لأنه يُحبُّها

وقف حسن عبد الفتاح أمام باب كلية الحقوق ينتظر وزملاؤه نتيجة الليسانس. لم يكن يُحس بأحدٍ حوله. انفصل كِيانه عن الجموع المتزاحمة، فهو فرد في نفسه وفي آماله وفي مخاوفه، لا يحس إلَّا هذا الوجيب الآخذ الذي يهز جسمه هزًّا. أنجاح فانطلاق إلى الحياة بكل ما في الحياة من حلاوة الكفاح؟ فما كان يرى في النجاح والانطلاق إلى الحياة إلَّا الحلاوة. أم سقوط فهو تلميذ سيظل؟ وهو حينئذٍ سيعود إلى أمه كسيف البال مخذولًا، يخاف من غضبها خوفًا قد يطغى على حزنه من السقوط. إن تفكيره في أمه يُمازج تفكيره في النتيجة؛ فهو حينًا يُفكِّر في المواد مادةً مادة، ويذكر كيف أجاب في كل مادة منها، وهو أحيانًا كثيرةً يُفكِّر في أمه كيف قامت على شأنه بعد موت أبيه، وكيف بذلت له من دمائها ومالها وجهدها، حتى جعلته يصل إلى نهاية المرحلة العالية من التعليم.

لقد قامت بواجبها نحوه، بل بذلت أكثر من واجبها، فكم يمضه أن يُقصِّر هو عن واجبه! كان إرضاء أمه أساسًا تقوم عليه حياته جميعًا؛ فقد كان يرى نفسه نفحةً من جهودها، وقبسةً من دمائها، بل كان يرى نفسه أملها الضخم الذي عاشت له، وبه سنوات طويلة ثمينة شابة من حياتها.

وفي ظلال هذه المشاعر عاشت حياته جميعها. أحب، أحبَّ بكل ما في الحب من نبضٍ جيَّاش، وبكل ما في الشباب من اندفاعٍ وقوة، أحبَّ زميلته في الكلية إلهام، ولكن أمه عرفت بحبه وقالت لا؛ فإذا نبض الحب يُصبح نبضًا خائفًا هالعًا أن يُغضب أمه، وإذا هو يبتعد عن حبيبته مذعورًا، ويعود إلى طاعة أمه راضيًا بها عن كل ما في الحب الشاب من أحلام وآمال ورؤًى.

وها هو ذا اليوم ينتظر نتيجة الليسانس، تلك الشهادة التي جاهدت أمه في سبيلها أكثر ما جاهد هو. إنه يُريد الشهادة ليذهب إلى أمه، ويُعلن إليها أن جهودها قد كلَّلها النجاح، وينطلق إلى الحياة. كان في البعيد البعيد من نفسه يُخيَّل إليه أن هذه النتيجة التي ستُعلَن الآن ستحمل في طواياها معنًى آخر غير معنى النجاح. إنها ستجعل له قرار الإفراج عنه من سيطرة أمه. شعور يُخامره ولا تُعلنه نفسه إلى نفسه، كأنما كان يُريد أن يقول لها في غير ألفاظ: لقد جاهدت لأحصل على الشهادة فهل تكفيك الشهادة مكافأةً على جهادك؟ وكأنما كان ينتظر أن تقول أمه في غير ألفاظ هي أيضًا: لقد صرتَ رجلًا فافعل ما بدا لك. آمال تهجس في الخوافي البعيدة من نفسه، وهو واقفٌ بباب الكلية عينه لا ترتفع عن الباب الكبير، ينتظر أن يخرج منه الموظف المختص ليُعلِّق أسماء الناجحين على تلك اللوحة الماثلة بجوار الباب، التي قُدِّر لها أن تحمل أغلى ما يطمح إليه جميع هؤلاء الواقفين في لحظتهم تلك. هذه اللوحة الكالحة ستُحدِّد مصير كل فرد منهم. وعينا حسن عبد الفتاح شاخصة إلى الباب الكبير، والباب صامت لا يبين عن أحد.

وأخيرًا ظهر الموظَّف وبيده الأوراق، وبعد محاولاتٍ عسيرة وقعت عينا حسن على اسمه بين الناجحين، ولم يحس بنفسه إلَّا وهو واقفٌ أمام أمه، يُخبرها وعيناه تموجان بالدموع: «لقد نجحت.»

وفرحت الأم، ولكنه لم يجد عندها ما كان يتوقَّعه من فرح؛ كانت واثقةً من نجاحه كأنما كان نجاحه أمرًا تصنعه بيدَيها فهي واثقة من نتيجته، وقد أكَّد هذا المعنى في نفسه أنه وجدها قد أعدت له الوظيفة دون أن تسأله عن الاتجاه الذي يُريد أن يشقه في الحياة. وخُيِّل إليه أنه قبل الوظيفة سيستطيع أن ينعم بحريته من ربقة أمه، فهو يقبل الوظيفة في غير مناقشةٍ ويُصبح موظفًا.

ولا يمضي كثير وقت حتى تفاجئه أمه: حسن.

– نعم يا نينا.

– لقد خطبتُ لك.

– ماذا؟!

– سناء بنت عمك علي أبو العلا.

– تقصدين بنت صديقتك شريفة هانم؟

– ما رأيك؟

– أتسألين عن رأيي حقيقة؟

– طبعًا.

– أتسألين عن رأيي بعد أن تخطبي؟

– أنت حر.

– أنا حر!

– طبعًا.

– فأنا لا أُريدها.

– ماذا؟!

– أنا لا أُريدها.

– لماذا؟

– لأني لا أُريدها.

– ولكني أُريدها.

– إنه أنا الذي سيتزوَّج.

– ولكني أمك.

– هذا شيء لا يمكن أن أنساه.

– ماذا تقصد؟

– أقصد أنه لا فائدة، فسواء عندك وافقت أم رفضت.

– تعني أنك موافق.

– أمرك.

وما هي إلَّا أيام حتى يتم كتب الكتاب، وما هي إلَّا أيام أخرى حتى يحل يوم الزواج، ويترك حسن البيت ويخرج إلى الطريق. في هذه المرة لم تكتفِ أمه أن تفرض سيطرتها عليه، ولكنها فرضتها بقوة وعنف على فتاة لا تمت لها بصلة. ما ذنب هذه الفتاة؟ كيف يتزوَّج من فتاةٍ لا تُحبه ولا يُحبها؟ إنها أمه. ماذا يصنع؟ وماذا صنع قبل اليوم؟ إنه هو، هو لم يتغيَّر ولم تتغير أمه. ويجول في الطرقات يُسلِّمه شارع إلى شارع، ورأسه يموج بالسخط والضيق بلا أمل على الإطلاق.

ويعود إلى البيت في الموعد المقدور، وتنطلق الزغاريد وتتعالى الموسيقى، وينظر إلى وجه زوجته وتنظر إلى وجهه، وكأنما هما متفقان على المعاني التي تدور بنفس كلٍّ منهما، ولكن ماذا يصنعان؟ كان يحس أنها واقعة تحت سيطرة أبيها وأمها كما يخضع هو لسيطرة أمه. إن أمه تستطيع أن تفعل به ما تشاء؛ استطاعت أن تُرغمه على اختيار كلية الحقوق، واستطاعت أن تُرغمه على المذاكرة، بل واستطاعت في قوةٍ عاتية أن تُحطِّم حبه الأول، ولكن أتستطيع أن تُنشئ حبًّا؟ هل تستطيع أمه أن تجعله يُحب هذه الفتاة أو تجعل هذه الفتاة تحبه؟ كيف؟ لماذا لا يقول «لا، لا»، صارخةً واضحةً جهيرة، لا لبس فيها ولا غموض ولا إبهام. لا، ويترك أمه ويعيش وحده حتى يجد هواه.

نعم، إن أمه قد بذلت في سبيله الجهد والخوف والعطف، ولكن ألا تبذل كل الأمهات؟ وهل معنى هذا أن تنتهب حياته جميعًا، بل وتنتهب حياة فتاة أخرى لا ذنب لها إلَّا أن أمها صديقة أمه؟

أليست كلمة «لا» تُنقذه وتُنقذ هذه الفتاة المسكينة الجالسة أمامه؟ ما ذنبها؟ مسكينة إنها حلوة، جميلة غاية الجمال، لعله كان يختارها إذا تُرك وشأنه. إنه يُحب هذه العيون الحالمة المذعورة، ويُحب هذا الشعر الأسود المُنساب، ويُحب هذه الابتسامة التي تجرُّها إلى فمها جرًّا، ويُحب هذا العود الواهن وكأنه طيف، الرقيق كأنه فكرة، الشفَّاف كأنه حلم. هو يُحب هذا جميعه ولكنه لا يُحب سناء. وكيف له أن يُحبَّها؟ هو لم يُفكِّر فيها زوجةً إلَّا حين أمرت أمه أن يتزوَّجها، فإذا هي زوجته.

كلمة واحدة هي «لا»، يستطيع أن يقولها في هدوء وفي حزم، فيُنهي هذه المأساة التي تُحيط بها الزغاريد، وتتعالى لها الموسيقى الفرحة، وتنطلق لها الأغاني، وتُدق الطبول، «لا» حرفان يمنعان المأساة من أن تتم فصولًا، ولْيكن بعد ذلك ما يكون.

ورنا إلى زوجته، تُرى أيرضيها هذا؟ كم هو قاسٍ ذلك المجتمع. إن فعل ما يُريد أن يفعل أصاب هذه الفتاة التي يُشفق عليها بطعنة لا سبيل لها أن تنجو منها؛ ستتطاير الأقاويل وتتدافع لها الشائعات، إن العروس لا تُعجبه. طعنة تُصيب المرأة في أعظم ما تُزهى به. أيهما أحسن لها عندها، أن يُخلِّصها من حياةٍ لم يكن لها يد في اختيارها، أم أن تظل زوجته ولا يقول الناس عنها إنها لم تُعجب زوجها فرفض أن يتم الزواج؟ وأين كانت «لا» هذه قبل اليوم؟ لماذا خضع حتى تم هذا جميعه، ثم انتفض فجأةً يُريد أن يمحو ما كان؟ وهل يُمحى؟ كيف؟ ما ذنب هذه المسكينة حتى تُرمى إلى هذا الموقف الضنك؟ وما ذنبه هو؟

والموسيقى تتعالى والزغاريد تنطلق والأغاني تصدح والشعور بالفرح يفيض على وجوه الجميع إلَّا وجهين، وجهه وقد تشنَّجت عليه ابتسامة، ووجه العروس وقد جمدت على فمها ابتسامة مثل ابتسامته.

وانقضى الليل وتخافتت الموسيقى ووهنت الزغاريد، وتشتَّت الجميع وخلا الزوج إلى زوجته، وأُقفلت من دونهما الحجرة، وكان بها كرسيان، وجلسا وهوَّم الصمت حينًا، ثم طال هذا الحين، هو مطرق خزيان وهي مطرقة مذعورة، في رأسه دُوامة من الأفكار وفي رأسها أمواج من الحيرة.

وفجأةً نظر إليها وهمَّ أن يقول شيئًا ثم أطرق، وهمَّت هي أن تقول شيئًا دون أن ترفع رأسها، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الصمت.

وأحسَّ بطول الصمت وصمَّم أن يقول شيئًا، أي شيء. ورفع رأسه وفتح فمه وفكَّر وفكَّر، وأخيرًا قال دون أن يهتدي إلى ما يجب قوله: آسف.

ونظرت إليه في غير دهشة، وقالت دون تريُّث: وماذا تُفيد آسف الآن؟

– وماذا كان يمكن أن أفعل؟

– ألستَ حرًّا؟

– وأنتِ؟

– أنا، أنا على كل حال لستُ مثلك.

– إنني أمام أمي …

ولم يستطِع أن يُكمل جملته.

– لماذا؟ لماذا؟

– ليس لها غيري، وليس لي غيرها.

– ولكنها حياتك.

– المصيبة أنها حياتك أنت أيضًا.

– هل أمكَ قاسية إلى هذا الحد؟

– إنها تظن أنها رحيمة أكثر ممَّا ينبغي.

– ألا تُؤمن بحريتك في الاختيار؟

– إنها تُؤمن بحريتي التامة ما دمت لا أعصي أوامرها.

– ولكنها حياتك.

– هي لا تفصل كثيرًا بين حياتي وحياتها.

– وحياتي؟

– ستُصبح حياتك هي حياتي وهكذا ترين أنها جميعًا حياتها هي.

– وماذا ستفعل الآن؟

– لقد تعوَّدتْ مني الطاعة، ولا أظنني الآن أستطيع أن أتخلَّص من هذه العادة.

– تعوَّدت أن تُطيع في شأن نفسك، أمَّا في شأني أنا …!

ونظر إليها طويلًا، إنها حلوة، خُيِّل إليه أنه يحبها، بل كاد يُوقن أنه يُحبُّها، هي الفتاة التي طالما كان يرسم صورتها لهواه، وهي مستكينة تشكو إليه الظلم الواقع عليها في غير عنف ولا ثورة، ولكن في حنان وفي دفء، ووجد نفسه يقول: أيغضبك أن تُصبحي زوجتي؟

– لعلي كنت أتوق إلى هذا لو أنك سألتني وأنا لست زوجتك.

– فلماذا لا تُجرِّبين وقد أصبحتِ زوجتي؟

– ألا تعرف؟

– نعم، أعرف. أتحبين غيري؟

– أبدًا.

– إذن؟!

– أيرضيك أن أُحس دائمًا أنك فُرضت عليَّ فرضًا؟ أترضى لنفسك هذا؟

– لقد تعوَّدت أن أرضى لنفسي ما لا أُحب أن أرضى.

– أيرضيك هذا لي؟

– أعرف أنني أحببتك.

– أحسست.

– ألا يكفيني هذا الإحساس؟

– وماذا عني أنا؟

– فأنتِ لا تُحبينني؟

– وأنتَ زوجي المفروض عليَّ؟! …

– جميلة هي الحرية.

– أعرفتَها؟

– تمنَّيتُها.

– فلماذا لا تسعى إليها؟

– لم أستطِع فيما مضى.

– فلا أمل لي إذن.

– بل يُخيَّل إليَّ أن هناك وميضًا من أمل.

– كيف؟

– لن تكوني زوجتي.

– وأمك؟

– أطعتها في كل ما يتصل بي ولكني لن أُطيعها فيما يتصل بك.

– إذن فأنت تُحبني حقًّا؟

– لقد أدركتِ هذا بإحساسكِ. أتعودتِ أن يُكذِّبكِ إحساسكِ؟

– لا.

– إذن؟

– أخشى أن يمنعك حبي عن تنفيذ ما تُفكِّر فيه.

– بل إن حبك هو الذي سيدفعني أن أُنفِّذ ما أُفكِّر فيه.

– سنرى.

– متى تُريدين أن يتم هذا؟

– متى تشاء.

– لا أُريد أن يمسَّك أحد بسوء.

– فمتى إذن؟

– بعد عام.

– أليس طويلًا؟

– متى تشائين؟

– نصف عام.

ونام على الأريكة ونامت على السرير، وظلَّت الأريكة مكان نومه ستة أشهر، ثم قال حسن لزوجته: أتُدركين كم أُحبك؟

– نعم.

– وسيزداد يقينك اليوم.

– إذن فأنت تذكر؟

– نعم.

– إذن؟

– فأنت طالق، طالق لأني أُحبُّك، نعم إني أُحبُّك، ولعلَّك بعد أن تُصبحي حرة، لعلك ترضين …

– لا تُكمل.

– أهو الرفض إذن؟

– لا، ولكن لا أُريدكَ أن تُطلِّقني بشرط.

– لا، وبغير شرط.

– وأمك؟

– سأُطلِّقك.

ولم تمضِ ساعات حتى كان المأذون يُحرِّر ورقة الطلاق، وكانت ابتسامة فرح تُرفرف على شفتَي سناء وأخرى على شفتَي حسن، وكانت الدموع تنهمر من عينَي أمه؛ لقد أدركت أنها فقدت سيطرتها عليه إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤