رشد وغيٌّ

كان الوليد من أصبح الناس وجهًا، وأشدهم قوة، وأرقهم طبعًا، وأظرفهم حديثًا، وكان فارعًا متين البناء، يكاد يتفجَّر منه ماء الشباب، وكان أعظم ما يجتذب إليه النظر عيناه السوداوان الواسعتان اللتان يلتمع منهما وميض وهَّاج، فيه القوة والعزيمة والشراسة، ثم لا يكاد يظهر هذا الوميض حتى يختفي، وتأخذ مكانه نظرات ذابلة ناعسة ذاهلة، فيها شعر، وفيها خيال، وفيها ما يشبه الذهول. وكان يلبس حلة خضراء من الحرير الدبيقي فوقها جبة بيضاء طرزت حواشيها بالذهب، وتغطي رأسه عمامة من الخز الأحمر، حلِّيت أطرافها بالدر الثمين، ويتقلَّد عقودًا من نفيس الجواهر المتلألئة الباهرة الألوان، كان يغيِّر هذه العقود في اليوم مرارًا كما يغير حلله وأثوابه.

قصد الوليد بعد أن ترك من جاءوا لنصحه إلى حجرة فسيحة كان بها جماعة من ندمائه وإخوانه، وكان بينهم أشعب بن جبير مضحكه ومندره ومسليه، وكان أشعب آية زمانه في سرعة البديهة، وتوقُّد الذكاء، وحسن الحيلة، وإجادة النادرة، وإثارة الضحك من غريب ما يقول، وعجيب ما يفعل.

وكان لا يحب أن يزاحمه أحد في فنونه وألاعيبه، فقد زعموا أن رجلًا بالمدينة حاول أن يسلك مسلكه، وأخذ يحاكيه في مذهبه ونوادره، حتى استطابه الناس، وأُعجبوا به، وعلم أشعب بخبره فرقبه حتى عرف أنه يختلف إلى مجلس لبعض فتيان قريش يحادثهم ويضحكهم، فسار إليه، ثم قال له: بلغني أنك قد نحوت نحوي، وشغلت عني من كان يألفني، فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل، ثم غضّن من وجهه، وعرضّه، وشنّجه حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه بها أحد، ثم أرسل وجهه وقال: ثم أفعل هكذا، وطوّل وجهه حتى كاد ذقنه يتجاوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف لامع، ثم نزع ثيابه وتحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير، وأصبح طوله مقدار شبر أو أكثر، ثم قام فتمدد حتى صار أطول ما يكون من الرجال؛ فضحك القوم حتى أغمي عليهم، وبهت الرجل فما تكلم بنادرة، ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، على الله عهد ألا أعاود ما تكره، وإنما أنا تلميذك وخريجك.

وكان أشعب في ذلك الحين قد جاوز التسعين، ولكنه بقي مستكملًا قوته، حافظًا لفنّه ودعابته، وكان دقيق الجسم ناحله، أزرق العينين أحولهما، أصلع الرأس حتى كأن رأسه كرة من الشمع اللامع، وحينما ورد على الوليد حظي عنده فأمر خدمه أن يلبسوه سروالًا من جلد قرد له ذنب طويل، وأن يشدّوا في رجليه أجراسًا، وفي عنقه جلاجل.

دخل الوليد على ندمائه باشًّا مبتهجًا كأن وفد هشام لم يثر في نفسه همًّا، ولم يكدر له صفوًا، فشرع ابن سهيل يقول: لقد أحسنت إجابتهم يا مولاي، وكشفت خديعتهم، ولكني أخشى ألا يقف هشام عند هذه الغاية، وأخشى أن يكون ما فعله اليوم إنما هو تحفيز لهجوم، وطليعة لمكيدة جديدة.

فقال عياض: إن هشامًا لا يستطيع أن يمس الوليد، ولكنه سيصب غضبه عليّ وعليك يا أبا وهب، فقد بلغني من مولاه يعقوب — وهو جاسوس لي عليه — أن حديثًا جرى منذ يومين بشأن الوليد وندمائه، وأن جواسيسه نقلوا إليه بعض شعرك الذي تمدح به الأمير، وتذكر ما يرجى منه إذا ولي الخلافة، وترمي فيه هشامًا بأقبح الصفات؛ فغضب حتى كاد يعود حَوَله عَمَى، ثم صاح: والله لأقصّن جناحيه، ولأفرقنّ عنه قرناء السوء الذين يمالئونه عليّ! والرجل بطّاش منتقم، يقتنص العصفور من بين براثن النسور، ولا يترك أعداءه للمقادير، وهنا قال عبد الصمد ابن عبد الأعلى: وكل حقده عليّ أني لم أخضع لأمره، ولم أقنع الوليد بالتخلي عن ولاية العهد، فأسرع عياض وقال: إن لي ولك عنده ذنوبًا لا يحصيها العد، ولكنّا لن نبالي به، ولن نأبه لوعيده، وسنكون ألصق بالوليد من جلده، وأقرب إليه من عقوده، ولو لقينا في سبيل ذلك الموت، ولله غيب هو مظهره، ولعلها غمرات ثم ينجلين، وظلمة يتبعها سفور الصباح، إن الرجل مضطرب مصاب بمرض يسمى ولاية العهد، ووجوب انتقالها إلى ابنه مسلمة.

فصرخ الوليد: دون هذا وتسيل الدماء، إن ولاية العهد قد كتبت في سجل القدر، ولن يستطيع هشام أن يمحو مداها، ولو استعان بأمواج البحار، ثم قام في اختلاج واضطراب إلى ندمائه، فأخذ يقبّلهم واحدًا واحدًا، والدموع تنهمر من عينيه، وهو يقول: أنا أعلم أن المكروه سيصيبكم من أجلي، ويل لي! وويل لكم مني، أليس مما يمزق القلب أسفًا أني لا أقدر أن أدفع عن أصدقائي وخلصائي؟ إنني إزاء بطش هذا الرجل أضعف من ذات خمار، ولقد عرف كيف ينتقم مني فيكم، وعرف كيف يحرمني بفقدكم طيب الحياة، إنني أعلم أن كلمة واحدة من فمي تنقذكم جميعًا، ذلك بأن أذهب إلى هشام وأقول له: إني تخليت راضيًا عن ولاية العهد، ولكني لن أفعل شيئا من هذا؛ لأني أعلم أني أحب إليكم من أنفسكم، وأنكم تفدونني بأرواحكم، وأن أكبر آمالكم أن أصبح خليفة، وأن أشفي نفسي بدماء أعدائي، ثم ضحك طويلًا حتى كادت تسقط عمامته، وقال: موتوا مطمئنين أيها الأوفياء، ثم التفت إلى ابن سهيل وقال: ما أجملك مصلوبًا يا أبا وهب، وقد امتدت ذراعاك في الهواء كأنك لا تزال تذكر عناق الحسان، لا تجزع يا حبيبي، ومت آمنًا فسأقتل بك عشرين فتى من فتيان بني أمية، أما أنت يا ابن مسلم فمما تطيب له نفسك أن تعلم أن سيفًا منذ طبعت السيوف لم يقطع عنقًا أشرف ولا أكرم من عنقك، فلا تبتئس أيها الصديق، وسر إلى الموت كريمًا، فسأقتل بك خمسين فتى من فتيان بني أمية، وهنا صاح أشعب بصوت يشبه نقيق الضفادع قائلًا: أما أنا أيها الأمير فسوف أموت فرحًا مسرورًا؛ لأنك ستقتل بي مائة عجل من عجول بني أمية! فأغرق القوم في الضحك، وقام الوليد يعدو وراءه، ففرّ منه وهو يقفز أحيانًا، ويمشي على رأسه أحيانًا، ولجلاجله صليل ورنين، ثم صاح به الوليد: ماذا كان جواب الرسالة التي بعثتك بها يا قرد السوء؟ ولِمَ لم تخبرني بما تم فيها بالأمس؟

– انتظرتك حتى تفرغ من مجالسك يا أبا العباس، وكنت أظن أن ذلك لن يكون إلا في العام المقبل.

– سأكون في العام المقبل خليفة؛ فلا أحتاج إلى الاستشفاع بك.

– ولكنك ستكون بطبائعك الوليد بن يزيد الذي نعرفه جميعًا، فلا تستغني عن شفاعتي؛ فضحك القوم، وقال ابن سهيل: ما تلك الرسالة أيها الأمير؟

فتأوَّه الوليد وغشيت وجهه سحابة من الحزن، وقال: رسالة إلى سعدة.

– ألا تزال تذكرها؟

– دعني بالله يا ابن سهيل، ولا تثر لواعج نفسي، فإنني كلما ذكرت عهدها طار بي الشوق إليها، وهزَّني نحوها الحنين، إنني رجل منكود الحظِّ، شقيُّ الطالع، لا أكاد أصل في سلَّم السعادة إلى درجة أشرف منها على الحياة حتى يسقط بي السلم في هوَّة لا يُنادى وليدها، ولا يُرجى فقيدها، لقد كان حبنا سماويًّا لم ينعم بمثله زوجان فوق الأرض الفانية، ولقد مرَّت بنا سنوات كأنها بسمات الروض لأشعة الصباح، عشنا فيها تظلنا دوحة الحب سعيدين هانئين.

– إلى أن رأيت أختها سلمى.

– إلى أن رأيت أختها سلمى يا ابن سهيل، ويلاه؛ ليت هذا اليوم لم يكن؛ ذلك كان يوم أن ذهبت لأعود أباها سعيد بن خالد، وإنه ليوم بالغ الأثر، شديد الخطر، تبدَّلت فيه حياتي، واضطربت من بعده أيامي، لمحت فيه سلمى، وقد برزت بوجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، وقامت حولها جواريها ليسترنها عني ففرعتهن طولًا، فاهتز لها قلبي، وخفقت جوانحي، ورحت بها صبًّا متبولًا، لا يستقر لي قرار، ولا ينطفئ أوار.

– لذلك طلَّقت سعدة لتفوز بأختها.

– نعم طلقتها في لحظة جنون، وكنت أظن أن الوصول إلى سلمى بعد ذلك من أهون الأمور، وأنه ليس عليَّ إلا أن أخطبها من أبيها، فيجيب شاكرًا مسرورًا.

– ولكن هشام وقف بينك وبينه، وحال بين الثمرة اليانعة وجانيها.

– نعم يا أبا وهب فرجعت صفر اليدين، أندب محبوبتين، وأعاني آلام غرامين، فلا على سعدة حصلت، ولا بسلمى ظفرت.

– والآن تريد أن تعود إلى مودة سعدة بعد أن هجرتها وهجرتك، وبعد أن أصبحت ذات بعل؟

– إن غرامي بها يكاد يصل إلى حد الجنون، وإن لي أملًا في أن ينفصم عقدة زواجها، فأعود إليها كما كنت زوجًا وافر الحظّ سعيدًا.

– عجيب كل أمرك أيها الأمير، وأعجب ما فيه أنك بعد أن عاودك الهيام بسعدة لا تزال تحب سلمى.

– لا أزال أحبها؟ إنني أحبها كما يقول ابن أبي ربيعة: «عدد الرمل والحصى والتراب»، إن لي في الحب يا ابن سهيل مذهبًا لا تعرفه.

ثم اتجه إلى أشعب وصاح: ماذا كان جواب الرسالة أيها القرد الأحمق؟ فتقدّم منه أشعب وهو يتصنّع الخوف، وقال: ذهبت إليها بالأمس يا سيدي فلما أذن لي عليها، رأيت صورة رائعة الحسن ما وقعت على مثلها عيناي، فملكتني الدهشة، وتعثّر بي لساني، فلما اطمأنت نفسي، واستقر بي مجلسي، وقفت أقول وأنا أرتعد رعبًا: يا سيدتي، هذه رسالة مولاي إليك، وهو يقول لك فيها:

أسعدة هل إليـك لنا سبيل؟
وهل حتى القيامة من تلاقي؟
بلى، ولعل دهرًا أن يواتي
بموت من حليـلك أو طلاق
فأصبح شامتًا وتقر عيني
ويجمع شملنـا بعد افتراق

وما كدت أتم البيت الثالث حتى صرخت في وجهي، وأخذت تصيح بخدمها: خذوا عني هذا الفاسق الفاجر، جروه من رجليه، ثم اقتلوه في بستان القصر، ولا تدنسوا بدمه بساطي، فلم أملك نفسي من الرعب والوهل، وتعلقت بطرف ثوبها في ذلة وتوسل، وأنا أقول: ارحميني يا مولاتي، ارحميني بحق جدك عثمان بن عفان، لقد والله كنت أعرف أني مقدم على مثل هذا، ولكن ماذا أصنع وأنا أشعب، وقد أغراني ثمن هذه الرسالة المشئومة؟ إن ثمنها يا مولاتي عشرة آلاف درهم! عشرة آلاف درهم! فابتسمت قليلًا وقالت: والله لأقتلنك، أو تبلغه كما بلغتني؛ فهدأت نفسي وقالت: وماذا تهبين لي من أجر على رسالتك؟ قالت: بساطي الذي تحتي. قلت: قومي عنه إذًا؛ فإني لا أحب بيع النسيئة، فقامت عنه وطويته تحت إبطي، ثم قلت: هاتي رسالتك جعلت فداك، قالت: قل له:

أتبكي على لبنى وأنت تركتها؟
فقد ذهبت لبنى، فما أنت صانع؟!

وما كاد ينتهي حتى وثب عليه الوليد كأنه الجمل الصائل، ولكن أشعب استطاع أن يفر منه قبل أن يلثّمه بسوطه، فصرخ الوليد: إنها تقول: فما أنت صانع؟ الذي أصنعه يا ابن أم الخلندج أن أدلّيك منكسًا في بئر، أو أن أقذف بك من قمة القصر، أو أن أضرب رأسك بسيفي ضربة أطيح بها رأسك، هذا هو الذي أنا صانع؛ فوقف أشعب في ثبات وثقة وقال: والله ما كنت لتفعل شيئًا من هذا.

– ولم يا ابن المجلودة؟

– لأنك لم تكن لتعذب عينين نظرتا إلى سعدة، فارتد الوليد عنه وهو يتأوه ويقول: نجوت يا ابن الورهاء، اغرب عني أيها الأزرق المشئوم.

وأذن مؤذن المغرب فانتفض الوليد كمن يرفع رأسه من لجة غامرة، وتبدلت حاله، ولبسته صورة رائعة من الخشوع والتبتل، ونظر إلى السماء في ذلة وخشية، وأسرع غلامه سبرة فأحضر إبريقًا، وطستًا فتوضأ، وقام القوم فتوضئوا، ثم صاح بصوت هز أرجاء القصر: الصلاةَ الصلاةَ، ونهض فأمّ من بالقصر، فلما فرغ من الصلاة أخذ يجاذب ندماءه طرائف الأحاديث والأخبار، حتى إذا مر طرف من الليل صاح: أين النوار؟ أين النوار؟ أين سعاد الكوفية؟ أين جامع لذتي ومحيي طربي؟ أين عمر الوادي؟ وكأنهم جميعًا كانوا يترقبون هذا الأمر، فما مرت لحظات حتى أقبل الجواري والمغنون، فطلب إلى عمر الوادي أن يغنيه بشعره في سلمى، فعزفت العيدان، وارتفع صوت الناي، ودقت الدفوف، وأخذ عمر يغني هزجًا بالبنصر:

يا سليـمى يا سليـمى
كـنت للقلب عـذابا
يا سليـمى ابنة عـمي
بـرد الليـل وطـابـا
أيما واشٍ وشـى بي
فـاملئي فـاه تـرابا
ريقها في الصبح مسك
باشر العذب الرضابا

فطار عقل ابن الوليد من الطرب، وخلع جبته، وقذف بها في وجه عمر، وهو يقول: خذها لا بارك الله لك فيها، ثم زدني بالله زدني، فانطلق يغني رملًا بالبنصر:

يا من لقلب في الهوى متشعب؟
بل من لقلب بالحبيب عـميد؟
سلمى هواه ليس يعرف غيرها
دون الطريف ودون كل تليد؟
إن القـرابة والسـعادة ألفا
بين الوليـد وبين بنت سعيد

فما أتم غناءه حتى قام الوليد فاختطف الدف من جاريته صدوف غاضبًا، وقال: أنت لا تحسنين الإيقاع يا جارية! دُقَّ عليه أنت يا ابن عائشة، وغَنِّنَا بالله يا أبا كامل، فأسرع يغني:

ويح سلمى لو تراني
لعناها مـا عناني
متلفًا في اللهو مـالي
عاشقًا حـور القيان
إنما أحـزن قلبي
قول سلمى إذ أتاني
ولقد كنت زمـانًا
خالي الذرع لشاني
شـاق قلبي وعناني
حب سلمى وبراني
ولكم لام نصـيح
في سليـمى ونهاني

فكاد يخرج من ثيابه لشدة الطرب، فلما هدأت نفسه وثب مسرعًا إلى الجناح الذي تسكنه أمه، وهو يصيح: يا سبرة، اطرد المغنين، واصرف الجواري، فقد سئمت هذا العبث، أخرجهم من القصر إن شئت؛ فإنهم جنود إبليس في هذه الأرض.

دخل الوليد على أمه حزينًا مطرقًا، يكاد يطفر الدمع من عينيه، وكانت أمه بنت محمد بن يوسف بن الحكم الثقفي أخي الحجاج بن يوسف، في نحو السادسة والأربعين، وهي على تجاوُزها ريعان الشباب، لا تزال تزهى بلمحات جمال بارع، لم تذهب بنضارته السنون، وكانت مولعة بالوليد، كثيرة التدليل له، والرفق به، والإغضاء عن هفواته.

دخل عليها فرآها جالسة على أريكة نجّدت بالحرير، وطرزت ستائرها بالقصب، وقد لفّت رأسها بخمار من الحرير الأسود، فبدا منه وجهها كما يبدو البدر في حلك الظلام، وكانت تقرأ القرآن، وأبو رقية أمامها ممسك بالمصحف يستمع لتلاوتها.

وكان أبو رقية هذا في طليعة شبابه شديد الذكاء متوقد القريحة، تجرد لطلب علوم الدين والقرآن، فأوغل في الدرس، وواصل فيه ليله بنهاره، فغلبت عليه المرة السوداء، فاختلط عقله، وأصابته لوثة، وانتابه البله في أكثر أحواله، ولكنه كان يفيق أحيانًا فيثوب إليه عقله، ويعاوده ذكاؤه، ويصدر عنه من الدهاء والمكر ما يعز على أكثر العقلاء، وقد يرى في أثناء إفاقته أن من الخير له أن يتباله، فلا يكاد يفرق من يراه بين بلاهته المطبوعة، وبلاهته المصنوعة، ومما يؤثر من نوادره في إحدى نوبات جنونه، أنه كان يحمل مرة في طوف ثوبه بيض دجاج، فأحرده الصبيان، وهموا برجمه بالحجارة، فخاف على البيض منهم، فوضعه على الأرض، وجلس عليه حتى لا يراه منهم أحد.

واتفق عند دخول الوليد أن كانت أمه تقرأ قوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. فانكب على يديها يقبلهما في حزن وخشوع، وهو يجهش بالبكاء ويغمغم: نعم يا أماه، إنه هو الغفور الرحيم، ولكن عذابه هو العذاب الأليم، فأين أكون من هذين؟ وهل تتسع رحمته لمثلي؟ إنه كريم يقبل التوب، ويغفر الذنب، ولكن أين غفرانه مني وأنا أشرد منه شراد البعير؟ اسأليه عني يا أماه أن يرد عني كيد الشيطان، فإني أخجل من دعائه، والابتهال إليه، خذيني إليك يا أماه، وضميني إلى صدرك، فلعلي أعود كما كنت طفلًا نقيّ الذيل، طاهر النقيبة، فقد استعبدتني نفسي، وأثقلتني همومي؛ فأقبلت عليه أمه تمسح على رأسه في حنان ورفق، وتملأ وجهه بقبلاتها، ثم قالت: خفف عن نفسك يا ولدي، فإن الدموع تغسل الذنوب، والخوف من الله أول مراتب التوبة النصوح، ثم ابتسمت وأخذت تربّت كتفه وتقول: ولكنك يا بني لا تكاد تعري أفراس الصبا حتى تسرجها، وتركض بها غير مبالٍ ولا هياب، ولا تكاد تحطب كأسًا من اللهو حتى يسبك لك الشيطان كاسات، إن قلبك يا بني قلب مؤمن، إذا تيقظ كشف لك وجه الحق، فدعه دائمًا متيقظًا.

– ليتني أستطيع يا أماه! إن ابن إبليس تمنى على أبيه لعبة يلهو بها، فلم يجد له اللعين لعبة سواي، إنني أفيق كما يفيق المحموم، ثم أعود إلى الخمود، ويلتمع في نفسي نور من الحق كما يلتمع السراج في آخر الليل ثم يخبو، أرأيت هذا المجنون أبا رقية …؟ فصاح أبو رقية في استنكار: لست مجنونًا، ولكني أشعر بالجنون أحيانًا حينما أراني مدفوعًا إلى حب أمثالك يا أبا العباس، وإلى بذل ذات نفسي لدفع الشر عنهم.

– أتحبني يا أبا رقية؟

– نعم، وأركب كل صعب للوصول إلى ما يرضيك.

– أتقول حقًّا أيها الأبله؟

– لست بأبله؛ لأنني لا أشرب إلا إذا ظمئت، أما غيري فيشرب وهو ريان.

– وكثيرًا ما صفروا لك لتشرب.

– خير لي أن أشرب مع الحمير من أن أشرب مع قرناء السوء.

– أما ذقت الخمر يا أبا رقية؟

– ذقتها بعيني عندما رأيت عربدة المخمورين.

– تبا لك من معتوه، والله ما رأيت لك مثلًا.

– إنك ترى كثيرًا من أمثالي في مجالس الشراب.

فابتسمت أم الوليد، وأشارت إلى ابنها أن يكف، ثم سألت: ما شأن هؤلاء القوم الذين جاءوا اليوم؟ لقد أخبرتني صدوف بكل شيء.

– صدوف؟ إنني لا أحب هذه الجارية يا أمي على جمالها وكمال أدبها، لا أدري لماذا؟ ولكنها نفرة أشعر بها كلما مددت إليها عينًا.

– إن صدوف من خير جواريك خَلقًا وخُلقًا، ولقد شكت لي منذ أيام صدودك عنها، وانصرافك إلى غيرها.

– إن الحب والبغض شيئان نحسّهما، ولا نعرف أسبابهما.

– هذا حق، ولكن الكريم يجامل إذا لم يحب.

– بم أخبرتك صدوف؟

– أخبرتني بكل ما قال لك رسل هشام، وبكلِّ ما قلته لهم. إنها خدعة الصبي عن اللبن يا بني، فلا تركن إليهم. إن هشامًا يريد أن يتخلص منك، فإياك أن تمكنه من مأربه، وإن ولاية العهد لأمانة لله في يديك، فمت دونها كريمًا، ولا تفرج عنها أصابعك، لقد مات أبوك بين سحري ونحري وهو ينظر إليك محزونًا مكمودًا، ويقول: الله بيني وبين من جعل هشامًا بيني وبين ولدي! فقد كانت ولاية العهد لك بعد أبيك يا بني، ولكن عمك مسلمة أدخل على أبيك الشبهة، وقد كنت صغيرًا، فحمله على أن يعهد بها إلى هشام على أن تكون لك من بعده، والآن وقد استمرأ هشام مرعاها، واستحلى أفاويقها، يهم بأن يخلعك ليخص بها ابنه من بعده، إن ذلك أبعد إليه من السماكين، وأنأى من الفرقدين، إن بقصر هشام أحابيل تنصب لك، ومكايد تدبر لهلاكك، فكن منها على حذر، وامش يا بني كمن يمشي في مسبعة لا يرد الطرف عن ناحية حتى يصوبه إلى أخرى، وخير سلاح ترد به كيد أعدائك أن تتخلى عما أنت فيه من لهو، فإنهم يجعلون التشهير بك ذريعة إلى نيل ما يؤملون.

– ليتني أستطيع أن أتخلى.

– كن قوي العزم يا بني، وغالب نفسك بالصبر والجلد. ألا تزال تحن إلى سلمى؟

– حنين النيب إلى إفالتها، لقد قابلت أباها منذ أيام أمام باب الفراديس فسألته عن سلمى، وتذللت له، وألحفت في المسألة، فما كان منه إلا أن نأى بجانبه في أنفة وكبرياء، فأمسكت بذراعيه، وقد اشتد بي الغيظ، وقلت: سحقًّا لك من رجل منخوب الفؤاد، الآن تردني عنها، وكأني بك وقد وليتُ الخلافة تتملقني وتخطبني لابنتك فلا أجيبك، فما كان منه إلا أن نتر ذراعيه من يدي، وقال: إن امرءًا يجعل كريمته عند مثلك لحقيق بأكثر مما قلت، فلم أملك إلا أن أجبهه بما يكره من شتائم، وتركته مغضبًا.

– لقد انقلبت الأوضاع يا بني في هذه الدولة، واضطربت الموازين، ولقد عشت حتى أرى سعيد بن خالد يأنف مصاهرة الوليد بن يزيد، كنت أزور اليوم أم عثمان زوج هشام، فسمعت منها أن يزيد بن عنبسة يلح في خطبة أختها سلمى، وأن هشامًا يميل إلى تزويجه بها، فوثب الوليد كأنما انقضّت عليه صاعقة ثم صاح: ويل للفاجر، يزيد بن عنبسة يخطب سلمى! إنه أقل من أن يشرف بنيل إحدى وصائفها، ألهذا جاء إليّ اليوم في صورة الأمين الناصح، وجعل من نفسه صنيعة لهشام ليشهّر بي، ويملأ الآفاق بمذمتي؟

– أخشى أن يكون تزويجه بسلمى جزءا من المكيدة التي تدبر لك.

– لو نال منها شعرة لروّيت منه سيفي.

وبينما هما في الحديث إذ سمعت ضجة في القصر، ودخل سبرة مذعورًا وهو يلهث ويقول: قدم يا مولاي خالد بن القعقاع رئيس شرطة هشام، ومعه كثير من أعوانه، فوثبوا على القصر وقبضوا على ابن سهيل، وعياض، وعبد الصمد، وكبلوهم بالأغلال، ثم ساقوهم إلى سجن الخلافة، وكان أبو رقية ينصت دهشًا، وقد اتسعت حدقتاه حتى كادتا تملآن وجهه، وتمتم بكلمات زادها الجنون إبهامًا؛ وسقط الوليد لهول الخبر، ثم أخذ يئن أنين المجروح ويقول: أصدقائي! أحبائي! ندمائي! اللهم أجرني منه! اللهم أجرني منه!

أنا النذير لمسـدي نعمة أبدًا
إلى المقاريف ما لم يخبر الدخـلا
إن أنت أكـرمتهم ألفيتهم بُطرًا
وإن أهنتـهـم ألفـيـتـهم ذللًا
أتشمخون ومنا رأس نعمـتكم؟
ستـعلمـون إذا أبصـرتم الدولا
انظر فإن أنت لم تقدر على مثل
لهم سوى الكلب، فاضربه لهم مثلًا

ثم وثب فجأة، وأمر سبرة أن يدعو المغنين، وانطلق من باب الحجرة كما ينطلق السهم، وهو يصيح: إلى مطلع الفجر! إلى مطلع الفجر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤