الفصل السابع عشر

الشرفة في إيمانو

في الساعة السادسة مساءَ ذلك اليوم، اتصل تافرنيك بميلان كورت وسألَ عن إليزابيث. كان هناك تأخيرٌ لحظةً أو اثنتَين ثم سمع ردَّها. حتى عبر أسلاك الهاتف، ورغم وقوفه غير المريح في كشك الهاتف الصغير الضيق، شعر بالبداية السريعة للمتعة، وبالإثارة الناجمة عن اختبار شيءٍ مختلِف في الحياة، وهو ما كان يعتريه دومًا حين يسمع صوتها، أو حين يستشعر وجودها بأي شكل.

سألته: «حسنًا يا صديقي، هل وُفِّقت؟»

أجابَ: «إطلاقًا. لقد فعلتُ ما في وُسعي. بياتريس ترفض أن تستمع إليَّ.»

«ألن تأتي لتراني؟»

«لن تفعل.»

ظلَّت إليزابيث صامتةً لحظة. عندما تحدَّثت مرةً أخرى، كان هناك تغييرٌ في نبرتها.

«لقد فشلتَ، إذن.»

أصرَّ تافرنيك بحماس: «فعلتُ كلَّ ما يمكن القيام به. أنا متأكِّد تمامًا من أنه لا شيء يمكن أن يقوله أيُّ شخص يمكن أن يُحرِّك بياتريس. إنها مصرَّة للغاية بالفعل.»

قالت إليزابيث بعد برهة قصيرة: «لديَّ فكرة أخرى. هي لن تأتي إليَّ؛ حسنًا، يجب أن أذهب أنا إليها. يجب أن تأخذني إلى هناك.»

أجابَ تافرنيك: «لا أستطيع أن أفعل ذلك.»

«ولِمَ لا؟»

فقال مصرِّحًا: «لقد رفضَت بياتريس مطلقًا السماحَ لي بإخباركِ أو إخبار أي شخص بمكانها. لا يمكنني فعلُ ذلك دون إذنها.»

سألت: «هل تعني ذلك؟»

ردَّ بانزعاج: «بالطبع.»

سادَ صمتٌ آخر. وعندما تحدَّثَت مرة أخرى، تغيَّر صوتها للمرة الثانية. وشعر تافرنيك بقلبه يسقط بين قدمَيه وهو يستمع.

قالت: «حسنٌ جدًّا. ظننتُ أنك صديقي وأنك تتمنَّى مساعدتي.»

فأجابَ: «ظنُّكِ في مَحلِّه، ولكن أترضين أن أحنث بوعدي وأخون كلمتي؟»

قالت له: «أنت تحنث بوعدك معي.»

أصرَّ قائلًا: «الأمر مختلف.»

قالت مرة أخرى: «ألن تأخذني إلى هناك؟»

أجابَ تافرنيك: «لا أستطيع.»

«حسن جدًّا، الوداع!»

رجاها قائلًا: «لا تذهبي. ألا يمكنني رؤيتكِ في مكانٍ ما بضع دقائق هذا المساء؟»

أجابت إليزابيث ببرود: «أخشى أنني لا أستطيع.»

ألحَّ في السؤال قائلًا: «هل ستخرجين؟»

أجابت: «أنا ذاهبةٌ إلى مسرح دوق يورك مع بعض الأصدقاء. أنا آسفة. لقد خيَّبتَ أملي.»

أغلقَت الهاتف، فغادر كابينة الهاتف إلى الشارع. بدا له، وهو يسير في الطريق المزدحم، أن بعض انعكاس ازدرائه لنفسه كان واضحًا على وجوهِ الرجال والنساء الذين كانوا يُسارعون أمامه. أينما نظر، كان يُدرك ذلك تمامًا. شعر في قلبه بإحساس مرير بالخزي، إحساس رجل يستسلم عَمدًا للضعف. ومع ذلك، في تلك الليلة بذَل ما في وُسعه.

جلسَ في شقته المنعزلة مدةَ أربع ساعات وراح يعمل. ثم انتهى الصراع غير المتكافئ. والتقطَ قبعته ومعطفه وهو يُزمجِر وغادَر المنزل. بعد نصف ساعة، كان بين الحشود الصغيرة من المتسكعين والمُشاة الواقفين خارج أبواب مسرح دوق يورك.

كان لا يزال هناك بعضُ الوقت قبل انتهاء العرض المسرحي. وأثناء مرور الدقائق البطيئة، زاد كُرهه لنفسه، وكرهه لهذا الشيء الجديد الذي اعترى حياته وهدَم معاييره الاعتيادية، وأطاح به بهذه الطريقة الغريبة والبغيضة. لقد كان إحساسًا كامنًا، بلا شك، ذلك الذي أعادته إليزابيث إلى الحياة … الإحساس بالجنس، الذي ظلَّ خاملًا داخله مدةً طويلة، بسبب عقلانيته الجسدية المثالية في المقام الأول؛ وربما أيضًا، إلى حدٍّ ما، بسبب خياله الفقير. ومع ذلك، كان من الواضح أنه بمجرد أن أثيرَ هذا الإحساس، راح يشتعل بداخله دون توقفٍ وبطريقة مدهشة. كان عالم النساء كله الآن مخلوقاتٍ مختلفةً بالنسبة إليه، لكنهنَّ لم يؤثِّرنَ عليه ولم يُحرِّكن مشاعره كما كان في أيامه الماضية قبل صحوةِ المشاعر. كانت إليزابيث هي التي يُريدها فقط، ويتوق إليها بعنف، بكل هذا الشغف الذي وُلِدَ متأخرًا من اختلاط العاطفة والرغبة. لقد شعر، بينما كان واقفًا هناك على الرصيف، يُزاحم الخدمَ في أزيائهم الرسمية، والمتسكِّعين، والمارَّة، بأنه يستحقُّ الازدراء. لقد كان مثل كلب ضُرِبَ بالسوط، فعاد يتزلَّف ويستجدي سيدَه. ومع ذلك، تمنى لو كان بإمكانه إقناعُها بالحضور معه، ولو كان ذلك مدةَ ساعة فقط! ليتها تجلس أمامه فقط في ذلك المطعم الصغير الرائع، حيث كانت الأضواء والموسيقى والضحك والنبيذ، كلها رموز خارجية لهذه الحياة الجديدة التي بدت وكأن أصابعها قد أزاحت عنها الستار لتُظهرها! كان قلبه ينبض بنفاد صبر شديد. شاهد الحشد الضئيل من الأشخاص الذين غادَروا قبل انتهاء المسرحية، معظمهم من سكان الضواحي، في عجَلة من أمرهم ليلحقوا بقطاراتهم. وسرعان ما تبعهم الجمهور كلُّه، كان حاجبو المسرح مشغولين بصَفَّاراتهم، والخدم يتطلَّعون بشغفٍ يمينًا ويسارًا بحثًا عن أسيادهم. ثم ها قد أتت إليزابيث! خرجت وسط نصف دزينة من الأشخاص، متألقةً في عباءةٍ رائعةٍ وفستان أزرق فيروزي، تضحك مع أصدقائها، لتبدوَ الأكثرَ سعادةً وجاذبية بين أصحابها. تقدَّم تافرنيك سريعًا إلى الأمام، ولكن في تلك اللحظة كان هناك زحامٌ ولم يستطع التقدُّم. مرَّت على بُعد ياردةٍ منه، برفقة رجلَين، وللحظةٍ التقَت أعينُهما. رفعَت حاجبَيها، كما لو كانت متفاجئة، ولم تُبدِ أيَّ تقديرٍ يُذكَر. واستمرَّت في السير ودلفَت داخل سيارة كانت بانتظارها، برفقة الرجلين. ووقف تافرنيك وراقبها. لم تلتفت حتى لتنظرَ نحوه. تجاهلتْه تمامًا، باستثناء تلك البادرة الصغيرة من المفاجأة الباردة. فاستدار تافرنيك ببُطء، وهو لا يكاد يعرف ما يفعله، نحو شارع ستراند.

إنه يواجه الآن أزمةً بدا عاجزًا أمامها. لقد وُجِد الرجالُ في العالَم ليتم ترهيبهم أو تملُّقهم أو إبعادهم عن الطريق. فماذا يفعل الرجل مع امرأةٍ تكون لطيفةً في لحظة ووقحةً في اللحظة التالية، وترفع حاجبَيها وتتجاهله عندما يريدها وعندما يقف في انتظارها مشتاقًا إليها؟ تلك الأحلام القديمة الملموسة التي كانت تُراوده … الثروة، والسلطة، واسمه في النشرات المهمة، والمكانة العالية في العالَم … هذه الأشياء بدَت الآن مثلَ أحلام يقظةٍ لطفل. لقد مهَّدَ السبيلَ نحوها. لقد وضع بالفعل قدمَيه على درَجات السلَّم الذي يؤدي إلى النجاح المادي. ولكن كان هذا شيئًا مختلفًا، شيئًا أعظم. ثم غمره شعورٌ باليأس جَمَّد قلبَه. شعر بمدى جهله وعجزه. لم يكن قد درَس حتى أول كتاب عن الحياة. تلك الصفات التي خدَمَته من قبل، أصبحت عديمةَ القيمة هنا. المثابرة، كما أخبرته بياتريس ذات مرة، تزعج المرأة فحسب.

وقفَ ساكنًا خارج مدخل ميلان كورت، ثم انقلبَ على عَقِبَيه. لقد جلبَت له فكرةُ بياتريس شيئًا ما مهدئًا معها. شعر أنه يجب أن يراها، يراها في الحال. مشى على طول شارع ستراند ودخل المطعم حيث تناول مع بياتريس عشاءً لا يُنسى. من الردهة، كان بإمكانه رؤية ظهر جرير وهو يقف يتحدَّث إلى نادل بجانب طاولةٍ مستديرة في منتصف الغرفة. انسحبَ تافرنيك ببطءٍ وشقَّ طريقه إلى الطابق العلوي. كان هناك طاولة أو طاولتان صغيرتان في الشرفة، مَخفيَّتان عن الجزء السفلي من الغرفة. جلسَ إلى إحداهما، وسلَّم معطفه وقبعته تلقائيًّا إلى النادل الذي جاء مسرعًا.

أوضحَ الرجل بإيماءة استنكار: «لكن يا سيدي، هذه الطاولات كلها محجوزة.»

وضعَ تافرنيك، الذي كان يحتفظ بدفتر حساب يسجِّل فيه حتى مصاريف سيارته، خمسة شلنات في يد الرجل.

وقال بحزم وهو يجلس: «سآخذ هذه الطاولة.»

نظرَ إليه الرجل واستدار للتحدُّث إلى رئيس النُّدُل. تحدَّثا معًا في همسات. لم يُعِرْهما تافرنيك أيَّ انتباه. وبدا عليه الإصرار. كان يُحدِّق بثبات إلى تلك الطاولة في الأسفل، بينما هو نفسه غيرُ مرئيٍّ بالنسبة إليها. هزَّ رئيس النُّدُل كتفَيه وغادر؛ يجب تهدئةُ زبائنه الآخرين. كان أسلوبُ تافرنيك حاسمًا لا يقبل الجدل.

أكلَ تافرنيك وشربَ ما أتوا به، أكل وشرب وعانى. كان كلُّ شيء كما كان في تلك الليلة؛ فرقعة أغطية الزجاجات الفلينية، والموسيقى الهادئة، وضحك النساء، والإحساس اللطيف والمرفَّه بالدفء والبهجة يغمر المكان كلَّه.

كان كلُّ شيءٍ على حاله، لكنه جلسَ هذه المرةَ في الخارج ونظرَ إليه. كانت بياتريس جالسةً بجوار جرير، وعلى جانبها الآخر كان شابٌّ من النوع الذي يكرهه تافرنيك، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنه كان يبثُّ فيه إحساسًا دائمًا بالدونية وإن كان هذا الإحساس يُراوده من آنٍ لآخَر. كان الشاب وسيمًا وطويلًا ونحيفًا. تلائمه ملابسه المسائية تمامًا، وكانت الأزرار ودبابيس الأكمام من أحدث طراز، وكانت ربطة عنقه البيضاء كأنها مرسومة بأصابع فنان. ومع ذلك لم يكن يصلح كنموذج للخيَّاط. قرَّر تافرنيك أن هذا الرجل، بلا شك، من النبلاء، وراحَ يراقب بحقدٍ حركةَ رأسه الراقية، ويستمع أحيانًا إلى صوته الرقيق ولكن الضعيف إلى حَدٍّ ما. كانت بياتريس تضحك له كثيرًا. لقد أعجبت به بالطبع. كيف يمكنها ألا تفعل! جلسَ جرير على الجهة الأخرى منها. هو أيضًا كان يتحدَّث معها كلما سنَحَت له الفرصة. كان تافرنيك يُعاني حُمَّى جديدة، حُمى جديدة تشتعلُ في دمه. كان يَغار؛ كان يكره كلَّ الجالسين بالأسفل. وفي خياله رأى إليزابيث مع أصدقائها، على الأرجح تتناولُ العشاء في مطعم آخر أكثر تألقًا، على بُعد أمتار قليلةٍ فقط. كان يتخيَّلها مركز اهتمام الجميع. كانت دون شكٍّ تنظر إلى الشخص الجالس إلى جوارها النظرةَ نفسها التي كانت تنظر بها إليه. عضَّ تافرنيك شفتَه مقطبًا جبينه. إذا كان بمقدرته، في تلك اللحظات الحالكة، أن يُلقي صاعقةً من مكانه، لكان سيُدمر كلَّ طاولات المطعم، ولكان سيشاهد بفرحٍ الوجوهَ الشاحبة المرتعبة للمحتفلين وهم يفرُّون بعيدًا في ظلام الليل. لقد كان عذابًا جديدًا مُرًّا لا يُوصَف. في الواقع، كان فضوله هذا، الذي تحدَّث عنه مع بياتريس أثناء سيرهما معًا في شارع أكسفورد في ليلتهما الأولى، سيُرضيه الانتقام! كان يتعلَّم تلك الأشياء الأخرى في الحياة. كان قد ارتشفَ الحُلو؛ والآن عليه أن يتجرَّع المُر!

شتَّتَت المشاجرة التي نشبت بجانبه انتباهَه. مرةً أخرى كان هناك رئيس النُّدُل وزَبونٌ مُحتَج. نظرَ تافرنيك إلى الأعلى وتعرَّف على البروفيسور فرانكلين. بقبعته العريضة الحواف في يده، كان البروفيسور يتحدَّث بعباراتٍ طَلقَة ولهجةٍ أمريكية قوية تُثير إحساسًا بأنه شخصٌ سيئ الطبع لا محالة.

قال: «من الأفضل أن ترسل إلى مديرك على الفور، أيها الشاب. ليلة الثلاثاء أحضرني إلى هنا بنفسه وحجزتُ هذه الطاولة طوال الأسبوع. لا، أقول لك إنني لن آخذ غيرها! أعتقد أن طلبي كافٍ. أرسِلْ إلى لويجي الآن. ألا تعرف مَنْ أكون؟ اسمي البروفيسور فرانكلين، من نيويورك، وإذا قلت إنني أريد الحصول على شيءٍ، فأنا أتوقَّع الحصول عليه.»

لأول مرة تعرَّف على تافرنيك، وتوقَّف لحظةً في حديثه.

سأل تافرنيك بهدوء: «هل أخذتُ طاولتك يا بروفيسور؟»

ردَّ البروفيسور: «نعم يا سيدي. لم أتعرَّف عليك عندما دخلتُ وإلا كنت سأتحدَّثُ معك على نحوٍ شخصي. لديَّ أسبابٌ خاصة لِشَغل طاولة أمامية هنا كلَّ ليلة هذا الأسبوع.»

بدأت الأفكار تتزاحم في عقل تافرنيك. كان مترددًا.

واقترح: «لماذا لا تجلس معي؟»

استسلم البروفيسور دون أن ينبس ببنتِ شفة. أخذَ رئيس النُّدُل قبعته ومعطفه وتلقَّى طلبه، وهو يتنهَّد تنهيدة ارتياح. مالَ تافرنيك عبر الطاولة.

وقال: «بروفيسور، لماذا تصرُّ على الجلوس هنا؟»

حرَّك البروفيسور رأسَه ببطءٍ إلى أسفل.

«صديقي الشاب، أأُفشي لك سرًّا؟»

قال تافرنيك: «بكل تأكيد.»

تابعَ البروفيسور: «أحضرُ إلى هنا سرًّا، لأنها فرصتي الوحيدة لرؤية قريبةٍ عزيزة جدًّا عليَّ. أنا مضطرٌّ إلى الابتعاد عنها في الوقت الحالي، لكن من هنا يمكنني رؤية أنها بخير.»

قال تافرنيك بهدوء: «تقصد ابنتك بياتريس.»

اعترَت البروفيسور رعشة.

وتمتم: «أنت تعرف!»

ردَّ تافرنيك: «نعم، أعرف. لقد تمكنتُ من أن أقدِّم لابنتك بياتريس مساعدةً طفيفة.»

أمسكَ البروفيسور بيده.

وقال: «نعم، نعم، إليزابيث غاضبةٌ جدًّا منك لأنك لم تكن لتُخبرها أين تجد الفتاة الصغيرة. أنت على حق يا سيد تافرنيك. يجب ألَّا تخبرها أبدًا.»

قال تافرنيك مصرِّحًا: «لا أنوي أن أفعل.»

تابعَ البروفيسور بحماس: «حسنًا، هذه أمسيةٌ رائعة بالنسبة إليَّ! أنا نفسي اكتشفتُ بالمصادفة. كنت على المشرب ورأيتُها تدخل مع آخرين.»

سأله تافرنيك: «لماذا لا تذهب وتتحدَّث معها؟»

ارتعدَ البروفيسور.

وأوضحَ: «كان هناك خلاف. وتشاجرَت بياتريس وإليزابيث. وبياتريس كانت على حق.»

سأل تافرنيك بصراحة: «إذن لماذا لا تذهب إليها بدلًا من البقاء مع إليزابيث؟»

انهارَ البروفيسور وقتيًّا. وشرب كثيرًا من الويسكي والصودا، وأجابه بحزن.

قال: «صديقي الشاب، عندما تركَتنا بياتريس، كانت مُفلسة. لاحِظ أن إليزابيث هي صاحبةُ العقل. وإليزابيث هي التي تمتلك المال. ولديها إرادة قوية أيضًا. إنها تُبقِيني بجوارها سواءٌ أردتُ ذلك أم لا، إنها تُجبرني على فعل أشياء كثيرة … أشياء كثيرة حقًّا … أكرهُها. لكن إليزابيث تعرف طريقها. إذا كنتُ قد ذهبتُ مع بياتريس، وإذا كنتُ سأذهب إليها الآن، فسوف أكون عبئًا عليها.»

علَّقَ تافرنيك: «ليس لديك مال، إذن؟»

هزَّ البروفيسور رأسه حزينًا.

وأجابَ: «المضاربة يا صديقي الشاب، المضاربة بهدف تكوين ثروةٍ لأولادي. كان عندي المال وخسرتُه.»

سأل تافرنيك: «ألا يمكنك كسبُ أي شيء؟ بياتريس لا تبدو مسرفة.»

نظر البروفيسور إلى هذا الشاب الصريح بكرامةٍ مجروحة.

وقال: «سامحني. أعتقد أننا سنختار موضوعًا آخر للمحادثة.»

صرَّح تافرنيك: «على أي حال، لا بد أنك تعشق ابنتك وإلا فلن تأتيَ إلى هنا ليلةً بعد ليلة لمجرد النظر إليها.»

سحب البروفيسور منديلًا من جيبه ومسحَ عينَيه.

وقال بصدق: «كانت بياتريس دائمًا المُفضَّلة لديَّ، لكن إليزابيث …» وأضافَ وهو يميل عبر الطاولة: «حسنًا، لا يمكنك الابتعاد عن إليزابيث. لأصدُقك القول يا سيد تافرنيك، إليزابيث تُخِيفُني أحيانًا، إنها جريئة جدًّا. أخشى مكائدَها التي لا أعرف إلى أين ستوصلنا. . سأكون أكثر سعادةً مع بياتريس لو كانت لديها المواردُ الكافية للوفاء بمتطلباتي البسيطة.»

التفَت إلى النادل وطلب زجاجة من الشمبانيا.

قال آمِرًا الرجل: «زجاجة فوف كليكو ٩٩.» ثم علَّق بحسرة: «في عمري، على المرء أن يكون حذرًا بشأن هذه الأمور الصغيرة. فالعلامة التجارية الخاطئة للشمبانيا تعني ليلةً بلا نوم.»

نظر إليه تافرنيك بحيرة. كان البروفيسور لغزًا بالنسبة إليه. لم يكن يدخل ضمنَ أي فئةٍ في دائرة خبرته. مع وصول الشمبانيا أصبح البروفيسور أكثرَ طلاقة. ومالَ إلى الأمام، يختلس النظر للأسفل إلى المائدة المستديرة.

قال: «لو كان بإمكاني أن أخبرك عن والدةِ تلك الفتاة يا سيد تافرنيك، لو كان بإمكاني أن أخبرك عن تاريخها وتاريخنا، لكان سيبدو لك غريبًا جدًّا لدرجة أنك ربما تعتبرني حالمًا. لا، علينا أن نحمل أسرارنا بداخلنا.»

سألَ تافرنيك: «بالمناسبة، ما تخصُّصك يا بروفيسور؟»

كان الرد الفوري: «العلوم الباطنية يا سيدي. كان علم فِراسة الدماغ هو عشقي الأول. منذ ذلك الحين وأنا أدرس في الشرق؛ لقد أمضيتُ سنواتٍ عديدة في دير في الصين. وقد أرضيتُ بكل طريقةٍ شغَفي الفطريَّ بالتنجيم. أنا أمثِّل اليوم هؤلاء الأشخاص ذوي الفكر المتقدِّم الذين انتقلوا، حتى بأرواحهم، لأي مسافة، حتى ولو كانت صغيرةً، عبر الخط الذي يفصل بين المرئيِّ وغير المرئي، وبين المعروف واللانهائي.»

ارتشف رشفةً طويلةً من الشمبانيا. وحدَّق فيه تافرنيك بدهشةٍ خالصة.

وقال: «لا أعرف الكثيرَ عن العلم. في الآونة الأخيرة فقط بدأتُ أدرك كم أنا جاهل حقًّا. لقد ساعدَت ابنتُك في تعليمي.»

تنهَّد البروفيسور تنهيدةً عميقة.

وقال: «إنها شابةٌ ذات إنجازات، يا سيدي، وذات شخصية أيضًا. انظر إلى الطريقة التي تحرِّك بها رأسها. كانت تلك طريقة والدتها.»

سألَ تافرنيك: «ألا تنوي التحدث معها على الإطلاق، إذن؟»

أجابَ البروفيسور: «لا أجرؤ. أنا بطبيعتي صريح، وإذا سألتْني إليزابيث إذا كنتُ قد تحدَّثتُ مع أختها، فسوف أفضح نفسي على الفور. لا، يكفيني أن أنظر إليها فحسب.»

دقَّ تافرنيك بأصابعه على مفرش المائدة. ملأه شيءٌ ما في بهجةِ تلك المجموعة الصغيرة في الطابق السفلي بشعور مرير للغاية.

قال: «يجب أن تذهب إليها يا بروفيسور. انظر إليهم الآن. هل هذه أفضل حياةٍ لفتاة؟ هؤلاء الرجال غرباءُ عنها تقريبًا، والفتيات غيرُ مناسبات لها لتتواصل معهن. ليس لديها أصدقاء ولا أقارب. يمكن لابنتك إليزابيث الاستغناءُ عنك ببساطة. إنها قوية بما يكفي لتعتنيَ بنفسها.»

اعترضَ البروفيسور قائلًا: «لكن سيدي العزيز، بياتريس لن تستطيع إعالتي.»

دفعَ تافرنيك فاتورته دون كلمةٍ أخرى. خُفِّضَت الأضواء في الطابق السفلي، وكانت المجموعة على المائدة المستديرة قد نهضَت بالفعل.

قال: «عِمتَ مساءً يا بروفيسور! سأرى بياتريس للمرة الأخيرة من أعلى الدرَج.»

تبعه البروفيسور … ووقفَا هناك وراقباها وهي تغادر مع آني ليجارد. ركبت الفتاتان سيارةَ أجرة معًا، وتنفَّس تافرنيك الصُّعَداء في راحة، وهو شعورٌ لم يكن قادرًا على تفسيره على الإطلاق، عندما رأى أن جرير لم يبذل أيَّ جهدٍ لتتبُّعِهما. وبمجرد أن انطلقت سيارة الأجرة، نزلا ومرَّا إلى الشارع. ثم غيَّر البروفيسور فجأة نبرته.

وقال: «سيد تافرنيك، أعرفُ رأيك في: أنا رجلٌ عجوز ضعيف يشرب كثيرًا ولم يُولَد نزيهًا تمامًا. ولا أستطيع الإقلاعَ عن أي شيء. سأكون أسعد، أسعدَ حقًّا، بكِسْرة الخبز مع بياتريس، لكنني لا أجرؤ، ببساطةٍ لا أجرؤ على هذه التجرِبة. أنا أُفضِّلُ حياة الرفاهية مع إليزابيث، وأنت تحتقرني من أجل ذلك. وأنا لا ألومك، يا سيد تافرنيك، ولكن أنصِت إليَّ.»

قاطعه تافرنيك قائلًا: «حسنًا؟»

قبضَ البروفيسور بأصابعه على ذراعه.

«لقد عرَفتَ بياتريس وقتًا أطول … أنت لا تعرف إليزابيث جيدًا، ولكن اسمح لي أن أقول لك شيئًا. إليزابيث شخصٌ رائعٌ للغاية. أنا أعرف شيئًا عن الشخصيات، أعرف شيئًا عن تلك القُوى الخفية التي يمتلكها الرجال والنساء … قُوًى غريبةٌ لا يمكن لأحد أن يفهمها، قُوًى تجرُّ الرجل تحت قدمَي امرأة، أو تجعله يرتجف عندما يمرُّ بأخرى حتى وسط حشدٍ من الناس. كما ترى، هذه الأمور هي علمٌ أنا خبيرٌ فيه، يا سيد تافرنيك، لكني لا أدَّعي فهم كل شيء. كلُّ ما أعرفه هو أن إليزابيث واحدةٌ من هؤلاء الأشخاص الذين يمكنهم فعل ما تحب مع الرجال. أنا والدها وأنا عبدها. أقول لنفسي إنني أُفضِّلُ أن أكون مع بياتريس، وأنا عاجزٌ عن الذهاب إليها كما لو كنت مقيَّدًا بالسلاسل. أنت شابٌّ جاهل، يا سيد تافرنيك، أنت لا تعرف شيئًا عن الحياة، وسأعطيك تحذيرًا. الأفضل لك أن تبتعد عن هناك.»

ورفعَ يدَه وأشار عبر الشارع باتجاه ميلان كورت؛ وأمسكَ بذراع تافرنيك مرة أخرى باليد الأخرى.

وتابعَ البروفيسور: «لماذا يجب أن تتكبَّد عناءَ التحدُّث معك لحظةً، أنا لا أعرف، ولكنها تفعل. لقد أسعدَها التحدُّث معك … لماذا أنا لا أستطيع الفهم … فقط إذا كنتُ مكانك، كنت سأبتعد بينما لا يزال هناك متَّسَع من الوقت. إنها ابنتي ولكن ليس لديها قلبٌ ولا شفقة. رأيتُها تبتسم لك. أنا أشفق دائمًا على الرجل الذي تبتسمُ له هكذا. عِمتَ مساءً يا سيد تافرنيك!»

عبَر البروفيسور الشارع. وراقبه تافرنيك حتى غابَ عن الأنظار. ثم شعر بذراعٍ تتأبط ذراعه.

وصاحَ صوتٌ مألوف: «عجبًا، هذا ما أسميه حظًّا! سيد تافرنيك، أنت الرجل عينُه الذي كنت أبحثُ عنه!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤