الفصل الثالث والعشرون

في مهمة شهامة

مرَّت الثواني، ولم يظهر على المرأة التي تجلس بجانبه أيُّ علامة تنم على الحياة. شعر تافرنيك بالخوف يتسلل باردًا في دمه، كما لم يشعر من قبلُ طَوال حياته السابقة. كان هذا، في الواقع، شيئًا ينتمي إلى عالم لا يعرف شيئًا عنه. فماذا كان؟ أهو مرض؟ أم ألم؟ أم مفاجأة؟ لم يكن هناك سوى غريزته يمكن أن تُخبره. كان رعبًا، رعب مَنْ ينظر إلى ما وراء القبر.

صاحَ قائلًا: «سيدة جاردنر! إليزابيث!»

بدا أن صوته قد انتزعها من حيث كانت وحرَّرها من اللعنة التي حلَّت عليها. وندَّت من بين أسنانها صرخةٌ مكتومة؛ وبدأت تُناضل كي تتمالك نفسها.

تمتمَت قائلة: «أنا مريضة. أعطني كأسي. أعطني إياها.»

تحسَّسَت بأصابعها بحثًا عن الكأس، لكن بدا كأنها لم تجرؤ على تحريك رأسها. ملأ الكأس بالنبيذ ووضعها في يدها. وحتى بعد ذلك، سكبَت بعضًا منها على مفرش المنضدة. وبينما كانت ترفعها إلى شفتَيها، نظر الرجلُ الذي وقفَ على عتبة المطعم في وجهها. وتحرَّك ببطءٍ عابرًا المطعم في اتجاهها، وكأنما قد وصلَ إلى مُبتغاه.

فقالت لتافرنيك: «ابتعد. ابتعد أرجوك. إنه قادمٌ ليتحدث إليَّ. وأريدُ أن أكون وحدي معه.»

الغريبُ في الأمر أن تافرنيك لم يرَ في تلك اللحظة شيئًا غريبًا غيرَ معتاد في طلبها. وقام على الفور، دون أن يودِّعها الوداعَ اللائق، وشقَّ طريقه نحو الطرف الآخر من المطعم. وبينما كان يستدير متوجِّهًا نحو غرفة التدخين، نظر مرةً واحدة خلفه. كان الرجل قد اقتربَ من إليزابيث؛ وكان يقف أمام طاولتها، وبدا أنهما يتبادلان التحيات.

ذهبَ تافرنيك إلى غرفة التدخين وألقى بنفسه على كرسيٍّ مريح. وظلَّ هناك ربما مدةَ عشر دقائق قبل أن يدخل بريتشارد. بالتأكيد كانت هذه الليلة مفعَمةً بالمفاجآت! حتى بريتشارد، الهادئ، الرصين، المتأني في حركاته وحديثه، بدا مضطربًا في ذلك الوقت. دلفَ إلى الغرفة مسرعًا. وعندما تأرجَح البابُ وأُوصِدَ مرةً أخرى، استدار كما لو كان يؤكِّد لنفسِه أن أحدًا لم يكن يَتبعه. لم يرَ في البداية تافرنيك. وجلسَ على ذراع مقعدٍ وثير، ويداه في جيوبه، وسيجاره الأبدي في زاوية فمه، وعيناه مثبتَتان على الباب الذي دلفَ منه. لا شك أن شيئًا ما أزعجه. كان يبدو كأنه قد تلقَّى ضربة، مفاجأة من نوعٍ ما كان لا يزال يحاول تخطِّيَها. ثم ألقى نظرةً خاطفة في أرجاء الغرفة ورأى تافرنيك.

فصاحَ: «مرحبًا، أيها الشاب! إذن هذه هي الطريقة التي تُنفِّذ بها نصيحتي!»

ذكَّره تافرنيك قائلًا: «لم أَعِد قطُّ بأن أنفِّذها.»

سحبَ بريتشارد مقعدًا مريحًا عبر الغرفة ونادى على النادل.

وقال: «إذن، سوف تدعوني إلى شراب. اثنان من الويسكي والصودا، يا تيم. والآن يا سيد ليونارد تافرنيك، ستجيبني عن سؤال.»

تمتم تافرنيك متسائلًا: «هل سأفعل؟»

«لقد نزلتَ في المصعد مع السيدة وينهام جاردنر منذ نصف ساعة، وذهبتَ إلى المطعم وطلبتَ العشاء. وهي لا تزال هناك وأنت هنا. فهل تشاجرتُما؟»

أجابَ تافرنيك: «لا، لم نتشاجر. أوضحَت أنها كانت ستتناول الطعام في المطعم الأصغر فقط من أجل لقاءِ رجل معيَّن. وأرادت مُرافِقًا. فقمتُ أنا بهذا الدور إلى أن جاء الرجل.»

سأل بريتشارد: «وهل هو هناك الآن؟»

فردَّ تافرنيك إيجابًا: «نعم، إنه هناك الآن.»

سحبَ بريتشارد السيجار من فمه وراقَبه لحظة.

وتابعَ: «قل لي يا تافرنيك، هل هذا الرجل الذي يتناول العشاء الآن مع السيدة وينهام جاردنر هو الرجل نفسُه الذي كانت تتوقعه؟»

أجابَ تافرنيك: «أظن ذلك.»

«ألم تبدُ خائفةً أو منزعجة بأي شكل من الأشكال عندما ظهر أمامها لأول وهلة؟»

اعترفَ تافرنيك: «بدَت بشكلٍ لم أعهده في أحدٍ على وجه الأرض من قبل. لقد بدت ببساطةٍ مرعوبةً حتى الموت. لا أعرفُ لماذا … فهي لم تشرح … لكن هكذا كانت تبدو.»

«ومع ذلك، فقد صرَفَتك!»

«لقد صرفَتني. ولم تهتمَّ بما حلَّ بي. كانت تراقبُ البابَ طَوال الوقت قبل مجيئه. فمَنْ هو ذلك الشخص يا بريتشارد؟»

أجابَ بريتشارد بجدية: «يبدو هذا سؤالًا بسيطًا، لكنه يعني الكثير. هناك مصيبةٌ على وشك الحدوث الليلة يا تافرنيك.»

فردَّ تافرنيك بجفاء: «وأنت تبدو سعيدًا بذلك. ألديك مزيدٌ من الهراء؟»

ابتسمَ بريتشارد.

وقال: «حسنًا، أنت رجلٌ عاقل. فلتَقْدُر الأمورَ حقَّ قَدْرها. وصدِّقْني حين أُخبرك الآن أن مجيءَ هذا الرجل يحمل أكثرَ بكثير مما خطَّطَت له السيدة وينهام جاردنر.»

توسَّل إليه تافرنيك قائلًا: «أتمنَّى أن تُخبرني مَن هو. كلُّ هذا الغموض الذي يحيط ببياتريس وأختها، وهذا الكهلِ الكسول أبيهما، يثير إزعاجي ويُشعِلني غضبًا.»

أومأ بريتشارد برأسه متعاطفًا.

وقال: «أخشى أنَّ عليك أن تتحمَّل هذا الغموض مدةً أطول قليلًا، يا صديقي الشاب. لقد أسديتَ لي صنيعًا؛ وسأُسدي لك صنيعًا أيضًا. سأقدِّم لك نصيحةً جيدة. ابتعد عن هذا المكان ما دام الرجل العجوز وابنته يتسكَّعان هنا. هذه الفتاة ذكية … أوه، إنها ذكيةٌ للغاية … لكنها سلكَت الطريقَ الخطأ منذ البداية. إنهما ليسا على شاكلتِك يا تافرنيك. أنت لا تناسب هذا المكان. خُذْ بنصيحتي وابتعد عنهما تمامًا.»

هزَّ تافرنيك رأسه.

وقال: «لا يمكنني فعلُ ذلك الآن. عمت مساءً! سأرحل الآن على أي حال.»

نهضَ بريتشارد أيضًا على قدمَيه. وتأبط ذراع تافرنيك.

وقال: «أيها الشاب، لا يوجد الكثيرون في هذا البلد مِمَّن يمكنني الوثوقُ بهم. وأنت واحدٌ منهم. أنت تتميز بنوع من الصلابة يعجبني كثيرًا. وليس من المحتمل أن تتهور وتقومَ بأشياء سخيفة. فهل تحبُّ المغامرات؟»

أجابَ تافرنيك: «إنني أكرهها، ولا سيَّما من النوع الذي تورطتُ فيه في تلك الليلة.»

ضحكَ بريتشارد بهدوء. كانا قد غادَرا الغرفة الآن وكانا يسيران عبر المساحة المفتوحة في نهاية المطعم، والمؤدية إلى المخرج الرئيسي.

وقال بتأنٍّ: «هذا هو الفرق بيننا. المغامرات بالنسبة إليَّ هي مِلحُ حياتي. أتسكعُ هنا وأشاهدُ هؤلاء الرجالَ والنساء ذَوي المظهر المحترم، وبالنسبة إلى الغرباء لا يبدو أن هناك الكثيرَ في هذا الأمر، ولكن يا للعجب! هناك أحيانًا أشياءُ خفيةٌ لا تكتشفونها أنتم. رجل يطلب من آخرَ بالداخل أن يحتسيا شرابًا معًا. ويُحدِّدان موعدًا مبهجًا للقاء لتناول طعام الغداء، ثم يتَّجهان إلى برايتون بالسيارة. يبدو كلُّ هذا غيرَ ضار، ومع ذلك هناك بذور مؤامرة زُرِعَت بالفعل. إنهم يكرهونني هنا، لكنهم يعرفون جيدًا أنه أينما ذهبوا يجب أن أكون في الجوار. أظن أنهم سيتخلَّصون مني يومًا ما.»

تمتم تافرنيك: «المزيد من الهراء!»

وقفا أمام الباب وعبَراه إلى الفِناء. على يمينهما، كان الجزء الداخلي من المطعم الأصغر محجوبًا عن الأنظار بواسطة نقشٍ شبكي مغطًّى بالورود والشجيرات. توقَّف بريتشارد عند نقطةٍ معينة، وانحنى ونظر من خلاله. ومكثَ هناك دون أن يتحرك لما بدا لتافرنيك أنه مكث مدة طويلة للغاية. وعندما انتصبَ واقفًا مرة أخرى، كان هناك تغييرٌ واضح في وجهه. كان يبدو أكثرَ جديةً مما رآه تافرنيك على الإطلاق. ولكن بسبب عدم احتمالية حدوث هذا الشيء، ظنَّ تافرنيك أن لونه قد أضحى شاحبًا.

وقال بريتشارد: «صديقي الشاب، عليك أن تُعينني فيما أنا مُقْدم عليه. أنت مغرَم بالسيدة وينهام جاردنر، أنا أعرف هذا. والليلة سوف تكون بجوارها.»

احتجَّ تافرنيك قائلًا: «لا أريد المزيد من الألغاز. أفضِّل العودة إلى المنزل.»

قال بريتشارد، وهو يُمسك بذراعه مرة أخرى: «لا يمكنك القيامُ بذلك. عليك أن تُعينني في هذا. تعالَ معي إلى غرفتي دقيقة.»

دخلا المبنى وصعدا إلى الطابق الثامن. وأضاءَ بريتشارد الأنوارَ في غرفته، وكانت مفروشةً بأثاثٍ بسيط وخالية إلى حدٍّ ما. وأخرج من الخِزانة زوجًا من الأحذية ذات النعل المطاطي وألقاه إلى تافرنيك.

وقال: «ارتدِ هذا.»

فسألَ تافرنيك: «ماذا سنفعل؟»

أجابَ بريتشارد: «سوف تُساعدني. ثِقْ بي يا تافرنيك، كلُّ شيء على ما يُرام. يمكنني أداءُ المهمة بمفردي، لكنني لا أفضِّل ذلك. والآن اشرب هذا الويسكي والصودا وأشعل سيجارة. سأكون جاهزًا خلال خمس دقائق.»

سأل تافرنيك: «ولكن إلى أين نحن ذاهبان؟»

أجابَ بريتشارد: «أنت ذاهبٌ في مهمةٍ تتميَّز بالشهامة. ستُصبح مرةً أخرى منقذًا لامرأة في محنة. ستنقذ حياةَ صديقتك الجميلة إليزابيث.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤