الفصل السادس عشر

الاتهام

استيقظت في الصباح التالي ولا زال الغضب من نفسي ومن المسخ يتملكني. غادرت المنزل وقضيت الصباح أهيم على وجهي كالشبح. كنت بعيدًا للغاية عن كل ما أحبه من أشياء وأشخاص. جلست على الشاطئ هذا اليوم ساعات كثيرة، وكنت أشعر بالبرد والخوف والجوع. وما من شيء استطاع أن يجعلني أفيق من غفلتي، لا شيء فيما عدا زيارة من الساعي الذي أحضر لي رزمة من الخطابات.

كانت هناك خطابات من والدي ومن إليزابيث، لكنني كنت مغتمًّا للغاية فلم أستطع أن أفتحها. وكان هناك أيضًا خطاب من هنري. جعلتني رؤية خط يده المألوف لي أشعر بشيء من التحسن، ففتحت الخطاب الذي كان مليئًا بالقصص الممتعة حول رحلته، وأخبرني كم الحياة في اسكتلندا ممتعة، وأخبرني أن خططه للسفر إلى الهند تسير على ما يرام. أخبرني أنه تلقى خطابًا من صديق في لندن يخبره أنه لا بد أن يعود إلى هناك في أسرع وقت ممكن.

قال هنري في الخطاب: «فيكتور، أنا مضطر أن أترك اسكتلندا اليوم. أعرف أنه كان من المفترض أن نلتقي في إدنبرة، لكن لم لا تسافر إلى لندن بدلًا من إدنبرة؟»

لم يكن هناك ما يدعوني إلى البقاء في جزر أوركني الآن. لم يكن هناك سوى الألم والندم على اقتراف الكثير من الأخطاء. وكان هناك الكثير من الأمور التي عليّ أن أقوم بها قبل أن أعود إلى الوطن، وأولها هو تنظيف مكان تجربتي الأخيرة غير المكتملة.

بدأت في حزم أمتعتي في الصباح الباكر من اليوم التالي. وبحلول وقت ما بعد الظهيرة كان قد تبقى لي شيء واحد أفعله ألا وهو جمع أدوات المعمل. استجمعت كل شجاعتي وفتحت الباب، وكانت أجزاء عملي متناثرة في كل الأرجاء. وكان هذا هو الدليل على الوعد الذي أخلفته.

في بادئ الأمر نظفت معداتي وطرحتها جانبًا، ثم أخذت الكائن المسكين للخارج، وتلوت عليه صلاة قصيرة ثم دفنته بجانب البيت. وفيما انتهيت من عملي كان الليل قد أرخى سدوله. من الآمن أن أنتظر حتى الصباح كي أعبر الماء بقاربي. لكنني كنت قد عقدت العزم على ترك الجزيرة في هذا اليوم، لذا شددت رحالي.

كانت الغيوم تغشي السماء المظلمة لذا لم أستطع أن أرى القمر، فكان الفرق بين البحر والسماء لا يُذكر. كان الظلام مدلهمًّا، والنجوم متوارية. للمرة الثانية في حياتي أخشى الظلام. نقلت أغراضي إلى القارب الصغير وأبحرت في المياه الغادرة. وسرعان ما هاجت الأمواج فكان من الصعب الإبحار، وعصفت الرياح بقوة في الاتجاه غير المواتي، ووجدت الأمواج تتقاذفني وسط البحر، ومرت ساعات عديدة على هذا النحو، وكلما حاولت أن أتحكم في القارب أبحر في الاتجاه الخاطئ.

ولمّا طلع النهار سكنت الريح. هبت نسمة خفيفة على الأشرعة الآن، وأخيرًا تمكنت من أن أعيد القارب إلى المسار الصحيح. وبالتدريج شق القارب طريقه نحو الشاطئ، وسعدت لرؤيتي من بعيد بلدة صغيرة بها مرسى جيد.

كنت أربط القارب وأنزل الأشرعة حينما تجمهر حولي حشد من الناس يتهامسون ويشيرون نحوي مما أثار انزعاجي.

قلت في هدوء: «مرحبًا، هل من الممكن أن يخبرني أحدكم أين أنا من فضلكم؟ ما اسم هذه البلدة؟»

أجاب رجل ذو صوت أجش وبنبرة متوعدة: «ستعلم سريعًا! لعلك رسوت في مكان لن يروق لك. وبعد قليل سنريك أين ستمكث!»

ارتبكت بشدة من إجابته إذ لم تكن من عادة الغرباء أن يكونوا بهذه الدرجة من الوقاحة.

سألته: «ما الذي يحدث؟»

أجاب: «أنت مجرم! ونحن لا نرغب في وجودك هنا.»

قلت: «ما الذي تتحدث عنه؟ من فضلك لقد قضيت الليل كله وسط المياه أصارع الرياح العاتية. لا بد أنك خلطت بيني وبين شخص آخر.»

أجاب على نحو فظ: «سنتحقق من هذا! لا بد أن تقابل السيد كيروين القاضي. يمكنك أن تخبره بقصتك.»

قلت: «ولم أقابل قاضيًا؟ أنا لم أقترف أي خطأ!»

قال: «كما قلت لك، أخبره بهذا! وُجد أحدهم قتيلًا الليلة المنصرمة. وأنت الشخص الوحيد الذي رأيناه يأتي إلى المدينة.»

قلت: «حسنًا، إذن يسعدني أن ألتقي قاضيكم. أنا بريء تمامًا!»

تبعت الرجال في طريقهم نحو المدينة بعيدًا عن قاربي. وكان مكتب القاضي في بناية جميلة بوسط القرية. ولم نستغرق وقتًا طويلًا في الوصول إلى هناك، لكن السير كان شاقًّا، إذ كنت أشعر بالجوع الشديد وكان حلقي جافًّا. وقد أعيتني الليلة الطويلة التي قضيتها في المياه، فأردت أن أستلقي وأخلد إلى النوم. لكن جمع الناس الثائرة من حولي جعلني أقرر أنه من الأفضل أن أظل رابط الجأش وأواصل.

كان السيد كيروين رجلًا كريمًا يتحلى بالفضائل الطيبة. دعا القاضي الجمع المحتشد في القاعة لالتزام النظام قبل أن يسأل: «من الذي أحضر هذا الرجل للمثول أمامي؟ ما الذي فعله؟»

أجاب الرجل الفظ الذي أحضرني إلى هناك: «أنا يا سيدي، نحن نظن أنه هو من فعلها.»

طلب القاضي منه أن يفسر الأمر. قال الرجل إنه خرج ليصطاد البارحة بصحبة شقيقه وابنه، وفي طريق عودته من قاربه تعثر في شيء ما، وعندما انحنى لينظر ما هذا الشيء وجد شابًّا مستلقيًا على الشاطئ، وقد حاول أن يوقظه لكنه كان ميتًا.

تكلم شقيق الرجل بعده وشهد أنه رأى رجلًا في قارب في وقت مبكر من النهار، وأقسم للقاضي أنه نفس القارب الذي أبحرت أنا فيه نحو الشاطئ. وبعدها أخبرت امرأة القاضي أنها رأت هذا الرجل يدفع قاربه نحو البحر بالتحديد عند البقعة التي عثروا فيها على الشاب المسكين. وقال كثيرون آخرون إنه لا بد أن الرياح قد أعادتني إلى الشاطئ فيما حاولت أن أهرب.

قرر السيد كيروين أنه لا بد أن أرى الشاب، إذ أراد أن يرى ماذا سيكون رد فعلي. ولمّا كنت أعلم أنني بريء وافقت. سرنا باتجاه إحدى الغرف، ثم فتح الباب.

رأيت صديقي العزيز هنري كليرفال مستلقيًا هناك باردًا برود البحر الذي عبرته!

صرخت: «لا! هنري، أوه، هنري، ليس أنت أيضًا! أنا المسئول عن كل هذا، هذا خطئي أنا …»

لم يعد جسدي يتحمل الألم فسقطت على الأرض. وقضيت الشهرين التاليين في نوبة حمى شديدة، وقد مرضت بشدة حتى إن حياتي كانت في خطر معظم الأوقات. وعندما استيقظت وجدت نفسي في السجن. كنت أخرف وأهذي خلال مرضي حول تسببي في قتل أخي، وسجن جاستين، والآن مقتل هنري. تأوهت بصوت مرتفع حتى إنني أيقظت الممرضة التي كانت تجلس بجانب فراشي.

قالت وهي تبدو متعجبة: «سيد فرانكنشتاين، هل أنت مستيقظ؟!»

قلت في هدوء: «أجل، آمل أن ألا يكون هذا إلا كابوسًا. يؤسفني أنني مستيقظ وفي هذا المكان الكريه بعد كل ما حدث. ليتني مت.»

قالت: «يجب أن أذهب وأخبر القاضي!» نهضت الممرضة وتركتني وحدي في زنزانتي. وحضر السيد كيروين بعد وقت قصير من ذهابها، ودار بيننا حوار طويل. عاملني القاضي معاملة مهذبة ونزيهة، فهو الذي رتب أمر العناية بي أثناء وجودي في سجنه، وحاول أن يوفر لي المزيد من سبل الراحة. وقد فتش أغراضي التي كانت في القارب بعد مرضي، ورأى خطابات هنري وأسرتي، وعلم أنني رجل مثقف ونبيل، وعلم أيضًا أنني لا يمكن أن أكون مذنبًا، لكنه لا يستطيع أن يطلق سراحي إلى أن تثبت براءتي.

شكرت القاضي من أجل كرم أخلاقه وسألته بسرعة هل تلقى أي أخبار عن أسرتي، فأنا أريد أن أعرف هل كل فرد فيهم بخير أم لا.

أجاب القاضي: «أجل، إنهم بخير، وهم حزانى لموت أعز أصدقائك، ويستبد بهم القلق على صحتك المعتلة، وهم يعرفون أنك بريء. والآن لا بد أن نثبت هذا لسائر المحكمة.» وتوقف القاضي عن الكلام لحظة ثم أردف: «ثمة شخص هنا يود مقابلتك.»

أول ما تبادر إلى ذهني هو أنه المسخ لذا صرخت: «لا! لا أريد أن أراه!»

قال القاضي في صرامة: «أيها الشاب، أرى أن صحبة والدك ستكون سارة لك في ظل هذه الظروف. لماذا هذا الهيجان؟»

قلت متعجبًا: «والدي؟ والدي هنا؟ أوه، أجل! يسرني أن أراه. آسف يا سيدي، ظننتك تتحدث عن شخص آخر.»

اندهش السيد كيروين من التغير الذي طرأ على نبرتي وقال: «أرجو أن تكون هذه هي آخر أعراض الحمى أيها الشاب.»

وفي ظرف ثوانٍ وقف والدي الرقيق إلى جانبي، فمددت يدي له وقلت: «كيف حال إليزابيث وإيرنست؟»

أجاب: «بخير يا ولدي، يؤسفني أن أعرف أنك مررت بهذا الوقت العصيب. كما أنا آسف لما حلّ بهنري المسكين!»

– «أنا بريء يا أبي. لا بد أن تعرف هذا.»

قال: «أعرف يا ولدي أعرف.» وكان صوته مُطَمْئِنًا للغاية. ثم أضاف: «عثرنا على شخص من جزر أوركني كي يشهد في المحاكمة، ولسوف يشهد بأنك كنت في الجزيرة عندما عثروا على عزيزنا هنري، فقد سلمك رزمة من الخطابات عندما كنت جالسًا على الشاطئ!»

بحلول وقت المحاكمة كنت قد قضيت ثلاثة أشهر في السجن، وصدقت هيئة المحلفين الشاهد وأطلقوا سراحي. ضربني والدي على ظهري تعبيرًا عن سعادته التي لم يستطع أن يخفيها. سرنا خارج جدران السجن واستنشقت نسمتي الأولى من الهواء الطلق.

قلت: «أبي، لا بد أن نذهب إلى المنزل في الحال.»

لم ير أبي أنني أتمتع بهذه الدرجة من الصحة التي تمكنني من السفر، لكنني أصررت على الرحيل في الحال. وغادرنا باكر الصباح التالي. استأجرنا سفينة كي تقلنا إلى جنيف مباشرة. وكنت سعيدًا بالعودة إلى المنزل. جلست على متن السفينة برفقة والدي ونظرنا إلى البحر. لقد رحل هنري، ولا يمكن أن يعيده أي شيء. عاودت التفكير في تلك الليلة التي صنعت فيها المسخ. لقد تدمرت حياتي بسبب عملي، ولا يمكن أن يغير شيء من هذا الواقع الأليم الآن، فتقبلت مصيري في هدوء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤