الفصل السابع والعشرون

تافرنيك يختار

ظلَّ تافرنيك ينتظر في ردهة ميلان كورت مدةَ نصف ساعة على الأقل قبل أن تستعدَّ إليزابيث لرؤيته. تجوَّل في المكان بلا هدف وهو يراقب الناس يأتون ويذهبون، ويطلُّ على الفِناء الخارجي المُعلَّقة فيه الزهور، غيرَ مدرِكٍ لنفسه ولمهمته التي جاءَ من أجلها بشكل عجيب، وغيرَ قادر على تركيز أفكاره للحظة، ومع ذلك كان مفعَمًا طَوال الوقت بالإحساس الباهت والمضطرب لشخص يتحرك في المنام. بين الحين والآخر يسمع أجزاءً من الحديث من الخدم والمارة، تُشير إلى حادثة الليلة الماضية. التقطَ جريدة لكنه ألقى بها بعد إلقاء نظرةٍ عابرة على الفِقرة. لقد رأى ما يكفي لإقناعه أنه في الوقت الحاضر، على أي حال، بدَت إليزابيث واثقةً من قدرٍ معين من التعاطف. كانت سيرة حياة المسكين وينهام جاردنر قد سُجِّلَت كتابةً، مع القليل من التخفيف، والقليل من الرحمة. أفعاله السيئة في باريس، وحياته في نيويورك، تحدَّثت عن نفسها. استُشْهِد به كنمطٍ معيَّن من الأشخاص، شخص فاسد متهتِّك منغمس في الملذَّات، والجريمة بالنسبة إليه استرخاءٌ والرذيلة عادة. لم يكن تافرنيك ليقرأ أكثرَ من ذلك. ربما كان كل هذه الأشياء، ومع ذلك فقد أصبحت زوجته!

أخيرًا جاءت الرسالة التي كان ينتظرها. كالعادة، قابلته خادمتُها عند باب جَناحها وأدخلَته. كانت إليزابيث ترتدي ثوبًا بسيطًا للغاية يُلائم الموقف، ويوحي حتى بالحداد بلونه الرمادي. رحَّبت به بابتسامة مثيرة للشفقة.

وقالت: «مرة أخرى يا صديقي العزيز، يجبُ أن أشكرك.»

احتضنت أصابعُها أصابعه وابتسمَت في وجهه. ووجدَ تافرنيك نفسه غيرَ متجاوبٍ معها بشكل غريب. كانت الابتسامةَ نفسَها، وكان يعلم جيدًا أنه هو نفسُه لم يتغيَّر، ومع ذلك بدا كما لو أن الحياة نفسَها كانت متوقفة مؤقتًا بالنسبة إليه.

وتابعَت: «أنت أيضًا تبدو متجهمًا هذا الصباح، يا صديقي.» ثم استدركَت: «أوه، كم كان الأمر فظيعًا! خلال الساعتَين الماضيتَين كان لديَّ خمسةُ مراسلين على الأقل، ورجلٌ نبيل من سكوتلاند يارد وآخرُ من السفارة الأمريكية لرؤيتي. إنه أمرٌ فظيع للغاية بالطبع. أهل وينهام يبذلون قصارى جهدهم لجعلِ الأمر أسوأ. يريدون أن يعرفوا لماذا لم نكن معًا، ولماذا كان يعيش في الريف وأنا في المدينة. إنهم يحاولون إظهارَ أنه كان مقيَّدًا هناك، وكأنَّ شيئًا كهذا ممكن! كان ماذرز خادمَه الخاص … ماذرز المسكين!»

تنهَّدَت ومسحَت عينَيها. كان تافرنيك لا يزال صامتًا. فنظرت إليه مندهشةً بعضَ الشيء.

قالت: «أنت لستَ متعاطفًا جدًّا. من فضلك تعالَ واجلس بجانبي وسأُرِيكَ شيئًا.»

تحرَّكَ نحوها لكنه لم يجلس. فمدَّت يدها والتقطت شيئًا على المنضدة، ثم ناولته إياه. فأخذه تافرنيك بشكلٍ تلقائي وأمسكَ به بأصابعه. كان شيكًا باثني عشر ألف جنيه.

قالت: «انظر، أنا لم أنسَ. هذا هو اليوم المحدَّد، أليس كذلك؟ إذا أردت، يمكنك البقاء وتناول الغداء معي هنا وسنشرب نخب نجاح استثمارنا.»

أمسكَ تافرنيك الشيك بأصابعه؛ ولم يتحرَّك بأي شكلٍ لوضعه في جيبه. فنظرت إليه وعلى وجهها نظرةٌ عابسة حائرة.

صاحت: «أرجوك، تحدَّث أو قُلْ شيئًا. أنت تنظر إليَّ بقسوة. قُلْ شيئًا. اجِلسْ وكُنْ طبيعيًّا.»

«هل لي أن أسألكِ بعضَ الأسئلة؟»

فأجابت: «بالطبع يُمكنك ذلك. يمكنك أن تفعل أيَّ شيءٍ أفضلَ من الوقوف هناك بينما تبدو عليك القسوةُ والجمود. ما الذي تريد أن تعرفه؟»

«هل كنتِ تدركين أن وينهام جاردنر كان من هذا النوع من الرجال عندما تزوَّجتِه؟»

هزَّت كتفَيها قليلًا.

ثم اعترفَت: «أعتقدُ أنني كنتُ أدرك.»

«إذن فقد تزوجتِه فقط لأنه كان ثريًّا؟»

ابتسمَت.

وسألته: «وما الذي تتزوج النساء من أجله أيضًا، يا عزيزي الواعظ؟ ليس خطئي إذا كان هذا لا يبدو لطيفًا. يجب أن يمتلك المرءُ المال!»

أمالَ تافرنيك رأسه بشدة؛ ولم يُبدِ أيَّ علامة على المعارضة.

«أتيتما إلى إنجلترا، بصحبة بياتريس وأبيك. ثم تركَتكِ بياتريس لأنها رفضَت أشياءَ معينة.»

أومأت إليزابيث برأسها.

وقالت: «ربما يجدر بك أن تعرف الحقيقة كذلك. بياتريس لديها أكثرُ الأفكار سخافةً. بعد أسبوع مع وينهام، علمتُ أنه ليس شخصًا يمكن أن تعيش معه أيُّ امرأة. خادمُه كان في الحقيقة حارسَه؛ كان يتعرَّض لنوباتٍ هستيرية لدرجة أنه كان بحاجةٍ إلى شخص يُلازمه دائمًا. اضطُرِرتُ لتركه في كورنوول. لا أستطيع أن أخبرك بكل شيء، لكن كان من المستحيل تمامًا بالنسبة إليَّ الاستمرار في العيش معه.»

علَّقَ تافرنيك قائلًا: «بياتريس، كان لها فِكر آخر.»

نظرَت إليزابيث إليه بسرعةٍ من بين جَفنَيها. ورغم ذلك، كان من الصعب عليها أن تفهم أيَّ شيء من وجهه.

اعترفَت إليزابيث: «بياتريس كان لها فِكرٌ مختلف. اعتقدَت أنني يجبُ أن أرعاه، وأتحمَّله، وأتخلَّى عن جميع أصدقائي، وأحاول الحفاظَ على حياته. يا إلهي، كان من الممكن أن يكون هذا بالنسبة إليَّ استشهادًا وبؤسًا مطلقًا. كيف يمكن أن يُتوَقَّع مني أن أفعل مثل هذا الشيء؟»

أومأ تافرنيك برأسه بتجهُّم.

ثم سألَ: «ماذا عن المال؟»

اعترفَت قائلةً: «حسنًا، ربما كنتُ أنانية قليلًا في هذا الأمر.» وأضافت وهي تُومئ برأسها إلى الشيك في يده: «لكنك يجب ألَّا تتذمَّر من ذلك. لقد علمتُ عندما كنا متزوجَين أنني سوف أواجهُ مشاكل. كان أهله يكرهونني، وكنت أعلم أنه في حالةِ حدوث أي شيء مثلِ ما حدث، فإنهم سيحاولون إعطائي أقلَّ قدرٍ ممكن من حقوقي؛ ولذا قبل مغادرتنا نيويورك، جعلت وينهام يُحوِّل أكبر قدر ممكن من المال إلى نقود. وجلبنا هذا المال معنا.»

«ومَن الذي كان مسئولًا عن هذا المال؟»

ابتسمت إليزابيث.

وأجابت: «أنا بالطبع.»

قال تافرنيك: «أخبريني عن ليلة أمس. أعتقدُ أنني غبيٌّ لكني لا أفهم تمامًا.»

فردَّت: «وكيف ينبغي لك؟ اسمع، إذن. أعتقد أن وينهام قد سئم من الحبس مع ماذرز، على الرغم من أنني متأكدةٌ من أنني لا أعرف ما كان بإمكاني فعلُه بخلاف ذلك.» ثم أضافت مرتجفةً: «لذلك فقد تحيَّنَ الفرصة، وعندما لم يكن الرجل ينظر نحوه … حسنًا، أنت تعرف ما حدث. ثم وصلَ إلى لندن بطريقة ما وشقَّ طريقه إلى شارع دوفر.»

«لماذا شارع دوفر؟»

أوضحت إليزابيث قائلة: «أعتقدُ أنك تعرف أن وينهام لديه أخٌ يُشبهه تمامًا، اسمه جيري. كان لهذَين الاثنَين دائمًا شقة في شارع دوفر، حيث احتفظا ببعض الملابس الإنجليزية وخادم. وكان جيري جاردنر في لندن. كنت أعرفُ ذلك، وكنت أتوقعُ رؤيته كلَّ يوم. ذهبَ وينهام إلى الشقة، وارتدى ملابسَ أخيه، حتى إنه ارتدى خاتمَه وبعض مجوهراته، التي كان يعلم أنني سوف أتعرَّفُ عليها، وجاءَ إلى هنا.» وواصلَت بصوتٍ مرتجف: «لقد صدَّقتُ … نعم لقد صدَّقتُ طوال الوقت أن جيري هو مَنْ كان جالسًا معي. مرة أو مرتَين أُصِبتُ بنوع من الرعشة الرهيبة. ثم تذكَّرتُ كم كانا متشابهَين وبدا لي أنه من السخف أن أخاف. لم أعرف حتى وصلنا إلى الطابق العلوي، وأُغلِقَ الباب خلفي، واستدار نحوي وعرَفت!»

وضعَت رأسها فجأة في يدَيها. كانت هذه تقريبًا أولَ علامة على انفعالها. حلَّلها تافرنيك بلا رحمة. كان يعلم جيدًا أنه كان خوفًا، خوف الجبان من تلك اللحظة الرهيبة.

«والآن؟»

استطردَت ببهجةٍ أكبر: «الآن، لن يجرؤ أحدٌ على إنكار أن وينهام مجنون. سوف يوضع تحت الحراسة، بالطبع، وستمنحُني المحاكم إعانة. وهناك شيءٌ واحد مؤكَّد تمامًا، وهو أنه لن يعيش عامًا.»

أغلقَ تافرنيك عينَيه نصفَ إغلاقة. لم يُظهِر أيَّ علامةٍ على معاناته، ولم يبدُ أيُّ أثرٍ للأشياء التي كانت تتسلَّل خارجةً من حياته! بدا أن المرأة التي ابتسمَت له لا ترى شيئًا. ظنَّت أن ارتعاشَ أصابعه، والرجفة البسيطة التي اعترت وجهَه، بسبب خوفه عليها.

قالت بنبرةٍ متغيرة فجأة: «والآن، انتهى كل هذا. الآن أنت تعرف كلَّ شيء.» وأضافت وهي تبتسمُ له بسرور: «لا مزيد من الألغاز. بالطبع، كل هذا فظيعٌ جدًّا، لكني أشعر كما لو أنَّ ثِقلًا كبيرًا قد انزاح عن كاهلي. أنت وأنا سنكون صديقَيْن، أليس كذلك؟»

نهضَت ببطءٍ على قدمَيها وتوجَّهَت نحوه. وراقبت عيناه حركاتِها الهادئةَ الرشيقة كما لو كان مفتونًا. لقد تذكَّر كيف أنه في تلك الزيارة الأولى كان يظنُّ أن مشيتها رائعة. كانت لا تزال تبتسم له، وأسنَدَت أصابعها على كتفَيه.

تمتمَت قائلة: «أنت شخصٌ غريب جدًّا. لستَ مثل أيٍّ من الرجال الذين عرَفتُهم من قبل، أيٍّ من الرجال الذين حرَصتُ على صداقتهم. هناك شيءٌ فيك مختلفٌ تمامًا. أظن أن هذا هو السبب في أنني معجبة بك. هل أنت مسرور؟»

للحظةِ جموحٍ واحدة، تردَّد تافرنيك. كانت قريبةً جدًّا منه لدرجة أن شعرها لامسَ جبهته، وشعرَ بأنفاسها تتسلَّلُ من شفتَيها المنفرجتَين على خدَّيه. كانت عيناها الزرقاوان تتوسَّلان إليه وتغريانه في الوقت نفسِه.

قالت هامسةً: «ستكون صديقي العزيز، أليس كذلك يا ليونارد؟ أشعر أنني بحاجةٍ إلى شخص قويٍّ مثلك لمساعدتي خلال هذه الأيام.»

فجأةً قبضَ تافرنيك على اليدين اللتَين كانتا على كتفَيه ودفعهما للخلف. شعَرَت بأنها قد ثُبِّتَت في مكانها بمِلزمة، واستولى عليها رعبٌ مفاجئ. رفعَها من مكانها فلمحَت وجهَه الجامد المتوحش. ثم خرجَت أنفاسُه من خلال أسنانه المُطبَقة. كان جسده بالكامل يرتجف لكنَّ ثورته هدَأَت. فدفعها ببساطةٍ بعيدًا عنه.

قال: «لا، لا يمكننا أن نكون صديقَيْن! أنتِ امرأةٌ بلا قلب، أنتِ قاتلة!»

مزَّقَ شيكها بهدوءٍ وألقى به بعيدًا بازدراء. وقفَت تنظر إليه، متسارعةَ الأنفاس، وقد ابيضَّت شفتاها، على الرغم من أن عينَيه قد خلَتا من إحساس القتل.

وتابعَ: «حذَّرَتني بياتريس، وحذَّرني بريتشارد. ورأيتُ بعضَ الأشياء بنفسي، لكني أعتقدُ أنني كنتُ مجنونًا. أما الآن فأنا أعرف!»

أشاحَ بوجهه عنها. وتبِعَته عيناها بتساؤل.

وصرخَت: «ليونارد، أنت لن تذهب هكذا؟ أنت لا تقصد هذا!»

بعد ذلك أذهلتْه قدرتُه على ضبط النفس. لم يَرد. وأغلقَ كِلا البابَين بإحكام خلفه وتوجَّه نحوَ المصعد. حتى إنها جاءت إلى الباب الخارجيِّ ونادت عليه عبر الممر.

«ليونارد، عُدْ لحظةً واحدة!»

أدار رأسه ونظر إليها، نظر إليها من زاوية الممر، بثباتٍ ودون أن ينبسَ ببنتِ شفة. فسقطَت أصابعُها عن مقبض الباب. وعادت إلى شقتها ورُكْبتاها ترتعشان، وراحت تبكي بهدوء. بعد ذلك تعجَّبَت من نفسها. فقد كانت هذه هي المرةَ الأولى التي تبكي فيها منذ سنواتٍ عديدة.

سار تافرنيك إلى المدينة، وفي أقلَّ من نصف ساعة وجدَ نفسه في مكتب السيد مارتن. فرحَّبَ المحامي به بحرارة.

وقال: «أنا سعيدٌ جدًّا برؤيتك يا تافرنيك. آمُلُ أن تكون قد حصلت على المال. تفضَّل بالجلوس.»

لم يجلس تافرنيك؛ بل إنه نسيَ حتى أن يخلع قبعته.

قال: «مارتن، أنا آسفٌ لك. لقد خُدِعتُ وعليك أن تدفع الثمنَ كما دفعتُ أنا. لا يمكنني التقدُّم لشراء الأرض. ليس لديَّ بنسٌ واحد باستثناء أموالي الخاصة، وأنت تعرف مقدارها. يمكنك بيعُ قطع الأرض الخاصة بي، إذا أردت، واعتبارُ المال هو أتعابَك. لقد انتهيت.»

نظر إليه المحامي فاغرًا فاه.

وصاحَ متعجِّبًا: «عمَّ تتحدَّث بحق السماء يا تافرنيك؟ هل أنت ثَمِل، بأي حال من الأحوال؟»

أجابَ تافرنيك: «لا، أنا يقظٌ تمامًا. كلُّ ما هنالك أنني ارتكبتُ خطأً أو خطأَين سيئَين. ولديك توكيلٌ رسميٌّ مني. ويمكنك أن تفعل ما تريد بأرضي، واكتب أيَّ شروط تريدها. طابَ يومك!»

احتجَّ المحامي، ناهضًا على قدمَيه وهو يصيح: «لكن يا تافرنيك، اسمع هنا! أقول لك اسمعني يا تافرنيك!»

لكن تافرنيك لم يسمع شيئًا، أو إذا كان قد سمع، فإنه لم يُعِرْه انتباهًا. وخرَج إلى الشارع وتاهَ بين الحشود المسرعة على الأرصفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤