الفصل الأول

كابتن روبرت والتون يلتقي فيكتور فرانكنشتاين

بينما كنت واقفًا على متن السفينة أتأمل الأرض الجليدية من حولي شعرت ببرد الريح القطبية ينخر عظامي. كنت في منطقة القطب الشمالي. أخيرًا تحقق حلم حياتي بالمجيء إلى هنا، ولكن ما الثمن الذي تكبدته أنا ورجالي لتحقيق هذا الحلم؟ علقت سفينتنا وسط الجليد، ولم نعلم هل ستُكتب لنا النجاة أم سنموت.

شعرت بحماقتي؛ إذ فشلت الرحلة بأكملها فشلًا ذريعًا. لقد تحولت رحلتي إلى كارثة تامة بسبب رغبتي في أن أرى جزءًا من العالم لم تطأه قدم إنسان من قبل. وها قد انتهى بنا الحال في منطقة بعيدة للغاية في الشمال بسبب أفعالي. كان يجدر بي أن أغتنم أول فرصة وأعود بالسفينة، لكنني رفضت، وبكل عناد واصلت تقدمي، ولم آبه لمدى انزعاج طاقم السفينة من هذا الأمر. كانت معنوياتي منهارة، لكنني كنت عازمًا على ألا أستسلم.

مر الوقت ببطء شديد، وتمنيت معظم الأيام لو كان برفقتي صديق وفي يؤنس وحدتي؛ شخص أستطيع أن أتحدث إليه أثناء الليالي الطويلة الباردة. لقد افتقدت الأصدقاء أكثر من أي شيء آخر في العالم. لا أنكر أنه كان معي طاقم رجال عظماء على متن سفينتي، لكنهم يعملون لدي. لم يكونوا أصدقائي.

بحلول صباح اليوم التالي ازداد الوضع سوءًا؛ إذ أحاط الجليد بالسفينة من جميع الجهات. لم يكن بوسعنا غير الانتظار. وبحلول وقت ما بعد الظهر انقشع الضباب من السماء فاستطعنا أن نرى المزيد؛ كان الثلج الأبيض والجليد يمتدان حول السفينة في كل اتجاه.

أشار أحد الرجال نحو منظر غريب على بعد؛ فالتفتنا فإذ برجل ضخم يجر مزلجة ويتجه موغلًا نحو الشمال. راقب الطاقم المشهد إلى أن توارى الرجل ومزلجته عن الأبصار وسط الجليد، فالتفتنا بعضنا إلى بعض وتساءلنا: «تُرى من هذا؟! بل ما هذا؟!» فعلى حد علمنا لم يكن هناك بشر في هذا الجزء من العالم.

في الصباح التالي صعدت إلى سطح السفينة لأجد البحارة يتحدثون مع شخص ما إلى جانب السفينة. ملت على جانب السفينة فرأيت رجلًا يطفو على قطعة من الجليد، وحوله قطع متناثرة من مزلجة مهشمة! لا بد أن الجليد انجرف نحونا في الليل. وحاول رجالي إقناعه بالصعود إلى سفينتنا لئلا يغرق.

حدثني شيء ما أنه ليس نفس الرجل الذي رأيناه البارحة؛ فذلك المسخ بدا متوحشًّا وعنيفًا، وليس إنسانًا كاملًا. أما هذا الرجل فقد كان رجلًا أوروبيًّا كما تبين من لكنته الأوروبية الواضحة.

صاح الرجل: «اسمي فيكتور فرانكنشتاين. قبل أن أصعد إلى متن السفينة، هلا أخبرتني من فضلك إلى أين أنتم ذاهبون؟»

أجبته: «أنا كابتن روبرت والتون، وهذه سفينتي، ونحن في رحلة إلى القطب الشمالي.» كان فرانكنشتاين مدثرًا في طبقات عدة من الفرو، ومع ذلك لا زال يبدو عليه الشعور بالبرد القارس، فقلت له: «لا بد أن تصعد إلى السفينة؛ ستتجمد عندك.»

أومأ الرجل برأسه، وألقى بحاران له حبلًا وساعداه في الصعود إلى متن السفينة.

•••

كاد فرانكنشتاين يتجمد وكان في حالة مزرية! كان شاحبًا وهزيلًا، وكان من الواضح أنه في حاجة إلى وجبة جيدة دافئة. واستنتجت أنه مر بوقت عصيب. بل إنه غاب عن الوعي قبل أن نتمكن من أخذه إلى غرفة دافئة، فدثرناه في بطانيات دافئة وجعلناه يحتسي كوبًا من الشاي ساخنًا، فبدأ يتحسن بالتدريج وعندئذ احتسى بعض الحساء.

وعندما بدا عليه الشعور بالتحسن نقلته إلى غرفتي، ولسبب ما أردت أن أساعده قدر استطاعتي. تقلّب كثيرًا في فراشه في الليلة الأولى، وملأ الحزن الشديد عينيه كما لو كان يحمل ثقل العالم كله على منكبيه.

يا لها من مفاجأة أن تعثر على إنسان وسط بحار القطب الشمالي الباردة المتجمدة! أراد البحارة أن يسألوه الكثير من الأسئلة، لكن فرانكنشتاين كان لا يزال سقيمًا ولم أردهم أن يزعجوه كثيرًا. وفي إحدى الليالي، بعد العشاء، عرج علينا مساعدي الأول هاردي.

سأل هاردي: «لماذا قطعت كل هذه المسافة باستخدام مثل هذه المزلجة الصغيرة؟»

فارقت الابتسامة وجه فرانكنشتاين وحلت محلها نظرة بائسة وقال: «كنت أطارد شخصًا فرّ مني.»

تردد هاردي لحظة ثم قال: «هل كان يتحرك باستخدام نفس النوع من المزالج؟»

حدق فرانكنشتاين فيه وقال: «أجل، كيف عرفت؟»

– «أظننا رأيناه. رأينا رجلًا يجر نفس النوع من المزالج فوق الجليد.»

صاح فرانكنشتاين: «لا بد أنه المسخ! أي اتجاه سلك؟ أرأيته نجا من الجليد أم لا؟ وبأي سرعة كان يتحرك؟»

أجابه هاردي: «لقد اتجه شمالًا، هذا كل ما استطعنا أن نراه.»

استلقى فرانكنشتاين شاحب الوجه على الفراش مرة أخرى.

قلت: «كفى هذا الآن! فهو بحاجة إلى الراحة، أراك صباحًا يا هاردي.» أومأ هاردي في أدب ثم انصرف.

وضع فرانكنشتاين رأسه على الوسادة ثم قال في لطف: «لا بد أنك تريد أن تعرف كيف وصلت إلى هنا وماذا أفعل، كان لطفًا منك أنك لم تسأل.»

قلت: «أنت بحاجة إلى أن تستعيد قواك، هذا أهم بكثير من إجابة أية أسئلة تلح على عقلي.»

ابتسم فرانكنشتاين ابتسامة رقيقة وقال: «لكنك أنقذت حياتي. أنا مدين لك.»

– «لا أهمية لهذا الآن. أنت بحاجة إلى الراحة.»

وبعد برهة من الصمت سأل فرانكنشتاين: «أتظن أن الجليد قد انهار بما يكفي لتدمير المزلاج الآخر؟ أتظنه فُقد إلى الأبد؟»

أخبرته أنه من الصعب التيقن من ذلك لأن الجليد كان لا يزال صلبًا. استغرق فرانكنشتاين في تفكير عميق مرة أخرى ثم قال: «أفضل أن أعود إلى سطح السفينة ترقبًا لظهور ذلك المزلاج.»

نهيته بقوة قائلًا: «لا، صحتك واهنة للغاية والجو شديد البرودة. سأكلف أحد رجالي بترقبه.»

ابتسم وقال: «أشكرك يا روبرت، هذا كرم منك.»

مرت الأيام القليلة التالية دون وقوع أحداث جديرة بالذكر. تحسنت صحة فرانكنشتاين، لكنه ظل واهنًا، وأمضى أوقاتًا طويلة غارقًا في التفكير. وعلى الرغم من حزنه فقد تسامرنا معظم الليالي حتى وقت متأخر، فبات هو الصديق الذي كنت أصبو إليه بشدة في هذه الرحلة غير الموفقة. وكان كل مأربي هو أن أساعده بكل ما في وسعي، فقد كان فرانكنشتاين إنسانًا دمث الخلق، حكيمًا وذكيًّا، وكلما عرفته عزّ عليّ أن أراه متألمًا.

تحدثنا في إحدى الليالي عن رحلتي لاكتشاف القطب الشمالي، وأخبرته بالقصة كلها، ولسبب ما ازددت غمًّا.

قلت في خشونة: «أخشى أن تظنني إنسانًا أحمق يا فرانكنشتاين، لأنني أنفقت كل أموالي وضغطت على رجالي بشدة من أجل المجيء إلى هنا. لا أعرف سبب أهمية أن أكتشف أراضي لم يرها إنسان من قبل. ثمة شيء بداخلي يدفعني للمضي قدمًا وأخشى أن شيئًا لن يوقفني حتى أتمم الأمر بنجاح. أرجو أن تفهمني، وألا أسقط من نظرك.»

اغرورقت عينا فرانكنشتاين بالدموع عندما شعر بالحماسة المتقدة في صوتي، ثم صاح: «يا لك من تعس! روبرت، لا بد أن تنصت جيدًا إلى قصتي. لا بد أن تدرك الخطر الذي تخلفه مثل هذه الرغبات القوية!»

اندهشت من ثورته وقلت: «أي قصة؟ ما الذي تتحدث عنه يا فرانكنشتاين؟»

رد فرانكنشتاين سريعًا: «معذرة، أرجو أن تغفر لي تحدثي بهذه الحدة. دعنا نتحدث عن شيء آخر.»

غيرت الحديث نزولًا على رغبته، وتحدثنا عن طفولتي وأختي التي تعيش في لندن ثم أوينا إلى الفراش.

اعتذر فرانكنشتاين مرة أخرى في الصباح التالي قائلًا: «روبرت، لم أقصد أن أصرخ فيك. واعلم أنني فقدت كل شيء أحببته في هذه الحياة بما في ذلك زوجتي وصديق عزيز لي. أريد أن أخبرك بالقصة بأكملها. أظن أنها قد تساعدك في معرفة طريقك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤