نار ورماد

كانت دولة بني أمية عربية النزعة، شديدة التعصب لكل ما هو عربي، تنظر إلى الأعاجم في تيه وتعاظم، وتحول بينهم وبين مناصب الدولة ومراتبها، ثم اشتط بعض الأمويين وغلا في إحياء نزعات الجاهلية، ونبش ما دفن من أحقاد القبائل التي جهد الإسلام في إماتتها، واجتثاث أصولها، فكان الخلفاء يؤثرون بعض القبائل بالمودة والعطاء، والتجاوز عن عدوانهم، وكان كل وال من ولاتهم يختص قبيلته بالبذل والمحاباة، فمرة تكون المحاباة لليمانية، ومرة تكون للمضرية، وكان الناس يشعرون بكل هذا فيطرقون واجمين، ويسكتون وجلين، حينما كانت الخلافة في عنفوانها، والدولة في شبابها، والسيف مصلتًا فوق الرءوس، والولاة كلهم من طينة الحجاج بن يوسف الذي كان يقول: من قال برأسه هكذا، قلنا له بالسيف هكذا! فلما ضعفت الدولة بعد موت الوليد بن عبد الملك تطلعت رءوس من الفرس كانت مدفونة تحت أطباق الخوف، ونطقت أفواه من بني العباس كان يسكتها الذعر والحذر، وامتد الزمان بدولة بني أمية فزاد ضعفها باستنامة رجالها إلى النعيم، ففقدوا رجولتهم، وتسلبوا من خصائص عروبتهم، فكان ضعفهم قوة لأعدائهم، وتراخي حبلهم شدة وبأسًا للخارجين عليهم، لهذا قوي أمر بني العباس بمعاونة الفرس في أواخر عهد هشام، وتجمع الناس حول دعاتهم بخراسان، وتكونت في أكثر أقطار الدولة جماعات من أنصارهم، كانوا جميعًا يعملون سرًّا، ويعدون العدة في الخفاء، وينتظرون الفرصة للانقضاض على الدولة وثل عرشها.

وكان بدمشق كثير من المحتطبين في حبل العباسيين بين فرس وعرب، وهؤلاء كانوا يبعثون بأخبار الخلافة وأسرارها إلى الزعماء بخراسان، ويتلقون أوامرهم وإشارتهم، وكانوا ينبثون بين الناس فيشيعون بينهم مساوئ الخلافة، وهفوات فتيان بني أمية بأسلوب شيطاني عجيب لا يلصق بهم تهمة، ولا يدع لسامعيهم شكًّا في أنهم أمناء مخلصون للدولة، حريصون على بلوغها ما ينبغي لها من عظمة ومجد؛ يبدأ الرجل منهم فخورًا بمكانة الخلافة، وفضل رجالها الأولين، وقوادها السالفين، وأنها رفعت راية الإسلام، ونشرت كلمة التوحيد في كل مكان، ثم يقول في رنّة حزن، وبصوت تكاد تخنقه العبرة، وتقلبه الحمية بكاء: هَدى الله خلفاءنا السداد، وألهم فتيانهم التوفيق! أكان يفعل هشام كذا لو كان عمر بن عبد العزيز حيًّا؟ وهل كان يفعل الوليد كذا لو كان عبد الملك بن مروان حيًّا؟ ثم يزفر زفرة طويلة، ويرفع عينيه إلى السماء داعيًا للإسلام والمسلمين. هكذا كانت تعمل هذه الفئة الثائرة، ومن أخاليق هؤلاء وأكاذيبهم امتلأت كتب الأدب والتاريخ بكثير من مثالب الأمويين، وكان بين هذه الطائفة أشخاص اندسوا في قصور الأمويين ليكونوا عليهم عيونًا، ولينقلوا أسرارهم إلى أعدائهم.

وفي إحدى ليالي شهر رجب سنة أربع وعشرين ومائة وصل من دمشق إلى الكوفة إسماعيل بن يسار رسولًا من الشام من قبل محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل بدار بكير بن ماهان، وكان من كبار أنصار العباسيين، وأخبره بما قدم إلى الكوفة بسببه، فسهّل له بكير لقاء سليمان بن كثير الحراني زعيم جماعتهم، ومالك بن الهيثم، واتفقوا على زيارة يونس بن عاصم وعيسى وإدريس ابني معقل في السجن، وكان قد اتهمهم يوسف بن عمر عامل هشام على خراسان بالدعاء إلى بني العباس، فلما ذهبوا إلى السجن قابلهم حارسه، وكان رجلًا غليظًا مفرطًا في الطول، متين البناء، ينطق وجهه بالشراسة والشر، فتعمد ابن كثير أن يسقط من كمه دينارًا، فأخذ يدور فوق الأرض، فانقض عليه الحارس يلتقطه، ثم رفعه إلى ابن كثير قائلًا: هذا دينار سقط منك يا رجل.

فقال ابن كثير: خذه جزاء أمانتك، فإنما اللقطة لمن وجدها. ثم تعمد إسقاط دينار ثان، فانكب عليه الحارس وقال: وهذا دينار آخر، فأطبق عليه ابن كثير كف الحارث وقال: هو لك أيضًا، فقد أحسنت في الأولى والثانية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فبهت الحارس لهذه الأريحية، ثم اتجه إليه ابن كثير سائلًا: هل بين ضيوفك في هذا السجن عيسى بن معقل؟ فإننا قوم من أهله جئنا لنراه، ولنحدثه في أمور أولاده وضياعه.

– إن ابن عمر يحظر أن يلقاه أحد، ولكن أوامر الرؤساء دائمًا تصدر لتُنْقض، فلا تثريب عليكم من أن تروه على شرط ألا تطيلوا المكوث، وعلى شرط ألا تتحدثوا في أمر بني العباس.

إن لنا من الشغل بأنفسنا ما يذودنا عن الحديث في شئون غيرنا، وأشار إليهم الحارس بالدخول فوصلوا إلى حجرة المسجونين، وكانت واسعة فسيحة منعزلة في ناحية من البناء، وما كاد يراهم من بها حتى أسرعوا إليهم فرحين معانقين، وأخذوا يمطرونهم بالأسئلة عن محمد بن علي بن عبد الله، وعن ابنه وخليفته إبراهيم الإمام، ثم عن الدعوة بخراسان، وعن قوتها ونشاطها وانتشارها، وكان يخدمهم بالسجن شاب قصير في نحو الرابعة والعشرين، أسمر اللون، نقي البشرة، أحور العينين، عريض الجبهة، كانوا يدعونه أبا مسلم، وهو أبو مسلم الخرساني الذي كانت تدخر له الأيام عظمة ومجدًا، وهو الذي أقام بسيفه ورأيه بعد ثماني سنوات لبني العباس دولة شامخة الذرا راسخة البيان.

جلس الجماعة بعد التحية وتبادل الأشواق، فقال ابن كثير في صوت خافت: هذا إسماعيل بن يسار شاعر الطائفة العباسية، ومذيع فضلها، وناشر مناقبها، قدم بالأمس من الحميمة بعد أن قابل ابن عم رسول الله، وزوده بما يجب علينا عمله لإشعال الثورة على الأمويين، وبثها في كل مكان، وهو يستطيع أن يحدثنا بكثير من أخبار فتيان بني أمية وعبثهم، وسخط الناس عليهم، وقد يهدينا تبادل الرأي وتجاذب التفكير إلى ما يحسم هذا الأمر، وإلى أن نرسم طريقًا نمضي فيه إلى الغاية موفقين، لقد بلغ السيل الزبى، وجاوزت الشدة طاقة الاحتمال، ولا بد من ضربة سيف قاصمة مصممة تفرق بين الحق والباطل، وتعيد الخلافة إلى أهلها؛ فصاح أبو مسلم والدموع تتناثر من عينيه: نعم لا بد من ضربة سيف، ولا بد أن يُمحى كل أثر لأبناء عبد شمس.

– اهدأ يا بني، الرأي لا تنضجه نيران الغضب.

– إن الغضب هو الذي يصهر العزائم، ويشحذ الهمم، وما حاجتي إلى رأي هزيل، تزيده الشكوك ضعفًا وهزالًا؟ فالتفت ابن كثير إلى ابن معقل في دهشة وقال: من هذا الشاب؟

– هذا أبو مسلم أشدنا حماسة في الدعوة، وهو أرهف من سيف، وأنفذ إلى مطالبه من سهم، إن نار الثورة تسري في شرايين جسمه، وإننا نسميه صخرة الأرض، وداهية الدواهي.

– هذا كله حسن، ولكن أحب أن يضم إلى فورة شبابه حكمة الشيوخ ودهاءهم.

– إن عنده من ذلك الشيء الكثير فلا يلفتك أمره عما نحن فيه.

– أظن أن الكلام في جبروت الأمويين، وحرمانهم إيانا مناصب الدولة قد أصبح كلامًا مكررًا، وحديثًا معادًا، فقال إسماعيل بن يسار: إنهم يتعالون علينا، ويشمخون بأنوفهم حتى كأن الله خلقنا من طين وخلقهم من مسك وكافور، فقال عيسى بن معقل: إن دين الله لا يفرق بين عربي وأعجمي، ولا بين مضري ويماني، ولكن هؤلاء القوم يكيلون للناس بمكيالين، وينزلونهم منزلين، وينظرون لهؤلاء بعين ولأولئك بعين، ثم يزعمون أنهم نصراء القرآن، وحماة الإسلام، وهنا وثب أبو مسلم واقفًا وقال: لو زرت خراسان اليوم يا صاحبي لرأيت الأعاجيب.

فقال ابن يسار: إن ما نلقاه بالشام أعجب وأغرب يا فتى. أنشد هشامًا مرة قصيدة فدفعني الاعتزاز بقومي إلى أن أفخر بالفرس، وأشيد بمجدهم القديم، فما كان منه إلا أن غضب حتى نفرت أوداجه، وصاح في جبرية وزهو: أعليّ تفخر بقومك أيها الأحمق؟ وإياي تنشد قصيدة تمدح فيها نفسك، وأعلاج قومك؟ ثم أمر عبيده أن يُغطوني في الماء، فقذفوني في بركة حتى كدت أغرق، ثم أمر فنفيت إلى الحجاز، فصاح عيسى بن معقل: ماذا كانت قصيدتك لله أبوك؟

– قلت فيها يا سيدي:

إني وجدك مـا عودي بذي خـور
عند الحفاظ ولا حوضي بمهدوم
أصلي كـريم ومجدي لا يقاس بـه
إلى لسان كحد السـيف مـسموم
أحمي به مـجد أقـوام ذوي حسب
من كل قزم بتاج الملك مـعموم
جـحاجح سـادة بلـج مـرازبـة
جرد عتاق مساميح مطاعيم
من مثل كسرى وسابور الجنود معًا
والهـرمزان لـفخر أو لـتعظيم

فصاح القوم: لا فض فوك يا ابن يسار، بمثلك تنهض الدعوة، وتتأجج الثورة، فلما عادوا إلى الحديث قال إسماعيل: أما العبث بين فتيان بني أمية قد بلغ الغاية، وقد جهدنا جهدنا في إذاعة مثالبهم ونشر أخبارهم، ووصمهم بكثير من النقائص بالحق وبالباطل، حتى أصبحوا حديث كل غاد ورائح، وأخذ الناس يشعرون بوجوب زوال دولتهم وانتهاء أمرهم، والوليد بن يزيد سادر في غلوائه، لا يقف في طريقه شيء، وإذا نصحه ناصح، أو زجره زاجر زاد عنادًا وتحديًا، كأنه يتعجل نهاية أيام بني أمية، وهو ولي العهد، وإذا ولي الخلافة على تلك الحال قوّى ثورتنا، ومكن لدعوتنا، وقدم الخلافة هدية سائغة هنيئة لأمير المؤمنين ابن العباس، لكل هذا تعمل جماعتنا بدمشق على إحباط كل مسعاة لهشام في خلعه من ولاية العهد، ونقلها إلى ابنه مسلمة، ولأجل هذا نحث دائمًا رستم غلامه أن يوحي إليه بكل شنعاء، وعندكم بخراسان جماعة منظمة تبعث بالجواري الحسان إلى قصور أمراء بني أمية لإغرائهم بالتبذل، وليكن جاسوسات عليهم، ينقلن أخبارهم، ويفشين أسرارهم، وقد نجحن كثيرًا، وأصبحن المتحكمات في الدولة، المسيطرات على خلفائها وقوادها، ولو طال عمر «حبابة» جارية يزيد بن عبد الملك قليلًا لانتهى حكم بني عبد شمس منذ حين، ولكُنّا اليوم ناعمين هانئين في ظل خلافة بني العباس، فصاح أبو مسلم: لقد طال حكم هشام حتى كاد يدب اليأس إلى نفوس بعض ضعفاء العزائم من شيعتنا.

فقال ابن يسار: لقد طال حكمه حقًّا، وهو قاس صارم يريد أن يعيد الأموية إلى ما كانت عليه أيام معاوية، ومروان، وعبد الله. شحيح بالمال، جمّاع له، كأنه يريد أن يصون كل دينار ودرهم لحماية الخلافة، والذود عنها إذا خرج عليها خارج، فلم يعط أحدًا من بني مروان عطاء إلا إذا خرج للغزو بنفسه، أو أخرج من ينوب عنه، وَرَدَ عليه يومًا محمد بن زيد للعطاء فقال له: «مالك عندي شيء، وإياك أن يغرك أحد فيقول لك: إن أمير المؤمنين لم يعرفك، فوالله لقد عرفتك، أنت محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب، فلا تقيمن وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة»، فعاد الرجل إلى المدينة يخُفي حنين، وبعث إليه أحد عماله بسلة خوخ فكتب إليه: قد أعجب الخوخ أمير المؤمنين، فزدنا منه، واستوثق من الوعاء حتى لا يسرق في الطريق. وأخبرني غلامه فيروز أن بعض المشرفين على ضياعه بعث إليه خادمًا بطائرين ظريفين، فدخل عليه وهو جالس في سرير في عرصة الدار، فقال للخادم: أرسل الطائرين لأنظر إليهما، فأرسلهما، ولما أراد الخادم الانصراف طلب جائزته، فقال له هشام: ويلك وما جائزة طائرين؟ قال: أي شيء تجود به. قال: خذ أحدهما. فعدا في الدار خلفهما، فقال له هشام: ماذا تصنع؟ قال: أختار خيرهما. قال: أتختار خيرهما وتدع لي شرهما؟ لا، والله لا نلت منهما ريشة، لعن الله ناقة حملتك إلينا! وهذا هو الرجل الذي تخضع الدنيا لأمره، وتجبى إليه ثمراتها، ولقد كان مرة في أحد بساتينه، والزراع يجمعون الزيتون، فرآهم يهزون الأشجار ليتناثر زيتونها، فصاح: القطوه لقطًا، ولا تنفضوه نفضًا فتفقأ عيونه، وتنكسر غصونه. هذا هو هشام: بَخَل فكرهه الناس، وقسا فحقد عليه الناس، وطال عهده فضجر منه الناس.

فقال ابن كثير: إنه الصخرة الصمّاء التي تتحطم حولها آمالنا، والتي يجب أن تزول من الطريق، فقال ابن يسار: إنه مصاب بذبحة الصدر، ولولا دواء مزجه له طبيبه «فرات بن شحناثا» لقضي عليه منذ سنوات، واستراحت الدنيا منه، ومن صلفه وشحه؛ فزفر عيسى ابن معقل طويلًا، ثم قال: ألا يستطيع فتى أحوذي أن يروي خنجره بدمه؟

فأجاب ابن كثير: إن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا، فقد يكفي أن نوعز إلى خادمه فيروز أن يريق ما في زجاجة الدواء، ويضع مكانه ماء بلونه، فإذا أدركته النوبة وأسعف بالدواء لم يغنه الماء شيئًا، فصاح جميعهم: هذا رأي صائب؛ مُرْ فيروز أن يفعل هذا يا ابن يسار، وهنا عاد ابن كثير إلى الحديث فقال: لنوجز الآن ما استقر عليه رأينا ليعمل كل منا على إنفاذه، وليبلغه ابن يسار إلى الإمام محمد بن علي، فقد رأينا أولًا أن نبث بين الناس بغض بني أمية، والسخط على حكمهم، وأن نبتدع الأقاصيص والأخبار التي تشوه سيرتهم، وتثير الضغينة عليهم، ثم أن نغري الوليد بالاستمرار فيما هو آخذ فيه بكل ما مكنتنا من وسائل، وأن نذلل له السبيل إلى الخلافة؛ فإنه لن يمكث بها أيامًا حتى تدول، ثم أن نقلل من مدة هشام، وأن نقطع الخيط الذي يصله بالحياة، وعلينا أن نفكر في كل لحظة في اليوم الذي تنجلي فيه هذه الغُمّة حتى كأنه الغد، وأن نسخر من العقبات التي يضعها أُجَراء بني أمية في طريقنا، هلمّ الآن فقد طال بنا الجلوس.

ويخرج الزوار فيمرون بالحارس لدى الباب، فيتجه إلى ابن كثير وهو يقول في سخرية ودهاء: الآن لا تسقط دنانيرك أيها الشيخ!

– كان بثوبي فتق فأصلحته.

– أخشى أنك تعمل أنت ومن معك لفتق لا يرتق.

– قد يكون الهدم إصلاحًا في كثير من الأحيان.

– إلا أن تهدم دارًا على ساكنيها، احذر يا شيخ فإني أجد في أعطافك ريح الثورة، والثورة نار مجنونة، تأكل أول ما تأكل مُشعليها، اذهبوا فإني لا أرى في وجوهكم خيرًا.

فسار الثوار حتى بلغوا دار بكير بن ماهان، وأقام معهم إسماعيل بن يسار أيامًا، ثم عاد إلى دمشق لينهض العزائم، ويثير الهمم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤