فتنة امرأة
في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، قدم تافرنيك نفسه في ميلان كورت وسأل عن السيدة وينهام جاردنر. فأُرسِل على الفور إلى سكنها بصحبة حاجب. كانت مستلقيةً على أريكة مكدَّسة بالوسائد، ومُدثَّرة برداءٍ أزرق رائع بدا بطريقةٍ ما، يزيد لونَ عينيها عُمقًا. كانت بجانبها طاولةٌ صغيرة عليها بعض الشوكولاتة، ومزهرية، ولفافةٌ من الصحف. مدَّت يدها نحو تافرنيك لكنها لم تنهض. كان هناك شيء يكاد يكون روحيًّا حول شحوبها، والحدود الدقيقة الناعمة لجسدها، الذي كان مَخفيًّا بشكل غير كامل وراء الرداء الحريري الرقيق، والابتسامة الباهتة المتعبة التي رسمتها على وجهها وهي ترحب به.
قالت راجية: «فلتسامح استقبالي لك بهذا الشكل يا سيد تافرنيك. أعاني اليوم من صداع. لقد كنتُ متلهفةً على قدومك. من فضلك اجلس بجانبي وأخبرني على الفور إن كنتَ قد رأيت بياتريس.»
فعَل تافرنيك ما طُلِبَ منه بالضبط. كان المقعد الذي أشارت له قريبًا جدًّا من الأريكة، لكن لم يكن ثمة مقاعدُ أخرى غير مشغولة في الغرفة. رفعَت نفسها قليلًا على الأريكة واستدارت نحوه. كانت عيناها مثبتتَين بقلق على عينيه، وجبهتها مجعَّدة قليلًا، وصوتها يتهدج من اللهفة.
«هل رأيتَها؟»
اعترفَ وهو ينظر بثباتٍ إلى بطانة قبعته: «نعم.»
قالت إليزابيث: «كانت قاسية. أستطيع أن أفهم ذلك من وجهك. لديك أخبار سيئة من أجلي.»
أجابَ تافرنيك: «لا أعرفُ هل كانت قاسيةً أم لا. لقد رفضَت السماح لي بإخباركِ بعُنوانها. وفي الواقع، توسَّلَت إليَّ أن أبتعد عنكِ تمامًا.»
«لماذا؟ هل أخبرَتك بالسبب؟»
أجابَ تافرنيك بتأنٍّ: «تقول إنكِ أختها، وإنكِ ليس لديك مالٌ خاص بكِ وإن زوجكِ قد ترككِ.»
«هل هذا كل شيء؟»
وتابعَ: «لا، ليس كلَّ شيء. بالنسبة إلى باقي الكلام، فلم تُخبرني بشيء واضح. على أي حال، من الجليِّ أنها حريصة جدًّا على أن تظل بعيدة عنك.»
أصرَّت إليزابيث: «لكن ما أسبابها؟ أأخبرتك بأي سبب؟»
نظرَ تافرنيك في وجهها.
وقال: «لم تُخبرني بأي سبب.»
سألت إليزابيث، وهي تعبث بعصبية بقلادة معلقة في عنقها الناعم العاري: «هل تعتقد أن لديها ما يُبرر معاملتي بهذه الطريقة؟»
أجابَ: «بالطبع أعتقد ذلك. أنا متأكِّد من أنها لن تشعرَ نحوكِ بما تشعر به ما لم تكوني قد ارتكبتِ شيئًا فظيعًا حقًّا.»
جفلَت المرأة المستلقية على الأريكة كما لو أن أحدًا قد ضربها. ولا بد أن أي رجل أكثرَ حساسيةً من تافرنيك كان سيشعر بالندم قليلًا عندما يرى عينَيها مُغرورِقتَين بالدموع. إلا أن تافرنيك، على الرغم من شعوره بالانزعاج لحظة، وعلى الرغم من أنه كان يشعر طوالَ الوقت بأن ثمة شعورًا جديدًا وغريبًا يجتاحه، لم يستطع فهم كُنهِه، كان لا يزال محصَّنًا. لم يحِن الأوانُ بعدُ للأشياء التي كان من المقرر أن تحدث له.
واصلَ حديثه قائلًا: «بالطبع، شعرت بخيبةِ أمل كبيرة لسماع هذا؛ لأنني كنتُ آمُل أن نتمكَّن من تأجير جرانثام هاوس لكِ. لا يمكننا النظرُ في الأمر على الإطلاق الآن ما لم تدفعي مقابل كل شيء مقدمًا.»
مسَحَت عينيها ونظرت إليه. نادرًا ما مرَّ في حياتها أشخاصٌ بهذا القدر من الصراحة والمباشرة في الحديث. كانت تُدرك تحمُّسَها واهتمامَها. فقد كانت شَغوفةً بدراسة الرجال. وكان هذا الرجل بالفعل نوعًا جديدًا!
تمتمَت: «إذن أنت تعتقد أنني امرأة مستهترة ساعية للثروة.»
فكَّر لحظة.
ثم اعترفَ: «أعتقد أن الأمر كذلك. لم أكن لأرجعَ مرةً أخرى، إذا لم أقطع وعدًا على نفسي. إذا كان هناك أيُّ رسالة تَودِّين إرسالها إلى أختكِ، فسآخذها، ولكني لا أستطيع إخبارَكِ بعنوانها.»
وعلى حينِ غِرة، وضعَت يدها على يده، ورفعت نفسها قليلًا على الأريكة، ومالت نحوه. كانت عيناها وشفتاها تتوسلان إليه.
قالت ببطء: «إن بياتريس مخلوقة عزيزة وعنيدة، ولكنها لا تُقدر موقفي تمامًا. اصنع لي معروفًا، رجاءً. إذا كنتَ قد وعدت بعدم إعطائي عنوانها، فدعني على الأقل أعرف طريقةً أو مكانًا ما يمكنني أن أقابلها فيه. أنا متأكدة من أنها ستكون سعيدةً فيما بعد، وأنا … أنا سأكون ممتنة للغاية.»
شعر تافرنيك بأنه محاطٌ بشيء لم يفهم كنهه، لكن افتقاره إلى الخبرة كان كبيرًا لدرجة أنه لم يندهش من عدم حساسيته.
قال: «سأفي بكلمتي لأختكِ، لفظًا ومعنًى. ولن يُفيدك إطلاقًا أن تطلبي مني القيام بخلاف ذلك.»
كانت إليزابيث في البداية مندهشة، ثم غاضبة، غاضبةً لدرجةٍ نادرًا ما عرَفَتها في نفسها. كانت طفلةً مدلَّلة، وكبرت لتصبح امرأةً مدللة. كان الرجال، على الأقل، على استعدادٍ كامل لأن يكونوا رهن إشارتها طوال حياتها. فجمالها كان من نوع خاص، جمالًا يمتزجُ فيه الإغراءُ وإثارة الشفقة، لدرجةٍ جعَلتْه لا يُقاوَم على الإطلاق. والآن جاء هذا الشخص الغريب شبهُ المستحيل، الذي بدَّدَت نفسها سُدًى في مواجهةِ درعِ لامبالاته. امتلأت عيناها بالدموع مرة أخرى وهي تنظر إليه، وشعر تافرنيك بالاضطراب. نظر إلى الساعة ثم نظر مرة أخرى نحو الباب.
بدأ قائلًا: «أعتقد، إذا سمحتِ لي …»
قاطعته قائلة: «سيد تافرنيك، أنت قاسٍ جدًّا معي، قاسٍ جدًّا حقًّا.»
أجابَ: «لا أملك أن أفعل غيرَ ذلك.»
وتابعت قائلة: «إذا كنت تعرف كلَّ شيء، فلم تكن لتصبح عنيدًا إلى هذا الحد. إذا كانت بياتريس نفسُها هنا، إذا كان بإمكاني أن أهمس بشيء في أذنها، فستكون في غاية الامتنان لأنني وجدتُها. بياتريس كانت دائمًا تسيء فَهمي يا سيد تافرنيك. وهذا أمر قاسٍ إلى حدٍّ ما بالنسبة إليَّ؛ فكلتانا بعيدتان جدًّا عن الوطن، وعن أصدقائنا.»
أوضحَ تافرنيك: «يمكنكِ أن ترسلي إليها أيَّ رسالة تُحبينها من خلالي. إذا أردتِ، سأنتظر بينما تكتبين رسالة. إذا كان لديك حقًّا أيُّ شيء تقولينه لها ربما يغيِّر رأيها، فيُمكنكِ كتابته، أليس كذلك؟»
نظرَت إلى يديها — كانتا يديَن جميلتَين جدًّا ومعتنًى بهما جيدًا — وتنهَّدَت. هذا الشاب كان يُثير أعصابها بجموده غير العادي وعقليته البغيضة.
قالت: «من الصعب للغاية كتابةُ هذه الأشياء، يا سيد تافرنيك، لكن، بالطبع، إذا حدث الأسوأ، فسأُضطرُّ إلى إرسال رسالة لها. سأفكر في ذلك وهلة. وفي غضون ذلك، هناك الكثير جدًّا عنها أحبُّ أن تقوله لي. إنها لا تملك مالًا، أليس كذلك؟ فكيف تعول نفسها؟»
ردَّ تافرنيك بعدما توقف لحظة: «إنها تُغني من حينٍ لآخر في الحفلات الموسيقية. أفترض أنه لا ضرر من إخباركِ بذلك.»
مالت إليزابيث نحوه. لقد كانت رافضةً تمامًا لأن تعترف بهزيمتها. ومرة أخرى كان صوتها ناعمًا فاتنًا، وجبهتها مجعَّدة قليلًا، وعيناها الزرقاوان تتلألآن ببريق ساحر جذاب.
تمتمَت: «سيد تافرنيك، أتعلم أنك لستَ لطيفًا معي على الإطلاق؟ فأنا وبياتريس أختان في نهاية الأمر. حتى هي اعترفَت لك بذلك. لقد تركتني بمنتهى القسوة في وقتٍ حرج من حياتي، وأساءت فَهْم بعض الأمور؛ إذا قُدِّر لي أن أراها، فسوف أشرح لها كلَّ شيء. أنا حزينةٌ للغاية من أنها تعيش بمعزِلٍ عني في هذه المدينة حيث كلتانا غريبتان. أنا قلقةٌ عليها يا سيد تافرنيك. هل يعوزها المال؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكنك أن تأخذ لها مني؟ ألا يمكنك أن تقترح لي طريقةً يمكنني من خلالها مساعدتها؟ أرجو منك أن تكون صديقي وتنصحني.»
كانت الحياة تنفتح بالتأكيد أمام تافرنيك. الأجواء المحيطة به، التي كانت تخلقها عمدًا حوله، كانت أجواءَ عالمٍ مجهول. لقد كان هذا الموقف جديدًا تمامًا عليه. ومع ذلك، فقد بذل قُصارى جهده للتعامل معه بذكاء. كان يفكر مليًّا قبل أن يُحِيرَها أيَّ جواب، ورفض تمامًا أن يُنصت إلى الأصوات الغريبة التي تطنُّ في أذنَيه، وتوصَّل إلى قراره بالحسم المعتاد نفسِه.
قال: «أخشى أن بياتريس ما دامت ترفض السماحَ لكِ حتى بمعرفة مكان وجودها، فإنها لا ترغب في قَبول أيِّ شيء منكِ.» ثم واصل ورغبةُ تدبير المال تتأجَّجُ بداخله: «هذا يبدو مؤسفًا، فهي بالتأكيد ليست ميسورة الحال.»
تنهَّدت السيدة المستلقيةُ على الأريكة.
وتمتمَت: «على الأقل بياتريس لديها صديق. عظيم جدًّا أن يكون لديك صديق. إنه أكثرُ مما لديَّ. كلٌّ منا بعيدةٌ جدًّا عن الوطن هنا. كثيرًا ما أشعر بالأسف لأننا غادرنا أمريكا. وإنجلترا ليست بلدًا مضيافًا، يا سيد تافرنيك.»
مرة أخرى، تحدَّث هذا الشابُّ الصريح صراحةً مؤلمة بما يعتملُ في ذهنه.
وذكَّرها قائلًا: «كان ثمة رجلٌ نبيل معكِ في السيارة في تلك الليلة.»
عضَّت شفتَها.
وردَّت قائلةً: «كان مجرد أحد المعارف، رجلٌ كنت أعرفه في نيويورك، وجاء إلى لندن. اتصل بي ودعاني للذَّهاب إلى المسرح وتناول العشاء. ولِمَ لا؟ لقد مررتُ بوقت عصيب خلال الأشهر القليلة الماضية، يا سيد تافرنيك، وأنا وحيدةٌ جدًّا؛ أشدُّ وحدةً من أي وقت مضى منذ أن هجَرَتني أختي.»
بدأ تافرنيك يشعر، على الرغم من السخافة التي تبدو عليها الفكرة، أنه — بطريقةٍ خفية وغير قابلة للتفسير — كان في خطر. على أي حال، كان في حيرة شديدة. لم يفهم لماذا تنظر إليه هذه المرأةُ الشديدةُ الجمال كما لو كانوا أصدقاء قُدامى، ولماذا تُناشده عيناها كثيرًا من أجل التعاطف، ولماذا أصابعها، التي كانت قبل لحظةٍ تستريح بخفةٍ على يده، وسحَبَتها في تردد، تكاد تحرقُه مثل لسعات النار. قد تكون في أسلوبها المرأةَ التي ترغب في الإغراء خفْيةً قدر الإمكان، ولكن غالبًا ما يتسلل إلى ضحيتها الافتراضية، شعورٌ بغرضها، مهما كان هذا الشعور غامضًا. كان من الواضح أن تافرنيك مضطربٌ للغاية. لم يكن لديه إحساسٌ بالصلَف. كان يعلم من البداية أن هذه المخلوقة الجميلة تنتمي إلى عالم بعيدٍ كلَّ البُعد عن كل ما يعرفه. والحل الوحيد للوضع الذي وجد نفسه فيه هو أن تكون هذه المرأة تُفكر في اقتراض المال منه!
واصلَت بنعومة: «لم يسبق أن مرَرتُ في حياتي بوقت شعرتُ فيه بحاجتي إلى صديق أكثر من هذا الوقت. أخشى أن أختي قد جعَلتك تتحاملُ عليَّ، يا سيد تافرنيك. بياتريس صغيرة جدًّا، والشباب ليسوا دائمًا متعاطفين، كما تعلم. إنهم لا يتسامحون، ولا يفهمون.»
سألها بصراحة: «لماذا قلتِ للسيد داولينج أشياءَ غير صحيحة؟»
تنهدت ونظرت إلى المنديل الذي كانت تعبث به.
ثم اعترفَت قائلة: «لقد كان غرورًا سخيفًا للغاية، ولكن، كما تفهم، كان لا بد أن أقول شيئًا.»
واصل: «ولماذا أتيتِ إلى المكتب من الأساس؟»
همسَت بنعومة: «هل تريد حقًّا معرفةَ ذلك؟»
«حسنًا …»
تابعَت فجأة: «سأخبرك. يبدو الأمر سخيفًا، بطريقةٍ ما، ولكنه لم يكن سخيفًا حقًّا» وابتسمَت له وهي تُكمِل: «انظر، كنتُ قلقةً على بياتريس. ورأيتُك تخرج من المكتب في ذلك الصباح، وتعرفتُ عليك في الحال. عرَفت أنك أنت مَنْ كنت مع بياتريس. وتذرَّعتُ بأمر المنزل لآتيَ وأتفقد ما إذا كنتُ سأستطيع أن أقابلك.»
فات تافرنيك، الذي لم يولَد فيه الغرورُ بعد، مغزَى ابتسامتها وتردُّدِها البسيط.
وأفادَ قائلًا: «كلُّ هذا ليس سببًا يجعلكِ تُخبرين السيد داولينج أن زوجكِ مليونير، وأنه قد أعطاكِ تفويضًا بشأن استئجار منزل.»
«هل ذكرتُ … زوجي؟»
أكَّد لها: «بالطبع، فعلتِ.»
لأول مرة تعثرَت في حديثها. وشعر تافرنيك بأنها هي نفسها قد اهتزَّت بفعل عاطفةٍ معينة. لمعت عيناها لحظةً على نحوٍ غريب؛ وبدا على وجهها شيءٌ لم يفهمه. ثم مرَّ هذا الشيء. ومرةً أخرى غادرَت وجهَها الابتسامةُ المبهجة، التي تمزج ما بين الاحتجاج والمناشدة، ولم يَعُد بريقُ الرعب يلمع في عينَيها الزرقاوين.
قالت مصرِّحةً: «أنا دائمًا حمقاءُ فيما يتعلق بالمال، وجاهلة جدًّا لدرجة أني لا أعرف أبدًا موقفي المالي، ولكنني أعتقدُ حقًّا أن لديَّ الكثير، ولم يبدُ أن إنفاق مائة أو مائتَين تقريبًا بغرض الإيجار أمرٌ ذو أهمية كبيرة.»
كانت وجهة النظر هذه غيرَ مفهومة على الإطلاق بالنسبة إلى تافرنيك. فنظر إليها بدهشة.
احتجَّ قائلًا: «ألا تعرفين ما تحتاجين إلى إنفاقه للعيش في السنة؟»
هزَّت رأسها.
تنهَّدت قائلة: «يبدو لي أن الأمر متباينٌ طوال الوقت. هناك الكثير من التعقيدات.»
نظرَ إليها بذهول.
واعترفَ: «رغم كل شيء، لا تبدين امرأةً شغَلَت تفكيرها كثيرًا بالأرقام.»
تمتمت: «ليت لديَّ شخصًا ما لمساعدتي!»
تملمَل تافرنيك باضطرابٍ في مقعده. كان إحساسه بالخطر يتزايد.
قال: «إذا سمحتِ لي الآن، أعتقد أنني يجب أن أعود. أنا موظفٌ في داولينج، سبينس آند كمباني، كما تعلمين، ووقتي ليس ملكي. جئتُ فقط لأنني وعدتُ بذلك.»
قالت متوسِّلة، وهي تنظر إليه بهاتَين العينَين الزرقاوين الرائعتَين: «سيد تافرنيك، أرجو منك أن تصنع لي معروفًا كبيرًا.»
سألَ بفظاظةٍ خرقاء: «ما هو هذا المعروف؟»
«تعالَ لتراني بين الحين والآخر، وأخبرني كيف حالُ أختي. ربما يمكنك اقتراح طريقةٍ يمكنني من خلالها مساعدتُها.»
فكَّر تافرنيك في الطلب لحظة. كان غاضبًا من نفسه بسبب إحساسه غير المسئول بالمتعةِ الذي خلَّفه في نفسه اقتراحُها.
قال: «لستُ متأكِّدًا تمامًا مما إذا كان من الأفضل لي الحضور. بياتريس بدت حريصةً للغاية على أنني يجب ألَّا أتحدث عنها معكِ على الإطلاق. ولم يعجبها مجيئي هنا اليوم.»
صرَّحت إليزابيث مفكِّرة: «يبدو أنك تعرف الكثير عن أختي. إنك تناديها باسمها المسيحي ويبدو أنك تراها بكثرة. ربما، حتى، أنت مغرَمٌ بها.»
استقبلَ تافرنيك نظرةَ السائلة المستفسرة بهدوء. كان شبهَ ساخط.
صاحَ: «مغرم بها! أنا لم أغرم بأي شخص في حياتي، أو أي شيء …» ثم أضافَ: «باستثناء عملي.»
نظرَت إليه في حيرة في البداية.
صاحت وشفتاها تنفرجان عن ابتسامة مبهجة: «أوه، يا لك من شخص غريب! ألا تعلم أنك لم تبدأ في العيش بعد؟ إنك حتى لا تعرفُ شيئًا عن الحياة، وفي خلفية ذلك كلِّه، لديك القدرة.» ومضَت قائلة: «نعم، أعتقد أن لديك القدرة على العيش.»
سقطَت يدها على يده بحركةٍ بسيطة وكأنها تربتُ عليه. فنظر حوله كما لو كان يبحث عن مَهرب. كان على قدمَيه الآن وأمسكَ بقبعته.
أصرَّ بخشونة: «يجب أن أذهب.»
سألت ببراءة: «هل أعطلك؟ حسنًا، تستطيع أن تذهب حالما تريد، ولكن عليك فقط أن تعدَني بشيء واحد. يجب أن تعود، فلنقُل في غضون أسبوع، لتخبرني كيف حال أختي. أنا لستُ في نصف الوحشية التي تظنها. أنا حقًّا قلقة عليها. أرجوك!»
فأجابَ: «أعدُكِ بذلك.»
توسَّلت إليه وهي تلتفتُ نحو الرسائل بجوارها: «فلتنتظر لحظةً إذن. هناك شيء أريد أن أسألك عنه. لا تكن ضجرًا … إنها مسألة تتعلق بالعمل بشكل كامل.»
طوال الوقت كان مدركًا تمامًا لتلك الرغبة المحمومة في الخروج من الغرفة. امتدَّت أمامه ذراعا المرأة البيضاوين، اللتان كشفَت عنهما أكمامُ الرداء التي تراجعَت للخلف، وهي تلتفتُ بتكاسلٍ إلى كومة المراسلات الخاصة بها. كانتا ذراعَين جميلتَين للغاية، وكان تافرنيك، على الرغم من أنه لم تكن لديه أي خبرة، على درايةٍ غامضة بهذه الحقيقة. وبدَت عيناها أيضًا تحاولان دائمًا الوصولَ إلى جزءٍ منه كان ميتًا، أو ربما لم يُولَد بعد. كان يشعر بأنها تسعى جاهدةً للوصول إلى هناك، طارقةً على أبواب لامبالاته. لماذا ترتدي امرأةٌ جواربَ زرقاء لأنها ترتدي رداءً أزرق، تساءل بفتور. لم تكن مثل بياتريس، هذه المرأة الجميلة الجذابة التي كانت ترقد هناك وتتحدثُ إليه بطريقةٍ لم يفهم معناها إلا بغرابة كومضات محيِّرة. يمكن أن يكون مع بياتريس ويشعر بحقيقةِ ما قاله لها مرةً ما … أن جنسها ليس أمرًا ذا أهميةٍ جديرةٍ بالاعتبار فيما بينهما. أما مع هذه المرأة فالأمر مختلف؛ شعر بأنها كانت ترغب في أن يكون مختلفًا.
اقترح باقتضابٍ كاد يكون فظًّا: «ربما كان من الأفضل أن تخبريني عن هذه المسألة في المرة القادمة التي آتي فيها إلى هنا. يجب أن أذهب الآن. لا أعرف لماذا مكثتُ كلَّ هذه المدة.»
مدَّت أصابعها.
قالت مبتسمةً لارتباكه: «أنت شخصٌ متسرع للغاية. إذا كنت ستذهب حقًّا!»
بالكاد لمسَ يدها، وكان كلُّ ما سعى إليه هو الابتعاد فحسب. ثم انفتح البابُ ودخل الغرفةَ رجلٌ ذو مظهر مميَّز، عليه سِيماءُ الثراء. كان يرتدي ملابسَ غريبة، غيرَ متفقة مع الموضة الحالية. كان معطفه الأسود على طراز الجيل الماضي، وكانت ياقته متأثرةً بجلادستون ورفاقه من رجال الدولة، وربطة عنقه السوداء مرتَّبة بتجاهل مدروس ويُظهِر قميصُه الأبيض المكشكش جزءًا أكبر مما يظهر في المعتاد أثناء النهار. كانت قبعتُه الحريرية لامعةً لكنها عريضةُ الحواف، وكان شعره الكثيف الرمادي، ممشَّطًا للخلف من جبهة عريضة عالية، مانحًا إياه جانبًا بطْرِيَركيًّا. وكانت ملامحه ضخمةً ووسيمة إلى حَدٍّ بعيد، لكن فمه كان رفيعًا ووَجْنتاه شاحبتان. حدَّق به تافرنيك فاغرًا فاه. أما هو، فمن جانبه نظر إلى تافرنيك كما كان ينظر إلى حيوانٍ وحشي غريب.
قال: «خالصُ اعتذاري يا عزيزتي إليزابيث! طرقتُ البابَ، ولكن أظن أنكِ لم تسمعيني. بمعرفتي لعاداتكِ، لم يخطر ببالي أنكِ قد تكونين مشغولةً في هذه الساعة من الصباح.»
أعلنَت بلا اكتراث: «إنه شابٌّ من عند وكيل العقارات جاء ليُقابلني بخصوص شقة.»
فقال بوُد: «في هذه الحالة، ربما أنا لا أقاطع شيئًا.»
أدارت إليزابيث رأسها قليلًا ونظرَت إليه، فتراجَع على عجلٍ نحو الباب.
وقال: «في غضون بضع دقائق. سأعود في غضون بضع دقائق.»
حاول تافرنيك أن يحذوَ حذوه.
واحتجَّ قائلًا: «لا داعي أن يرحل صديقُكِ. إذا كانت لديكِ أيُّ تعليماتٍ لنا، فرسالةٌ إلى المكتب كفيلة بأن تُحضر شخصًا لمقابلتكِ هنا.»
جلسَت منتصبةً على الأريكة وابتسمَت له. أمتعَها حرَجُه الواضح. كان الأمر كله بمثابة لعبة جديدة بالنسبة إليها.
قالت: «تعالَ يا سيد تافرنيك، ثلاث دقائق أخرى لن تكون مهمة، أليس كذلك؟ لن أبقيَك أطول من ذلك، أعدُك.»
عادَ على مضضٍ بضع خطوات إلى الوراء.
وأوضحَ: «أنا آسف، لكننا مشغولون حقًّا هذا الصباح.»
قالت وهي لا تزال تبتسمُ له ابتسامةً مبهجة: «هذا عمل. لقد ملَأَتك أختي بالشكوك عني. قد يكون البعضُ منها له ما يُبرره، والبعض الآخر ليس كذلك. أنا لستُ ثريةً كما أريد أن يعتقدَ بعضُ الناس. من الأسهل بكثير أن تعيش حياة رغدة، كما تعلم، عندما يعتقد الناس أنك تتمرغ في المال. ومع ذلك، فأنا لستُ فقيرةً بأي حال من الأحوال. لا يمكنني تحملُ إيجار جرانثام هاوس، لكن لا يمكنني أيضًا تحمل الاستمرار في العيش هنا. لقد قرَّرتُ إجراء تغيير، قررتُ أن أحاول التوفير، أحاول العيش في حدود إمكانياتي. الآن هَلا أحضرت لي قائمةً بالمنازل الصغيرة أو الشقق، شيء لا يزيد مثلًا عن مائتَين أو ثلاثمائة في العام؟ ستكون إجراءات عملٍ صارمة. سأدفع لك مقابلَ وقتك، إذا لزم الأمر، وسأدفع عمولتك مقدمًا. ها، لا يمكنك رفض عرضي بهذه الشروط، أليس كذلك؟»
ظلَّ تافرنيك صامتًا. كان يُدرك أن عدم استجابته كانت عنيدةً ومحرجة، ولكنه كان في الوقت الحالي معقودَ اللسان.
أعربَت عادتُه في التحليل الذاتي في الوقت غير المناسب عن نفسِها مرةً أخرى. لم يستطع أن يفهم الطبيعة الغريبة لعدم ثقته في هذه المرأة، كما لم يستطع أن يفهم المتعة التي أورثَها له اقتراحُها. أراد أن يرفض، ومع ذلك فقد كان سعيدًا لأنه استطاع أن يخبر نفسه بأنه، في نهاية الأمر، مجردُ موظف في شركته ولم يكن في وضع يسمح له برفضِ العمل نيابةً عنهم.
مالت قليلًا نحوه؛ وكانت نبرتُها تكاد تكون متوسلة.
قالت راجيةً إياه: «لن تكون قاسيًا؟ لن ترفضني؟»
أجابَ بقوة وصرامة: «سأُحضِر لكِ قائمة بالشروط التي تقترحينها.»
قالت متوسِّلة: «غدًا صباحًا؟»
وعَدَها قائلًا: «بمجرد أن يتسنَّى لي.»
ثم لاذَ هاربًا. كان الرجل الذي قاطعَ مقابلته في الخارج يذرعُ الممرَّ ذَهابًا وإيابًا. مرَّ به تافرنيك دون أن يستجيبَ لتحيته اللطيفة. نسي أمر المصعد ونزل خمس مجموعاتٍ من درجات السلم …
بعد بضع دقائق، وصل إلى المكتب وأبلغ أن السيدة وينهام جاردنر قررت عدمَ تأجير جرانثام هاوس، وأنها لم تكن مستعدَّةً، في الواقع، لتأجير أي منزل بمثل هذا الإيجار. شعر السيد داولينج بخيبةِ أمل، ومال إلى الاعتقاد بأن موظفه أساء إدارة الموضوع.
قال: «أتمنى لو كنتُ قد ذهبت بنفسي. من الواضح أنها كانت تريدني أن أفعل، ولكن تصادفَ أن الوقت كان غيرَ مناسب. بالمناسبة يا تافرنيك، هَلا أغلقتَ الباب؟ هناك موضوع آخر أريد التحدث إليك بشأنه.»
فعل تافرنيك ما طُلِبَ منه في الحال، دون أيِّ ارتباك. كانت الخدمات التي يقدمها للشركة ذاتَ طبيعةٍ تجعله لا يُساوره أيُّ شك في رغبة صاحب العمل في أن يُحدِّثه محادثة خاصة.
أوضح السيد داولينج معدِّلًا وضعَ نظارته: «الأمر يتعلق بعزبة مارستون رايز. أعتقد أن الوقت قد حان لأن نُقدم عرضًا. أنت تعرف ما كان يدور في ذهني منذ مدةٍ طويلة.»
أومأ تافرنيك برأسه.
واعترف قائلًا: «نعم، أعرفُ جيدًا.»
وتابع السيد داولينج: «لقد سمعتُ شائعة، أن شخصًا ما قد اشترى قطعةَ أرض صغيرةً على أطراف العزبة. أظن أن هذا ليس صحيحًا، وعلى أي حال، لا يستحقُّ الأمر القلقَ بشأنه، ولكنه يدل على أن العامة قد بدَءوا يهتمُّون بالأمر. أنا من رأيي أن الوقت قد حان تقريبًا … نعم، لقد حان الوقت للتحرك.»
سأل تافرنيك: «هل تريدني أن أفعل أيَّ شيء في هذا الأمر يا سيدي؟»
أعلن السيد داولينج: «في المقام الأول، أريدك أن تحاول معرفةَ ما إذا كان قد بِيعَ بالفعل أيٌّ من قطع الأراضي، وإذا كان الأمر كذلك، فلمَنْ بِيعَتْ، وكم كان سعرها. هل يمكنك القيام بذلك خلال الأسبوع؟»
أجابَ تافرنيك: «أعتقد ذلك.»
اقترحَ السيد داولينج، وهو يُنزل قبعته: «لنقُل صباحَ الإثنين. سألعبُ الجولف غدًا ويوم الجمعة وبالطبع يوم السبت. وسأنتظر منك تقريرًا صباحَ الإثنين.»
عاد تافرنيك إلى مكتبه. رغم كل شيء، إذن، ستتأزَّم الأمور في وقت أبكر قليلًا مما كان يعتقد. كان يعلم تمامَ العلم أن هذا التقرير، إذا أعَدَّه بصدق، فسوف يقطع فعليًّا علاقته مع الشركة، ولم تخطر بباله أي فكرة أخرى.