قتل ودمار

ومرت شهور والوليد يشفي نفسه في كل يوم بانتقام جديد حتى خافته خاصة الناس، وسئمته عامتهم، ولقد فرح الناس لتوليته أول الأمر لما أغدق من العطايا والنعم، ولما بذل من المواهب واصطناع المعروف، بعد أن عانوا أيام هشام عهدًا شحيحًا يحاسب فيه الخليفة على الدانق، ولا يثيب إلاّ على عمل، ولكن الوليد لم يستطع أن يمد يده بالعطاء في كل حين، ولم يكن له من الخلال ما يحمل الناس على حبه وإجلاله، فتحولت عنه قلوبهم، ونالت منه ألسنتهم، ولكل دولة في أول عهودها بهجة وإشراق، يستقبلها الناس فرحين مستبشرين، وهي تستقبل الناس بالوعود، وبذل الرغائب، فإذا ذهبت جدّتها ولم تواصل إحسانها انصرفوا عنها ساخطين شاكين وهم يتحسرون على العهد القديم، ويتطلعون إلى فجر يوم جديد.

واجتوى الوليد دمشق واجتوته، وكره لقاء الناس وضجروا به، فرحل إلى «الأغدف» بعمان، وسار في ركابه كثير من خدمه وندمائه، وكان الوليد خَلقًا عجيبًا، فقد كانت له نفس واحدة استطاعت أن تتقسم أنفسًا، فكانت له نفس باكية حزينة، ونفس مرحة ضحوك، ونفس تقية خيرة، ونفس عارمة صاخبة، وكانت كل نفس من هذه الأنفس تظهر فجأة على غير إرادة من صاحبها، وتطالع الناس متناوبة متعاقبة كما تدور كرة حول محور، فكثيرًا ما اتصل منه الضحك بالبكاء، والخير بالشر، والقوة بالضعف، وكان الناس لذلك منه دائمًا في وجل وخوف، لا يدرون ماذا تكون اللحظة التالية للحظة الحاضرة.

ذهب إلى الأغدف، وأعاد فيه مجالس أنسه، ومجالي صبوته، وكأنه لم يعشق مرّة سلمى، ولم ينكب بموت سلمى، ولكن خيالها كان يطوف بنفسه في لحظات متقطعة؛ فيبكي بين رنين المزاهر، ودقّات الصنوج، وتنفست دمشق الصعداء لفراقه، ومد فيها الساخطون رءوسهم إلى الفتنة، وعاد إليها كثير من الفارين كابن عنبسة، وبعض بني القعقاع، وزعماء اليمنية. وفي ذات صباح التقى جمع منهم بدار شبيب بن أبي مالك فتذاكروا في شأن الوليد، وأنه إذا امتد عهده لم يبق منهم أحدًا، ولم يترك لمجد الخلافة أثرًا، واستقر رأيهم على مبايعة يزيد بن الوليد؛ لأنه كان يظهر التقوى والورع، ويتشبه بعمر بن عبد العزيز، فذهبوا إليه وكان بالرصافة فحدثوه بأمرهم، وألقوا إليه بسرهم، فأخذته الدهشة، وتذكر سطوة الوليد وبطشه، فطلب منهم أن يمهلوه حتى يستشير عمرو بن يزيد، ثم تركهم وذهب إلى عمرو في داره، وأطلعه على ما اعتزم عليه القوم، فوقف عمرو وقد كان جالسًا وقال: هذا يا ابن العم أمر جسيم لن يفصل فيه إلا أخوك العباس؛ فإنه صاحب رأي ومعرفة، أما أنا فرجل كثير الشكوك كثير التقلب، وليس لمتقلب رأي.

وانطلق يزيد إلى العباس يستشيره ويستهديه، فما كاد يكشف له عن طرف مما جاء بشأنه حتى وكزه العباس في صدره، وصاح في وجهه غاضبًا: حقًّا إنك لأشأم سخلة في بني مروان، ووالله لولا ما أخاف عليك من حدة غضب الوليد لشددت وثاقك وحملتك إليه، إن دولة بني أمية تهتز للسقوط، فبالله عليك لا تضرب فيها بمعول جديد! إن بها من نيران الفتن ما تعدّ جهنم إزاءه جذوة خامدة، فدعها أيها الغرّ، ولا تزدها نكالًا! دعها بالله وانصرف إلى شأنك، أتدري معنى خلع خليفة من بني مروان؟ إن معناه أيها الأبله ضياع الدولة كلها، اذهب يا عدوّ عشيرته، ولا تثر جُرحًا لا يريد أن يندمل، وإذا حدّثتك نفسك بشيء مما في نفسك فاعلم أنه هو الشيطان الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، وأن غراب الفتنة هو الذي يدفع الأشقياء إلى أن يخرّبوا بيوتهم بأيديهم:

إني اُعـيذكمُ بالله من فتن
مثل الجبال تسـامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

وخرج يزيد من لدن العباس حزينًا مترددًا، ولكن الرغبة في الملك أغرته بنبذ وصايا أخيه، فنفض عنه ما كان قد أصابه من يأس، وطرح ما كان مسّه من خوف، والتقى بجماعات الساخطين، وكان بينهم يزيد بن عنبسة فبايعه سرًّا، ولما اجتمع له أمره قصد إلى دمشق متنكرًا في سبعة من أنصاره؛ فنزل على المِزّة، وهي أرباض دمشق، وقصد قُدُمًا إلى دار معاوية بن مصاد زعيم قومه، فبايعه وبايعه كثير من أهله ورجاله، ثم رحل إلى دمشق، وعزم على إظهار الدعوة، فأرسل إلى أصحابه فكمنوا عند باب الفراديس، ودخلوا المسجد الجامع لصلاة العشاء، فلما أتموا المكتوبة قبضوا على من بالمسجد من الحراس وكبلوهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأخبره الخبر، ثم قال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله وعونه! فاتجه يزيد إلى السماء، وهو يقول: اللهم إن كان هذا لك رضًا فأعنّي وسددني له، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني! وانطق مع ابن عنبسة في دروب دمشق، وكلما سارا خطوات انضم إليهما أعوان وأنصار، وما جاء اليوم الثاني حتى توافدت على يزيد الكتائب يقودها مشايخها، وهي تتحرق للقتال، وترجو ما وراءه من غنائم.

وطار أحد عبيد الوليد على جواد يسابق الريح إلى سيده، فلما بلغ الأغدف رآه بين ندمائه، وعمر الوادي ينشدهم:

أدر الكـأس يمينًا
لا تدرها باليـسار
اسق هذا ثم هـذا
صاحب العود النضار
من كميت عتقوها
منذ دهر في جـرار

وما كاد يُلقى إليه الخبر حتى ثار وقذف بالحمم، وأمر بضربه مائة سوط، ثم بحبسه.

وكان بمجلس الوليد يزيد بن خالد، وعبد الله بن سعيد، والأبرش الكلبي، فقال ابن خالد: إني أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل حمص فإنها حصينة، وأن توجّه منها الجنود إلى يزيد حتى يظهرك الله عليه. وقال ابن سعيد: لا ينبغي للخليفة أن يرتحل بجنوده، ويدع نساءه في أيدي أعدائه، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره، فابتدره ابن خالد قائلًا: وماذا يخاف أمير المؤمنين على نسائه، وقائد جيش عدوه هو ابن عمه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك؟ فصاح الوليد في غضب وسآمة: لن أرحل، ولن أترك أهلي ونسائي. وأشار عليه الأبرش أن ينزل بحصن البخراء، وأن يقاتل أعداءه حوله، فأخذ الوليد برأيه، وانتقل إليه. أما دعاة يزيد فانطلقوا ينادون في الناس: من سار للقتال مع يزيد فله ألفان! فهرع إليه كثير من مرتزقة المحاربين.

ثم علم عبد العزيز بن الحجاج قائد جيش يزيد أن العباس بن الوليد قادم لمناصرة الوليد بطائفة من أهله ورجاله، فسقط في يده، وأيقن أن شيئًا من ذلك لو يتم لتفرّق عنه رجاله لشدة ثقتهم بالعباس، وحبهم إياه، واعتقادهم أن الفئة التي يظاهرها هي الفئة الغالبة، ولذلك أسرع فبعث منصور بن جمهور على رأس فرقة من الجند لتحول بين العباس والوصول إلى الوليد.

وسار منصور وهدّد العباس، وساقه مع من معه إلى مخيم ابن الحجاج، فلما وصل إليه أمره ابن الحجاج أن يبايع لأخيه يزيد فبايع مكرهًا مغلوبًا، ونصب ابن الحجاج راية العباس، وأمر مناديًا أن ينادي في الناس: هذه راية العباس، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد، وما كاد أصحاب الوليد يسمعون هذا النداء حتى تفرّقوا عنه، وانضموا إلى جيش أعدائه.

ولكن الوليد كان شجاعًا مقدامًا بعروبته، وطبعه الموروث، فلم يأبه لانصراف أصحابه عنه، واعتزم أن يلقى القوم بنَفسه، ففي أحد أيام جمادى الأول من سنة ست وعشرين ومائة ركب فرسه «السندي»، وقذف بنفسه في حومة الحرب فقاتل قتالًا شديدًا، ولكن القوم تزاحموا عليه حتى كادت تنوشه سيوفهم، فدخل الحصن، وأغلق الباب دونه، ثم أخذ المصحف وجلس يرتل آيات القرآن الكريم، وانتحى أبو رقية ناحية من الحجرة، وأخذ يفتح عينيه ويغمضهما كأنه يصلي بإيماء العينين.

ووثب يزيد بن عنبسة نحو الباب وصاح قائلًا: كلمني يا وليد، فلقد كنت تبحث عني في كل مكان، وها أنذا قد أتيت إليك طائعًا، ولكني أظنك لا تودّ اليوم لقائي، لقد حاربتني في سلمى أيها الرجل فانتصر الموت علينا جميعًا، واستأثر بها، واليوم تلقى جزاءك بما قدمت! لا تخف يا أبا العباس فإني لن ألقاك، ولكن سيفي هو الذي سيلقاك. فقال الوليد: لم تقتلونني لا أبا لكم؟ ألم أزد في أعطيات أصحاب العطاء؟ ألم أرفع المؤن عن كثير من الناس؟ ألم أعطِ الفقراء؟ ألم أعطف على الزمنى؟ فصاح ابن عنبسة: إنا نقتلك لننقذ الخلافة من يديك، فغضب الوليد وقال: حسبك يا ابن عنبسة، إن الخلافة أكرم على الله من أن ينقذها مثلك، ثم عاد إلى التلاوة وهو يردد: يوم كيوم عثمان! فسخر منه ابن عنبسة، وجبهه بمقذع السباب، وغليظ القول، ثم وثب فوق الحائط، وانطلق وراءه نفر من أصحابه، ولما قرب من الوليد قبض على يده وكان يريد أن يأسره، ويذهب به إلى القوم ليفصلوا في أمره، ولكن رجلًا عاجله بضربة سيف فخر صريعًا مضرجًا بدمائه، وتقدم ثانٍ فاجتز رأسه، وأشرع روح بن مقبل فحمل الرأس وطار إلى يزيد فرحًا بما يحمل، فلما وصل إلى خيمته قذف أمامه به وهو يقول: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد، وأسر من كان معه، هذا نصر مبين مؤزر! فسجد يزيد شكرًا، ثم التفت إليه باكيًا وقال: كنت أرضى منكم بدون هذا، أما القتل فبلاء عظيم!

ودخل ابن عنبسة فأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله لك، وإتمام نعمته عليك، فارتعد يزيد وقال: ويلي إذا لم يغفر الله لي! قل لي بالله يا ابن عنبسة: ماذا قال لكم الوليد قبل قتله؟ فأجاب ابن عنبسة: لقد كان يقول: أما فيكم ذو حسب فأكلمه؟ أليس منكم رجل رشيد يستمع لما أقول؟ ولكنَّا أوسعناه تقريعًا، وتواثبنا عليه فروَّينا أديم الأرض بدمائه. فصاح يزيد: كفاك يا ابن عنبسة كفاك! لقد لعمري أكثرت وأغرقت، أما والله لا يرتق بعدها لكم فتق، ولا يلم شعث، ولا تجتمع كلمة! إن الرءوس التي حصدها الحجاج بن يوسف بعد أن أينعت وحان قطافها ستثأر اليوم لنفسها! لقد حق القول على بني أمية، وانهار بناؤها، وخرَّبت — كما يقول العباس — بيوتها بأيديها! وإنما أنا والوليد رجلان المنتصر منهما المهزوم، والقاتل منهما المقتول!

يصاولني والسيف بيني وبينه
وأقتله عمدًا، وفي قتله قتلي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤