الفصل الثاني والعشرون

عشاءٌ مع إليزابيث

كان ما تبقَّى من ذلك اليوم بالنسبة إلى تافرنيك وقتًا من القلق المحموم. فقد تلقَّى برقيَّتَين من السيد مارتن، محاميه، وكان هو نفسُه أكثرَ اضطرابًا مما يقرُّ ويُبدي. في الساعة الثالثة بعد الظهر، وفي الساعة الثامنة مساءً، ومرة أخرى في الساعة الحادية عشرة مساءً، قدَّم نفسه في ميلان كورت، مستفسرًا عن الشخص نفسه. وفي المرة الأخيرة، أنبأه الحاجب بأخبار سعيدة.

أعلنَ قائلًا: «السيدة وينهام جاردنر عادت من الريف منذ ساعة يا سيدي. أستطيع إرسال اسمك الآن، إذا كنتَ ترغب في رؤيتها.»

أدركَ تافرنيك شعورَه بالارتياح الشديد. بالطبع، كان يعلم أنها لن ترحل إلى الأبد حقًّا، لكن غيابها، لا سيَّما بعد ما حدث في تلك الليلة، كان مقلقًا بعضَ الشيء.

قال: «اسمي تافرنيك. لا أرغب في التطفل في مثلِ هذه الساعة، ولكن إذا كانت تستطيع أن تُقابلني لحظة، فسيُسعدني ذلك.»

جلسَ وانتظرَ بصبر. سرعان ما وصلت رسالةٌ مفادها أن السيد تافرنيك يستطيع أن يصعد. استخدم المصعد ثم طرقَ باب جناحها. ففتحته خادمتها على مضض. ولم تبذل أيَّ جهد لإخفاء امتعاضها من هذا الشاب … لكونه عاديًّا جدًّا، وغيرَ متأنق على الإطلاق. لم تستطع أن تتخيَّل لماذا قد تضيِّع السيدة وقتها مع مثل هذا الشخص!

قالت له: «السيدة جاردنر سوف تراك على الفور. إنها ترتدي ملابسها الآن للخروج لتناول العشاء. ستمنحك بضع ثوانٍ فقط.»

بقي تافرنيك وحده في غرفة الجلوس الصغيرة الفاخرة مدة عشر دقائق تقريبًا. ثم انفتح باب الغرفة الداخلية وظهرَت إليزابيث. نهضَ تافرنيك ببطءٍ واقفًا على قدمَيه، ونظر إليها بإعجابٍ مُقاوم لكنه مفتون. كانت ترتدي ثوبًا عاجيًّا من الساتان، بدون زخرفة أو دانتيل من أي نوع، ثوبًا بدا له وكأنه معجزةٌ في ملاءمته لها. كانت حِلْيتُها الوحيدة عبارةً عن حزام طويل من اللؤلؤ وتاج صغير. لم يسبق لتافرنيك مطلقًا أن يكون على اتصال وثيقٍ بامرأة كهذه.

كانت ترتدي قفازاتها عندما دخلتْ وأعطته يدها اليسرى.

صاحت: «يا لك من شخص استثنائي، يا سيد تافرنيك! يبدو أنك حقًّا تحضر في أكثر الأوقات إدهاشًا.»

قال: «أنا آسفٌ جدًّا لأنني تطفلتُ عليكِ الليلة.» ثم أضافَ بهدوءٍ بارد: «أما فيما يتعلق بالمرة الأخيرة التي التقينا فيها، التي ظهرتُ فيها على نحوٍ مفاجئ، فأنا لن أعتذرَ عنها بأي شكل.»

ضحكَت بنعومة. كانت تنظر في عينَيه، إلا أنه لم يستطع أن يحدِّد إن كانت غاضبةً منه أم مستمتعة فقط.

قالت: «كنتَ ميلودراميًّا نوعًا ما، أليس كذلك؟ إلا أنك كنتَ جادًّا جدًّا، ويغفر المرءُ الكثير لأي شخص جادٍّ حقًّا. ماذا تريد مني الآن؟ كنتُ على وشك النزول لتناول العشاء.»

أجابَ تافرنيك: «إنها مسألةُ عمل. لديَّ صديقٌ هو شريكٌ معي في صفقةِ بناء مارستون رايز، وهو قلقٌ لأن هناك شخصًا آخر في المجال يرغب في شراء الأرض، وبعد غدٍ هي فرصتنا الأخيرة لدفع المال.»

نظرَت إليه كما لو كانت في حيرة.

«أيُّ مال؟»

ذكَّرَها قائلًا: «المال الذي وافقتِ على إقراضي إياه، أو بالأحرى استثماره في شركة البناء الخاصة بنا.»

أومأت برأسها.

«بكل تأكيد! عجبًا، لقد نسيتُ كلَّ شيءٍ عنه في الوقت الحالي. سوف تعطيني فائدة بنسبة ١٠ في المائة أو شيئًا هائلًا من هذا القبيل، أليس كذلك؟ حسنًا، ماذا عنه؟ أنت لا تريد أن تأخذَه معك الآن، على ما أعتقد؟»

أجابَ: «كلا، ليس الأمر كذلك. لأكونَ صادقًا معكِ، جئتُ لأتأكَّد من أنكِ لم تُغيِّري رأيكِ.»

«ولماذا أُغيِّر رأيي؟»

قال: «قد تكونين غاضبةً مني، بسبب تدخلي في شئونكِ في تلك الليلة.»

قالت بلا مبالاة: «ربما أكون كذلك.»

فسألها: «هل ترغبين في التراجع عن وعدكِ؟»

أجابت بلا مبالاة: «لم أفكِّر كثيرًا في الأمر حقًّا. بالمناسبة، هل رأيتَ بياتريس مؤخرًا؟»

ذكَّرها قائلًا: «أعتقدُ أننا اتفقنا على أننا لن نتحدَّث عن أختكِ.»

نظرَت إليه من فوق كتفها.

وقالت: «لا أتذكَّر أنني اتفقتُ على أي شيءٍ من هذا القبيل. أعتقدُ أنك أنت مَنْ وضعَ هذه القاعدة. وفي واقع الأمر، أعتقد أن صمتك بشأنها أمرٌ قاسٍ للغاية. أظن أنك رأيتها؟»

أقرَّ تافرنيك: «نعم، لقد رأيتُها.»

سألت إليزابيث: «ألا تزال تشعر بالأسى كلما ذُكِرَ اسمي؟»

ردَّ تافرنيك على مضض: «لم أكن لأسمِّيَه أسًى. على الرغم من ذلك، فأغلب الظن أن شيئًا ما حدث بينكما قبل أن تُغادر، وكان هذا الشيء خطيرًا.»

نظرَت إليه بجِدية.

وقالت: «أنت حقًّا شابٌّ غريب، عنيد.» ثم واصلت وهي تبتسمُ في وجهه: «تُرى، هل وقعتَ في حب أختي؟»

لم يُعطِ تافرنيك أيَّ ردٍّ فوري، إلا أن شيئًا ومض في عينَيه لحظةً مما حيَّرها.

فسألته: «لماذا تنظر إليَّ هكذا؟ أأنت غاضبٌ مني لأنني سألت؟»

وأجابَ: «لا، أنا لستُ غاضبًا. ليس الأمر هكذا. ولكن كان يجب أن تعرفي … كان يجب أن تري!»

وعندئذٍ رأت بالفعل أنه كان يرزح تحت عِبْء عاطفةٍ جياشة. فمالت نحوه وهي تضحك بنعومة.

وتمتمت قائلةً: «ها قد بدأتَ تصبح مثيرًا للاهتمام. أخبرني … أخبرني كلَّ شيء.»

أعلنَ تافرنيك بقوة: «لا أعرف ما هو الحب! لا أعرف معنى أن يقع الإنسان في الحب!»

ضحكَت مرةً أخرى في وجهه.

وقالت هامسة: «هل أنت واثقٌ في هذا؟»

رأت الأوردةَ تنتفخ في صُدغه، وراقبَت العاطفة التي عقَدَت لسانه في البداية.

وتمتم: «واثق! ومَنْ يمكنه أن يثق عندما تَبْدين بهذا الشكل!»

مَدَّ ذراعَيه نحوها. فتراجعَت مبتعدةً عنه بحركة سريعة للخلف، واتَّكأت على الطاولة.

وضحكت وهي تقول: «يا لك من صِهر مستقبلي! وا حسرتاه على الرصانة والاحترام! صارمٌ للغاية! عزيزي السيد تافرنيك، أتمنَّى لك السعادة. في الحقيقة، أنت وبياتريس مناسبان تمامًا أحدكما للآخر.»

رنَّ جرسُ الهاتف. فتحرَّكت ووضعَت سماعة الهاتف على أذنها. تغيَّر وجهُها. وبعد الكلمات القليلة الأولى التي استمعَت إليها اسودَّ وجهها غضبًا.

صاحت مستفسِرةً: «أتقصد أن تقول إن البروفيسور فرانكلين لم يَعُدْ منذ الغداء؟ لقد تركتُ رسالة مفادها أنني أريده أن يأتيَ لي الليلة. وهل الميجور بوست موجود، إذن؟ لا؟ وماذا عن السيد كريس … غير موجود أيضًا؟ ولا السيد فولكس؟ لا أحدَ منهم! حسنًا، اتصل بي مباشرةً فورَ أن يأتيَ البروفيسور، أو أيٌّ منهم.»

وضعَت السمَّاعة وقد بدا عليها الانزعاج. وفُوجئ تافرنيك بالتغيير في تعبيرات وجهها. كانت الابتسامة قد اختفَت، وباختفائها ظهرَت خطوطٌ تحت عينَيها وحول فمها. ودلفت إلى غرفة نومها دون أن تنبس بكلمةٍ معه. وكان تافرنيك قد بدأ يتساءل عمَّا إذا كان يجب أن ينسحب، عندما عادت مرة أخرى.

قالت: «اسمع يا سيد تافرنيك، كم يبعد منزلك؟»

أجابَ: «إنه في تشيلسي، على بُعد نحو ميلَين ونصف الميل.»

ردَّت بلهجةٍ آمِرة: «استقِلَّ سيارة أجرة واذهب إلى هناك، أو انتظر. ستجد سيارتي بالخارج. سأتصل بالهاتف لأقول إنك ستأخذها. بدِّلْ ملابسك إلى ثيابٍ تصلح للمساء وعُدْ إليَّ مرة أخرى. أريدك أن تصحبَني لتناول العشاء بالخارج.»

نظرَ إليها بذهول. فدبَّت بقدمها على الأرض.

وأمرته: «لا تقف هكذا مترددًا! افعل كما أقول! لا تتوقع أنني سأساعدك على شراء هذه الأراضي البائسة إذا رفضتَ لي أبسط الخدمات، أقول لك أسرع! أسرع!»

قاطعها تافرنيك قائلًا: «أنا آسفٌ حقًّا، لكني لا أمتلك بدلةً تصلح للسهرة. كنت سأذهب بكل سرور، لكن ليس لديَّ مثلُ هذا الشيء.»

نظرَت إليه لحظةً غيرَ مُصدِّقة. ثم انفجرَت في نوبةٍ من الضحك لا يمكن السيطرةُ عليها. وجلست على حافة الأريكة وهي تمسح عينَيها المبللتَين بالدموع.

صاحت: «أوه، أنت غريب، أنت شخصٌ رائع! تريد أن تشتريَ أراضيَ وتريد أن تقترض اثنَي عشر ألف جنيه، وتعرف أين توجد بياتريس ولا تريد أن تخبرني، وأنت مقتنعٌ تمامًا، لأنك اقتحمتَ منزلًا مخترقًا الحائطَ، بأنك أنقذتَ بريتشارد المسكين من السُّم، وأنت لا تمتلك بدلة رسمية! لا بأسَ إذن، لا تهتم بمسألة البدلة. ستصحبني للخارج كما أنت.»

تحسَّس تافرنيك جيوبه وتذكَّر أنه لم يكن معه سوى ثلاثين شلنًا.

قالت بلا مبالاة: «هاك، احمل حقيبتي. وسننزل معًا إلى المطعم الأصغر. فأنا كنت على سفر منذ الساعة السادسة، وأتضوَّر جوعًا.»

قال تافرنيك معترضًا: «ولكن ماذا عن ملابسي؟ هل ستكون مناسبة؟»

أجابت: «لا بأس بها في المكان الذي سنذهب إليه. أنت تبدو رائعًا كما أنت. تعالَ ودعني أصحِّح وضعيةَ ربطة عنقك.»

اقتربت منه وعبثَت بأصابعها في ربطة عنقه لحظةً. كانت قريبةً جدًّا منه وضحكَت عمدًا في وجهه. فتماسكَ تافرنيك إلى أقصى درجة وشعر بالحمق. كما شعر بسعادة سخيفة.

قالت عندما ضبَطتها بالشكل الذي يُرضيها: «ها هي، أنت تبدو جيدًا الآن.» وأضافت، وكأنها تُحدِّث نفسها: «تُرى، كيف تبدو حقًّا. أعتقد أنك تبدو اجتماعيًّا ومفعَمًا بالقوة. لا عليك، ساعدني في ارتداء عباءتي وتعالَ معي. تبدو مرافقًا غايةً في الاحترام، ومفيدًا جدًّا أيضًا.»

على الرغم من أن تافرنيك كان اسميًّا المضيف، إلا أن إليزابيث هي التي اختارت المنضدة وطلبَت العشاء. كان هناك عددٌ قليل جدًّا من الزبائن الآخرين في المكان، حيث كانت الأكثريةُ في المطعم الأكبر، ولكن من بين هؤلاء القلائل، لاحظَ تافرنيك فتاتَين من الجوقة الخاصة بمسرح أطلس. اختارت إليزابيث منضدةً تستطيع منها مراقبة الباب، واحتلَّت المقعد المُواجِه له. وشعر تافرنيك من البداية يقينًا أنها كانت تراقب وصولَ شخصٍ ما.

قالت بإلحاح: «والآن حدِّثني، من فضلك، عن هذا الاستثمار. أودُّ أن أعرف كلَّ شيء عنه، وما إذا كنت متأكِّدًا من أنني سأحصل على عشرة في المائة فائدةً على أموالي.»

لم يتردد تافرنيك لحظة. فقد كان هذا الموضوع آمنًا للحديث فيه، وكان لديه الكثير ليقوله بشأنه. لكنها أوقفته بعد برهة.

وقالت: «حسنًا، لقد اكتشفتُ على أي حال موضوعًا يمكنك أن تتحدَّث فيه بطلاقة. الآن، رجاءً لقد سئمتُ من بناء العقارات، وبناء المنازل. أودُّ أن أسمع القليل عن بياتريس.»

لم يُحِر تافرنيك جوابًا وكأنه قد فقَدَ القدرة على النطق.

ثم قال: «لا أريد أن أتحدَّث عن بياتريس، حتى أفهم سببَ هذه القطيعة بينكما.»

استعَرَت نيرانُ الغضب في عينَيها وبدَت ضحكتها مضطربة.

واحتجَّت قائلة: «ولا حتى الحديث عنها! أنت بالكاد تردُّ لي الثقةَ التي أضعها فيك يا صديقي العزيز!»

«أتقصدين المال؟»

واصلتْ قائلة: «بالضبط. أنا أثق بك، لا أعرف السبب … أعتقد ربما لأنني أمتلك هبة الفِراسة … بالإضافة إلى اثني عشَر ألف جنيه من مدَّخراتي التي اكتسبتُها بشِقِّ الأنفس. وأنت ترفض أن تثقَ بإعطائي بعضَ التفاصيل البسيطة عن حياة أختي. حسنًا، لا أعتقد أن الأمور كما ينبغي أن تكون بيننا.»

سألها تافرنيك: «هل تعرفين أين قابلتُ أختكِ لأول مرة؟»

هزَّت رأسها بفتور.

«وكيف لي أن أعرفَ؟ لم تخبرني بشيء.»

تابعَ تافرنيك كلامه قائلًا: «كانت تقيم في نُزُل صغير كنت أعيش فيه. أعتقد أنني أخبرتُكِ بذلك ولكني لم أخبركِ بأي شيء آخر. كان نُزُلًا رخيصًا، لكن لم يكن لديها ما يكفي من المال لدفع ثمنِ وجباتها. وكانت قد سئمَت الحياة. وأضحت في حالة يأسٍ تامة.»

قالت إليزابيث مستفسِرة: «هل تحاول أن تخبرني، أو بالأحرى تحاول ألا تخبرني، بأن بياتريس كانت قد فقدَت عقلها بما يكفي للتفكير في الانتحار؟»

أجابَ بجدِّية: «كانت في حالةٍ ذهنية تؤهِّلها لأن تفعل ذلك عندما كانت هذه الخطوةُ ممكنة. هل تتذكرين تلك الليلةَ عندما رأيتُكِ أول مرة في الصيدلية في الجهة المقابلة من الشارع؟ كانت مريضةً جدًّا ذلك المساء، مريضة جدًّا حقًّا. كان بإمكانكِ أن ترَيْ بنفسكِ تأثيرَ مقابلتكِ عليها.»

أومأت إليزابيث برأسها، وسحَقَت قطعةً صغيرة من الخبز بين أصابعها. ثم مالت على المنضدة نحو تافرنيك.

«بدَت مرعوبة، أليس كذلك؟ سارعَت بكَ بعيدًا … بدَت خائفة.»

اعترفَ قائلًا: «كان ذلك ملحوظًا للغاية. كانت مرعوبة. لقد جرَّتني إلى خارج المكان. وبعد بضع دقائق غابت عن الوعي في سيارة الأجرة.»

ابتسمت إليزابيث.

وقالت: «كانت بياتريس دائمًا شديدةَ الحساسية. وأي صدمة مفاجئة كانت تُفقِدُها أعصابها تمامًا. هل أنت خائفٌ مني أيضًا يا سيد تافرنيك؟»

أجابَ بصراحة: «لا أعرف. أحيانًا أعتقد أنني كذلك.»

ضحكت برِقَّة.

وهمست له: «لماذا؟»

نظرَ في عينَيها وشعر بالإذلال والضعف. كيف كان من الممكن أن يجلس على بُعد أقدام قليلةٍ منها ويبقى عاقلًا!

قال بنبرةٍ خفيضة: «أنتِ شديدة الجمال، ومختلفة تمامًا عن أي شخص آخر في العالم!»

فقالت متسائلة: «إذن، فأنت سعيدٌ لأنك قابلتَني … لأنك هنا معي؟»

رفعَ عينَيه نحوها مرة أخرى.

وأجابَ ببساطة: «لا أعرف. إذا كنتُ أعتقد حقًّا … إذا كنت بهذا اللطف طوال الوقت … لكن، كما ترين، أنت تُحوِّليني إلى شخصَيْن مختلفَيْن. عندما أكون معكِ، فأنا أحمق، أحمق مُذعِن لكِ، وتستطيعين أن تفعلي بي ما تشائين. وعندما أكون بعيدًا، أستردُّ بعضَ ومضات العقل، وأعرف.»

تمتمَت قائلة: «ماذا تعرف؟»

فأجابها: «أعرفُ أنكِ كاذبة.»

صاحت رافعةً رأسها قليلًا: «سيد تافرنيك!»

فاستدركَ بحماس: «أوه، أنا لا أعني الكذبَ بالطريقة المعتادة! ما أعنيه هو أنكِ تُظهِرين أشياءَ لا تشعرين بها، وأنكِ على استعدادٍ لأن تُشعِري أيَّ شخص لا يملك إلا أن يُعجَب بكِ بشدةٍ بأنكِ تُكنِّين له مشاعرَ الودِّ أكثر مما تُكنِّينه بالفعل.» وتوقَّف فجأةً عن الحديث بيأس ثم قال: «لا أستطيع التعبير، هذا خُرْق، لكنكِ تفهمين ما أعنيه!»

ضحكَت قائلة: «لديك طريقةٌ رائعة في التعبير عن نفسك. حسنًا، دعنا نتحدَّث بشكلٍ منطقي مدةَ دقيقة أو دقيقتَين. أنت تقول إنك عندما تكون معي تُصبح عبدًا لي. إذن لماذا لا تحضر بياتريس إلى هنا عندما أتوسل إليك أن تفعل؟»

فأجابَ: «أنا عبدك في كلِّ ما له علاقة بنفسي وأفعالي. أما في هذه المسألة الأخرى، فالأمر يعود لأختكِ كي تُقرر.»

فهزَّت كتفَيها.

وقالت: «حسنًا، أعتقدُ أنني سأكون قادرةً على تحمُّل الحياة بدونها. على أيِّ حال، دعنا نتحدَّث عن شيءٍ آخر. أخبرني، ألَا تشعر بالفضول لمعرفةِ سبب إصراري على إحضارك إلى هنا؟»

اعترفَ قائلًا: «بلى، أنا كذلك.»

قالت: «تحدثتَ بصراحتِك المعتادة، يا عزيزي البريطاني! حسنًا، سأُرضي فضولك. هذا، كما ترى، ليس مكانًا شائعًا لتقديم الطعام. يأتي إلى هنا عددٌ قليل من الأشخاص … معظمهم مِمَّن لسبب أو لآخَر لا يشعرون بالأناقة الكافية لارتياد المطاعم الكبيرة. يأتي الناس من المسارح إلى هنا حيث لا يكون لديهم الوقتُ لتغيير ملابسهم. كما ترى المكان له نكهةٌ بوهيمية مميَّزة.»

نظرَ تافرنيك حوله.

وقال: «يبدو أنهم يأتون بكل أنواع الملابس. يسرُّني ذلك.»

تابعَت إليزابيث: «يوجد رجلٌ الآن في لندن، وأنا متلهفةٌ لرؤيته مثلما أنا متشوقة للعثور على أختي. أعتقدُ أن هذا هو المكان الأكثر احتمالًا للعثور عليه. لهذا جئتُ. كان من المفترض أن يكون والدي هنا ليُرافقني، لكن كما سَمِعت، فقد خرجَ إلى مكانٍ ما ولم يَعُدْ. لم يكن أيٌّ من أصدقائي الآخرين متاحًا. وصادفَ أنك أتيتَ في الوقت المناسب.»

سألَ تافرنيك: «وهذا الرجل الذي تريدين أن ترَيه، هل هو هنا؟»

أجابت: «ليس بعد.»

في الواقع، لم يكن هناك سوى عددٍ قليل من الجماعات المتناثرة في المكان، وكان من الواضح أن معظم هذه الجماعات من العاملين في المسارح. لكن حتى في تلك اللحظة، دخل رجلٌ بمفرده من خلال الأبواب الدوَّارة، ووقفَ في الداخل، ينظر حوله. كان رجلًا متوسطَ الطول ونحيفًا وذا مظهر غيرِ مميَّز. كان شعره فاتحَ اللون ويلتصق قليلًا على جبهته. وكان وجهه نحيفًا ويمشي بانحناءٍ طفيف. كان ثَمة شيءٌ في ملابسه وطريقته في اللبس ينمُّ على أنه أمريكي. ألقى تافرنيك نظرةً سريعة على رفيقته، متسائلًا عما إذا كان هذا، ربما، ليس الشخص الذي كانت تُراقب وصوله. كانت نظرته الأولى غيرَ مبالية بما فيه الكفاية، ثم شعر بقلبه يخفق بين ضلوعه. لقد دخلت مأساةٌ إلى المطعم! جلست المرأة التي بجانبه وكأنها تحوَّلتْ إلى حجر. كانت ثمة نظرةٌ في وجهها وكأنها نظرة امرأة ترى الموت. كان أحمرُ الشفاه الذي تضعه، ولم يكن ملحوظًا من قبل، يبدو الآن كغصنٍ ملوَّن في واحةٍ من الرماد الأبيض. كانت عيناها جامدتَيْن كالحجارة؛ وشفتاها ترتعشان كما لو أنَّ مرضًا ألمَّ بها. لم يَعُد جالسًا مع هذه السيدة الأكثرِ جمالًا التي تحوَّلت كلُّ الرءوس نحوَها في إعجاب. كانت كأنها تحوَّلت إلى صورةٍ للموت تجلس بجواره، كأنها تمثالٌ جامد للذعر نفسه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤