فطورٌ مع بياتريس
استيقظتِ الفتاة ربما بسبب مرور عربةٍ ثقيلة في الشارع بالأسفل، أو بلمسة من شعاع الشمس الذي تسلَّل إلى وسادتها، ففتحت عينيها أولًا ثم بعد أن ألقت نظرةً أولية حولها، جلست في السرير. وتشكَّلت في ذهنها ببطءٍ أحداثُ الليلة السابقة. تذكَّرت كلَّ شيء حتى ركوب تلك السيارة الأجرة. في وقت ما بعد ذلك لا بد أنها أغمي عليها. والآن ماذا حلَّ بها؟ أين كانت؟
نظرت حولها في دهشة متزايدة. بالتأكيد كانت أغربَ غرفة دخَلتْها على الإطلاق. كانت الأرضية مغبرَّة وعاريةً من أي سجادة؛ وكانت النافذة دون ستارة. كانت الجدران غيرَ مغطَّاة بورق الحائط ولكنها مغطاة هنا وهناك بلوحاتٍ غريبة المظهر، إحداها تشغل جانبَ الغرفة بالكامل تقريبًا … عمل فنِّي رديءٌ جدًّا به القليل من الطلاء الأزرق هنا وهناك، والظلال والمخططات التي كانت غير مفهومة على الإطلاق. هي نفسها كانت ترقد على سرير حديدي عتيق، وكانت ترتدي ثوبَ نوم خشنًا جدًّا. كانت ملابسها مطوية وموضوعة على قطعةٍ من الورق البُني على الأرض بجوار السرير. كانت الغرفة غير مؤثَّثة على الإطلاق، باستثناء حاجز بشع في منتصفها.
بعد أول فحصٍ حائر لما يُحيط بها، تركَّز انتباهُها بطبيعة الحال على هذا الحاجز. من الواضح أنه لا بد وُضع هنا لإخفاء شيءٍ ما. انحنت بحذر شديد خارج السرير حتى استطاعت أن ترى من زاوية الحاجز. عندئذٍ قفَز قلبها من موضعه ولم تملك إلا أن تكتمَ بداخلها صرخةَ خوف. كان أحدهم جالسًا هناك … رجل … يجلس على كرسيٍّ من الخيزران، منحنيًا على لفةٍ من الأوراق التي تمَّ شدُّها على منضدةِ قمار رديئة الصُّنع. شعرَت أن وجنتَيها تزدادان سخونة. لا بد أنه تافرنيك! أين أحضرها؟ ماذا يعني وجوده في الغرفة؟
أصدر السرير صريرًا حادًّا عندما استعادت وضعَها السابق. وأتاها صوتٌ من خلف الحاجز. عرَفَته على الفور. كان صوت تافرنيك.
سألها: «هل أنتِ مستيقظة؟»
أجابت: «نعم، نعم أنا مستيقظة. هل هذا السيد تافرنيك؟ أين أنا من فضلك؟»
تساءل قائلًا: «قبل أي شيء، هل أنتِ أفضل الآن؟»
طمأنَته وهي تعتدل في جلستها على السرير وتسحب الثوب إلى ذقنها: «أنا أفضل. أنا بصحة جيدة الآن. قل لي في الحال أين أنا وماذا تفعل هناك.»
أجابَ تافرنيك: «ليس هناك ما يدعو إلى الفزع. في واقع الأمر، أنا في غرفة أخرى. عندما أنتقل للباب، كما سأفعل مباشرة، سوف أسحب معي الحاجز. أستطيع أن أعدك …»
توسَّلَت قائلة: «أرجو منك أن تشرح كلَّ شيء بسرعة. أنا غير مرتاحة بالمرة.»
قال تافرنيك: «في الساعة الثانية عشرة والنصف من هذا الصباح، وجدتُ نفسي وحيدًا في سيارة أجرة معكِ، دون أيِّ أمتعة أو أي فكرة عن وجهتي. وما زادَ الطينَ بلَّة، أنكِ فقَدتِ الوعي. جرَّبتُ فندقَين لكنهما رفَضا استقبالكِ؛ ربما كانوا خائفين من أن حالتكِ الصحية ستزداد سوءًا. ثم فكرتُ في هذه الغرفة. أنا موظف، كما تعلمين، لدى شركة لوُكلاء العقارات. ومع ذلك أقوم بالكثير من العمل على حسابي الخاص، وهو ما أفضِّل القيام به في الخفاء، دون معرفةِ أحد. لذلك السبب، استأجرتُ هذه الغرفة منذ عام وكنتُ آتي إلى هنا في معظم الأمسيات للعمل. أحيانًا أبقى حتى وقتٍ متأخر؛ لذلك اشتريتُ سريرًا صغيرًا الشهرَ الماضي وأقمتُه هنا. هناك امرأة تأتي لتنظيف الغرفة. وقد ذهبَت إلى منزلها الليلة الماضية وأقنعتُها بالمجيء إلى هنا. وهي مَنْ خلعَت عنكِ ملابسَكِ ووضعتكِ في الفراش. آسفٌ لأن وجودي هنا أزعجك، لكنه مبنًى ضخم وخالٍ تمامًا في وقت الليل. اعتقدتُ أنكِ قد تستيقظين وتُصابين بالخوف؛ لذلك اقترضتُ هذا الحاجز من المرأة وجلستُ هنا.»
شهقَت قائلة: «ماذا، طوال الليل؟»
أجابَ: «بالتأكيد. لم تستطع المرأةُ البقاء هنا وهذا ليس مبنًى سكنيًّا على الإطلاق. كل الطوابق السُّفلية مؤجَّرة لمكاتب ومخازن ولا يوجد أحدٌ في المكان حتى الساعة الثامنة.»
وضعَت يديها على رأسها وجلست ساكنةً دقيقةً أو اثنتَين. كان من الصعب حقًّا استيعابُ كل ما حدث.
سألت سؤالًا لا صلةَ له بالموضوع: «ألا تشعر بالحاجة إلى النوم؟»
أجابَ: «ليس كثيرًا. غفوتُ مدةَ ساعة، منذ قليل. ومنذ ذلك الحين وأنا أُنعِم النظرَ في بعض الخطط التي تهمني للغاية.»
سألت بحياءٍ: «هل يمكنني النهوض؟»
أجابَ بارتياح واضح: «إذا كنتِ تشعرين بالقوة الكافية، من فضلك افعلي. سوف أتحرك نحو الباب، وأسحب الحاجز أمامي. وسوف تجدين فرشاة ومشطًا وبعضَ دبابيس الشعر على ملابسكِ. لم أستطع التفكيرَ في أي شيء آخر لإحضاره من أجلكِ، ولكن إذا كنتِ سترتدين ملابسَكِ، فسوف نسير إلى محطة لندن بريدج، التي تقع على الجانب الآخر من الطريق مباشرة، وبينما أطلب بعض الإفطار، يمكنك الذَّهاب إلى حمام السيدات وتصفيف شعركِ على النحو الملائم. لقد بذلتُ قصارى جهدي لإحضار مِرآة، لكن ذلك كان مستحيلًا تمامًا.»
استيقظَ حسُّ الدعابة لدى الفتاة فجأة. وبذلتْ جهدًا خارقًا حتى لا تضحك. من الواضح أنه فكَّر في كل هذه التفاصيل بشِقِّ الأنفس، واحدةً تلو الأخرى.
قالت: «شكرًا. سوف أنهض على الفور، إذا كنتَ ستفعل ما قلتَ إنك ستفعله.»
أمسكَ الحاجز من الداخل وجرَّه نحو الباب. وعلى العتبة، تحدَّث إليها مرة أخرى.
قال: «سأجلسُ على السلَّم في الخارج مباشرة.»
أكَّدَت له: «لن أستغرق أكثرَ من خمس دقائق.»
قفزت من السرير وارتدَت ملابسها بسرعة. لم يكن هناك شيءٌ خلف المكان الذي كان يوضع فيه الحاجزُ باستثناء منضدةٍ غُطِّيَت بألواح، ومقعدٍ صلب من الخيزران سحبَته من أجل استخدامها الخاص. أثناء ارتدائها لملابسها، بدأت تُدرك قدْرَ ما فعله من أجلها هذا الشابُّ العملي المتبلِّد العواطف خلال الساعات القليلة الماضية. وأثَّرَت فيها هذه الفكرة بطريقة غريبة. أصابها خجلٌ لم تشعر به عندما كان في الغرفة. وعندما انتهت من تجهيز نفسها فتحت الباب، كانت معقودة اللسان تقريبًا. كان جالسًا على آخِر درجة في السلَّم وظهره إلى منبسَطِ السلَّم، وعيناه مغلقتان. ولكنه فتحهما جافلًا بمجرد أن سمعَها تقترب.
قال: «أنا سعيدٌ لأنكِ لم تستغرقي وقتًا طويلًا. أريد أن أكون في مكتبي في الساعة التاسعة ولا بد أن أذهب للاستحمام في مكانٍ ما. درجات السُّلَّم شديدة الانحدار. أرجو أن تسيري بحذر.»
تبعته في صمتٍ وهما ينزلان ثلاثَ مجموعات من درجات السُّلَّم الحجري. عند كل منبسط سُلَّم كانت توجد أسماء على الأبواب … شركتان لتجارة نبات الجنجل المُستخدَم في صناعة البيرة، محامٍ، سمسار. وكان الطابق الأرضي عبارة عن مخزن، تنبعث منه رائحة الجلد النفَّاذة.
فتحَ تافرنيك الباب الخارجي بمفتاح صغير، وخرجَا معًا إلى الشارع.
قال: «محطة لندن بريدج على الجانب الآخر من الطريق. ستفتح غرفة المرطبات ويمكننا الحصولُ على وجبة الإفطار على الفور.»
سألت: «كم الساعة الآن؟»
«السابعة والنصف تقريبًا.»
سارت بجانبه بوداعةٍ شديدة، وعلى الرغم من وجود أشياء كثيرة كانت تتوق لقولها، فقد ظلَّت غيرَ قادرة على الحديث على الإطلاق. ولم يكن هناك أي شيء في مظهره يدلُّ على أنه كان مستيقظًا طوال الليل، فيما عدا أنه كان يبدو مرهقًا قليلًا. لقد بدا تمامًا كما كان يبدو في اليوم السابق، بل إنه بدا غيرَ واعٍ على الإطلاق لوجود أي شيءٍ غير عادي في علاقتهما. بمجرد وصولهما إلى المحطة، أشار إلى غرفة انتظار السيدات.
قال: «هَلا تدخلين وترتبين شعركِ هناك، سوف أذهب لأطلب الفطور ثم أحلق ذقني. سأعود هنا في غضون عشرين دقيقة. يجدر بكِ أن تأخذي هذا.»
قدَّم لها شلنًا فقبِلَته دون تردد. إلا أنها بمجرد رحيله نظرت إلى العُملة التي في يدها في تعجُّب خالص. لقد قبِلتْها منه بتلقائيةٍ تامة ودون حتى أن تقول «شكرًا لك!» فتحت الأبواب المتأرجِحة وهي تضحك ضحكة صغيرة غريبة، وشقَّت طريقها إلى غرفة الانتظار.
في غضون ربع ساعة بالكاد خرَجَت لتجد تافرنيك في انتظارها. كان قد أعاد ربط ربطة عنقه، واشترى ياقةً جديدة، وحلق ذقنه. وهي أيضًا حسَّنت مظهرها.
قال: «الإفطار بانتظارنا من هذا الطريق.»
تبعَته بطاعة وجلسا إلى طاولة صغيرة في غرفة المرطبات بالمحطة.
سألتْ فجأة: «سيد تافرنيك، يجب أن أسألك سؤالًا. هل حدثَ لك أمرٌ مثل هذا من قبل؟»
أكَّد لها قائلًا: «على الإطلاق.»
قالت معترضة: «يبدو أنك تأخذ كلَّ شيء على أنه مسألة طبيعية.»
«ولِمَ لا؟»
أجابت بوهن: «أوه، لا أعرف. كلُّ ما هنالك …»
ثم أطلقت ضحكة مفاجئة وطبيعية للغاية كانت مَخرجًا لها من الإجابة.
قال: «حسنًا، هذا أفضل. أنا سعيدٌ لأني أراكِ تضحكين.»
صرَّحَت قائلة: «في واقع الأمر، أشعر برغبةٍ أكبر في البكاء. ألا تعلم أنك كنتَ شديد الحُمق الليلةَ الماضية؟ كان ينبغي لك أن تتركني وحدي. لماذا لم تفعل؟ كنت ستوفر على نفسك كثيرًا من العناء.»
أومأ برأسه كما لو كانت وجهةُ النظر هذه قد خطرَت بباله، بدرجةٍ ما.
واعترفَ قائلًا: «نعم، أعتقد أنني كان ينبغي أن أفعل ذلك. أنا لا أفهم حتى الآن لماذا تدخَّلت. لا يسَعُني إلا أن أتذكَّر أن ذلك لم يبدُ ممكنًا في حينها.» ثم أضافَ وهو عابسٌ قليلًا: «أعتقد أنني لا بد لديَّ دوافع.»
قالت وهي تُقدِم على تناول شطيرة أخرى: «يبدو أن التفكير في الأمر يزعجك.»
اعترفَ قائلًا: «إنه يزعجني حقًّا. لا أحبُّ أن أشعر بأنني مضطرٌّ إلى فعل أي شيء لسبب غير واضح. أحبُّ أن أفعل الأشياء التي يبدو أنها من المُرجَّح أن تكون في مصلحتي.»
تمتمت قائلةً: «لا بد أنك تكرهني!»
فأجابَ: «لا، أنا لا أكرهُكِ، لكن من ناحية أخرى، أنتِ بالتأكيد تمثلين عبئًا عليَّ. في البداية، كذَبتُ من أجلكِ في الفندق، وأنا أفضِّل دائمًا أن أقول الحقيقة متى أستطِيع. ثم تبعتُكِ إلى خارج الفندق، وهو أمرٌ لم أكن أحبُّ فعله على الإطلاق، ويبدو أنني قضيتُ جزءًا كبيرًا من الوقت منذ ذلك الحين في صحبتكِ، في ظل ظروفٍ غير عادية إلى حدٍّ ما. لا أفهم لماذا فعلتُ هذا.»
قالت: «أعتقد أن السبب في ذلك هو أنكَ شخصٌ طيب القلب للغاية.»
أجابها مؤكِّدًا بهدوء: «لكنني لستُ كذلك. أنا لست أيَّ شيء من هذا القبيل. لديَّ القليل من التعاطف مع الناس الطيبين. أعتقد أن العالم سيسير بشكل أفضل كثيرًا عندما يعتني كلُّ شخص بنفسه، وليذهب الناسُ الذين ليسوا مؤهَّلين للقيام بذلك إلى الجحيم.»
تمتَمَت قائلة: «يبدو هذا التفكير أنانيًّا إلى حدٍّ ما.»
«ربما هو كذلك. أعتقد أنني إذا كان بإمكاني صياغةُ أفكاري بشكل مختلف فستصبح ضربًا من الفلسفة.»
قالت وهي تبتسمُ له عبر الطاولة: «ربما تكون قد فعلتَ كل هذا حقًّا لأنك معجَبٌ بي.»
قال مصرحًا: «أنا متأكِّد تمامًا من أن الأمر ليس كذلك. أشعر باهتمام بكِ لا أستطيع فهم كُنهِه، لكن لا يبدو لي أنه اهتمامٌ شخصي.» وتابعَ حديثه قائلًا: «في الليلة الماضية عندما كنتُ جالسًا هناك منتظرًا، حاولتُ فهم كُنه الأمر. وتوصلتُ إلى استنتاج مفاده أنكِ تُمثلين شيئًا لا أفهمه. أنا فضوليٌّ للغاية ودائمًا ما يهمني أن أتعلم. أعتقد أن هذا حتمًا هو سر اهتمامي بكِ.»
قالت له ساخرة: «أنت مجاملٌ للغاية. أتساءل ماذا عساه أن يكون الشيءَ الذي أستطيع تعليمه لشخصٍ فائق مثل السيد تافرنيك؟»
أخذَ سؤالها على محمل الجِد.
وأجابَ: «أنا نفسي أتساءل ما هو هذا الشيء. ومع ذلك، بطريقة ما، أعتقد أني أعرف.»
قالت: «لا بد أن تُعمِل خيالك للخروج من هذه الحيرة.»
أعلنَ بتجهُّم: «ليس لديَّ خيال.»
ظلَّا صامتَين عدةَ دقائق؛ كانت لا تزال تدرسه.
قالت فجأة: «أتساءل لماذا لا تسألني أيَّ أسئلة عن نفسي.»
أجابَ: «هناك شيءٌ واحد، لديَّ فضولٌ هائل أن أعرفه. الليلة الماضية في الصيدلية …»
توسَّلَت إليه، وقد اصفرَّ وجهُها فجأة: «لا تفعل! لا تتحدَّث عن ذلك!»
أجابَ بلا مبالاة: «حسنًا جدًّا. اعتقدتُ أنكِ كنتِ تَدْعينني لطرح الأسئلة. لا داعي للخوف من ذلك بعد الآن. أنا حقًّا لا يعتريني الفضولُ بشأن الأمور الشخصية؛ أعتقد أن حياتي تستحوذ على كل اهتمامي.»
انتهيَا من الإفطار ودفعَ الفاتورة. وبدأت هي في ارتداء قفازها.
قالت: «مهما حدث لي، فلن أنسى أبدًا أنك كنتَ في منتهى اللطف معي.»
ترددَت لحظةً ثم بدَت كأنها تُدرك الآن تمامًا كم كان لطيفًا حقًّا. كان هناك نوعٌ من الرقة الخالصة في أفعاله لم تَقْدُرها حَقَّ قدْرها. مالت نحوه. لم يتبقَّ شيءٌ هذا الصباح من هذا التجهم الذي كان يُشوِّهها. كان فمها ناعمًا؛ وعيناها لامعتَين، بل ربما جذابتَين.
إن كان تافرنيك يستطيع الحكم على مظهر المرأة، فلا بد أنه وجدها جذابة.
وتابعَت وهي تمدُّ يدها: «أنا ممتنةٌ جدًّا لك. سأتذكَّر دائمًا كم كنت لطيفًا. مع السلامة!»
سأل: «أستذهبين؟»
ضحكت.
وسألته: «عجبًا، هل تخيلتَ أنك قد أخذت على عاتقك مهمةَ العناية بي بقيةَ حياتك؟»
أجابَ: «لا، لم أتخيَّل ذلك. في الوقت نفسِه، هل لديكِ أيُّ خطط؟ إلى أين ستذهبين؟»
صرَّحت بلا مبالاة: «أوه! سأفكِّر في شيء ما.»
التقط بريقَ عينيها، واليأسَ المفاجئ الذي سقط كسحابة على وجهها. ثم تحدَّث بسرعة وبحسم.
وقال: «في واقع الأمر، أنتِ نفسُكِ لا تعرفين. ستخرجين فقط من هذا المكان ومن المُحتمل جدًّا أن تتوجَّهي إلى مقعدٍ على الإمبانكمنت مرة أخرى.»
ارتجفت شفتاها. لقد حاولَت أن تحافظ على رِباطة جأشها، لكن ذلك كان صعبًا.
أجابت: «ليس بالضرورة. قد يظهر شيءٌ ما.»
مالَ قليلًا عبر الطاولة نحوها.
وقال بروية: «اسمعي، سأقدِّم لك اقتراحًا. لقد خطر ببالي خلال الدقائق القليلة الماضية. لقد سئمتُ من النُّزُل وأرغب في تركه. والعمل الذي أقوم به ليلًا يزداد أهميةً أكثر وأكثر. أود أن أستأجر غرفتَين في مكانٍ ما. إذا أخذتُ غرفة ثالثة، فهل تقبَلين أن تُطلقي على نفسكِ ما أطلقتُه عليكِ عندما حدَّثتُ الخادمةَ عنكِ البارحة … أختي؟ سوف أتوقَّع منكِ أن تهتمِّي بطعامي وبملابسي وأن تساعديني في أمور أخرى.» وتابعَ: «لا أستطيع أن أعطيَكِ راتبًا كبيرًا، لكن ستتوفر لديكِ فرصةٌ أثناء النهار للبحث عن أي عمل، إذا كان هذا ما تريدينه، وسيكون لديكِ على الأقل سقفٌ يُظلُّكِ ووفرة من الطعام والشراب.»
نظرَت إليه نظرة خاوية ذاهلة. كان من الواضح أن عرضه صادقٌ ونزيه تمامًا.
واحتجَّت قائلة: «لكن يا سيد تافرنيك، لقد نسيتَ أنني لستُ أختَك في الحقيقة.»
سألها دون أن يجفل: «وهل هذا مهم؟» وأضافَ على نحوٍ يوحي بارتباكه: «أعتقدُ أنكِ تفهمين نوعَ الشخص الذي أنا عليه. لن يكون لديكِ ما تخشينه من أي إعجاب من جانبي … أو أي شيء من هذا القبيل. هذه الأشياء ليست جزءًا من حياتي. أنا أطمح لأن أتقدَّم، وأنجح وأصبح ثريًّا. أما غير ذلك من أمور فلا تخطر ببالي.»
لم تنبس ببنتِ شفة. وبعد وقفة قصيرة، استأنفَ حديثه.
«إنني أقدِّم هذا العرض من أجلي بقدرِ ما هو من أجلكِ. أنا مثقفٌ جدًّا وأعرفُ معظمَ ما يمكن معرفتُه في مهنتي. ولكن ثمة أشياء أخرى أجهلها. أعتقدُ أنكِ تستطيعين تعليمي بعضَ هذه الأشياء.»
جلسَت ونظرت إليه عدةَ لحظاتٍ وهي لا تزال عاجزة عن الكلام. في الخارج، كانت المحطة مكتظة الآن بحشودٍ متسارعة في طريقهم إلى أعمالهم اليومية. وكانت المحرِّكات تدوي، والأجراس تدق، ووقْع الخطوات لا يتوقف. وفي الغرفة المظلمة السيئة التهوية نفسِها كان صوتُ قرع الأواني الخزفية، وتثاؤب الشابات الساخطات من خلف منضدة البيع، شابات لا يزال شعرهن ملفوفًا ببكرات الشعر، غير مستعدَّاتٍ بعدُ للقيام بجولاتهن الصغيرة داخل الغرفة لتلبية طلبات زبائنهن المسالمين الذين يترقَّبون مجيئهن. بدا وكأنه ركنٌ غريب في الحياة. نظرت إلى رفيقها وأدركَت أنها لا تعرف عنه سِوى معلوماتٍ قليلة متناثرة. لم يكن هناك شيء يمكنها استنتاجُه من وجهه. بدا أن وجهه خالٍ من التعبيرات. كان ببساطة ينتظر ردَّها بينما أفكاره نصف منهمِكة بالفعل في أعمال اليوم.
بدأت: «حقًّا، أنا …»
عادَ من شروده اللحظيِّ ونظر إليها. وفجأةً غيَّرَت طريقةَ حديثها. ربما كان عرضًا غريبًا، ولكن هذا الرجل كان من أغرب الرجال.
قرَّرت: «أنا على استعداد تام للتجرِبة. هلا تخبرينني أين يمكنني مقابلتك لاحقًا؟»
قال: «لديَّ ساعة ونصف الساعة لتناول الغداء عند تمام الواحدة. قابليني عند الركن الجنوبي الشرقي بالضبط من ميدان ترافالجار.» وأضاف وهو ينهض: «هل تريدين القليل من المال؟»
أجابت: «لديَّ الكثير، شكرًا لك.»
وضعَ شلنين ونصفَ الشلن على المنضدة ودوَّنَ شيئًا في مذكرة صغيرة أخذها من جيبه.
قال: «من الأفضل أن تحتفظي بهذا المبلغ، في حال احتجتِ إليه. سأتركُكِ وحدكِ هنا. يمكنكِ أن تنتقلي إلى أي مكان تريدينه، أنا متأكِّد، وأنا على عجَلة من أمري. تذكَّري، في الساعة الواحدة. أتمنى أن تظلِّي بخير.»
وضعَ قبعته وغادرَ دون أن يُلقي نظرة إلى الوراء. وجلسَت بياتريس على كرسيها تُراقبه حتى غاب عن نظرها.