عشاءٌ ثنائي
لحقَ بها تافرنيك في شارع نيو أكسفورد وسار على خطوتها على الفور. لم يُضِع أيَّ وقت على الإطلاق في التمهيد والمقدمات.
قال: «سأكون سعيدًا إذا أخبرتِني باسمكِ.»
كانت نظرتها الأولى إليه شرسةً بما يكفي لإثارة الرعب في نفس أي شخص آخر. أما بالنسبة إلى تافرنيك، فلم يكن لها أيُّ تأثير على الإطلاق.
تابع قائلًا: «لستِ مضطرةً إلا إذا كنتِ تحبين أن تخبريني بالطبع. لكنني أتمنَّى أن أتحدَّث إليكِ بضعَ لحظاتٍ وأعتقد أنه سيكون من الأنسب إذا خاطبتُكِ باسمكِ. لا أتذكَّر أنني سمعتُه يُذكَر في بلينهايم هاوس، والسيدة لورانس، كما تعلمين، لا تقدِّم نزلاءَها.»
بحلول هذا الوقت كانا قد قطعا عشرين خطوة أو نحوها معًا. لم تُعِره الفتاة، بعد نظرتها الأولى الغاضبة له، أيَّ انتباه على الإطلاق اللهم إلا تسريع خطوتها قليلًا. ومع ذلك، ظلَّ تافرنيك بجانبها، لا يُظهر أدنى شعور بالحرج أو الانزعاج. بدا أنه راضٍ تمامًا عن الانتظار ولم تبدُ عليه أدنى أماراتِ رجلٍ يمكن إبعاده بسهولة. أما هي، فتحوَّلت فجأة ودون سابق إنذار من نوبة غضب عارمة إلى حالةِ تَفَكُّه شبهِ هستيرية.
قالت: «أنت شخصٌ أحمق سخيف. ابتعد من فضلك. لا أريدك أن تمشي معي.»
ظلَّ تافرنيك جامدًا. وتذكَّرَت فجأة تدخُّله نيابةً عنها.
وقالت: «إذا كنتَ مُصرًّا على المعرفة، كان اسمي في بلينهايم هاوس بياتريس بيرناي. أنا ممتنةٌ لك كثيرًا لما فعلتَه من أجلي هناك، لكنه أمرٌ وانتهى. لا أرغب في الحديث معك، وأعترض على رفقتك تمامًا. من فضلك اتركني حالًا.»
أجابَ: «أنا آسف، لكن هذا غير ممكن.»
كرَّرَت بتساؤل: «غير ممكن؟»
هزَّ رأسه.
قال بتأنٍّ: «ليس لديكِ أيُّ مال، ولم تتناولي العشاء، وأظنكِ ليس لديكِ أدنى فكرة عن وجهتك.»
امتقَع وجهُها مرة أخرى من الغضب.
أصرَّت قائلة: «حتى لو كانت هذه هي الحقيقة، فقل لي ما الذي يُهمك في الأمر؟ إن تذكيرك لي بهذه الحقائق ما هو إلا محض وقاحة.»
قال، وما زالت لم تظهر عليه أدنى علامات الانزعاج: «أنا آسف لأنكِ تنظرين إلى الأمر من هذا المنظور. إذا كنتِ لا تمانعين، فسوف نؤجِّل المناقشة في الوقت الحالي. هل تفضِّلين مطعمًا صغيرًا أم ركنًا في مطعم كبير؟ هناك موسيقى في مطعم فراسكاتي لكن ليس هناك كثير من الناس في المطاعم الأصغر.»
استدارت نصف استدارة على الرصيف ونظرَت إليه بثبات. بدأت شخصيته في النهاية تثير اهتمامها. فكُّه المربع وحديثُه المحسوب كانا مؤشِّرَين لشخصيةٍ أقلُّ ما يُقال عنها أنها غير عادية. اكتشفت بعض الصفات التي لا تُقهَر تحت مظهره الخارجي غير المميَّز على الإطلاق.
سألته: «هل أنت مثابرٌ هكذا على كل شيءٍ في الحياة؟»
أجابَ: «ولِمَ لا؟ أحاول دائمًا أن أكون متسقًا.»
«ما اسمُك؟»
أجابَ على الفور: «ليونارد تافرنيك.»
«هل أنت ميسور الحال … أعني ميسور الحال إلى حدٍّ ما؟»
«لديَّ دخلٌ كافٍ للغاية.»
«هل لديك مَن تعول؟»
قال: «لا أحدَ على الإطلاق. أنا سيدُ نفسي بكل ما في الكلمة من معنًى.»
ضحكَت بطريقة غريبة.
وقالت: «إذن عليك أن تدفع ثمن إصرارك … أعني أنني ربما أسلبُ منك جنيهًا مثل أصحاب المطعم.»
أصرَّ قائلًا: «يجب أن تُخبريني الآن إلى أين تريدين أن تذهبي. لقد تأخر الوقت.»
أجابت: «أنا لا أحبُّ هذه الأماكن الغريبة. أفضِّل أن أذهب إلى غرفة الشواء في مطعم جيد.»
فأخبرها: «سنستقلُّ سيارة أجرة. ليس لديكِ اعتراض، أليس كذلك؟»
هزَّت كتفَيها.
وقالت: «إذا كان لديك المال ولا تُمانع في إنفاقه، فأنا أعترف بأنني قد اكتفيتُ من المشي. إلى جانب أن مقدمة حذائي مهترئة وأجدُها مؤلمة. بالأمس مشيتُ عشَرة أميال محاوِلةً العثور على رجل كان يجهِّز لإقامة حفل موسيقيٍّ من أجل الضواحي.»
سألها وهو يلوِّح لسيارة أجرة: «وهل وجدتِه؟»
أجابت بلا مبالاة: «نعم، لقد وجدتُه. حدث معي السيناريو المعتاد نفسه. سمعَني أغني وحاول تقبيلي ووعدني بأن يتصل بي. لا أحدَ يرفض أيَّ شيء في مهنتي، كما ترى. إنهم يعِدُون بأن يتصلوا بك لإعلامك.»
«هل أنتِ مغنيةٌ أم ممثلة؟»
قالت له: «لا هذا ولا ذاك. قلتُ «مهنتي» لأنها المهنة الوحيدة التي حاولتُ الانتماء إليها. لم أنجح قطُّ في الحصول على وظيفة في هذا البلد. ولا أفترضُ حتى لو كنتُ ثابرتُ أنني كنت سأحصل على واحدة.»
قال: «إذن، فقد تخلَّيتِ عن الفكرة.»
اعترفَت باقتضاب: «لقد تخلَّيتُ عنها. أرجو منك ألَّا تظن لأنني سمحتُ لك أن تكون رفيقي مدةً قصيرة أن بإمكانك أن تطرح عليَّ أسئلة. يا لسرعة سيارات الأجرة هذه!»
توجَّها إلى وِجهتهما … مطعم مشهور في شارع ريجنت. دفع لسائق الأجرة ونزلا درجًا إلى غرفة الشواء.
قال: «آملُ أن يناسبكِ هذا المكان. ليس لديَّ خبرة كبيرة في المطاعم.»
نظرَت حولها وأومأت.
أجابت: «نعم، أعتقد أن ذلك سيفي بالغرض.»
كانت ترتدي ملابسَ رثَّة للغاية، وعلى الرغم من أن مظهره كان غيرَ عادي على الإطلاق، فهو بالتأكيد لم يكن من النوع الذي يوحي بالاحترام الفوري حتى في غرفة شواء في مطعم أنيق. ومع ذلك، فقد تلقَّوا خدمة سريعة وشبه رسمية. وشعر تافرنيك، بينما كان يشاهد سَمْتَ رفيقته وطريقة جلوسها وأسلوبها في التعامل مع رئيس النُّدل، بالدافع المجهول نفسه الذي جعله يُلاحقها من بلينهايم هاوس والذي لم يكن بوُسعه إلا أن يسميه فضولًا، لكنه فضولٌ قوي. كان شخصًا شديد الواقعية، وكان أيضًا بالفطرة وبحكم العادة قويَّ الملاحظة. لم يشكَّ لحظةً في أنها تنتمي إلى طبقة اجتماعية لم ينتمِ إليها نزلاءُ الفندق الذي عاشا فيه إلا نادرًا، طبقة هو نفسه لم يعرف عنها إلا القليل. لم يكن هذا الشاب متعجرفًا بأي حال من الأحوال، لكنه وجد هذه الحقيقة مثيرة للاهتمام. كانت الحياة بالنسبة إليه تشبه إلى حدٍّ كبير دفتر الأستاذ العام … عبارة عن ديون وائتمانات، ولم يفشل قط في تضمين تلك الهبة المتعلقة بالتربية في الائتمانات، تلك الهبة التي حُرِمَ منها هو نفسه، واستبدلها بتلقائيةٍ تامة ونادرة للغاية.
قالت وهي تضع قائمة الطعام: «أودُّ أن أتناول سمكًا مقليًّا، وبعض شرائح اللحم، وآيس كريم، وقهوة سوداء.»
انحنى النادل.
«وبالنسبة إلى السيد؟»
نظر تافرنيك إلى ساعته؛ كانت تشير إلى تمام العاشرة بالفعل.
أجاب: «سوف آخذ الطبقَ نفسه.»
«والمشروبات؟»
بدَت غيرَ مبالية.
وأجابت بلا اهتمام: «أي نبيذ خفيف، أبيض أو أحمر.»
تناول تافرنيك قائمةَ النبيذ وطلب نبيذًا فرنسيًّا فاخرًا. ثم تُرِكا وحدهما في ركنهما بضعَ دقائق، فكانا تقريبًا الشاغلَين الوحيدَين للمكان.
نظرت إليه نظرةً فاحصة وسألت: «هل أنت متأكد من أنك تستطيع تحمُّل ثمنِ هذا؟ قد يكلِّفك جنيهًا أو ثلاثين شلنًا.»
أعادَ النظر في الأسعار بالقائمة.
ثم طمْأنَها قائلًا: «أستطيع أن أتحمله تمامًا ولديَّ الكثير من المال معي، ولكنني لا أعتقد أنه سيكلِّف أكثرَ من ثمانية عشر شلنًا. بينما ننتظر السمك، هلا نتحدث؟ أستطيع أن أقول لكِ، إذا اخترتِ أن تسمعي، لماذا تبعتُكِ من النُّزُل.»
قالت له: «لا أمانع في الاستماع إليك، وإلا فسأتحدث معك عن أي شيء تحبه. هناك موضوع واحد فقط لا أستطيع مناقشته؛ هذا الموضوع هو نفسي وتصرفاتي الشخصية.»
سكت تافرنيك لحظة.
ثم قال: «هذا يجعل المحادثة صعبة بعض الشيء.» فمالت هي إلى الوراء في كرسيها.
وقالت له: «بعد هذه الأمسية، سوف أخرج من حياتك بشكل تام ونهائي كما لو أني لم أكن فيها بالمرة. لديَّ رغبةٌ في أن أصطحبَ معي أسراري البائسة. إذا كنت تريد الحديث، فلتُخبرني عن نفسك. لقد خرجتَ عن طريقك لتُحسِن إليَّ. أتساءلُ لِمَ فعلتَ هذا. لا يبدو هذا الدور مناسبًا لك.»
ابتسم ابتسامة خفيفة. كان وجهه مرسومًا على شكل خطوط عريضة وخفَّف استرخاءُ شفتَيه من حِدَّته على نحوٍ رائع. كان لديه أسنان جيدة، وعيون رمادية صافية، وشعر أسود خشن تركه طويلًا بعض الشيء؛ وكان جبينه عريضًا جدًّا بحيث يصعب أن يمنحه مظهرًا وسيمًا.
اعترف: «لا، لا أعتقد أن الإحسان من سِماتي المميزة.»
ركَّزت عيناها الداكنتان عليه بالكامل؛ وبدَت شفتاها الحمراوان أكثرَ احمرارًا من أي وقتٍ مضى في ظل شحوب خدَّيها وشعرها البُني الغامق الملفوف قليلًا. كان هناك شيءٌ يكاد يكون وقحًا في نبرتها.
وتابعت: «آمل أنك تفهم أنه ليس هناك ما يمكن أن ترجوَه مني في مقابل هذا المبلغ الذي تقترح إنفاقه من أجل ضيافتي؟»
أجاب: «أنا أفهم ذلك.»
وأصرَّت قائلة: «ولا حتى الامتنان. أنا حقًّا لا أشعر بالامتنان نحوك. أنت في الغالب تفعل هذا لإرضاء بعض المصالح الأنانية أو حب الاستطلاع. أحذرك من أنني غيرُ قادرة تمامًا على إظهار أي شيء من مشاعر الحياة اللائقة.»
أكَّد لها: «امتنانُكِ لن يكون ذا قيمة بالنسبة إليَّ مهما كان.»
كانت لا تزال غير راضية تمامًا. تبلُّدُ مشاعره الكامل أحبط كلَّ المجهودات التي بذلَتها لاختراق ما تحت السطح.
استطردت: «إذا كنتُ أومن أنك أحد هؤلاء الرجال … فالعالم مليءٌ بهم، كما تعلم … أولئك الذين يساعدون المرأة المقبولة المظهر ما دامت مساعدتها لا تتعارض بشكل خطير مع راحتهم …»
قاطعها: «جنسكِ لا علاقة له بالأمر. أما بالنسبة إلى مظهركِ، فأنا حتى لم أفكر فيه. لا أستطيع أن أخبركِ بما إذا كنت جميلة أو قبيحة … لا أستطيع الحكم في هذه الأمور. ما فعلتُه، فعلتُه لأنه أسعدني أن أفعله.»
سألته: «هل تفعل دائمًا ما يسعدك؟»
«غالبًا.»
نظرَت إليه باهتمام مرةً أخرى، باهتمام من الواضح أنه غير شخصي، ومتعجرف إلى حدٍّ ما.
قالت: «أفترض أنك تعتبر نفسك من سكان العالم الأقوياء؟»
أجاب: «لا أعلم. فأنا لا أفكر كثيرًا في نفسي.»
أوضحَت: «أعني أنك واحدٌ من هؤلاء الأشخاص الذين يكافحون بجدية من أجل الحصول على ما يريدون في الحياة.»
انقبض فكُّه فجأة ورأته يشبه نابليون.
أكَّد قائلًا: «ما أفعله أكثر من الكفاح، أنا أنجح. إذا اتخذت قراري بأن أفعل شيئًا، فإنني أفعله. وهذا يعني العمل الجادَّ في بعض الأحيان، ولكن هذا كلُّ ما في الأمر.»
لأول مرة، بدا في عينيها اهتمامٌ طبيعي حقًّا. واختفى الازدراء العابس الذي قابلَت به محاولاتِه للتقرب منها. أصبحت في تلك اللحظة إنسانًا، نسيَ نفسه، وتجلَّى فجأةً ما كانت تتمتَّع به من سحرٍ فطري؛ فقد كان لديها جاذبية تسترعي الفضول، لكنها مؤثرة للغاية. كانت مجرد فرصةٍ لحظية وقد أُهدرَت تمامًا. لم يكن أحدٌ من النُّدُل ينظر في ذلك الاتجاه، ولكن تافرنيك كان مستغرقًا في التفكير في نفسِه.
قالت بتأمُّل: «إنه لأمرٌ جيد أن تقول … هذا.»
فقال: «إنه أمرٌ جيد لكنه عادي. كل رجل يأخذ الحياة على محمل الجد يجب أن يقول ذلك.»
ثم ضحكت … ضحكت بالفعل … ورأى أسنانها البيضاء تومض، من فمٍ ذي منحنيات لطيفة، وعينَين قاتمتَين تُنيرهما البهجة، لم تعد كامدة، وصارت مثيرة وملهمة. انطباع غامض كأنه انطباع عن شيء مبهج استثاره. كان شيئًا نادرًا بالنسبة إليه أن يُثار بهذا الشكل، ولكن حتى في هذه اللحظة، لم يكن هذا كافيًا لتشتيت تركيزه وأفكاره.
سألتْه: «قل لي، ما عملك؟ ما هي مهنتك أو شغلك؟»
أجاب ببساطة: «أعمل مع شركة مزادات ووكلاء عقارات، اسمها ميسرز داولينج، سبينس آند كمباني. مقرُّنا في ووترلو بليس.»
«هل تجد عملك ممتعًا؟»
أجاب: «بالطبع. ممتع؟ ولِمَ لا؟ أنا أعمل فيه.»
«هل أنت شريك؟»
أقرَّ قائلًا: «لا. منذ ستِّ سنوات كنتُ نجارًا؛ ثم أصبحتُ ساعيًا في مكتب السيد داولينج كان عليَّ أن أتعلم التجارة، كما ترين. اليوم أُعَدُّ مديرًا. وفي غضون ثمانية عشر شهرًا … وربما قبل ذلك إذا لم يعرضوا عليَّ الشراكة … سأبدأ عملًا خاصًّا.»
ومرة أخرى، ومَضَت على زاويتي شفتَيها ابتسامةٌ خفيفة.
سألت بسخريةٍ هادئة: «وهل يعرفون ذلك الآن؟»
فأجاب بجديةٍ مطلقة: «ليس بعد. فقد يُطالبونني بالرحيل، وما زال لديَّ بعضُ الأشياء القليلة التي ينبغي أن أتعلَّمها. أفضِّلُ أن أجرِّب في شخص آخر وليس في نفسي. يمكنني استخدام النتائج فيما بعد؛ سوف تساعدني في كسب المال.»
ضحكت بنعومةٍ ومسحت الدموع من عينيها. كانتا حقًّا عينَين جميلتَين للغاية رغم الهالات السوداء حولهما.
تمتمَت: «ليتني قابلتُك من قبل!»
سألها: «لماذا؟»
هزَّت رأسها.
ورجَته قائلة: «لا تسألني. لن تُرضيَ إجابتي اعتدادَك بنفسك، إذا كنتَ معتدًّا بنفسك.»
قال: «لستُ معتدًّا بنفسي، ولستُ فضوليًّا، لكني لا أفهم لماذا ضحكتِ.»
في هذه اللحظة انتهت فترة انتظارهما. أُحضِرَ السمك وأصبحَت محادثتهما متقطعة. أثناء فترة الصمت التي تبعَت ذلك، تسلل ظلُّ الكآبة القديم إلى وجهها. لم ترفع وجهها إلا مرةً واحدة. كان ذلك عندما كانا ينتظران شرائح اللحم. مالت نحوه، واضعةً مرفقَيها فوق مفرش المائدة، وأسنَدَت وجهها بأصابعها.
أصرَّت: «أعتقد أن الوقت قد حان لتركِ هذه النواحي العامة، وقد أخبرتَني بشيء شخصي إلى حدٍّ ما، شيء أنا حريصة للغاية على معرفته. أخبرني بالضبط لماذا يهتمُّ شخصٌ متمحورٌ حول ذاته مثلُك بإنسان آخر بأية حال. يبدو هذا غريبًا بالنسبة إليَّ.»
اعترفَ بصراحة: «هذا غريب. سأحاول أن أشرح الأمر لكِ ولكن سيبدو جريئًا جدًّا، ولا أعتقد أنك ستفهمين. لقد شاهدتُكِ قبل بضع ليالٍ على سطح بلينهايم هاوس. كنتِ تنظرين عبر أسطح المنازل ولم يبدُ لي أنكِ كنتِ ترَين أيَّ شيء على الإطلاق حقًّا، ومع ذلك كنتُ أعرف طَوال الوقت أنكِ كنتِ ترين أشياءَ لم أستطع أن أراها، كنتِ تفهمين وتُقدرين شيئًا لا علم لي به، وهذا أقلقني. حاولتُ التحدث إليكِ في ذلك المساء، لكنكِ كنتِ فظَّة.»
قالت: «أنت حقًّا شخصٌ فضولي. هل أنت دائمًا قلق، إذن، إذا وجدتَ أن شخصًا آخر يرى أشياءَ أو يفهم أشياءَ خارج نطاق استيعابك؟»
أجاب على الفور: «دائمًا.»
فقالت مؤكِّدة: «أنت واسع الطموح للغاية. تريد أن تجمع كلَّ شيءٍ في حياتك. ولا يمكنك ذلك. وإذا حاولت، فلن تحصد إلا الشقاء. لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك. يجب أن تعرف حدودك وإلا عانيت طوال حياتك.»
ردَّد كلمتها بازدراءٍ بالغ: «حدود!» ثم قال بقوة غير متوقعة: «إذا عرَفتُها بأية حال، فسيكون الأمر مصحوبًا بندوبٍ وجروح، فلا شيء آخر يرضيني.»
قالت ببطء: «نحن، على ما أعتقد، في العمر نفسه تقريبًا.»
قال لها: «أنا في الخامسة والعشرين.»
قالت: «أنا في الثانية والعشرين. يبدو من الغريب أن يكون هناك شخصان أفكارهما عن الحياة متباعدة بقدر تباعد القطبَين ويجتمعان معًا هكذا ولو لحظة. أنا لا أفهم هذا على الإطلاق. هل توقعتَ أن أخبرك حقًّا بما رأيتُه في الغيوم في تلك الليلة؟»
أجابَ: «لا، ليس بالضبط. لقد تحدثتُ فقط عن أول شيءٍ جعلني أهتمُّ بكِ. وهناك أشياءُ أخرى. لقد كذبتُ بشأن السِّوار وتبعتُكِ إلى خارج النُّزُل واصطحبتُكِ إلى هنا؛ لسبب آخر تمامًا.»
قالت: «أخبرني به.»
وصرَّح بجدية: «أنا شخصيًّا لا أعرفه. أنا حقًّا وبصدق لا أعرفه. هذا لأنني كنتُ آمُل أن يخطر ببالي أثناء وجودنا معًا، بما أنني هنا معكِ في هذه اللحظة. أنا لا أحب الدوافع التي لا أفهمها.»
ضحكَت منه بنوع من الازدراء.
وقالت: «رغم كل شيء، ورغم أنه ربما لم يخطر ببالك بعد، فهو في الغالب السبب البائس نفسُه. أنت رجل ولديك السمُّ في مكانٍ ما في دمك. وأنا لست امرأة قبيحة، كما تعلم.»
نظر إليها متفحصًا إياها. ربما كانت نحيفة بعض الشيء، لكنها بالتأكيد رشيقة بشكل رائع. حتى وضعية رأسها، والطريقة التي تجلس بها على كرسيِّها، لها طابَعُها المتفرد. كانت ملامحها أيضًا جميلة، على الرغم من أن فمها كان حادًّا. ولأول مرة زال شحوب الموت عن خدَّيها بلمسة من اللون الوردي. حتى تافرنيك أدرك أنها تمتلك إمكانيات رائعة. ومع ذلك، فقد هزَّ رأسه.
وأكَّد بحزم: «أنا لا أتفقُ معكِ على الإطلاق. مظهركِ لا علاقةَ له بالأمر. أنا متأكد أن السبب غير ذلك.»
اقترحَت قائلة: «اسمح لي باستجوابك. فكِّر جيدًا الآن. ألا يمنحك جلوسُك هنا معي بمفردنا أيَّ إحساس بالمتعة؟»
أجابها برَويَّة؛ وكان من الواضح أنه يقول الحقيقة.
وصرَّح: «أنا غير مدرك أن الأمر كذلك. الشعور الوحيد الذي أُدركه في الوقت الحاضر فيما يتعلق بكِ، هو الفضول الذي تحدَّثتِ عنه بالفعل.»
مالت قليلًا ناحيته، ومدَّت أصابعها الرشيقة للغاية. ومرة أخرى، غيَّرت الابتسامةُ على شفتَيها وجهَها تمامًا.
قالت: «انظر إلى يدي. قل لي … ألا ترغب في الاحتفاظ بها فقط لدقيقة، إذا أعطيتُك إياها؟»
كانت عيناها تتحدَّى عينيه، بهدوء ولكن بغطرسة. ومع ذلك، بدا أن انتباهه بالكامل قد تحوَّل إلى أظافر أصابعها. تراءى له أن من الغريب أن تُولي فتاةٌ في مثل مِحنتها كلَّ هذا القدر من العناية ليديها.
أجابَ عمدًا: «لا، لا أريد أن أمسكَ يدكِ. لماذا عليَّ أن أفعل؟»
أصرَّت قائلة: «انظر إليَّ.»
فعَل ذلك دون حرج أو تردُّد … كان من الواضح أكثر من أي وقتٍ مضى أنه كان صادقًا تمامًا. كانت تجلس مسترخيةً على كرسيها، ضاحكة بنعومة على نفسها.
ثم قالت: «أوه، صديقي السيد ليونارد تافرنيك، لو لم تكن صادقًا بكل هذا القدر من الوقاحة، والروعة، والإعجاز، لكنت ستعتبر مستفزًّا إلى أقصى درجة! ها قد أتت شرائح اللحم أخيرًا، حمدًا لله! انتهى الاستجواب. وأنا أعلن أنك «غير مذنب!»»
أثناء تناولهما بقيةَ الوجبة، لم يتحدثا سوى القليل. وفي نهايتها، سدَّد تافرنيك الفاتورة، بعد فحص كلِّ عناصرها بعناية، ومنح النادل بقشيشًا يساوي قيمة المبلغ الذي كان للرجل الحقُّ في توقُّعه. صعدا السلم معًا إلى الشارع، وتأخرَت الفتاة بضعَ خطواتٍ عنه. ولمست أصابعُها ذراعَه على الرصيف.
سألته بشيء من الخضوع: «أتساءل، هل تُمانع في توصيلي إلى إمبانكمنت؟ كان المكان مغلقًا جدًّا بالأسفل وأريد بعضَ الهواء.»
كانت هذه مبالغةً لم يفكر فيها كثيرًا، لكنه لم يتردد. طلب سيارة أجرة وجلس بجانبها. بدا أن سلوكها قد أصبح أكثرَ هدوءًا وأكثر خضوعًا، ولم تعد نبرتها أشبهَ بالمحاربين.
وعدَتْه قائلة: «لن أبقيَك وقتًا أطول. أعتقد أنني لم أعد قويةً كما اعتدتُ أن أكون. لم أتناول أيَّ شيء تقريبًا مدةَ يومين وأصبحَت المحادثة رفاهيةً مجهولة بالنسبة إليَّ. أعتقد … هذا يبدو سخيفًا … لكني أعتقد أنني أشعر ببعض الدُّوار.»
قال: «سرعان ما سيُنعشك الهواء. بالنسبة إلى محادثتنا، أنا أشعر بخيبةِ أمل. أعتقد أنه من الحمق الشديد ألَّا تُخبريني بالمزيد عن نفسك.»
أغمضَت عينيها متجاهلةً ملاحظتَه. انعطفا في تلك اللحظة إلى طريق أضيق. فمالت ناحيته.
اعترفت بخجلٍ تقريبًا: «لقد كنتَ طيبًا جدًّا معي، وأخشى أنني لم أكن كريمةً للغاية. لن يرى أحدنا الآخر مرةً أخرى بعد هذا المساء. أتساءل … هل تودُّ تقبيلي؟»
فتح شفتَيه وأغلقهما مرة أخرى. جلس ساكنًا وعيناه ثابتتان على الطريق أمامه، حتى قمعَ داخله شعورًا سخيفًا للغاية، شعورًا لا يمكن إدراكه.
قرَّر بهدوء: «أفضِّل ألا أفعل. أعلم أنكِ تقصدين أن تكوني كريمةً ولكن مثل هذا النوع من الأشياء … حسنًا، لا أعتقد أنني أفهمه.» ثم أضاف بارتياح ساذَج ومفاجئ، وكأنه أمسك بتلابيبِ فكرة هاربة، لكنها معقولة: «لو فعلتُ ما كنتِ لتُصدقي الأشياء التي أخبرتُكِ بها.»
شعر شعورًا غريبًا أنها أصيبت بخيبةِ أمل لأنها أدارت رأسها بعيدًا، لكنها لم تقُل شيئًا. وصَلا إلى إمبانكمنت، وأبطأتِ السيارة سرعتها إلى أن توقفَت. ونزلت الفتاة. كان هناك شيءٌ جديد في طريقتها، وأشاحت بنظرها عنه عندما تحدثَت.
قالت: «من الأفضل أن تتركني هنا. سأجلس على ذلك المقعد.»
ثم جاء ذلك التردد الذي يستولي عليه ثوانيَ قليلة وكان مسئولًا عن الكثير في حياته. الدافع الذي دفَعه للبقاء معها كان غيرَ قابل للتفسير لكنه انتصَر في النهاية.
قال بشيءٍ من الحسم: «إذا لم يكن لديكِ مانع، أودُّ أن أجلس هنا معكِ بعضَ الوقت. النسيم عليل بالتأكيد.»
لم تُدلِ بأي تعليق لكنها واصلَت السير. دفعَ للرجل وتبعها إلى المقعد الشاغر. في الجهة المقابلة، أضاءت السماء المظلمة بنورِ بعض الإعلانات المضيئة. بين صفَّي الأضواء الصفراء المقوَّسَين تدفَّق النهر مظلمًا، فائضًا، بلا أمل. حتى هنا، ورغم أنهما قد هربا من عبودية المدينة المطلقة، فما زال صخبها يقرع آذانهما. استمعَت إليه لحظةً ثم ضغطت بيديها على جانبَي رأسها.
وتأوهت قائلة: «أوه، كم أكره ذلك! الأصوات، الأصوات دائمًا، تنادي، تهدد، تطردك بعيدًا! أمسك يدَيَّ يا ليونارد تافرنيك … احتضنِّي.»
فعل ما أمرَته به، دون تفكير، ودون فهم حتى تلك اللحظة.
تمتم: «أنتِ لستِ بخير.»
فتحت عينَيها وعاد وميضٌ من أسلوبها القديم. ابتسمَت له، بضَعف ولكن بسخرية.
وهتفَت: «أيها الفتى الأحمق! ألا ترى أنني أموت؟ أمسِك بيدَيَّ جيدًا وراقِب … راقِب! هنا شيء آخرُ يمكنك رؤيته … ولا يمكنك فهمه.»
رأى قارورةَ الدواء الفارغةَ تنزلق من كُمِّها وتسقط على الرصيف. فنهضَ صارخًا، وحملها بين ذراعَيه واندفع بها نحو الطريق.