الفصل الرابع

(الغابة تزأر في ظلامِ ليلةٍ حالكة … والأشجار تترنح من الريح كالمَرْدَة الثائرة. ونرسيس في بَهْو الدار قد جلس إلى جوار الستار … وهو مُطرِقٌ كالنَّاعِس … وجَوقَة الراقصات التسع في غلائل قاتمة يتهادَينَ مقترباتٍ من النافذة.)

***

الجَوقَة (من خارج النافذة همسًا) : نرسيس!
نرسيس (يلتفت إليهن هامسًا وإصبَعه على فمه) : صه!
الجَوقَة (في همس) : ماذا به؟
نرسيس (هامسًا) : إنه نائم!
الجَوقَة (هامسةً) : أهو مريض؟
نرسيس : أصابه بردٌ خفيف!
الجَوقَة : من أثر خروجه ليلًا إلى كوخ الغدير!
نرسيس : كفى ثرثرةً أيتها النساء!
الجَوقَة : ما هذا العنف في معاملتنا يا نرسيس؟ … إنك لم تَعُد زهرةً رقيقة؛ بل صرتَ رجلًا وحشيَّ الطباع!
نرسيس : أؤغلق هذه النافذة في وجوهكن؟
الجَوقَة : هذه النافذة لم تُغلَق قَط في وجوهنا؛ لأن بجماليون يقدِّر الجمال!
نرسيس : أنا أيضًا أقدِّر الجمال … ولكني أزدري الجميلات … انصرفْن الآن!
الجَوقَة : حتى إيسمين؟
نرسيس : إنها ليست خيرًا منكن!
الجَوقَة : لا أمل فيك يُرتجى! … كنا نحسَبها قد فتحتْ عينيك لترى — على الأقل — جمال المرأة!
نرسيس : لقد رأتْ عيناي منها أكثر مما ينبغي.
الجَوقَة : وأين هي الآن؟ … أهجرتَها؟

(صوتُ سُعالٍ يرتفع من خلف الستار.)

نرسيس : أرأيتُنَّ؟ … إنكن تزعجْن نومه.
الجَوقَة (في همس) : فَلْنذهب إذن … فَلْننصرف!

(يغادرْن النافذة، وينصرفْن راقصاتٍ مع الرياح.)

بجماليون (صائحًا من خلف الستار) : نرسيس! … اسقِني!
نرسيس (يُهرع نحوه) : استيقظت يا بجماليون؟!
بجماليون (يظهر في رداء النوم وعلى مَنكِبَيه غطاء) : أخبرني أولًا … خُيِّل إليَّ أني سمعت صوت امرأةٍ هنا!
نرسيس : امرأة؟!
بجماليون : مع مَن كنتَ تتحدث إذن؟
نرسيس : هؤلاء الفتيات الثرثارات!
بجماليون (وهو يجلس على مقعده) : لا تضِقْ ذرعًا بهنَّ يا نرسيس!
نرسيس (ينظر إليه مليًّا) : ما أرفقَك اليوم بالنساء!
بجماليون (ينظر حوله في ضيق) : أُف! … لقد سئمتُ هذا المكان!
نرسيس : لا يحسُن أن تغادر فراشك بهذه السرعة والليلة باردة، والريح تهزُّ الأشجار مُنذِرةً بعاصفة! … إنك في حاجة إلى النوم الهادئ، والغطاء الدافئ لتسير نحو الشفاء!
بجماليون : لماذا تخاطبني كأني مريض؟
نرسيس : أنت كذلك منذ أيام!
بجماليون : يا لك من أحمق!
نرسيس : لم أَعُد أحمقَ … لقد أفرطتَ في الخروج ليلًا يا بجماليون!
بجماليون : ألم أحرِّم عليك التدخل في شئوني؟!
نرسيس : ثِقْ أن لا شيء يعنيني الآن من أمرك غير صحتك!
بجماليون : حدِّثني أنت عن نفسك … ما خبرُك مع إيسمين؟
نرسيس : لقد سألتَني عنها منذ أيام فأخبرتُك.
بجماليون : حقًّا … حقًّا … ومع ذلك … حدِّثني عنها أيضًا.
نرسيس : أتراها جديرةً أن نكرِّس لها كل هذه الأحاديث؟
بجماليون : إنها امرأة ذكية فطِنة … ألا ترى هذا؟
نرسيس : ليس هذا سببًا يكفي لأنْ نُسرف في تقديرها.
بجماليون : وهي تحبك أجمل الحب!
نرسيس : ليس للنساء عملٌ في الحياة غير الحب!
بجماليون : آه! … هذا مع ذلك ليس بالشيء القليل!
نرسيس : لم أَعُد أرى الأمر كما تَصِف!
بجماليون : ويحك يا نرسيس! … تلك التي بَصَّرتْك بأشياء، وجعلتْ منك إنسانًا ذا فهمٍ وإدراك … يا لنكران الجميل! … أهكذا دائمًا كلما فَتحتْ أعيننا العمياء يدٌ؛ نبدأ أولَ ما نبدأ بأن نراها أصغر مما كنا نتخيل؟!
نرسيس : لستُ أُسمِّي هذا إنكارًا للجميل! …
بجماليون : ماذا تسمِّيه إذن … كبرياء مواهبنا المتيقظة المدرِكة لذَاتها؟!
نرسيس : أتعنيني أنا بهذا يا بجماليون؟ … لماذا توجه إليَّ هذا الكلام؟!
بجماليون : قليلًا من الهدوء يا نرسيس! … قليلًا من الهدوء! … أين هي الآن إيسمين؟
نرسيس : لستُ أدري!
بجماليون : إنها حيَّة على أي حال!
نرسيس : أرجو ذلك!
بجماليون : وهي ما زالت تحمل لك بعض المودة على الأقل!
نرسيس : أظن ذلك!
بجماليون (مُطرِقًا كالمخاطِب لنفسه) : نعم! … نعم … المودة والرحمة … أشياء تعطيها الحياة … ولا يستطيع أن يعطيها الفن!

(نرسيس ينظر إليه مليًّا.)

بجماليون (يرفع رأسه نحوه) : لماذا تحملق فيَّ هكذا؟!
نرسيس : لا … لا شيء.
بجماليون : أيسوءك أن أتكلم في هذا؟
نرسيس : كلَّا … على الإطلاق … لستُ أُحرِّم عليك الكلام في شئوني!
بجماليون : شكرًا لك يا نرسيس!
نرسيس : إني أعلم أن الكلام في هذا الموضوع يعطيك كثيرًا من الراحة!
بجماليون (يرفع نظره إليه) : ماذا تعني؟!
نرسيس (في خبث) : إيسمين امرأةٌ حية على أي حال … والمرأة الحية ليست بالشيء القليل!
بجماليون (يُطرِق) : اسقِني يا نرسيس!
نرسيس : معذرةً! … لقد نسيتُ أن آتي إليك بالماء … تريد شربةً من ماء؟
بجماليون : لا أستطيع أن أسألك شرابًا آخر!
نرسيس : ولِمَ لا؟ … إذا طلبتَ شرابًا من عصير الفاكهة!
بجماليون (في عنف) : صه!
نرسيس : أتُراني تفوَّهتُ بما لا ينبغي يا بجماليون!
بجماليون (بعد تردُّد) : حدِّثني في شأنك أنت … أخبرني: أحقًّا تستطيع أن تعيش الآن حياةً ناعمةً هنيئةً بغير حنانِ إيسمين؟
نرسيس (ينظر إليه طويلًا) : هذا سؤال لم أُلقِه بعدُ على نفسي!
بجماليون : ها أنا ذا ألقيه عليك الآن.
نرسيس : ليس الوقت الآن مناسبًا للتفكير في أحدٍ غيرك أنت، ولا في شيءٍ غير صحتك وما أنت فيه!
بجماليون (يعود إلى الإطراق) : أصبت!
نرسيس (يتحرك) : إني ذاهب أحضر إليك الماء!
بجماليون : إنها لحماقة وثرثرة وهُراء!
نرسيس (يقف، ويلتفت إليه) : ماذا؟
بجماليون : هذا الذي نتحدث فيه الساعة! … لكأنك لا تجِدُ أشياء عالية المعنى خالدة القيمة تحادثني فيها الآن!
نرسيس : أنا الذي لا يجدُ … أو أنت الذي لا يريد أن يتكلم منذ أيام في غير هذا الضرب من الحديث!
بجماليون : كل ذلك من أجلك أيها الفتى الطائش!
نرسيس : من أجلي أنا؟
بجماليون : من واجبي أن أصلح ما بينك وبين إيسمين!
نرسيس : إني أراك تُحمِّل نفسك واجبات لم يكلِّفك بها أحد!
بجماليون (صائحًا) : نرسيس! … نرسيس! … إني … إني لم أَعُد أحتمل كبرياءك؟
نرسيس : ولماذا أحتمل أنا كبرياءك؟ … أنت الذي يحرِّم عليَّ التدخل في شئونه، ويبيح لنفسه التدخل في شئوني … ومع ذلك لستُ أضيق بهذا … ولا أجِدُ فيه غضاضة ولا حرجًا … لأني أفهمك، وأرثي لك.
بجماليون : ترثي لي؟!
نرسيس : أجل يا بجماليون! … ليس من العسير على طفلٍ أن يفطن إلى العاصفة التي تهزُّ أضلاعك؛ كما تهزُّ الريح هذه الأشجار، ولكنك تتحامل وتتماسك؛ كالدوحة العتيقة في مستهل الخريف!
بجماليون : آسف يا نرسيس! … إني قد قسوت عليك ولكن! … إني لست دوحةً عتيقة … كلَّا … إني! …

(تهبُّ الريح من النافذة بشدَّة.)

نرسيس : يحسُن أن نغلق هذه النافذة!
بجماليون : لا … لا تغلقها الآن! … لم يَأْنِ الأوان بعدُ.
نرسيس : أخشى عليك بَرْد الليل.
بجماليون : إني أتحمَّل دائمًا بَرْد الليل.
نرسيس : كنت أعتقد ذلك من قبل! … لكن … مع الأسف! …
بجماليون : إنك يا نرسيس لم تَعُد تصدقني!
نرسيس : ما أنت فيه الآن خير دليل!
بجماليون : ولم تَعُد تؤمن بي.
نرسيس : أنت نفسك لم تَعُد تؤمن بنفسك.
بجماليون : كفى!
نرسيس : كل شيء فيك الآن ينطق صائحًا! …
بجماليون : لا تقُل شيئًا … لا تقُل.
نرسيس : أرأيت؟ … إنك تخاف أن أفتح فمي … اطمئن … لن أفعل إشفاقًا بك وعطفًا عليك!
بجماليون : اذهب عنِّي!
نرسيس : وهل في مقدوري أن أذهب عنك؟
بجماليون : أيها المفتون! … إني أبغض الآن سماع صوتك.
نرسيس : سألزم الصمت لتتكلم أنت.

(لحظة إطراق.)

بجماليون (كالمخاطِب لنفسه) : أتكلم أنا؟!
نرسيس : نعم … دعني أسمع صيحات نفسك!
بجماليون (صوتٌ خافت) : وما النفع؟
نرسيس : أرأيت؟ … إنَّ كلماتك لن تكون غير صدى كلماتي!
بجماليون : آه أيها الشقي! … أيها الشقي! … كيف أستطيع الخلاص منك … أنت الذي أراه ماثلًا أمام وجهي دائمًا … إني إذ أنحني على الغدير الراكد في أغوار نفسي لأرى صورتي … إنما أُبصر صورتك أنت … نعم … أنت بزهوك الأجوف، وكبريائك، وحمقك، وعماك! … أنت الشطر الجميل العقيم من نفسي … أنت الخطيئة التي كُتب على كل فنان أن يحمل وزرها … الافتتان بالنفس … الافتتان بالذات!
نرسيس : ولِمَ لا؟ … أنت عبقرية خالقة … بالفن صنعتَ حُسنًا خالدًا!
بجماليون (هامسًا كالمخاطِب نفسَه) : تمثالها!
نرسيس : لا … ليس تمثالها … إني أمنعك عن الكلام هكذا … هذه المرة أنا الذي يُحرِّم عليك ذكرها على هذا النحو … ذاك حدثٌ جاء ومضى، ويجب أن تنساه … حدثٌ طارئ لا شأن لك فيه! … بل هو حلمٌ من الأحلام المضحكة الزائلة … إنَّ ما تسمِّيه «زوجتك الحيَّة» لا وجود له إلا في رأسك … أما هذا التمثال العاجي فهو الحقيقة الباقية … إنك لتفقد عقلك وفنك إذا أصررتَ على اعتبار هذا التمثال صورةً لزوجة ميتة … اخلع رداء «الأرمل» الحزين الذي ترتديه سرًّا يا بجماليون! … عُدْ إلى فنِّك! … وارجع إلى تمثالك، واحدب على عملك! … انظر إليه الآن؛ كما كنتَ تنظر إليه من قبل … انظر!

(يتجه نحو الستار.)

بجماليون (يُشيح بوجهه) : لا … لا أريد أن أرى صورتها جامدةً متحجرة!
نرسيس : صورتها؟!
بجماليون : آه … لقد اختلط الأمر في رأسي: أيهما الأصل، وأيهما الصورة؟! … قل لي يا نرسيس: أيهما الأجمل، وأيهما الأنبل؟ … الحياة أم الفن؟!
نرسيس : ألم أقُل لك إن كل شيء فيك الآن ينطق صارخًا: إنك … إنك تشكُّ في فنِّك؟ … لقد منعتني الساعة من أن أقولها … فها أنت ذا الآن الذي يتكلم!
بجماليون : أجل يا نرسيس … إني أشكُّ.
نرسيس : لقد أدركتُ ذلك منذ رأيتك تتجنَّب رؤية التمثال … لقد مَضَت أيامٌ دون أن تدنو منه، أو تدَع أحدًا يُزيح عنه الستار! … انظر … لقد تجمَّع التراب حول قاعدته … لا يجب مع ذلك أن نتركه هكذا … أين المكنسة!
بجماليون (كالمخاطِب لنفسه) : المكنسة!
نرسيس : ماذا دهاك؟ … بمَ تهمس؟
بجماليون (ينهض بشدَّة) : إني ذاهب.
نرسيس : لا … لن تغادر الليلة هذا المكان!
بجماليون : إني ذاهب.
نرسيس : الريح تعصف … لقد جرَّ عليك الخروج ليلًا ما وقعتَ فيه من مرض … لن تَخرج الليلة … سأحُول بينك وبين ذلك بكل قواي!
بجماليون : الويل لمن يحاول منعي! … سأذهب إلى الكوخ شأني في كل ليلة … لا أستطيع أن أقضي الليل مع تمثال جامد يذكِّرني بجريمتي … إنها تنتظرني هناك … شأنها في كل ليلة! … زوجتي! … زوجتي … آه … إني قاتل زوجتي!
نرسيس : أيها المسكين! … لا تقُل ذلك! … كل هذا أيضًا من صُنع خيالك!
بجماليون : اسكت أيها المجنون!
نرسيس : أنا المجنون؟! … ماذا أفعل الآن؟ … أصغِ إليَّ يا بجماليون … دعني أذهب معك … الظلام الليلة حالك، والرياح تزأر في الغابة، وأنت على ما بك من الضعف … ربما احتجتَ إلى ساعدي يُعِينك على السير!
بجماليون (صائحًا) : لا … لا يذهب معي أحد … إني أذهب إليها بمفردي.
نرسيس (يائسًا) : اذهب إذن!

(بجماليون يتدثر بدِثارٍ ثقيل، ويخرج من باب الدار.)

نرسيس (يفكر لحظة، ثم يتحرك سريعًا) : هذا المخبول سيحتاج إليَّ!

(يخرج في أَثَر بجماليون.)

(فاصلٌ موسيقي.)

(يظهر أبولون وفينوس في النافذة، ثم يقود أبولون فينوس من يدها إلى داخل الدار.)

فينوس : وبعدُ يا أبولون؟! … ألن تكفَّ عن المجيء بي هنا كل ليلة!
أبولون : لا أستطيع أن أقضي الليل دون أن أُلقي نظرة على هذا التمثال!
فينوس : لَكأني ما أعدتُه أخيرًا إلى حاله هذا إلا من أجلك أنت.
أبولون : لقد كانت خسارة كبرى لو أنه ظلَّ امرأةً حية، ولا شيء غير امرأة حية؛ كألوف الألوف من النساء!
فينوس : يا للعجب! … إن صاحبه لا يقول ذلك الآن!
أبولون : إنه مريض!
فينوس : إنه يهرب منه كل ليلة كما ترى.
أبولون (يرفع الستار، ويتأمل التمثال) : انظري كيف تخيَّل هذا؟ … كلما تأملتُه انتشيتُ عينَ النشوة! … أي حلم بشري يغمرنا بروعته نحن الآلهة!
فينوس : أما بجماليون … فإن الحلم الذي يغمره الآن هو شبح زوجته الحية!
أبولون : وا أسفاه!
فينوس : لماذا تأسف؟ … هذا ما كان يجدر أن نغتبط له … أنسيتَ تحدِّيه لنا، وتهجُّمه على مقامنا … أنسيتَ كبرياءه الوقحة في مخاطبتنا، وصيحاته المُهينة التي ألقى بها في وجوهنا؟ … أنسيتَ!
أبولون (في غير اكتراث وهو يتأمل التمثال) : نعم … نسيتُ.
فينوس : إنك تنسى دائمًا … أمَّا أنا فلا أنسى.
أبولون : هذا أيضًا في طبيعتك.
فينوس : يدهشني كيف أمحى من ذهنك — على الأقل — قوله صارخًا: يا سكان أولمب … في إمكاني أن أقيس قامتي إلى قامتكم … سلاحكم الحياة، وسلاحي الفن … خذوا عملكم الفاني المحدود، وأعطوني عملي العظيم الخالد!
أبولون (وهو ما زال يتأمل التمثال) : أهو قال ذلك؟ … لو كان قاله فقد أصاب!
فينوس : ويحك يا أبولون … ويحك! … لماذا يحلو لك دائمًا أن تخذلنا مع البشر … إن الساعة الآن ساعتنا … إنه الآن يقرُّ بأن الحياة أجمل من الفن … إنه لا يستطيع أن يبتعد عن ذلك الكوخ الذي بعثتُ إليهما فيه كيوبيد يرشق جسديهما بكل ما عنده من سهام … ويشعل قلبيهما بما يملك من ضرام … وينثر على فراشهما كل أزهاره ومتعه ولذَّاته ومسرَّاته … إنه الآن يعترف بأن الحياة أنبل من الفن … فيرى المكنسة التي كانت في يد زوجته الطيبة الرحيمة؛ أرفع معنًى من لفتة تمثاله المتعالية! … إنه الآن يكاد يخرُّ على ركبتيه كالدوحة المتداعية، وكل شيء فيه ينطق صائحًا: لقد انهزمتُ!
أبولون : ألن تكفِّي عن ذكر الهزيمة والانتصار أيتها المرأة … عفوًا … أيتها الإلهة! … لستُ أرى الأمر كما تَرَين يا فينوس! … تأمَّلي التمثال … إني الآن أدرك أن كل ما وضعنا نحن فيه قد أفسده حقًّا وأخرجه عن نطاق الفن! … هو الآن كذلك … آية فنية … لقد صدَق … إننا معشر الآلهة قد نستطيع الإتيان بكل المعجزات … إلا الفن … تلك معجزة الآدمي العبقري وحده!
فينوس (تهتزُّ غيظًا) : وبعدُ؟ … وبعدُ؟
أبولون : لا شيء … كما تَرَين … يظهر أن كلًّا منا ينحني الآن إعجابًا أمام عمل الآخر! … هذا كل ما في الأمر … لا أقل ولا أكثر!
فينوس : هكذا تحرمنا أنت ثمرة انتصارنا في اللحظة الأخيرة؟!
أبولون : بئس هذا الانتصار على الوجه الذي تفهمين … ومع ذلك لم يسقط بعدُ صريعًا … إنه جريح … والشكُّ يُدمي نفسه! … لكن … ليس لأحد أن يزعم أنها النهاية … والآن يا فينوس … هل لكِ في أن تمنحيني لحظة صمتٍ كي أتأمل التمثال في هدوء وسلام؟
فينوس : متى تَشبع من النظر إليه! … لكأنك الليلة تريد أن تملأ به رُوحك.
أبولون : أخشى أن يرتكب بجماليون … حماقة!
فينوس : أتحسُّ ذلك؟
أبولون : وأنتِ؟
فينوس : أنا أيضًا أحسُّ أن شيئًا سيقع الليلة!
أبولون : إن لبجماليون عندي منزلة كبرى … إنَّ مَن كان مثله يا فينوس ليستحق أن يُغتفر له عيبه، وزلاته، وضعفه، ووهناته …
فينوس : صه … إنه قادم!
أبولون : لم يستطع المسكين أن يبلُغ الكوخ!
فينوس : لقد عاد به صاحبه من منتصف الطريق!
أبولون : إنه يكاد يحمله حَمْلًا!
فينوس : هلُمَّ بنا! … هلُمَّ بنا!
أبولون : لا ننصرف حتى نرى … ابقَي معي خلف النافذة!

(فاصلٌ موسيقي.)

(يقودها، ويخرجان من النافذة، ويبقيان خلفها يشاهدان.)

(يُفتح باب الدار، ويدخل نرسيس وهو يسند بجماليون إلى صدره بينما صفير الريح يستمر، وحفيف الأشجار يُسمع.)

نرسيس (يُجلس بجماليون على مقعد) : فَلْتخلع عنك أولًا هذا الرداء الذي تلطَّخ بالأوحال.

(يخلع عنه الرداء الثقيل.)

بجماليون (وهو يلهث من التعب) : لماذا عُدْتَ بي؟
نرسيس : أكنتَ تريد مني أن أدَعك في الطين وقد سقطتَ إعياءً؟!
بجماليون : كان ذلك خيرًا لي!
نرسيس : أهذا كلامُ عاقلٍ يا بجماليون؟ … إنك هنا الآن في دارك على الأقل … حولك أسباب الراحة … انتظر حتى أوقد لك نارًا!
بجماليون : لا … لستُ أريد شيئًا!
نرسيس : وأخيرًا؟ … هل أقنط من حالك؟ … ثِقْ أني أوشك أن أزمع الانصراف عنك، وتركك وحدك!
بجماليون : تُحسن صنعًا لو فعلتَ!
نرسيس : إني لأكاد أُجَنُّ!
بجماليون : دعني يا نرسيس! … دعني.
نرسيس : أخشى … أن …
بجماليون : لا … لا تخشَ أن أغادر الدار الآن.
نرسيس : وإذا احتجتَ إليَّ؟
بجماليون : لا أظن أني أحتاج إليك!
نرسيس : إني ذاهبٌ إذن … (كالمخاطِب لنفسه) ولكنْ سأبقى على مقربة منك!

(يخرج من الباب المؤدِّي إلى داخل الدار.)

بجماليون (ينظر إلى التمثال) : ها أنا ذا معك أيها التمثال! … فلماذا أحسُّ أني وحيد؟ … هذه الوحشة معك لم أشعر بها قَط من قبل … لقد كنتَ أيها الأثر الفني تملأ عليَّ هذه الدار! … لقد كان فنِّي يملأ حياتي … أمَّا الآن فكل شيء في حياتي فراغ … وكل شيء في عيني هباء … ماذا أصنع؟ … كيف أصنع؟

(بجماليون يضع رأسه بين كفَّيه، ويبكي.)

فينوس (همسًا لأبولون) : إنه لشقيٌّ تَعِس!
أبولون : حقًّا.
فينوس : ألا ترى أن نفعل شيئًا من أجله؟
أبولون : عجبًا! … يظهر أن منظر رجلٍ يبكي أمرٌ يحرك قلب كل امرأة … وإلهة!
فينوس : ليس من العيب أن يكون لي قلب يتأثر!
أبولون : بغاية السرعة؟!
فينوس : ما رأيك يا أبولون لو نفخنا الحياة في تمثاله هذا مرة أخرى، وأعدنا إليه زوجته من جديد؟!
أبولون : أتدرين ما الذي يحدث لو فعلنا ذلك؟
فينوس : ماذا؟
أبولون : عين ما حدَثَ في المرة الأولى … يُقبِل على جالاتيا الحية معجبًا في بادئ الأمر … ثم لا يلبث أن يراها أقل جمالًا وكمالًا من جالاتيا العاجيَّة … فيطالبنا بردِّها كما كانت، صائحًا في وجوهنا بعين الألفاظ المُهينة … فإذا أعَدْنا إليه عمله الفني؛ هدأ لحظةً، ثم عاد يراه أقل جمالًا وكمالًا من الصورة الحية … وهكذا دَوالَيكَ … لن يَقِرَّ له قرار، ولن يطمئن له بال … فلا جمال الحياة يُشبعه، ولا جمال الفن يكفيه … ولن يفتُر عن ملاحقة الجمال والكمال في شتَّى الأوضاع والصور، ومختلف الأشكال والأحوال … لا ينطفئ له ظَمَأ إلا بانطفاء الشعاع الأخير من نفسه القلِقة الحائرة؛ من أجل ذلك يا فينوس قُلت لكِ كُفِّي عن ذِكْر الهزيمة والانتصار … إن الحرب بيننا وبينه سجال دائمًا! … ولن يكون الأمر غير ذلك أبدًا!
فينوس : إذن لا ينبغي أن نُصغي إليه، ولا أن نرثي له إذا سكب غزير الدموع … فَلْيتقلَّب على مضجع الوحدة، وليئنَّ على فراشه البارد، وليمزِّق بأسنانه الوسائد؛ فلا يدفئه جسدٌ حارٌّ لامرأةٍ بالحُب مضطرِمة! … وليعِشْ في هذا النضال الدائم إلى أن يسقط بغير قُبلةٍ رحيمة، على جبينه المتصبب بالعَرَق!
أبولون : هو ذاك يا فينوس! … لقد رأينا من بجماليون — على الأقل — ما يُقنعنا كل الإقناع أنه يحسُن بالآلهة ألَّا يتدخلوا على الإطلاق في شئون العباقرة!
فينوس : صه! … إنه ينهض وكأنَّ في رأسه فكرة!
أبولون : أخشى أن …

(بجماليون ينهض ببطء، ويتمشى بخطًى ثقيلة نحو التمثال، ويتأمله لحظة، ويهزُّ رأسه يأسًا … ثم يأتي بالمكنسة فيضعها في يد التمثال، ويتأمله لحظة … ثم ينتزعها في عنف، وينهال على رأسه تحطيمًا بالمقبض الصلب للمكنسة.)

بجماليون (صائحًا هائجًا، وهو يضرب رأس التمثال) : لا … لا … لا … لم تَعُد مثالًا لما ينبغي أن أصنع! … لم تَعُد مثالًا لما ينبغي أن يكون!

(يُفتح الباب الداخلي، ويدخل نرسيس.)

نرسيس (صائحًا) : ماذا فعلتَ أيها الشقي؟! ماذا فعلتَ أيها التَّعِس؟!

(يرتمي على «بجماليون»، ويدفعه إلى فراشه.)

بجماليون (ساقطًا على فراشه) : أدَّيتُ واجبي.
نرسيس (يعود إلى التمثال فيجمع بقايا الرأس من الأرض) : لا ريب أنك فقدت الصواب!
بجماليون : سوف أصنع خيرًا منه!
نرسيس (وهو يحاول أن يضع بقايا الرأس في مكانها من التمثال) : أنت؟ … متى؟ … أتحسَبك الآن قديرًا على شيء؟!
بجماليون (يهدر هائجًا وهو ملقًى على فراشه) : سوف أصنع خيرًا منه … في صدري أشياء سوف تخرج … أشياء عظيمة في جوفي يجب أن تخرج.
نرسيس (في غيظ) : ليس هنالك الساعة شيء سيخرج غير رُوحك!
بجماليون : ماذا تقول يا نرسيس؟
نرسيس : إنك انتهيت يا بجماليون!
بجماليون (يحاول الاستواء على فراشه) : اسكت أيها الأحمق! … لن أموت قبل أن أصنع تمثالًا هو آية الفن الحقِّ … إني حتى الآن لم أكن قد وضعتُ يدي على السرِّ … سرِّ الكمال في الخلق … لقد أضعتُ حياتي في الصراع … صراع مع الفنِّ؛ لاستلاب مفتاحه، وامتلاك الأسلوب … وصراع مع ملَكاتي وغرائزي، أو القوى الداخلية التي هي نفسي … وصراع مع المصائر والأقدار، أو القوى الخارجية التي هي الآلهة … صراع طويل صمدتُ له … ومع هذا كله (كمَن يكلِّم نفسه) أترى هذا الصراع كان ضربًا من العبث؟! … إني الآن أرى وأبصر وأعرف وأقدِّر … لكن … لكن …
نرسيس (في قلق) : لكن ماذا يا بجماليون؟

(بجماليون لا يجيب.)

فينوس (تهمس لأبولون) : هلُمَّ بنا!
أبولون : أرأيتِ الحماقة التي ارتكبها … ولكنهم هكذا دائمًا يحطمون الجمال الذي يصنعون؛ ليعيدوا بناءه من جديد.
فينوس : متى؟ … ألا تراه يلفظ النَّفَس الأخير؟
أبولون : نعم … ولكن رُوحه باقٍ … رُوح بجماليون باقٍ ما بقيَ فنٌّ على الأرض!
فينوس : هلُمَّ بنا يا أبولون!
أبولون : هَلُمِّي بنا يا فينوس!

(ينصرفان.)

بجماليون (في صوتٍ خافت) : نرسيس! … أظن أن … أنك …
نرسيس : ماذا يا بجماليون؟!
بجماليون : إنك … أنت … على حقٍّ.
نرسيس : إني كنت أمزح … إنك بخير يا بجماليون! … بجماليون أبي … صديقي.
بجماليون (في شبه حشرجة) : أحسُّ البرد!
نرسيس : أؤغلق هذه النافذة؟!
بجماليون (في حشرجة) : نعم … لقد آن الأوان!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤