز لوندرة المالي الذي هددتها نيويورك بانتزاعه منها.

والإنجليز يُلتمس لهم العذر إذا عملوا على استرجاع مكانة لوندرة، أو إعادة الجنيه إلى سعره القديم الذي جعله زعيم نقود العالم وسيدها، ومن دواعي مجدهم أن تكون لوندرة معقد القروض الدولية، وغرفة المقاصة العالمية، وسوق الذهب الحرة كما كانت من زمن قديم، إنجلترا ترى أن سيادتها على المال أساس سيادتها على العالم، وهذا حقٌّ؛ فالمال قوام الحياة عند الأفراد والدول.

وكان من المتعين أن ترجع إنجلترا إلى قاعدة الذهب يوم تولت الحكم فيها وزارةُ المحافظين، وهم لا يؤمنون في سياستها إلا بالمبادئ الموروثة، وفي رأسها الاعتماد على الذهب، ومكانة لوندرة الاقتصادية.

وبالرغم من تحذير خبرائهم الأخصائيين في شئون النقود ومعارَضة حزب العمال الذين أثبتوا أن توازن الميزانية غير سليم، بل مفتعَل بالضرائب التي ناء بها كاهل الشعب، وأثبتوا أن الرجوع إلى الذهب يُلحق بالإنتاج البريطاني وبالتجارة البريطانية أبلغ الأضرار؛ بالرغم من كل هذا فإن مستر تشرشل استصدر في ٢٥ مايو سنة ١٩٢٥ قانونًا بالرجوع إلى الذهب وسط ضجة عنيفة في البرلمان، وقد ألزم ذلك القانون بنك إنجلترا أن يبيع الذهب في سبائك لمن يريد Gold Bullion Standard، وزن السبيكة ٤٠٠ أوقية بسعر ٣ جنيه و شلن و بنس للأوقية.

وحين رجعت إنجلترا للذهب رجعتْ إليه في أعقابها بلادُ الإمبراطورية والبلاد المتصلة نقودها بالاسترليني ومنها مصر، التي فقدت استقلالها النقدي بما أصدرته حكومتها من دكريتات وأوامر وزارية أجازتْ بها للبنك الأهلي أن يَستعمل سندات الحكومة البريطانية بدل الذهب في غطاء ما يُصدره من بنكنوت.

وكان لرفع سعر الاسترليني بتلك الكيفية أسوأ الآثار في إنجلترا والبلاد المتصلة بها، فأصبحت صناعتها لا تقوى على منافسة الصناعات الأخرى التي نُظِّمت تنظيمًا حديثًا بعد الحرب، بينما ظلت مصانع إنجلترا محافظة على القديم من آلاتها وطرائق إنتاجها، فَقَلَّ أو انعدم ربح الصناعة عندهم، وزاد العطل في عمالهم، واستدعى ذلك إعانتَهم والالتجاء إلى رفع الضرائب، فأُثقل كاهل الميزانية، واجتمعت هذه العوامل فأضرت بالمالية والتجارة البريطانية.

وشكلت الحكومة في سنة ١٩٢٩ لجنة «مكمِلَّان» لبحث الحالة واقتراح ما يلزم لها من علاج، ولَمَّا قدمت تلك اللجنة تقريرها نشرته الحكومة فكان ما فيه من صراحة داعيًا لزيادة الموقف سوءًا على سوء؛ فقد كشف العيوبَ، وتأثر به الكثيرون فسحبوا أموالهم من إنجلترا ليُودِعوها بلادًا أخرى.

تفاقمت الحالة في سنة ١٩٣١، فالميزانية البريطانية بها عجزٌ لا يقل عن ١٢٠ مليون جنيه، والميزان التجاري به نقصٌ شنيعٌ يسدد من تجارتها غير المنظورة من التأمين والنقل البحري ومن رءوس الأموال المستغلَّة في الخارج، وبنك إنجلترا كاد يفرغ رصيده المعدني. فأسرعت الحكومة باستصدار قانون ٢١ سبتمبر سنة ١٩٣١ لإيقاف المادة الأولى من قانون ١٩٢٥، ورجعت إنجلترا والبلاد المتصلة بها عن قاعدة الذهب لتصلح أخطاء الماضي الذي دفعت فيه ثمنًا غاليًا، هي والبلاد المتصلة بها.

ولما كان الجنيه المصري متصلًا بالاسترليني، فقد أصيبت مصر بالكارثة الكبرى نتيجة ذلك التقلص، فالقطن — وهو عماد ثروة البلاد — الذي كان متوسط سعر قنطاره السكلاريدس من رتبة فولي جودفير ٥٠ ريالًا في سبتمبر سنة ١٩٢٥، نزل إلى ريالًا في سبتمبر سنة ١٩٣١، والأشموني الذي كان متوسط سعره من تلك الرتبة ٣٠ ريالًا في سبتمبر سنة ١٩٢٥، نزل إلى ريالًا للقنطار في سبتمبر سنة ١٩٣١، بينما الحبوب بِيعت منها الذرة بسعر ٣٥ قرشًا للإردب، والفول بسعر ٥٠ قرشًا للإردب، وبلغ عجز الصادرات عن الواردات ١٤٥٨٢٠٠٠ في سنة ١٩٣٠، فكانت الأزمة الساحقة التي لا زالت بعض آثارها باقية إلى اليوم رغم ما بُذل في تسوية الديون العقارية.

اختلال الميزانية يؤدي إلى التضخم في فرنسا

بالغت فرنسا في تقدير استطاعة ألمانيا دفع ما فرضته عليها من تعويضات الحرب، واعتقدت أنها باحتلال الرور وبغيره من أساليبها الخشنة أن تعتصر من ألمانيا أموالًا طائلة، فاندفعت في الاستدانة من بنكها الذي أجبرتْه على أن يرفع اعتماداته للحكومة الفرنسية، وأيضًا من بنك الكريدي ناسيونال وغيره تأخذ منها قروضًا ضخمة في آجال قصيرة وبأذونات على الخزانة لتسدد العجز المتوالي في ميزانياتها، ويضطر بنك فرنسا بحكم هذه الظروف التي أملتْها عليه سياسة الحكومة إلى تضخيم التداول في ورقه، فيصل في سنة ١٩٢٤ إلى ٤٣٫٣٠٤ مليار فرنك بزيادة ٢٫٣٠٤ مليار عن الحد الذي كان مصرحًا له به بعد أن يحصل على إجازة من الحكومة بزيادة الإصدار إلى ٤٥ مليار في نظير أن يرفع لها الاعتمادات إلى ٢٦ مليار فرنك، وكان هذا العمل سببًا في إسقاط وزارة هريو.

ظهر للوزارة التي تلتها في الحكم أن الميزانية ملفَّقة، وأن العجز فيها أكثر مما ظنَّته، وأن الضرائب والقروض الداخلية لا تفي لسد النقص، فلجأت إلى الاقتراض من الولايات المتحدة بواسطة بنك Morgan ١٠٠ مليون دولار، ومن إنجلترا بواسطة بنك Lazard ٤ مليون جنيه؛ لتوازن بهما ميزانيتها، ولتمنع الفرنك من التدهور، ونجح القرضان مؤقتًا في تدبير الميزانية وفي رفع سعر الفرنك بالنسبة للدولار من ٢٨ إلى ١٨، وبالنسبة للجنيه الإنجليزي من ١٢٠ إلى ٧٨ في صرف الفرنك.

صراع بين المضاربين الدوليين والبنوك المركزية

واغتنم الفرصةَ جماعةٌ من كبار المضاربين الدوليين المَهَرة، فهاجموا الفرنك ليربحوا من إنزال سعره مستندين في عملهم على اختلال الميزانية وعجز تجارة فرنسا الخارجية، وكان نجاحهم مكفولًا لولا أن المصلحة قضت بتحالفٍ عتيد بين بنك فرنسا وبنك إنجلترا، والفدرال ريزرف الأمريكي قام في وجههم ليفسد خططهم، فباع واشترى العملات وانتصر عليهم ولكنهم كبَّدوه خسائر فادحة.

إيقاف التضخم وتثبيت الفرنك

تعاقبت على فرنسا عدة وزارات سنة ١٩٢٥، لم تفلح واحدة منها في موازنة الميزانية وإيقاف التضخم، حتى قلَّت الثقة بمالية فرنسا في سنة ١٩٢٦، وأخذ الماليون من الفرنسيين والأجانب في سحب ودائعهم وبَيْع أوراقهم المالية وتهريب نقودهم إلى البلاد الأخرى كما هي العادة في مثل هذه الظروف، ونشط المضاربون فنزل الفرنك إلى ٢٤٥ بالنسبة للجنيه الإنجليزي.

ونادى الفرنسيون بوجوب تأليف وزارة وطنية لتتولى إنقاذ الموقف، فتألفت وزارةٌ برياسة «بوانكاريه» موضع الاحترام من الشعب ومن الماليين والبنوك، وقد أعلن في برنامجه أنه لن يعتمد على الاستدانة، بل على الطمأنينة والثقة به وبسياسة حكومته، وفعلًا ما كاد يبدأ عمله حتى صعد الفرنك إلى ١٨٥ بالنسبة للجنيه، وكانت الثقة به وأخْذه الأمور بالحزم والجرأة المصلحة كفيلين بنجاحه، ورجع لفرنسا كثيرٌ من الأموال التي هاجرت منها، وظل الفرنك ثمانية أشهر على سعر ٢٥ بالنسبة للجنيه حتى ثبَّتَتْه الوزارة في سنة ١٩٢٨ على أساس الذهب متخذة لوزنه ٦٥٫٥ ملليجرامًا ولعياره ٩٠٠ من الألف.

الولايات المتحدة بين الرخاء والأزمات

إذا أخذنا بظواهر الأمور فليس للولايات المتحدة أن تعرف الأزمات وهي بلادٌ أصابت من المواد الأولية ما لم تصبه غيرها، وجمعت من المال ما لم تَحْوِهِ بلادٌ أخرى، وتقدمت في الصناعة تقدمًا لا نظير له بعد الحرب الماضية التي خرجت منها دائنةً لأوروبا بعد أن كانت من قبل مدينةً لها، كل ذلك يوفر لها من أسباب الثراء ما لا يُظن معه أن تقع في الأزمات أو أن تمر بالشدائد.

ولكن الواقع غير ذلك، فقد جنى عليها ثراؤها في كثير من الأحيان، وتلك المكانة التي نحسدها عليها لم تَخلُ من متاعب، فالولاياتُ المتحدة بحكم أنها مالكة للمال والمعادن النفيسة، ولا ينبغي لها أن ترخص النقود وتضعف من قدرتها الشرائية Purchasing Power of Money، وبحكم أنها بلادٌ صناعية من الطراز الأول؛ لا ينبغي لها أن ترفع قيمة النقود وإلا أضرت بإنتاجها الزراعي والصناعي، ومكَّنت الدول الأخرى ذوات النقود والأجور الرخيصة أن تتغلب عليها أو على الأقل أن تنافسها منافسة شديدة في التجارة حين تتمكن من مزاحمتها بصناعات أقل من صناعة الولايات المتحدة ثمنًا.

فإذا سيطر رجال المال على السياسيين فمن مصلحتهم أن يكون الدولار مرتفع القيمة، وإذا سيطر رجال الاقتصاد على السياسيين وضعوا الدولار في الوضع المناسب لظروف الولايات المتحدة، حتى لا تُمنى بالعطل والأزمات، وقد تحملت الولايات المتحدة أزماتٍ متكررةً كان أهم عامل فيها بقاء الدولار مرتفع القيمة؛ لأن سياسة الرئيس هوفر كانت منصرفة إلى علاج الأزمات بالقروض، وكانت سياسةً منتقدَةً بعثت تضخمًا في القروض وحفظًا مصطنعًا للأسعار، فكانت سياستُه التي أشارت بها لجانه الاقتصادية بمثابة علاج للأزمات بملطِّفات ومخدرات ضارة.

واستدعى تسهيل القروض أن يغتنم السماسرة تلك الفرصة فزينوا للمغامرين أن يقترضوا من البنوك قروضًا لآجال قصيرة يتضاربون بها في بورصات الأوراق المالية، طمعًا في كسب سهل سريع، وحين استُحقت هذه القروض لم يتمكنوا من سدادها، فباعوا أوراقهم المالية بيع السماح؛ ليدفعوا ما عليهم للبنوك فهوت أسعار الأوراق، وكانت صاعقة الحي المالي في «وال ستريت»، وتوقفت بعض البنوك عن أعمالها، ونظم الرئيس هوفر هيئة لتسليف البنوك المعسِرة تُقطَّع فيها الصكوك التي تعذر تحصيل قيمتها.

لم يُفد علاج المسكنات الوقتية؛ فأسعار المحاصيل الزراعية انحطت، والإنتاج الصناعي أصبح عقيمًا، وزاد العطل بين العمال فبلغ ٨٣٠٠٠٠٠، وأصيبت فوق ذلك الميزانية بعجز بلغ ٢٢٥٠ مليون دولار في أواخر سنة ١٩٣٢، بينما أخذت صناعة إنجلترا تروج وتنافس الصناعات الأمريكية؛ لأن الاسترليني حُفظ في سعر صرف حوالي ٣٫٥٠ دولارًا. وأدركت الولايات المتحدة أن سياسة البقاء على الذهب لا تمكِّنها من علاج الأزمات المتكررة، فاتخذت طريقها للابتعاد عن قاعدة الذهب في خطوات، حتى لا تتعرض للخسارة، فبدأت بتحريم إصدار الذهب للخارج؛ لتفسد ركنًا من أركان قاعدته الضارة وهو حرية «تنقله الذاتي»، ثم تخطو خطوة أخرى فتحرم أن يحوز الأفراد منه أكثر من ١٠٠ دولار، ثم تقضي عليه في خطوة ثالثة خطاها الرئيس روزفلت حين أعلن في ٩ مايو سنة ١٩٣٣ أن شرط الذهب قد أُلغي من العقود نهائيًّا.

ومما يجدر بالذكر أن إنجلترا وغيرها من الدول التي خرجت عن قاعدة الذهب قد خرجت عنها في وقت لم تجد فيه بنوكُها كفايتها من ذلك المعدن، بعكس الولايات المتحدة فقد خرجت عن الذهب وبنوكها تملك أكبر مقدار منه في العالم، أصيبت بسببه «بالتخمة الذهبية» كما وصفها بذلك الاقتصاديون.

مؤتمر لندرة تفسده أنانية الدول

دعا مجلسُ عصبةِ الأمم الدولَ إلى عقد مؤتمر اقتصاديٍّ؛ ينتشل العالم من الحالة السيئة التي سادتْه في شئون النقد والاقتصاد بعد الحرب الماضية، تلك الحالة التي سبَّبها ترخيص كل دولة نقدها لتُوازن ميزانيتها، وتساعد صناعتها على المنافسة الخارجية، بينما لجأتْ إلى وضع العراقيل والموانع في تجارة غيرها، تلك حرب اقتصادية أَضرَّت بالدول كلها لا بد لها هي الأخرى من نهاية.

عُقد ذلك المؤتمر بلندرة في ١٢ يونيو سنة ١٩٣٣، وبدأ المؤتمِرون أعمالهم في شُعبتين: أحدهما تخصصت لدرس مشكلات النقود وما تفرع عليهما كالائتمان والأسعار والصرف، والثانية تخصصت لدرس الحالة الاقتصادية وتناول عملها التجارة، والإنتاج، والاستهلاك، والتوزيع.

ولكن أنانية الدول أفسدت المؤتمر في أيامه الأولى؛ فقد أثارت فرنسا في طريقه عقبة تثبيت النقود؛ لأن مصلحتها — وقد ثبَّتت نقدها كما رأينا — كانت تقضي عليها بأن تدفع الدول الأخرى إلى تثبيت نقودها على قاعدة الذهب، وقالت في تبرير ذلك: إنه لا معنى لأبحاث المؤتمر إلا إذا ثبَّتت الدول نقودها لتثبت بعد ذلك الأسعار.

وناصرت كلٌّ من بلجيكا وسويسرا وإيطاليا فرنسا، بينما خالفتها الولايات المتحدة؛ لأنه لم يكن من مصلحتها، أن تثبت نقودها إلا بعد أن ترفع الأسعار في بلادها، وقالت في تبرير موقفها: إن إصلاح العالم وعلاج أزماته مقدَّم على أي اعتبار آخر. أما إنجلترا فقد وقفت في منتصف الطريق بين الرأيين، ولعل السبب في موقفها الحائر أن كبار الماليين الإنجليز كانوا يشاطرون فرنسا وكتلة الذهب رأيها في ضرورة التثبيت سريعًا على قاعدة الذهب؛ لأنه من مصلحتهم أن تثبت النقود فتحفظ قيمتها الشرائية، بينما أجمع خبراء النقود الإنجليز وأيضًا ممثلو البلاد التابعة أو المتصلة بالإمبراطورية على ضرورة السير ببلادهم في ظل الورق النقدي تحت إدارةٍ رشيدةٍ تراعي مصلحتهم وتكفل لهم ولإنجلترا اليسر والرخاء.

قِصَر النظر عند كتلة الذهب

فشل المؤتمر نتيجة أنانية كتلة الذهب القصيرة النظر التي أَعْمَتْها مصالحُها العاجلة عن مصالحها الحقيقية، فلم تقدِّر سويسرا أنها بلد يعتمد على السائحين ومعظمهم من الإنجليز والأمريكان. ولم تُقَدِّر فرنسا أنها دولة تعتمد على صناعة الكماليات وعلى التجارة غير المتطورة فضلًا عن كونها لا تستطيع السير سياسيًّا واقتصاديًّا بمعزلٍ عن الإنجليز والأمريكان. وغاب عن إيطاليا أن ما فيها من مال نظمته بطريق القروض و«إنتاج مدبر» لا يكفيان لما تفكر فيه من غزوات تحلم فيها بمجد الرومان، فإذا بدأ تحقيق أطماعها وحاربت الحبشة استنفدت كل ما لديها من ذهب وكسدت تجارتها. ولم تكن بلجيكا إلا قريبة الشبه بفرنسا جارتها.

فلم يَطُل أمر الكتلة الذهبية حتى انهارت وخرجت من تحالفها وتعصبها للذهب دولةٌ إثر أخرى، واضطرت إلى تخفيض عملاتها، حتى إذا كانت سنة ١٩٣٥ خفضت بلجيكا وزن البلجا ٢٨٪، ثم أعقبتْها سويسرا وإيطاليا، وأخيرًا فرنسا في سنة ١٩٣٦ خفضت الفرنك ٣٠٪ من وزنه بموافقة إنجلترا وأمريكا، وهكذا كانت نتيجة كتلة الذهب أن أضرت بنفسها وأخَّرَت حل أزمات العالم.

عادت جميع دول العالم تنحي على الذهب باللائمة، وتراه المسئول الأول عما حدث ويحدث من اختلاف في الأرزاق، وأن تعصب كل دولة لمصالحها الخاصة ومحاربتها غيرها من الدول صناعيًّا وتجاريًّا وماليًّا؛ قد أدى بالجميع إلى الكوارث.

الاقتصاديون ينادون بخلع الذهب وإنشاء بنك عالمي

ونرى كُتَّابَ الاقتصاد في جميع الدول ينادون بأن الذهب قد استَعبد الخلائقَ وأصبح طاغية لا معقب لحكمه حين ينتقل بين الشعوب ليفسد فيها، وأنه قليل بالنسبة لحاجات الناس وأغراض التجارة، فلا مفر من الحد من قوته إذا لم يمكن إزاحته عن عرشه، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ قالوا: بإنشاء بنك عالميٍّ أو بتحويل بنك التسويات الدولية إلى بنك مركزي عالمي تستودعه الأمم ذهبها ويُصدر عملة عالميةً تُقبل في كافة البلاد وتَنسب إليها الدول عملاتها الوطنيةَ، وهذا — في الواقع — هو أساس المشروعين المقدمين الآن في إنجلترا والولايات المتحدة لنقد عالمي يصدره بنك دولي كاتحادٍ لمقاصة عالمية، فالمشروع الإنجليزي قد أعده اللورد Keynes ويعرف الآن باسمه، وهو أحد الكُتَّاب الذين حملوا على الذهب ونادَوا بإيجاد بنك دولي.

ألمانيا تستعد للحرب باقتصاد عسكري

وبينما ذلك الاضطراب النقدي حادثٌ في الدول، كانت ألمانيا تنظِّم نفسها تنظيمًا اقتصاديًّا أول خطواته ذلك القانون المسمَّى بقانون «إعادة بناء ألمانيا اقتصاديًّا» الذي استصدره وزير الاقتصاد القومي الدكتور شميت Schmitt في ٢٧ فبراير سنة ١٩٣٤، فجعل للحكومة — مُمَثَّلَةً في وزير الاقتصاد — السلطةَ التامةَ على المال والصناعة والتجارة وهيئاتها المنظمة تنظيمًا دقيقًا، عهد في الإشراف عليه للدكتور شاخت Schacht، ولكن النازيين لم يُمهلوه فعينوا الدكتور فونك Funk وهو من أقطابهم؛ لتنفيذ هذا البرنامج القومي المبني على الإشراف المطلق على البنوك في شئون النقود والقروض، وعلى الإنتاج الزراعي والصناعي، وعلى التجارة الداخلية والخارجية؛ ليسيروا بهذه المجموعة الاقتصادية إلى غاية كبرى، استعدادًا للحرب التي لا بد لهم منها، وقد أتقنوا هذا النوع من الاقتصاد العسكري Wehrwirchaft.

نظرة عامة على النقود في الحرب الحالية

سواء أكانت الحرب الحاضرة هي الشوط الثاني من الحرب الماضية أو كانت مستقلة؛ فإنها لا تختلف — في نظرنا — عن الحروب السابقة التي مرت على العالم من حيث أسبابها، وأكبر الظن أنها أيضًا لن تختلف عنها في النتائج إلا بمقدار ما يتجه فيه العالم الآن نحو الاشتراكية. أما الأسباب فهي اقتصاديةٌ بحتة، صراعٌ استعماري للحصول على المواد الأولية والأسواق التجارية.

وأما النتائج بالنسبة للنقود فقد رأينا طلائعَها الآن في ذلك التضخُّم الذي عمَّ جميع البلاد، محارِبةً ومحايِدةً، فالمحاربة تُكثر من النقود والقروض، كما هي العادة في كل الحروب؛ لتنفق على القتال، وأما المحايدة — إن وجدت محايدة — فقد تَضخم فيها النقدُ أيضًا؛ لأنها تستعد لحرب قد تُزج فيها، أو لأنها متصلة بالمحاربين، متأثرةٌ بظرف من ظروفهم.

وقد كان من مبتكَرات هذه الحرب الادخارُ الإجباريُّ وقانون الإعارة والتأجير عند الأمم المتحدة، وتطبيق ألمانيا «النظام الجديد» بينها وبين الدول المتحالفة معها أو التي تخضع لاحتلالها، وقد سهَّل الإنفاق على دول الأمم المتحدة ذلكَ النظامَ الفذ الذي اتبعتْه الولايات المتحدة وسَمَّتْه قانون الإعارة والتأجير المتبادل بينها وبين الدول المعادية لألمانيا، فتُقدِّم كل دولة من المواد الأولية والأسلحة والأغذية والنقود ما تستطيع تقديمه للسير بالحرب إلى النصر، ذلك حساب جار هائل الأرقام لم ينته بعد.

أما ألمانيا فقد سعَّرت المارك بالنسبة لعملات البلاد المتحالفة معها أو المحتلة بها … ونظمت الإنتاج والاستهلاك في تلك البلاد تنظيمًا دقيقًا وجعلت المارك أساس المعاملات الخارجية بينها وبين تلك الدول، أو بين تلك الدول وبعضها، وبذلك أصبحت برلين غرفة المقاصة بين تلك البلاد، والمارك عملتها الدولية.

ونعلم عن الجيوش المحتلة أنها تنفق في البلاد التي تحتلها، فتضخم فيها النقود وتسبب لها نوعًا من الرخاء المؤقت، وألمانيا تأخذ من الدول التي تحتلها ما تسميه نفقات الاحتلال، فيغدقه جنودها في تلك البلاد، وتشتري أيضًا السلطات الألمانية من بضاعة هذه البلاد ما يلزمها، وتستخدم كثيرًا من عمالها وتدفع لهم بنقودهم الوطنية محسوبة على سعر صرف المارك، وإذا اشتروا منها دفعوا لها بالمارك محسوبًا على سعر الصرف الذي قدَّرَتْه لعملاتهم. وبديهي أن ألمانيا تشتري وتستخدم من عمال هذه الشعوب أكثر مما تشتريه هذه الشعوب منها، فيكون الباقي ديونًا لهذه الشعوب في ذِمَّة ألمانيا تتم تصفيتها نهائيًّا بعد الحرب.

التضخم النقدي في مصر

أما في مصر فقد أَخذت النقود المتداولة تزيدُ زيادةً مُطردة أثناء هذه الحرب، حتى أصبحت الآن ١١٢ مليونًا من الجنيهات، منها ١٠٥ مليون بنكنوت صادر من البنك الأهلي، والباقي نقود معاونة ورقية ومعدنية صادرة من الحكومة المصرية. ومثل هذه الكثرة المتزايدة في شهر عن آخر لا عهد لمصر بها حتى في سنة ١٩١٩ عندما وصل سعر قنطار القطن إلى أكثرَ من أربعين جنيهًا، فقد كان المتداول من البنكنوت في تلك السنة ٦٨ مليونًا فقط، وقد زاد أيضًا استعمال الشيكات، حتى لقد بلغ ما حصلت فيه مقاصة السنة الماضية ٧٥٦٠٠٠ شيك، قيمتها ٢٦٦٠٠٠٠٠٠ جنيه، مقابل ٦٩٠٠٠٠ شيك في سنة ١٩٣٩ قيمتها فقط ١١٩٠٠٠٠٠ جنيه.

أما الودائع في البنوك فقد زادت زيادةً جسيمة لا سبيل إلى معرفتها، ويكفي أن نعرف أن ودائع الأفراد في البنك الأهلي وحده، التي كانت في سنة ١٩٣٩ مقدارها ٧١٣٢٠٠٠ جنيه، قفزت في السنة الماضية إلى ٥٢٠٠٠٠٠٠ جنيه، بينما الودائع الأميرية التي كانت في هذا البنك سنة ١٩٣٩ مقدارها ٣٣٠٣٠٠٠ جنيه صارت في السنة الماضية ٦٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. لا نزاع إذن في كثرة المال بمصر وأن كثرته تَطَّرد، سواء في ذلك التداول أو المودع في البنوك وعند الأفراد والشركات.

ويعزى السبب في زيادة الأموال بمصر إلى احتباس أموالٍ كُنَّا ندفعها للخارج فيما نستورده من بضاعة، وإلى ما تنفقه الجيوش الأجنبية، وإلى تقدم مصر الحاضر، وحاجاتها المتزايدة التي تستلزمها نهضتها المرجوة.

ويبدو أنه من المتعين علينا أن نجيب على سؤال ما زال يتردد على الألسنة، وهو: هل في مصر تضخم؟ وقد اقترن وضع هذا السؤال بذلك الغلاء الذي يشكو منه الجميع؛ فالأرقام تدلنا على أن نفقات المعيشة بمصر قد زادت عن مثيلاتها في بعض البلاد، فبينما نراها في مصر بلغتْ في فبراير الماضي ٢٦٤، بزيادة ١٦٤ عما كانت عليه قبل الحرب، نراها في إنجلترا لم تبلغ أكثر من ١٩٩ بزيادة ٩٩ عما كانت عليه قبل هذه الحرب في سنة ١٩٣٩، بل لم تزد عن أرقام سنة ١٩١٤ إلا ٦٨ فقط.

وهناك ظاهرة أخرى؛ وهي أن الأسعار ونفقات المعيشة في إنجلترا كلتاهما ثابتة شهورًا، بينما الارتفاع في مصر مُطرد، وبينما إنجلترا والولايات المتحدة، وهما في حرب، لم تزد نقودهما وأسعار السلع فيهما ما زادته نقود مصر وأسعار السلع ونفقات المعيشة فيها.

وإني — كما قدمت — لست أؤمن بالأرقام المستمَدة من الإحصائيات حتى في الوقت العادي؛ فهذه الأرقام باعتراف الاقتصاديين أرقامٌ غير صحيحة حذرونا منها في كتبهم، وقالوا: إنها مفتعلة وإن كانت أقرب الوسائل لمعرفة الحقيقة عند المقارنات؛ لذلك يكون من الخطل أن نعتمد عليها في أوقات الحرب، وهي أوقات غير عادية تؤخذ الإحصائيات فيها من الأسعار الرسمية التي تسعر بها الحكومات بعض السلع، والتسعيرة في الواقع — كما لاحظت لجنة المالية بمجلس النواب — لا يمكن أن تكون مقياسًا صحيحًا للحالة؛ لأنه لا يدخل في تقديرها عواملُ السوق السوداء.

أما السؤال عن التضخم فقد طرحه النائب المحترم الأستاذ نصير على وزير المالية في جلسة ١٣ مارس، فأجاب عليه بأنه: «لا يوجد في مصر تضخم بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هناك أموالٌ متوافرة في البلاد سواء المتداول منها أو المكدس في البنوك وصناديق التوفير، ووفرة الأموال لا يقابلها عرضٌ متناسب من السلع لسبب تعذر وسائل النقل البحري، وضآلة المستورَد من الخارج، فترتب على ذلك الغلاء بطبيعة الحال.»

وبهذا أيضًا قالت لجنة المالية بمجلس الشيوخ في تقريرها عن السياسة العامة لمشروع ميزانية ١٩٤٤-١٩٤٥، ولكن لبعض الاقتصاديين رأيٌ معارض يقول بأن ما في مصر هو التضخم بعينه تطبيقًا لنظرية كمية النقود التي سبق أن أشرنا إليها في مستهلِّ هذا البحث. وهم يرون أن النقص في السلع متى صاحَبَه زيادة في كمية النقود فهناك التضخم، ويستند أصحاب هذا الرأي على مقال نشرته مجلة الإيكونومست بتاريخ ١٥ يناير جاء فيه أن ما تنفقه الجيوش الإنجليزية بمصر قد سبب لها تضخمًا. وأصحاب هذا الرأي يتوقعون قيام معضلة بسبب ديونٍ لمصر على إنجلترا، ناشئةٍ من استعمال البنك الأهلي السندات البريطانية في غطاء ما يصدره من بنكنوت.

وهناك رأيٌ ثالث ظاهره التوسُّط بين هذين الرأيين، ذلك رأي اللجنة المالية بمجلس النواب في تقريرها عن السياسة العامة للميزانية، وتلك اللجنة ترى أن بمصر تضخمًا غير ضار؛ «لأن اللجنة ترى أن كثرة النقد المتداوَل في مصر إنما قامت على أساس تلك الأموال المحبوسة في البلاد الأجنبية، وهي ديون لمصر في الخارج، فلا يمكن اعتبار زيادة النقد الحالي تضخمًا ضارًّا، خصوصًا وأن العملة المصرية ما زالت مضمونة بجانب من الذهب وبسندات على الحكومتين المصرية والبريطانية.»

وهذه اللجنة لم تذكر أن غطاء الذهب هو فقط ٦٢٤١٠٠٠ جنيه، وأن السندات المصرية هي ١٥٠٠٠٠٠ جنيه، وأن الباقي ومقداره ٩٥٠٠٠٠٠٠ جنيه من السندات البريطانية، ثم كادت اللجنة أن تقطع بأن العملة البريطانية هي والسندات البريطانية لن يصيبهما تخفيض مطلقًا بعد الحرب، وما كان لتلك اللجنة أن تبدي رأيًا كهذا عكسه هو الصحيح الذي يحدث عادةً عقب الحروب.

والذي أراه هو أن ما في مصر إنما هو تضخم لا شك فيه، وأذهب إلى أكثر من ذلك فأقول: إن الآراء التي ذكرتها برغم تعارضها قد أجمعت على وجود التضخم، وصوَّرَتْه في نواحيه المختلفة، والتضخم الحادث الآن في مصر هو التضخم المعروف بتضخم الحرب War Inflation، ولا يشترط فيه أن يكون في بلد محارب، أو أن يكون نتيجة فساد ميزانية غير متوازنة Unbalanced Budget بسبب الإنفاق على الحرب، وقد مررنا ومرت بمثله الدول حتى المحايدة منها في أثناء الحرب الماضية.

التضخم الحالي بمصر له ظاهرة جديدة

إن الذين يتكلمون عن التضخُّم في مصر قد فاتهم أن يذكروا أن التضخم الحالي له عندنا طابعٌ خاص؛ فهو لم يَعُمَّ جميع طبقات الأمة كما حدث في الحرب الماضية، فهناك قوم قد نعموا بالتضخم وجمعوا ما استطاعوا أن يجمعوه من مال، بينما الفلاحون — وهم أحق الناس بأن ينعموا بالتضخم باعتبارهم منتجين — قد أصابهم نذيرٌ من التقلص؛ لأنهم يشترون ما يلزمهم غاليًا ويبيعون محاصيلَهم رخيصة فضلًا عن قِلَّتِها؛ لندرة السماد عندهم، فالفلاح لم يكسب من الحرب الحاضرة كما كسب من الحرب الماضية، فماذا يكون موقفه إذا حدث رد فعل بعد الحرب الحالية وتوالت الأزمات التي تقع دائمًا بعد تضخم الحروب.

مكافحة الغلاء والتضخم بالطرق الكلاسيكية

أتت حكومتُنا عدة أعمال لتحارب بها الغلاء وتؤثر بها على كمية النقود؛ فقد سعَّرت بعض السلع وحددت كمية المستهلك من بعضها، وهذا أمرٌ واجب، ولكن نفاذ التسعيرة الرسمية لا بد فيه من استعمال الحزم والشدة. وقد عاقبت المحاكم العسكرية كثيرين ممن ضُبِطُوا عابثين بما صدر من أوامر، وهذا لا يكفي؛ فلا بد من معاونة الأهلين للحكومة بامتناعهم عن الشراء ممن يرفع الأسعار، ولا بد أيضًا من أن يقوم الجميعُ بالواجب المفروض عليهم في مثل هذه الظروف.

وقد فرضت الحكومة ضريبةَ الأرباح الاستثنائية؛ لتمتص بها ما زاد من أرباحٍ غير طبيعية بسبب الحرب، وكنا نميل إلى تعديل هذه الضريبة بحيث يُعفَى منها صناعاتٌ لا عهد لمصر بمثلها، أو تكون البلاد محتاجة إليها. وقد أشير على الحكومة بوسائل مما جاء ذكرها في الكتب واتُّبِعت في بلاد أخرى لإيقاف ما يمكن إيقافه من الزيادات المُطردة في النقود مثل: الاقتراض، وبيع الذهب.

أما عن الاقتراض فقد حولت حكومتنا الدين القديم إلى دين جديد، ولم يكن من رأينا أن يتم التحويل بتلك الكيفية، ولم يفد التحويل في امتصاص الزائد من النقود أو على الأقل إيقافه، كما لا يُفيد في الامتصاص أي قرض يعقد؛ إذ لا فارق بين نقود عند زيد يأخذها منه عمرو، ولا فارق بين نقود مودعة في خزائن البنوك لحساب الأفراد وبين نقود مودعة فيها لحساب الحكومة، إنها نقود موجودة «ورأس مال تحت الطلب»، والنقود المتكدسة في انتظار الأعمال الحرة هي التضخم بذاته، فلا يفيد هذا العلاج إلا إذا نُفِذَّت بها مشروعات فورًا، أو اشتُريت به بضاعة من الخارج مما تحتاجه البلاد.

ومما فكرت فيه الحكومة أن تبيع مساحات واسعة من أراضيها أو أراضي الأوقاف، وهذا أيضًا لا يفيد في منع التضخم ولا يؤثر عليه؛ لأن النقود تنتقل من حساب الأفراد إلى حساب الحكومة في البنوك فلا جديد عليها سوى تغيير اسم صاحبها، وفضلًا عن ذلك فإن التوسع في بيع الأراضي الزراعية وأراضي البناء عملٌ له أخطاره إذا لم يدرس الدرس الكافي، ولسنا في حاجة إلى تذكير من يهمهم الأمر أن توسع المدن وإنشاء الضواحي وبيع الأراضي مقسطة على آجال قد تُستحق في أوقات شداد قد جربناه في سنوات معروفة فكانت منه الأزمات.

أما بيع الذهب في مصر فقد كان عملًا تجاريًّا أكثر منه وسيلة لامتصاص الزائد من النقود، فقد عُرضت سبائك الذهب في البنوك بسعر يوازي سعر درهم الذهب في الصاغة، والذين أشاروا على السلطات بهذا السعر بعقيدة غير صحيحة تتهم الشرقيين بحيازة الذهب، فالغربيون يعتقدون أن الهندي يكتنز الذهب في الأقبية، وأن المصري يخفيه تحت البلاطة أو في مصوغات زوجته وبناته؛ ولذلك جعلوا سعر الأوقية من الذهب في الهند ٢٨٤ شلنًا « قرشًا»، وفي مصر بما يوازي «٢٠٦٠٤» سعرًا تجاريًّا، بينما الأوقية لا تباع تجاريًّا في لوندرة، وإنما هي فقط مسعرة رسميًّا بمبلغ ١٦٨ شلنًا «٨١٩ قرشًا» في بنك إنجلترا، وكانت النتيجة أن صارت الروبية تساوي بنسًا بدلًا من ١٨ بنسًا وهو سعره الرسمي، وطريقة بيع الذهب بتلك الكيفية مقصودٌ بها التخفيف عن الاسترليني المدين.

فصل الجنيه المصري عن الاسترليني أو تغيير سعر صرفهما

خيل لبعض المشتغلين في بورصات الأوراق المالية — على إثر تحويل الدين المصري القديم إلى دين جديد يدفع في مصر بالجنيه المصري — أن العلاقة بين الجنيه المصري والاسترليني قد حُل منها رباط قوي؛ لأن الدين القديم كان مشروطًا فيه دفع فوائده بالاسترليني، وتوقع قوم أن ظروف العملتين قد تقضي بعمل يغير سعر الصرف الحالي بينهما، تلك العمليتان — كلتاهما أو إحداهما — قد تعرض لها بعض ذوي الرأي من الساسة والاقتصاديين أخيرًا كعلاج للتضخم الحادث في مصر، وكنتيجة أيضًا لدين مصر على إنجلترا الذي لا يقل تقديره الآن عن ٣٥٠ مليون جنيه قيمة ما يملكه الأفراد والبنوك من سنداتها.

والذي نراه في هذا الصدد هو أنه ليس من مصلحة مصر على الإطلاق — في الوقت الحاضر على الأقل — أن تفصل الجنيه المصري عن الاسترليني أو أن تغير سعر الصرف الحالي بينهما، ربما يرى البعض أنه لا خوف على مصر وهي دائنة لإنجلترا، أو أن في مصلحة مصر ألا تربط نفسها بعملة إنجلترا التي ستخرج من الحرب مدينة، وأنه من المصلحة — والحالة هذه — أن نجعل الجنيه المصري يشق طريقه بنفسه إلى السعر الواجب أن يكون عليه. نقول: إن هذا كلام نظري محض ينفيه الواقع، فالجنيه المصري وهو متصل بالاسترليني وفي نطاقه، والاسترليني معلق بالدولار، وكلاهما نقد عالمي له قيمته الكبرى ليس من مصلحته أن يستقل بنفسه في الظروف الحاضرة، فضلًا عن كون مصر ليس لها بنك مركزي؛ لأن البنك الأهلي المصري بنك وإن تمتع بجميع مزايا البنوك المركزية فإنه لا يضطلع بواجباتها — مع الأسف — وهذا ما لفتنا إليه الجميع عند كل مناسبة.

وليست هذه هي المرة الأولى التي رأينا فيها بحوثًا في صدد فصل العملتين؛ فقد عرض لهذا البحث المرحوم طلعت باشا حرب، والدكتور فؤاد بك سلطان سنة ١٩٣٢ على إثر تلك الأزمة التي سببها تقلص النقد المصري بعد أن رجعت إنجلترا للذهب فأصابها وأصابنا معها الضرر، كما بينَّاه في صفحة ٣٠. وقد كان من رأي طلعت باشا وفؤاد بك لعلاج تلك الأزمة أن يفصل الجنيه المصري عن الاسترليني وأن يثبت على الذهب بعد تخفيض قيمته إلى ٧٥٪، وأيضًا استقدمتْ حكومتنا في تلك السنة خبيرًا عالميًّا في النقود مسيو فان زيلند فكان أيضًا من رأيه الفصل مع تثبيت الجنيه المصري على الذهب في حدود ٦٠٪ من قيمته بموافقة إنجلترا، وأن نأخذ بقاعدة الصرف بالسبائك، ولكن خبيرًا آخر هو السير اتونمبر وهو من أعضاء مجلس إدارة بنك إنجلترا كان من رأيه الانتظار حتى يتم مؤتمر لندرة الذي تحدثنا عنه في صفحة ٣٣ و٣٤، وقد أخذت الحكومة برأيه وانتظرت نتيجة ذلك المؤتمر ولكنه فشل — كما قدمنا — لتعصب كل دولة لمصلحتها الخاصة.

ولا يمكن الآن الأخذ برأي طلعت باشا، والمسيو فان زيلند؛ لأننا في حالة هي عكس تلك الحالة، فقد قالا بالفصل في وقت تقلُّص وأزمات، ونحن الآن في وقت تضخم وكثرة نقود، فضلًا عن كون إنجلترا في الوقت العادي أكبر عميل لنا في التجارة الخارجية هي وإمبراطوريتها، وهي بنوعٍ خاص موضع اعتمادنا في تجارة القطن الذي يعتبر محصولنا الرئيسي، فإذا فصلنا الجنيه المصري عن الاسترليني لم نأمن تقلبات سعر صرفهما، فضلًا عن كون السياسة كثيرًا ما تتدخل في الاقتصاد.

مشروعات نقد دولي يصدره بنك عالمي واتحاد مقاصة وتثبيت أسعار الصرف

ورجعتْ بسبب التضخم الحالي وما يتوقع منه تلك الفكرة القديمة التي ذكرناها في صفحة ٣٥، فقد أُعلن في أبريل سنة ١٩٤٣ أن مندوبين عن الدول الثلاث: روسيا، وإنجلترا، والولايات المتحدة، يدرسون مشروعين أحدهما إنجليزي يعرف بمشروع اللورد كينز Keynes، والثاني أمريكي يعرف بمشروع دكتور White، كلاهما يرمي إلى إيجاد نقد عالمي «يسميه الإنجليزي Bancor والأمريكي Unitas» يصدره معهد دولي، وكلاهما مبني على فكرة التعاون بين الأمم حتى لا تتكرر أخطاء الماضي.

والمشروعان أيضًا متفقان في الاعتماد على الذهب ليكون أساس النقد الدولي؛ لأنهما يريان الذهب ضررًا لا بد منه؛ لصفاته التي تجعله — رغم طغيانه — موضع الثقة والاحترام من الجميع وأساس تثبيت النقود وحفظ الأسعار من التقلبات العنيفة.

وإذا كنا لم نعرف بعد موقف روسيا من الذهب والنقد الدولي على حقيقته، فإن موقف الإنجليز والأمريكان فيه كثير من الاختلاف في وجهات النظر سببه ظروف كل دولة منهما، فإنجلترا دخلت الحرب مدينة وستخرج منها وقد زادت ديونها، والولايات المتحدة بعكسها دخلت الحرب دائنة وستخرج منها وقد زادت دائنيتها، وإنجلترا متصلة سياسيًّا وماليًّا ببلاد تابعة لها في السياسة والنقود، والولايات المتحدة — وقد تركت عزلتها القديمة — اعتزمت أن تتصل بالدول اتصالًا وثيقًا، ويصرح بعض ساستها بأن العالم يجب أن يكون وحدة لا تتجزأ، وأن استغلال الشعوب والقارات قد انتهى وقته ولا بد من الأخذ بفكرة الدولية، ولكنها ترمي من وراء مشروعها إلى جعل الدولار زعيم نقود العالم.

ولا تسلم إنجلترا في زعامة الاسترليني التقليدية على نقود العالم، وترى أن يقوم المشروع أولًا وقبل كل شيء على اتحاد دولي للتصفيات ينقل من حساب دولة إلى حساب أخرى في دفاتره مع ربط العملات ببعضها، حتى لا تقوم بين الدول حروب عملات كالتي حدثت عقب الحرب الماضية.

وترى إنجلترا نظرًا لظروفها الخاصة أن يكون لبعض أعضاء تلك المؤسسة مركزًا مزدوجًا لما بينه وبين دول أخرى من صلات سياسية أو نقدية، وهي تنص على ذلك؛ لتنفي كل شك بأن لها مركزًا خاصًّا قبل البلاد المتصلة بها ومركزًا آخر قبل أعضاء المؤسسة، وروسيا والولايات المتحدة لا تسلمان لها بذلك؛ لأن هذا معناه أن النقد الدولي، بل النقود الأخرى، لا يمكنها أن تنفذ إلى دولة من الدول الداخلة في نطاق الاسترليني إلا بتصريح منه.

وهناك أيضًا خلاف على عدد الأصوات في مجلس إدارة المؤسسة؛ فالولايات المتحدة ترى أن تكون الأصوات طبقًا للحصة التي يدفعها العضو بشروط وقيود معينة، حتى لا تدخل إنجلترا والبلاد المتصلة بها لتكون مجموعة لها أغلبية الأصوات، كما حدث في مجلس عصبة الأمم، والروسيا تخشى ذلك وترى من حقها في مثل تلك الحالة أن يكون لكل جمهورية من جمهورياتها المتحدة صوتٌ فتكون لها أصواتٌ عديدة.

وهناك أيضًا خلافاتٌ كثيرةٌ أساسية على تسويات الديون وطرق دفعها، وحق كل عضو في تخفيض عملته طبقًا لظروفه الخاصة، ولعله من الخير للأمم المتحدة أن تترك المناقشات الآن، حتى لا تصطدم بما اصطدم به ميثاق الأطلنطي من عقبات قضت عليه في مهده، ولسنا نستبعد أن يكون صحيحًا ذلك النبأ الذي أذاعته وكالة روتر أخيرًا وقد جاء فيه أن الأمم المتحدة قررت إنشاء صندوق لتسوية ديون طارئة وتثبيت أسعار صرف عملاتهم، وقد عدلت عن التفكير في اتخاذ نقد عالمي؛ لأنها لا تريد أن تتقيد في أمر متعلق بالمرحلة التي تلي الحرب.

دورة الأرزاق

يرى القارئ مما قدمناه من الأمثلة التاريخية أن التضخُّم الحادث الآن في جميع بلاد العالم ليس في مقدورنا أن نقف في وجهه، وأنه ظاهرةٌ من الظواهر الاقتصادية التي ترجع إلى طبيعة النظام الرأسمالي الحاضر، غلاء يعقبه هبوط في الأسعار، واضطراب في النقود عند تقديرها للأرزاق، رخاء بعده أزمات، وعسر ثم يُسر، تلك «دورة الأرزاق»، سُنة الله في خلقه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.

وما كان لنا أن نلجأ إلى الطرق التي اضطرت إليها البلاد المتحاربة لنقلِّدها في زيادة الضرائب والإكثار من القروض، فتلك بلادٌ لا بد لميزانيتها من الضرائب الفادحة والقروض المرهِقة، ومع ذلك فتلك البلاد المتحاربة تشتري بهذه الأموال مفرقعات ومراكب، فهي في الواقع تحرق النقود وتلقي بها في اليم فتُنقص بذلك كميتها وتقلل أثرها في الأسعار، وهذا هو التعليل الاقتصادي لكون الغلاء في إنجلترا، والولايات المتحدة، أقل مما هو عليه في مصر وبلاد الشرق.

ومن ثم فالعلاج عندنا لا يكون إلا باستيراد البضائع وتنفيذ ما يمكن تنفيذه من المشروعات فورًا، ورصد احتياطي لما لا يمكن تنفيذه الآن من أعمال تعين بالذات (انظر Helffrich, Menger).

يجب علينا أن نستفيد من التضخم الحالي

وإني أشير بأمرين: أولهما الاحتياط للمستقبل، والثاني الاستفادة من التضخم. فليسدد كل مدين منا دينه بالنقود الحالية المنخفضة القيمة وليمتنع كل منا عن الشراء بأسعار غير معقولة إلا عند الضرورة التي تحتم ذلك، ولنحذر من الشراء بالتقسيط.

وإني أشير بأمرين: أولهما الاحتياط للمستقبل، والثاني الاستفادة من لنا أن نشكو من التضخم وقد أفدنا منه أن أصبحنا نداين الدول بعد أن كانت تدايننا، ولنذكر أن من مزايا التضخم أن مصر في الحرب الماضية قد استطاعت أن تبدأ نهضتها الصناعية، فعلينا أن ننتهز فرصة التضخم الحالي لنستكمل تلك النهضة.

١٥ أبريل سنة ١٩٤٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤