الفصل السادس عشر

عرض زواج

بعد ظهر اليوم التالي، في الساعة الرابعة والنصف، كان تافرنيك يتناول الشاي مع بياتريس في الشقة الصغيرة التي كانت تتقاسمها مع فتاة أخرى، قرب كينجسواي. فتحَت الباب له بنفسها، وعلى الرغم من أنها كانت تتكلم بلا توقُّف، بدا له أنها لا تشعر بالراحة بأي حالٍ من الأحوال. أجلسَته في الكرسي الوحيد المتاح، وهو كرسي خوص صغير سخيف، صغير جدًّا بالنسبة إلى حجمه، وجلست على سجادة المدفأة على بُعد أمتارٍ قليلة.

قالت: «تمكَّنت من اكتشاف مكاني سريعًا يا ليونارد.»

أجابَ: «نعم. اضطُررتُ إلى الذَّهاب إلى حاجب المسرح من أجل الحصول على عنوانكِ.»

فقالت بصراحة: «لم يكن لديه أدنى حقٍّ في إعطائك إياه.»

هزَّ تافرنيك كتفَيه.

وقال ببساطة: «كان عليَّ أن أحصل عليه.»

ضحكَت وهي تقول: «قوة المحفظة مرةً أخرى! والآن بعد أن أصبحت هنا، أنا لا أظن أنك سعيدٌ ولو قليلًا لرؤيتي. أأنت سعيد؟»

لم يردَّ لحظة. كان يُفكِّر في تلك الجلسة في الإمبانكمنت، ورحلة المشي الطويلة إلى المنزل، والمعركة التي خاضها مع نفسه، والسعي المستمر لاجتثاث هذا الشيء الجديد من قلبه، والذي من أجله، وبسبب تناقضِه الذكوريِّ الغريب، أصرَّ على تحميلها المسئولية.

استأنفَت حديثها وهي تنهض فجأةً بادئةً في صنع الشاي: «أتعلم يا ليونارد، أعتقد أنك غاضبٌ مني. إذا كنت كذلك، فكلُّ ما يمكنني قوله لك هو أنك شخصٌ أحمقُ للغاية. كنت مضطرة إلى الابتعاد. ألا يمكنك رؤيةُ ذلك؟»

أجابَ بصلابة: «لا يمكنني.»

تنهَّدَت.

وقالت: «أنت لستَ شخصًا عاقلًا. أظن أن ذلك لأنك عشتَ حياة غريبة، ولم يكن هناك نساءٌ يعتنين بك. أنت لا تفهم. كان من السخف، بطريقةٍ ما، أن أطلقتَ على نفسي اسمَ أختك، بل وأننا حتى حاولنا القيامَ بهذه التجرِبة السخيفة. لكن بعد … بعد تلك الليلة …»

قاطعَها قائلًا: «ألا يمكننا أن ننسى ذلك؟»

رفعَت عينَيها ونظرت إليه.

ثم سألت: «هل تستطيع؟»

كان ثمة جِدِّية غريبة وربما متوسِّلة في نبرة صوتها. كان لدى عينَيها شيءٌ جديد تقولانه، وهو شيءٌ، على الرغم من أنه فشل في تحريك مشاعره، فقد جعَله يشعر بعدم الراحة على نحوٍ غامض. ومع ذلك أجابها دون تردد.

أجابَ: «نعم، يمكنني أن أنساها. سأَعِدُ أن أنساها.»

كان الأمر غيرَ قابل للتفسير، لكنه كاد يتخيَّل أنه رأى هذا الشيء الجديد يرحل عن وجهها، تاركًا إياها شاحبةً ومرتعشة. أشاحت بنظرها مرةً أخرى وشغَلتْ نفسها بعلبة الشاي، لكن الأصابع التي تُمسك بالملعقة كانت ترتعش قليلًا.

وقالت: «أوه، أعتقد أنني يمكن أن أنسى، لكن سيكون من الصعب جدًّا على أيٍّ منا أن يتصرَّف كما لو أنه لم يحدث قطُّ.» ثم واصلت، وهي تنظر إلى علبة الشاي، قائلة: «إلى جانب ذلك، كان الوضع مستحيلًا حقًّا، كما تعلم. من الأفضل لي أن أكون هنا مع آني. ويمكنك المجيء لرؤيتي بين الحين والآخر، ولا يزال بإمكاننا أن نكون صديقَيْن جيدَيْن.»

كان تافرنيك منزعجًا. لم يقل شيئًا، ولكن بياتريس عندما رفعَت نظرها إليه، ضحكت من تعبير وجهه المتجهِّم.

وقالت مُصرِّحة: «أنت بالتأكيد الأكثرُ استحالة، والأكثرُ بدائيةً من بين كل مَنْ قابلتُهم في حياتي. لندن ليست منطقةً ريفية هادئة، كما تعلم، وأنت لستَ أخي. علاوةً على ذلك، أنت كنتَ شديدَ الاستبداد. حتى إنك لم تُحبَّني أن أذهب لتناول العشاء مع السيد جرير.»

اعترفَ تافرنيك قائلًا: «أنا أكره هذا الرجل! هل ترينه كثيرًا؟»

فأجابت: «لقد أخذَنا جميعًا لتناول العشاء الليلة الماضية. رأيتُ أنه كان لطيفًا جدًّا منه أن يطلب مني الذهاب.»

قال تافرنيك: «لطيفٌ فعلًا! هل يريد الزواج منكِ؟»

وضعَت إبريق الشاي وضحكت مرة أخرى بنعومة. بَدَت وَدودةً ورقيقة وصافية في ثوبها الأسود الصريح، البسيط للغاية، المُزيَّن فقط بفيونكة بيضاء صغيرة على رقبتها، وخدَّيها الورديَّين، اللذين يبدو أنهما استردَّا لونهما في اللحظات القليلة الأخيرة، فصارت مُغريةً للغاية.

قالت: «لا يستطيع. إنه متزوج بالفعل.»

ثم خطرَت لتافرنيك فكرةٌ ملهمة، فكرة رائعة لدرجة أنه أمسكَ بجانبَي كرسيِّه وجلسَ منتصبًا. ها هو، رغم كلِّ شيء، طريق الخروج المناسب له، طريق الخروج من حديقة جنونه، طريق الهروب من ذلك النِّير الغامض الذي يشلُّ حركته ويُقيِّده ويُثقل كاهلَيه. في تلك اللحظة السريعة والحيوية رأى شيئًا من الحقيقة. لقد رأى نفسه يفقد كلَّ ما لديه من رجولةٍ وقوة، رأى نفسه أداةً ولعبة في يد هذه المرأة التي سحرَته، رأى نفسه مخلوقًا مسكينًا مغرمًا يعيش فقط في انتظار الكلمات والنظرات اللطيفة التي قد تُلقيها له وقتما تشاء. في تلك الثواني القليلة عرَف الحقيقة من الزيف. ودون تردُّد، أمسك بكل الأنانية الهائلة لجنسه غير المفكِّر بالحبل الذي ألقيَ إليه.

وقال بحزم: «حسنًا، أنا أستطيع. هل تتزوجينني يا بياتريس؟»

أرجعَت رأسها للخلف وضحكَت، ضحكةً طويلة ناعمة، ولمَّا كان تافرنيك ساذجًا ويفتقر إلى الخبرة في أساليب النساء، فقد ظنَّها مستمتعةً بالفعل.

قالت: «لا أنت ولا أي شخص آخر، يا عزيزي ليونارد!»

قال مُصرًّا: «لكنني أريدكِ أن تفعلي. وأعتقد أنكِ ستوافقين.»

كان هناك تدلُّل الآن في النظرة المحيِّرة التي نظرَت إليه بها.

وسألت: «هل أنا أيضًا أحدُ هذه الأشياء التي تطمح إلى تحقيقها في حياتك؟ عزيزي ليونارد، يجب ألَّا تقولها على هذا النحو. أنا لا أحبُّ شكل فكِّك. إنه يُخِيفُني.»

أجابَ: «لا يوجد ما يُخيف في الزواج مني. سأكون زوجًا صالحًا جدًّا لكِ. ويومًا ما ستُصبحين ثرية، ثرية جدًّا حقًّا. أنا واثقٌ تمام الثقة في أنني سأنجح، إن لم يكن على الفور، فقريبًا جدًّا. هناك الكثير من الأموال التي يمكن كسبها في العالَم إذا ثابر المرء.»

بدا أنها تحاول أن تأخذه على محمل الجد.

اعترفَت قائلة: «تبدو مقنعًا للغاية، لكنني أتمنى أن تُبعد كلَّ هذه الأفكار عن عقلك يا ليونارد. فهذه الأفكار لا تليق بك على الإطلاق. تذكر ما قلتَه لي في تلك الليلة الأولى؛ لقد أكَّدتَ لي أن المرأة لم يكن لها أدنى دور في حياتك.»

اعترفَ قائلًا: «لقد تغيَّرتُ. لم أتوقع أن يحدثَ أيُّ شيء من هذا القبيل، لكنه حدث. وسيكون من الحماقة أن أنكر ذلك.» ثم تابعَ بنبرة ناعمة مفاجئة غريبة: «لقد كنتُ أتعلم طَوال حياتي يا بياتريس، ومع ذلك، بطريقة أو بأخرى، يبدو لي أنني لم أعرف أيَّ شيء على الإطلاق حتى وقتٍ قريب. لم يكن هناك مَنْ يُوجِّهني، لم يكن هناك مَن يبيِّن لي الأشياء المهمة في الحياة. لقد علَّمتِني الكثير، لقد علَّمتِني ضآلةَ معرفتي.» وتابعَ بتجهُّم: «وهناك أشياءُ أخشاها، أشياءُ لم أبدأ حتى في فَهمِها. ألا يمكنكِ أن تري حالي؟ أنا حقًّا جاهل جدًّا. أريدُ شخصًا يفهم؛ أريدكِ يا بياتريس بشدة.»

ربتَت على ظهر يده بلطف.

وقالت: «يجب ألَّا تتحدث هكذا يا ليونارد. أنا لن أكون زوجةً صالحة لك. أنا لن أتزوج أحدًا.»

سألها: «ولماذا؟»

فهزَّت رأسها.

قالت له وهي تنظر في نار المدفأة: «هذا سِرٌّ يخصُّني.»

قال مُلِحًّا: «هل تقصدين أن تقولي إنكِ لن تتزوجي أبدًا؟»

أجابت: «أوه، أفترض أنني سأتغيَّر، مثل النساء الأخريات. كلُّ ما هنالك، أنني أشعر في الوقت الحاليِّ بذلك.»

«هل بسبب زواج أختكِ …»

أمسكت بكلتا يدَيه؛ وامتلأت عيناها فجأةً بالرعب.

وتوسَّلت إليه قائلة: «يجب ألَّا تتحدث عن إليزابيث، أرجوك، يجب ألَّا تتحدث عنها. عِدْني بأنك لن تفعل ذلك.»

أجاب: «لكني جئتُ إلى هنا للحديث عنها.»

لم تنبس بياتريس ببنتِ شفةٍ لحظةً. ثم ألقت يدَيه وضحكت مرة أخرى. وبينما كانت تُلقي برأسها إلى الوراء في مجلسها، بدا لتافرنيك أنه يرى مرةً أخرى الفتاةَ التي كانت تقف على سطح الفندق.

تساءلتْ: «جئتَ للحديث عن إليزابيث! لقد نسيت. حسنًا، واصِل حديثك، ماذا هناك؟»

«أختكِ في ورطة!»

سألت بياتريس: «هل أنت صديقها المقرَّب؟»

اعترفَ قائلًا: «أنا لست كذلك بالضبط، لكنها طلبت مني أن آتيَ لأراكِ.»

تصلَّبَت بياتريس فجأة، وأطبقَت شفتَيها تمامًا، بل بدا أن موقفها لا هوادة فيه.

ثم قالت: «قل بالضبط ما تريد أن تقوله. ولن أقاطعك.»

صرَّح تافرنيك: «هذا يبدو سخيفًا؛ لأنني لا أعرف سوى القليل جدًّا، ولكن يبدو أن هناك رجلًا يُدعَى بريتشارد، وهو محقِّق أمريكي، يُزعج أختكِ. وقد أخبرَتني أنه يشكُّ في أنها متورطةٌ بطريقةٍ ما في اختفاء زوجها. ومن الأسباب التي ساقَها أنكِ تركتِها فجأةً واختبأتِ، وأنكِ ترفضين رؤيتها أو الحديث معها. وهي تتمنَّى أن تتصالحا.»

سألت بياتريس: «أهذا كلُّ شيء؟»

أجابَ: «هذا كلُّ شيء، ما دمتِ تفهمين دلالته. إذا ذهبتِ لرؤية أختكِ، أو سمحتِ لها بأن تأتيَ لرؤيتكِ، فستَقِلُّ أسباب الشك لدى بريتشارد هذا سببًا.»

قالت بياتريس، وكأنها تُحدِّث نفسها: «إذن فقد جئتَ سفيرًا لإليزابيث. حسنًا، هذا هو ردِّي. لن أذهب إلى إليزابيث. وإذا اكتشفَت مكاني وجاءَت إلى هنا، فسأهرب مرةً أخرى وأختبئ. لن يخاطب لساني لسانها أبدًا ما حييت.»

نظر تافرنيك إليها برِيبة.

وقال: «لكنها أختُكِ!»

كرَّرَت بياتريس كلامه قائلة: «إنها أختي، ومع ذلك أنا أعني كل كلمة قُلْتُها لك.»

سادَ صمتٌ قصير. وشعر تافرنيك بتوتر غير مبرَّر. لقد نما بينهما شيءٌ لم يفهمه. ومع ذلك، سرعان ما أدرك من نبرة صوتها حسمَها لهذا الأمر.

فقال مصرِّحًا: «لقد بلَّغتُ رسالتي. وسوف أخبرُها بما تقولين. ربما كان من الأفضل أن أنصرف الآن.»

وكاد يقف على قدمَيه. وفجأةً فقدت السيطرة على نفسها.

وصرخت: «ليونارد، ليونارد، ألا ترى أنك شديد الحمق حقًّا؟ لقد أحسنتَ إليَّ. دعني أحاول أن أردَّ جميلك ولو قليلًا. إليزابيث أختي، ولكن اسمع! ما أقوله لك الآن أقوله بصدقٍ خالص. إليزابيث ليس لها قلب، ولا تفكِّر في الناس، فهي تستغلُّهم، ولا يُمثلون لها أكثرَ من الشخصيات التي تمر عبر أحلام المرء. لديها نوعٌ من الموهبة البغيضة» وواصلتْ بياتريس بصوتٍ مرتجف وعينَين وامضتَين: «موهبة جذبِ الناس إليها وجعلهم يفعلون ما تأمرهم به، وإفساد حياتهم، ثم رميهم بعيدًا عندما لا تعود لهم فائدة. ليونارد، يجب ألا تدَعها تفعل هذا معك.»

نهضَ على قدميه متوترًا. من المُحتمل جدًّا أن يكون كلُّ هذا صحيحًا، ومع ذلك، ما الفرق الذي يصنعه؟

قال: «شكرًا.»

وقفَا، لحظةً، يدًا بيدٍ. ثم سمعا صوت مفتاح في الباب.

وقالت بياتريس: «ها هي آني تعود!»

قُدِّم تافرنيك إلى الآنسة آني ليجارد، التي اعتقدَت أنه كان شخصًا غريبًا جدًّا حقًّا لأنه لم يندرج ضمن فئات الرجال الذين تعرَّفَت إليهم في حياتها، صغارًا أو كبارًا. أما من جانب تافرنيك، فاعتبر أن الآنسة آني ليجارد كانت ستبدو أفضلَ بكثير في قبعةٍ حجمها نصفُ حجم القبعة التي ترتديها، وأجملُ بكثير دون مساحيق على وجهها. من الواضح أن ملابسها كانت أغلى من ملابس بياتريس، ولكنها كانت تفتقر إلى الذوق والاهتمام.

خرجَت بياتريس إلى منبسَط السُّلم معه.

فقال وهي تمدُّ له يدها: «إذن، فأنت لن تتزوَّجيني يا بياتريس؟»

نظرَت إليه لحظةً ثم ابتعدَت وهي تبكي بصوتٍ خافت، دون كلمةِ وداع. راقبها حتى اختفت وسمع صوتَ إغلاق الباب. بدأ ينزل ببطءٍ الدرجات الحجرية. كان الباب المغلق بالأعلى والانحدار الطويل ولكن الانسيابي إلى الشارع يُنبِّئانه بمصير مشئوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤