الفصل الأول

ظلام وخطر

قال بطل الرواية: إني حرصت على تدوين تاريخ حياتي لاشتمالهِ على غرائب الاتِّفاق التي تقودني أحيانًا إلى الريب بصحتها حال كونها حقيقة، وها أنا أسرد على القارئِ أهمَّ ما صادفتُ في حياتي من العجائب وما لقيت من الغرائب، من دون زيادة ولا نقصان متكلًا على خالق الأكوان، فأقول:

إني رجل روماني الأصل، كاثوليكي المذهب، مقيم في إنكلترا، وقد توفي والدي وأنا صغير السن، ثم لحقت به والدتي رحمهما الله بعد أن بلغتُ من العمر ثلاثًا وعشرين سنة، أي قبل بداءَة حوادث قصتي بسنتين. وقد خلَّفا لي مالًا وافرًا لا يقل دخلهُ عن خمسة آلاف ليرة سنويًّا. وكنت قوي البنية شديد العزم مطلق الإرادة والتصرُّف بما ورثته من والديَّ، ومع ذلك فإنِّي كنت أتعس البشر محرومًا من ملذَّات هذا العالم، لا أتمتع بمناظر الطبيعة ولا أتعزَّى برؤية الأكوان ومشاهدة المخلوقات البشرية. وكثيرًا ما كنت أغبط بل أحسد من هم دوني منزلة، حتى بلغ بي الأمر أني تمنيت الاستعطاءَ والتسوُّل ممَّن تقوى عيناي على مشاهدتهم؛ لأني كنت فاقدًا حاسة البصر محرومًا — وا أسفاه — من لذة النظر!

فلا ريب أن من يطَّلع على هذه العبارة الأخيرة تتأَثر شعائره، ويرثي لحالتي ويشعر بما يستولي عليَّ من الكدر، عندما أتقلب على فراش الأحزان متفكرًا بحالتي التعيسة التي ستنتهي بي على هذا المنوال لا رفيق لي سوى الظلام، ولا ما أتمناه سوى الموت الزؤام.

ففي إحدى ليالي شهر آب الحارَّة بينما كنت جالسًا في غرفتي إذا بالباب يُقرع، وسمعت صوت الخادم معلنًا بقدوم الطبيب — وهو الذي آلى على نفسه بمعالجة عينيَّ، وكان صديقًا لوالدي المرحوم — فانتعش قلبي بقدومه وترحَّبت به، وبعد أن جلسنا سألني عن كيفية استعمالي الدواءَ، فأجبته أني مثابر على الخطة التي أرشدني إليها. وبعد ذلك شعرت أنه نهض من مكانه وأدنى من وجهي مصباحًا، وسألني إغماض إحدى عينيَّ ففعلتُ، فقال لي: ماذا ترى بالثانية؟

– نورًا طفيفًا وشيئًا خفيفًا.

– أغمضها وانظر بالأخرى.

فأطعت.

– ماذا ترى؟

– ضوءًا قد تشعَّب منه ثلاثة أنوار.

– الحمد لله فقد توطَّد مني الأمل، وتحقق عندي نجاح العمل.

– أفلا يوجد خطر؟

– إن الخطر ما زال مترصدًا فرص الإهمال، وما دمت محافظًا على الاعتناء فالشفاءُ قريب بإذن الله.

فشكرت اهتمامهُ بي، ثم ودَّعني وانصرف.

ولبثت بعد ذهاب الطبيب برهةً صامتًا متفكرًا بما ستصير إليه حالتي، فكنت أرى أحيانًا من خلال الظلام المخيف المحدِق بي نجمًا يتلألأُ فيبتهج قلبي سرورًا، إذ تتمثل لي الدنيا بزخرفها فتطيب لي الحياة، ثم تحجبه الغيوم المتكاثفة فلا أعود من ثَمَّ أرى سوى الظلمة التي تعيد إليَّ الأحزان وتوجه فكري إلى حقيقة الحال التي أنا فيها، فأشعر إذ ذاك بأن الدَّمَ يجري في عروقي تارةً حارًّا وأخرى باردًا، وتظمأُ نفسي لتجرع كأس الردى، فناديت الله والدموع سائلة على وجنتيَّ متضرِّعًا إليه أن ينظر إلى حالتي ويعيد إليَّ ما فقدتُ، ثم نهضت متثاقلًا وانطرحت على سريري ملتمسًا الرقاد متمنيًا من صميم الفؤاد أن يكون رقادًا أبديًّا.

وبعد أن صرفت مدة ساعتين متقلبًا على مثل القتاد لا يقلق سكينة الغرفة إلَّا هبوب النسيم الحار مارًّا على وجهي من إحدى النوافذ، تشوَّقتُ للخروج من غرفتي كالعادة مصحوبًا بأحد الخدم، ولكني لم أشأْ إيقاظَهم هذه المرة، فألقيت عليَّ لباسي، وقصدت باحة الدار ومنها إلى الرواق الخارجي حتى انتهيت إلى الباب، وفي أثناءِ ذلك لم أسمع إلَّا صوت أنفاس النائمين، فوصلت إلى الطريق مسرورًا لأني لم أعثُر بما يزعجني، وأقفلت الباب وحفظت مفتاحه بيدي اليسرى وباليمنى عصًا أسترشد بها. وسرت متمهلًا متأنيًا حذرًا أن أتيه عن الطريق، ولما أتيت على ستين خطوة تقريبًا عطفت في طريق آخر كان طوله نحوًا من ثمانين خطوة، ثم عرجت على شارع طويل أفضى بي إلى زاوية هناك، وكنت قد غلطت في الحساب فانثنيت راجعًا، وبينما أنا ماشٍ لطمت بجدار لم أعثر به حين قدومي، فتحققت الغلط، وعلمت أني وقعت في الشطط.

وبعد إعمال الفكرة رأَيت من الأوفق أن أتربص في مكاني إلى أن يمدني الله بمساعدة أحد المارة، فلم يمضِ إلَّا القليل حتى سمعت صوت وطءِ أقدامٍ مقبلة نحوي، فاستغثت بالقادم أن يرشدني إلى شارع ويل بول، فأجاب: شارع ويل بول؟ سأفتكر بهذا الأمر حال وصولي إلى البيت.

فتضرَّعت إليه قائلًا: تكرَّم عليَّ يا سيدي وقدني إلى شارع ويل بول.

– شارع ويل بول. ها. ها. لقد سمعت كثيرًا بهذا الاسم لما كنت صغيرَ السنِّ لا أفقه المعاني العويصة جيدًا، وأما الآن فإني المالك العادل والفيلسوف اﻟ…

– رحماك يا سيدي إني ضريرٌ، وقد ضللت عن الطريق فاهدني إلى شارع ويل بول، ولك أجرٌ عظيمٌ عند رب السموات.

– ها. ها. أعمى يا مسكين … تقصد شارع ويل بول. ها. ها. ها. تأَبَّط ذراعي إذن لنسير كأصحاب، بشرط أن تعيرني ساقيك وأعيرك عينيَّ، وبذلك نأمن على أنفسنا الخطر. قال ذلك وهوى عليَّ من فعل الخمرة التي فاحت رائحتها من فيه فكادت تزهق روحي، فقلت في نفسي: «أعمى يقود أعمى وكلاهما يسقط في الحفرة.»

وبعد أن سرنا قليلًا، وقد أراني الموتَ ألوانًا بثرثرتهِ وشقشقة لسانه وقف بغتةً، وقال: ها قد وصلنا إلى الشارع المطلوب فدعني أذهب بك إلى منزلك.

– لا لا. أشكرك من صميم قلبي فاذهب بسلام. قلت هذا ووضعت يدي على الحائط متهاديًا حتى انتهيت إلى آخر العطفة، فلم أشعر إلَّا وأنا واقف أمام الباب، فأولجت المفتاح الذي كان بيدي في القفل، وبأقل من دقيقة صرت داخل الحديقة، ثم جعلت أفكر في الوقت الذي صرفتهُ ذهابًا وإيابًا راجيًا ألَّا تكون قد طالت مدة تغيُّبي فيفتقدني الخدم وربما تتبلبل أفكارهم لغيابي.

وبينما أنا كذلك إذ أوقف مجرى أفكاري صوت رنَّات الساعة وكانت تسعًا — وهي ابتداء تاريخ قصتي العجيبة — فلم أنتهِ من عدِّها حتى وقفت مبهوتًا إذ عثرت رجلي بسلمٍ لم أعهدهُ قبلًا في منزلي.

فمن يقدر أن يصف ما خامرني من العجب والخوف في تلك الساعة، فاستعنت بالله وصعدت ذلك السلم وكان خمس درجات، فوقفت في أعلاه متحيِّرًا في أمري بين أن أرجع أدراجي أو أداوم المسير، وصرت أناجي نفسي قائلًا: لعلي دخلت في غير مسكني، ولكن كيف يمكن ذلك والمفتاح قد ولج في القفل بسهولة فالبيت إذن بيتي، ولكن لا علم لي بوجود هذا السُّلَّم فيه.

وهكذا تضاربتني الأفكار حتى ظننت نفسي في حلم، فوضعت يدي على وجهي ثم قرصت طرف أذني حتى كدت أصرخ من شدة الألم، فتأكدت حينئذٍ أني مستيقظ، ثم تذكرت أنهُ يوجد في حائط غرفتي الخارجي حجرٌ ناتئٌ كنت ألمسهُ بيدي كلما دخلت، فانطلقت إلى حيث ظننت الطريق الموصلة إليه ولكني لم أحظَ بالعلامة المذكورة، بل عثرت يدي بحلقة باب فاتضح لي حينئذٍ غلطي، وتيقنت ما كنت مرتابًا منه.

فحوَّلت وجهي نحو الباب قصد الرجوع من حيث أتيت، ولكني رأيت نفسي غير قادر على السير في الطريق المستقيم بدون دليل؛ لأنه من المحتمل أن المفتاح يناسب سائر أبواب ذلك الشارع، وعليه فأطرق جميع المنازل في جوف الليل، فلا يعدُّ أمرًا عجيبًا إن خالني الناس لصًّا وأوسعوني ضربًا وشتمًا قبل أن يفهموا حقيقة حالي. فقلت في نفسي: ما ضرَّ لو دنوت من باب الغرفة وقرعتهُ بلطف، ثم أعرض حالتي على من سيقابلني وأفهمهُ سبب مجيئي، والمفتاح أعظم شاهد على صحة مقالي، وهذا الفكر قد أعاد إليَّ الطمأنينة.

فرفعت يدي لأقرع الباب؛ إذ وقع في أذني صوت أناس يتكلمون، وسمعت عقيبهُ لحنًا شجيًّا وتبعهُ غناءُ امرأة بصوت رخيم جدًّا يأخذ بمجامع القلوب، ثم انقطع الصوت فجأة، وناب عنهُ صيحة شديدة وصوت وقوع جسم على الأرض وتبعه أنين ضعيف، وعلى أثر ذلك حدثت غوغاء وكثر اللغظ والضجيج، فصَحَّ عندي حدوث جريمة داخل القاعة التي لا فاصل بيني وبينها إلَّا ذاك الباب الخشبي، فخفق قلبي وجرى الدم بسرعة في عروقي، وشعرت أن الأرض مادت تحت رجليَّ، وأخذ العرق البارد ينسكب من جبيني، ولم أعد أفكر بحالتي ولا بالخطر المحدِق بي، بل كان اهتمامي معرفة ما هو جارٍ بالداخل.

فدفعت الباب بيدي ودخلت كأني أريد إغاثة منْ لا بد أن يكون مظلومًا، بيدَ أني لم أجهل كوني أعمى وغير قادر أن آتي بنفع، ولكن قوة غريبة دفعتني إلى صحن القاعة، فما خطوت خطوتين حتى عثرت بجسمٍ ملقًى على الأرض، فهويت فوقه، وأصابت يدي منه مادة لزجة فاترة، وعند ذلك طوقتني الأيدي من كل صوب وضغط بعضها على عنقي حتى كادت تبلغ روحي التراقي، فأيقنت أن لا نجاة لي منهم، وأقبلت على نفسي باللوم والتقريع لمخاطرتي وإقدامي على ما أجهله بدون أن أنظر في العواقب، فوقعت في هاوية لا أرجو منها مناصًا ولا آمل خلاصًا، أنا الذي منذ قليل كنت أستدعي الموت ولا يجيب، وجدت في تلك الساعة أن حياتي المنكودة المظلمة ثمينة بل هي أثمن شيء عندي، فصرخت بصوت أرجفه الخوف وقواه الأمل بالحياة: ارحموني ارحموني أنا أعمى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤