مقدمة
مذ نحو عشرين عامًا كنت أكتب للمسرح بالمعنى الحقيقي … والمعنى الحقيقي للكتابة «للمسرح» هو الجهل بوجود «المطبعة»!
ما الذي حدث لي إذن بعد تلك الأعوام؟! … كيف صِرتُ إلى هذه الخيبة، حتى أكتب روايات إذا أصغى إليها الكبار ناموا؟!
لقد تساءل البعض: أوَلَا يمكن لهذه الأعمال أن تظهر كذلك على المسرح الحقيقي؟ … أمَّا أنا فأعترف بأني لم أفكر في ذلك عند كتابة روايات مثل: «أهل الكهف»، و«شهرزاد»، ثم «بجماليون»!
ولقد نشرتُها جميعًا ولم أرضَ حتى أن أسمِّيها «مسرحيات»؛ بل جعلتُها عن عَمْد في كتبٍ مستقلة عن مجموعة «المسرحيات» الأخرى المنشورة في مجلدين، حتى تَظلَّ بعيدة عن فكرة التمثيل!
لهذا دُهشتُ وتخوفتُ يومَ فكَّروا في افتتاح «الفرقة القومية»، عند إنشائها … برواية «أهل الكهف»، ولقد راجعتُ القائمين بالأمر حينما سألوني الإذنَ في تمثيلها، فلمَّا طمأنوني تركتُهم يفعلون، دون أن أحضُر تجربةً من تجارب الإخراج؛ بل لقد لبثتُ ممتنعًا عن مشاهدة تمثيلها حتى آخر ليلة … فذهبتُ مخدوعًا بقولِ مَن قال: إنها نجحت … فماذا رأيت؟
رأيتُ ما توجَّستُ منه؛ أن هذا العمل لا يصلُح قَط للتمثيل، أو على الأقل لا يصلُح للتمثيل على الوجه الذي ألِفَه أغلبُ الناس؛ فالممثلون يعرِضون مواقفَ وأزماتٍ لا يرى الجمهور أن مثلها مما يُكتب للمسارح لإثارة العواطف!
لقد خرجتُ تلك الليلة وأنا أشكُّ في عملي، وأُومن بصواب رأي الناس؛ فلقد وُجد المسرح ليشهد فيه النَّظَّارة صراعًا يستثير الْتفاتهم ويهزُّ أفئدتهم؛ صراع هو في المسرح الدموي، بين درعٍ ودرع، أو بين ثورٍ ورجل … وهو في المسرح التمثيلي بين عاطفةٍ وعاطفة!
هكذا كان المسرح دائمًا ويكون. وإن الناس ليتأثرون دائمًا بالعواطف التي يحسُّونها في حياتهم الواقعة؛ كالحُب والغيرة، والحقد والانتقام، والعدالة، والظلم، والصفح، والإثم! …
لكن ماذا هم يشعرون أمام صراعٍ بين الإنسان والزمن، وبين الإنسان والمكان، وبين الإنسان وملكاته؟ … هذه الأشياء المُبهَمة والأفكار الغامضة أتصلح لهزِّ المشاعر بقَدْر ما تصلح لفتق الأذهان؟
هكذا انتهى بي الأمر إلى السعي لدى القائمين بشأن «الفرقة القومية»، حتى أوقفوا تمثيل «أهل الكهف» إلى اليوم! …
هذا الفنان يدرك المُعضِلة في مثل هذه الروايات … كل الصعوبة في الحقيقة هي في إبقاء الشِّعر أو الفلسفة يشيعان في جوِّ المسرح كما شاعا في جوِّ الكتاب.
وهذا ما فعله هو نفسه في روايات «إبسن»، وهو أول مَن أخرجها للفرنسيين …
من سوء حظي أن الشيخوخة كانت قد أقعدتْ هذا الفنان العظيم وأقصَتْه عن المسرح منذ زمن بعيد … أتراه كان يُخرج «شهرزاد» لو أنه قرأها وهو في نشاطه الفني؟ … مَن يدري؟ … ربما كان يفعل … ولو أنه فعل لكان هو المَجد! … بل خيرٌ منه عندي هو الفرح؛ أن أرى تلك المعاني الحائرة والألفاظ الطائرة والأشخاص التي تضع قدمًا على الأرض وأخرى في الهواء، قد استقرَّت كلها داخل إطار، وأي إطار من الذوق والفهم! … ولكنَّ القدَرَ — على الرغم من جهادٍ وكد؛ كرست لهما حياة لم أنْعَم فيها بشيءٍ قَط غير متعة الفن وحدها — لَيَستكثِرُ عليَّ هذا الفرح الفني الآن، وربما سمَحَ به يومًا … ولكن بعد فوات الأوان!
ومرَّت الأيام، واتجهتُ إلى «قَصص القرآن» و«ألف ليلة وليلة»، وكِدتُ أنسى قصة اليونان … حتى ذكَّرني بها «برناردشو» يومَ عُرضتْ مسرحيته «بجماليون» في شريطٍ من أشرطة السينما منذ عامين!
عندئذٍ تيقظتْ في نفسي الرغبة القديمة، فعزمتُ على كتابة هذه الرواية … وقد فعلتُ، وأنا أعلم أن هذه الأسطورة قد استُخدمت في كل فروع الفن على التقريب، ولا بدَّ أنها أُفرغت في مسرحيات عدَّة فيما أعتقد، وإن كنت لا أعرف غير قصة الكاتب الأيرلندي!
إني أعالج إذن أسطورةً «مطروقة» في الآداب والفنون العالمية … ومع ذلك مَن يدري؟ … ربما لحَظَ بعض النقاد القرَّاء أن «أهل الكهف» المُقتبَسة عن القرآن، و«شهرزاد» المُستلهَمة من «ألف ليلة وليلة»، و«بجماليون» المُنتزَعة من أساطير اليونان! … ليست كلها غير ملامح مختلفة في وجهٍ واحد.