متعة المعركة
جلسا على جذع شجرة ساقطة، في الركن الشمالي من الحقل. وفي السياج النباتي، القريب منهما، كانت الطيور هائجة ومضطربة. وراح طائر الدُّج يُغنِّي فوق شجرة الدردار الأبعد قليلًا. وكانت نسمات الريح الغربية الرقيقة تُداعب وجهَيهما؛ بينما ملأت أشعةُ الشمس الأجواءَ من حولهما. ومع ذلك، فقد امتدت واحدةٌ من أذرع المدينة العظيمة نحوهما … ضاحية، بما فيها من فيلَّات كثيرة، وأصوات السيارات الكهربائية، والمخلفات المتراكمة، وصفوف المتاجر المكافحة. وعلى مسافةٍ أبعد، كان الجسد نفسه — المدينة الضخمة — ينبض من وراء الدخان والسحاب. التفتَت الفتاة التي كانت تُحدِّق بثباتٍ إلى أسفل عدةَ لحظاتٍ، إلى رفيقها أخيرًا.
وقالت: «أتعلم أن هذا يجعلني أفكِّر في الليلة الأولى التي تحدَّثتَ إليَّ فيها؟ هل تتذكرها … فوق سطح نُزُل بلينهايم هاوس؟»
لم يردَّ تافرنيك لحظة. كان ينظر من خلال أداةٍ ذات شكل غريب أحضرها معه إلى ستِّ أوتاد دفعَها بشِقِّ الأنفس إلى الأرض على بُعد مسافة. كان مستغرقًا تمامًا في مهمته.
وتمتم بصوتٍ خافت لنفسه: «الطريق الرئيسي. نعم، يجب أن يكون إلى اليسار قليلًا. ثم نحصل على جميع الطرق الفرعية الموازية وتكون للمنازل الأفضل واجهةٌ جنوبية.» ثم قطعَ حديثَه فجأةً وسألها: «أستميحُكِ عذرًا يا بياتريس، هل قلتِ شيئًا؟»
ابتسمت.
«لا شيء يستحقُّ الذكر. كنت أفكِّر فقط أن المكان هنا ذكَّرني بأول مرة تحدَّثنا فيها أنت وأنا معًا.»
ألقى نظرة خاطفة على المنظر أدناه، بما فيه من خليط غريب من المباني البشعة، التي توارَت هنا وهناك خلف سحب الدخان المنتشرة، والمساحات الشاسعة من القبح المستمر الذي لا يمكن إصلاحه.
وتابعت قائلة: «الأمر مختلفٌ بالطبع. حتى إنني أتذكَّر الآن المنظر من أعلى النُّزُل في تلك الليلة. بطريقةٍ ما، كان أفضلَ من هذا؛ كان كلُّ شيء أكثر توهجًا ومع ذلك أكثر فوضوية، شعَرتُ بكل بساطة أنه تحت كل تلك الأماكن الغامضة كان هناك كائنٌ عظيم يكدح ويكافح … الحياة نفسها، تتأوَّه في الفضاء تحت وطأة العجلات المسنَّنة البشرية. هنا يرى المرء الكثير.» ثم واصلت قائلة: «أوه يا عزيزي ليونارد، عندما أفكِّر أنك أنت أيضًا ستكون أحد المُدمِّرين!»
وضعَ أداته في علبتها وأعادها إلى جيبه مرة أخرى.
وقال: «هيا، يجب ألَّا تُطلقي عليَّ هذه الألقاب الصعبة. سوف أذكِّركِ بالرجل الذي جعلتِني أقرأ أعماله. أتعرفين ما يقوله … «الجمال هو، في حقيقة الأمر، مجرد مضيعة للوقت. فالعالَم يعيش ويتقدَّم بسبب النَّفْعِيين.» هذا التل يمثل بالنسبة إليَّ معظم الأشياء التي تستحق امتلاكها في الحياة.»
ضحكت ضحكة قصيرة.
«سوف تقطع تلك الأسيجة النباتية وتطرد الطيور بعيدًا لتعثر على منزل جديد، وسوف تجرف العشب الأخضر، وتشق شارعًا وتضع أحجار الجرانيت. إنني أرى بيوتك الصغيرة القبيحة تنتشر مثل الفُطْر في كل مكان. أنت مُخرِّبٌ يا عزيزي ليونارد.»
ردَّ عليها قائلًا: «أنا ببساطة أطيع القانون. فرغم كل شيء، حتى من وجهة نظركِ، أنا لا أعتقد أن ما أفعله سيئٌ للغاية. انظري بتمعُّن عن كثب، وسوف تجدين أن الأسيجة النباتيةَ قد اسودَّت هنا وهناك بسبب السخام. أما الطيور فسوف تجد مكانًا أفضل أبعدَ قليلًا. انظري كيف يرسل الدخان المتصاعد من مداخن المصانع سخامَه عبر هذه الحقول. إنه لم يعد ريفًا؛ من الأفضل أن يتجمعوا فيه.»
ارتجفت.
وقالت بحزن: «هناك شيءٌ ما في الحياة يرعبني. كلُّ القوى التي لها أهميةٌ وقيمة تبدو مدمرة.»
في أعلى التل الشديد الانحدار من خلفهما، تصاعد صوت سيارة صغيرة. كلاهما أدار رأسه لمشاهدتها وهي تدخل في حيز الرؤية. كانت سيارة تافهة من نوع قديم للغاية، سيارة بمحركٍ أحاديِّ الأسطوانة ولها صندوق خلفي دائري. كان المحرِّك يطرق بشدةٍ عندما أوقفها السائق على بُعد يارداتٍ قليلة منهما. تصلَّب تافرنيك بشكلٍ غير إرادي عندما رأى الرجلَين اللذين هبَطا من السيارة، وكانا يمران بالفعل عبر البوابة القريبة إلى حيث كان هو وبياتريس. كان أحدهما السيد داولينج، والآخَر مدير البنك الذي به حساب الشركة. لمَّا رأى السيد داولينج مدير شركته تعرَّف عليه، بدهشة ولكن بالكثير من الود.
صاحَ قائلًا: «يا إلهي. يا إلهي، يا لحسن حظي! أنت تعرف السيد تافرنيك بالطبع يا بيلتون؟ مدير شركتي السيد تافرنيك … السيد بيلتون من بنك لندن آند ويستمينستر. لقد أحضرتُ السيد بيلتون إلى هنا يا تافرنيك لإلقاء نظرةٍ على المكان، حتى يعرف ما ننوي فعله بكل المال الذي سنقترضه، ها؟»
ابتسمَ مدير البنك.
وقال: «هذه فرصةٌ سعيدة للغاية.»
سقطَت عينا الرجلَين على بياتريس التي كانت قد تنحَّت قليلًا جانبًا.
قال السيد داولينج بلطف: «هَلا شرفتنا يا تافرنيك؟ أنت لستَ متزوجًا، أليس كذلك؟»
أجابَ تافرنيك ببطء: «لا، هذه أختي … السيد بيلتون والسيد داولينج.»
فُوجِئَ الرجلان قليلًا بالتعارف. فبياتريس على الرغم من أن ملابسها كانت بسيطة، كان مَنْ يراها يشعر دائمًا بأنها تنتمي إلى عالَم مختلف.
قال السيد داولينج مصرِّحًا: «أخوكِ، يا آنسة تافرنيك العزيزة عبقريٌّ في اكتشاف هذه المواقع الرائعة. هذا الموقع أنا أعتبره بصراحةٍ اكتشافَ حياتنا.» وتابع وهو يلتفت نحو السيد بيلتون: «لدينا الآن معلوماتٌ مؤكَّدة أن السيارات ستسير إلى أي نقطةٍ نرغب فيها في هذه المنطقة، كما أن سكك حديد العاصمة رتَّبَت أيضًا لتمديد خطوطها.» وواصلَ السيد داولينج ممسِكًا بجانبَي معطفه ومتفاخرًا: «أنوي أن أقدِّم غدًا عرضًا لشراء كل هذا الموقع. سيتطلب مبلغًا كبيرًا جدًّا من المال بالفعل، لكنني مقتنعٌ بأنها مغامرة مجزية.»
ظلَّ تافرنيك صامتًا وعابسًا. لم يكن هذا بأي حال من الأحوال الوقتَ أو المكانَ الذي كان سيختاره للتوضيح لصاحب العمل. ومع ذلك، كانت هناك علامات على أن هذا الشيء كان سيُفرض عليه.
واصل السيد داولينج: «أنا سعيدٌ جدًّا بلقائك هنا يا تافرنيك، سعيد لأسباب شخصية ولأن ذلك يُظهِر، إذا جاز لي أن أقول ذلك، الاهتمام الذي تُوليه لعمل الشركة، لدرجة أن تُخصِّص عطلتك للمجيء هنا وفحص المكان إذا جاز التعبير. ربما الآن بما أنك هنا ستتمكَّن من أن تشرح للسيد بيلتون أفضل مني ما ننوي على فعله.»
تردَّد تافرنيك للحظة. وأخيرًا، شرعَ في شرح مخطط بناء مفصَّل للغاية ومدروس بعناية، استمعَ إليه كِلا الرجلَين باهتمام كبير. ومع ذلك، عندما انتهى استدار إلى السيد داولينج، وواجهه بشكل مباشر.
واختتم قائلًا: «لعلك تتفهَّم يا سيدي، أن مخططًا مثل الذي أشرتُ إليه لا يمكن تنفيذه إلا إذا كانت الملكيةُ بأكملها في يدِ شخص واحد. يمكنني أن أقول إن المعلومات التي أشرتُ إليها قبل أيام قليلة كانت صحيحة تمامًا. جزءٌ كبير من الجانب الجنوبي من التل اشتُرِيَ بالفعل، بالإضافة إلى بعض قِطَع أراضٍ أخرى من شأنها أن تتعارض بشكل كبير مع أي مخطط بناء شامل.»
عبسَ وجه السيد داولينج في الحال؛ ونَمَّت نبرته على مزيج من الغضب والانزعاج.
قال: «مهلًا، مهلًا، هذا يبدو سيئًا للغاية يا سيد تافرنيك، هذا غايةٌ في الإهمال والتجاهل لمصالح الشركة. لماذا لم نُراقب الوضع؟ لماذا لم نمنع هذا المشتريَ الآخر، ها؟ يبدو لي أننا كنا متراخين، متراخين للغاية حقًّا.»
أخذَ تافرنيك دفترًا صغيرًا من جيبه.
وقال: «سوف تتذكَّر يا سيدي، أنني تحدَّثتُ معك عن هذا الموقع في الحادي عشر من مايو العام الماضي.»
صاحَ السيد داولينج بحِدَّة: «حسنًا، وماذا في ذلك؟»
تابعَ تافرنيك: «كنتَ تشرع في لعب الجولف مدةَ أسبوعَين في مكانٍ ما وقد وعدتَ بالنظر في الأمر عند عودتك. وتحدَّثت إليك مرة أخرى لكنك قلت إنك مشغولٌ جدًّا بحيث لا يمكنك النظر في هذه المسألة على الإطلاق في الوقت الحاضر، وإنك لا تهتمُّ بهذا الجانب من لندن، ولقد اعتبرت أن لدينا ما يكفي … في الواقع، لقد سخَّفتَ الفكرة واستهجنتَها تمامًا.»
اعترفَ السيد داولينج على مضض: «ربما لم أكن متحمسًا جدًّا في البداية. لكن في الآونة الأخيرة، رجعتُ ووافقتُ على وجهة نظرك.»
قال تافرنيك: «كانت هناك العديد من المقالات في مختلف الصحف، والكثير من الكلام، الذي كان أكثر فاعلية، على ما أظن في إقناعك، من نصيحتي. ومع ذلك، فما أودُّ أن أقوله لك يا سيدي، هو أنني عندما وجدتُ نفسي غير قادر على إثارة اهتمامك بهذا المخطط، أقبلتُ عليه بنفسي إلى حد ما.»
كرَّر السيد داولينج قوله غيرَ مصدِّق: «أقبلتَ عليه بنفسك؟ ماذا تعني يا تافرنيك؟ ماذا تعني يا سيدي؟»
أوضحَ تافرنيك: «أعني أنني استثمرتُ مدَّخراتي في شراء عدة قطع من الأراضي على هذا التل.»
سأل السيد داولينج: «لحسابك الخاص؟ مدخراتك، حقًّا!»
أجابَ تافرنيك: «بالتأكيد. ولِمَ لا؟»
«لكن هذا مشروع الشركة يا سيدي … مشروع الشركة وليس مشروعك!»
أوضحَ تافرنيك قائلًا: «الشركة أتيحت لها الفرصة ولم ترغب في الاستفادة منها. لو لم أكن قد اشتريتُ الأرض حينئذٍ، كان شخصٌ آخرُ سيشتريها بالكامل منذ مدةٍ طويلة.»
كان من الواضح أن السيد داولينج يستعِرُ غضبًا.
صاحَ: «هل تقصد أن تخبرني يا سيدي أنك تجرَّأتَ على الدخول في مشروعاتٍ خاصة بينما لا تزال موظفًا في الشركة؟ هذا شيء لم نسمع به من قبل، شيء غيرُ مبرَّر وسخيف. أنا أطالبك يا سيدي بتسليم قطع الأراضي لنا على الفور … للشركة، أنت تفهم. سوف نُعطيك الثمن الذي دفعته بالطبع، على الرغم من أنني أتوقَّع أنك دفعتَ مبلغًا أكبر بكثير مما كنا سندفع. ومع ذلك، يجب أن نعطيَك ما دفعتَه، بالإضافة إلى أربعة في المائة فائدة على أموالك.»
أجابَ تافرنيك: «أنا آسف، لكنني أخشى أنني سأطلب شروطًا أفضل من تلك.» وتابع: «في الحقيقة، لا أرغب في البيع. لقد بذلتُ قدرًا كبيرًا من التفكير والوقت في هذا الأمر، وأنا أنوي القيام به كمشروع شخصي.»
قال السيد داولينج بشراسة: «إذن، فسوف تُنفذه يا سيدي من مكان آخر غير جدران مكتبي. أتفهم ذلك يا تافرنيك؟»
أجابَ تافرنيك: «أفهمه تمامًا. تريدني أن أتركَك. هذا الطلب يفتقر إلى الحكمة تمامًا، لكنني على استعدادٍ كامل لتنفيذه.»
أصرَّ السيد داولينج قائلًا: «إما أن تعيد بيع تلك الأراضي لي بسعر التكلفة، أو لا تطأ قدمُك مكتبي مرةً أخرى. هذه خيانة سافرة للثقة. لم أسمع بمثل هذا الشيء طوال حياتي. إنه سلوك غاية في اللامهنية، سلوك مستحيل!»
لم يُظهِر تافرنيك أيَّ علاماتٍ على الغضب … وتنحى جانبًا ببساطة.
قال: «لن أبيع لك أرضي يا سيد داولينج، ويرضيني للغاية أن أترك عملك.» وتابع: «يبدو أنك تتوقع أن يقوم شخصٌ آخرُ بالعمل بأكمله نيابةً عنك بينما تجني أنت الأرباحَ كاملة. لقد مضَت تلك الأيام. عملي في هذا العالم هو أن أصنع ثروةً لنفسي وليس لك!»
صاحَ السيد داولينج: «كيف تجرؤ يا سيدي! لم أسمع قط مثلَ هذه الوقاحة في حياتي.»
تابعَ تافرنيك دون تأثر: «لم تقم بصفقةٍ في العمل منذ خمس سنوات وقد وفَّرتْ لك جهودي دخلًا جيدًا جدًّا. في المستقبل، ستوجَّه هذه الجهود نحو تقدُّمي أنا شخصيًّا.»
عادَ السيد داولينج نحو السيارة.
وقال: «أيها الشاب، يمكنك أن تتبجَّح بقدر ما تريد، لكنك مذنبٌ بخيانة الثقة. وسأحرص على أن يتم الإعلان عن هذا الأمر بدقة في جميع الجهات المسئولة. لن تحصل على أي وظيفة لدى أيِّ شركة أعرفها … يمكنني أن أعدك بذلك. إذا كان لديك أيُّ شيء آخر ستقوله لشركة داولينج، سبينس آند كمباني، فليكُن ذلك كتابيًّا.»
افترقَت الصحبة في ذلك المكان وذلك الوقت. ونزل تافرنيك وبياتريس إلى أسفل التل في صمت.
استفسرت: «هل يزعجك ذلك بأية حال؟»
أجابَ تافرنيك: «لا شيء يستحق الحديث عنه. كان هذا متوقَّعًا. لم أكن مستعدًّا تمامًا ولكن هذا لا يهم.»
سألت: «ماذا ستفعل الآن؟»
أجابَ: «أقترض ما يكفي لشراء التل بأكمله.»
نظرَت إلى الوراء.
«ألا يعني ذلك قدرًا كبيرًا من المال؟»
أومأ برأسه.
واعترفَ قائلًا: «ستكون هذه صفقةً ضخمة بالطبع. ولكن لا تُلقِي بالًا؛ فأنا أجرؤ على القول إنني سأتمكَّن من إقناع شخصٍ ما بها. على أي حال، لم أرد قط أن يصنعَ السيد داولينج ثروة جراء هذا المشروع.»
سارا معًا للأمام في صمت. ثم تحدثَت مرة أخرى في تردد قليلًا.
«أظن أن ما فعلته عادلٌ جدًّا يا ليونارد، أليس كذلك؟»
أجابها على الفور دون أي إحساس بالإهانة من سؤالها.
قال معترفًا: «في حقيقة الأمر، إنه أمرٌ غير معتاد لأي موظف لدى شركة توكيلات عقارية أن يَعقِد صفقاتٍ لحسابه الخاص في الأراضي. إلا أنني، في هذه الحالة، أعتبر أنني كان لديَّ مبررات. لقد شرَعتُ في ثلاث صفقاتِ بناء للشركة، وقد كسَبوا منها قدرًا هائلًا من المال، ولم أحصل حتى على زيادة في الراتب، ولم يُقدَّم لي أيُّ تقدير. بالطبع، الموظف مَدين لصاحب العمل. ولكن صاحب العمل أيضًا مَدين لموظفه. في حالتي أنا لم أعامل على الإطلاق بأقلِّ تقدير من أي نوع. وسوف أظلُّ على موقفي. فعلى أي حال، أنا مهتم أكثر بكسب المال من أجلي أكثر من الآخرين.»
كانا قد وصلا إلى زاوية الحقل الآن، وبدَآ في الهبوط على المنحدر الحاد. كان مساء الأحد، وتصاعدت من جميع الأديرة الصغيرة والكنائس بالأسفل أصواتُ الأجراس غير الموسيقية. ومن مسافةٍ أبعد جاءت النغماتُ الملحَّنة الرخيمة من الكاتدرائية وكنائس المدينة. إلا أن الأصوات الصاخبة الأقرب هي التي سادت. كان مزيجُ الصوت كله غيرَ متناغم. وبينما كانا يهبطان، كان بإمكانهما رؤية الحشود المرتدية المعاطف السوداء تتحرك ببطءٍ نحو أماكن العبادة المختلفة. كان ثمة شيءٌ غير ملهم حيالَ ذلك كلِّه. فارتجفَت.
قالت: «ليونارد، أتساءل لماذا أنت متشوقٌ للغاية للدخول في هذا العالم. لماذا تريد أن تكون غنيًّا؟»
كان يُلقي نظرةً خاطفة على التل خلفه، وضوء الحسابات يلمع في عينَيه. كان يقيس مرةً أخرى قِطع الأرض ويحسب الإيجار، ويخصم الفوائد.
أجاب بتسامح: «نحن جميعًا نسعى لأشياء مختلفة … بعض الشهرة، بعض المتعة. السيد داولينج، على سبيل المثال، ليس لديه طموحٌ آخر غير التفوق على منافسه في ملعب الجولف في بضع ضرباتٍ أفضل.»
سألت: «وأنت؟»
أجابَ: «إنه النجاح الذي أسعى إليه. النساء، كقاعدة عامة، لا يفقَهْن. أنتِ، على سبيل المثال، يا بياتريس، عاطفيةٌ للغاية. أما أنا فعمَليٌّ جدًّا. المال هو ما أريده. أريد المال لأن المال يعني النجاح.»
همسَت قائلة: «وبعد ذلك؟»
لم يَعُد منتبهًا إليها. كانا ينعطفان الآن إلى الطريق الواسع في أسفل الممر، وفي نهايته عربة ترام تنتظر. كتب بعض الملاحظات الأخيرة في دفتر جيبه.
صاحَ، ومُتعة القتال تظهر في صوته: «غدًا، غدًا تبدأ المعركة بشكل جِدِّي!»
تأبَّطتْ بياتريس ذراعه.
وقالت: «ليس فقط بالنسبة إليك، يا صديقي العزيز، ولكن بالنسبة إليَّ أيضًا». فسألها بسرعة: «بالنسبة إليكِ؟ ماذا تقصدين؟»
وتابعَت: «كنتُ أحاول إخبارك طوال اليوم، لكنك كنتَ منشغلًا جدًّا. ذهبتُ بعد ظهر أمسِ لرؤية السيد جرير في مسرح أطلس. وأجريتُ تجرِبةَ صوت، وغدًا مساءً سأُؤدي دوري في المسرحية الكوميدية الغنائية الجديدة.»
حدَّقَ فيها تافرنيك بشيءٍ من الذعر. أفكاره عن المسرح وكلُّ ما يخصه كانت أفكارًا بدائية. السيدة فيتزجيرالد ربما كانت أقرب ما يمكن إلى فكرته عن هذه النوعية. نظر إلى بياتريس غيرَ مصدِّق … فتاة نحيفة، ترتدي ملابسَ هادئة، ولكن مع ذلك أنيقة، تنمُّ بوضوح على تربيتها، وهو ما كان غامضًا بالنسبة إليه.
صاحَ: «أنتِ ممثِّلة!»
ضحكت بنعومة وهدوء.
وقالت: «عزيزي ليونارد، سيكون هذا جزءًا من تثقيفك. في ليلة الغد ستأتي إلى المسرح وتنتظرني عند بابه.»