الفصل التاسع

الحبكة تزداد تعقيدًا

لم يُضِع الرجل الذي تركه تافرنيك يَذْرع الممرَّ جيئةً وذهابًا أيَّ وقت قبل أن يقدم نفسه مرةً أخرى في شقة السيدة وينهام جاردنر. دخل الجناح دون استئذان، وأغلق البابَين كليهما خلفه بعناية. وكان واضحًا عندئذٍ أن تصرفه عندما دخل في المرة السابقة كان على سبيل الخدعة. كان يختلسُ النظر عبر الغرفة إلى المرأة التي كانت تُراقبه، وكانت اليدُ التي وضعَت قبعته على المائدة ترتعش؛ وكان هناك بصيصٌ من الرعب في عينَيه. بقيت المرأة غامضة، جامدة الشعور، وهي تُراقبه ببساطة. ومع ذلك، بعد لحظة أو اثنتَين، تحدثَت … قالت كلمة واحدة.

«حسنًا؟»

انهار الرجل.

صاحَ قائلًا: «إليزابيث، أنتِ … أنتِ مروعةٌ للغاية! لا أستطيع تحمل ذلك. أنتِ غير طبيعية.»

تمدَّدت على الأريكة واستدارت نحوه.

قالت: «غير طبيعية، حقًّا؟ وماذا عنك؟»

غاصَ في مقعده. لقد أصبح مترهِّلًا للغاية بالفعل.

تمتَم: «ما تُطلقينه عليَّ دائمًا، على ما أظن … جبان. لديكِ القليل من المراعاة يا إليزابيث. صحتي ليست كما كانت من قبل.»

تجوَّلَت عيناه بشوق نحو الخِزانة في الطرف الآخر من الغرفة. فابتسمت المرأة المستلقية على الأريكة.

وجَّهته بإهمال: «يمكنك أن تخدم نفسك. ربما عندئذٍ ستتمكَّن من أن تخبرني لماذا أتيتَ في مثل هذه الحالة.»

اجتاز الغرفة في بضع خطواتٍ متعجِّلة، واختفت رأسُه وكتفاه داخل الخزانة. كان هناك صوتُ سَحب سدَّادة من الفلين، وفوران زجاجة ماء الصودا. وعاد إلى مقعده رجلًا مختلفًا.

قال معتذرًا: «يجب أن تتذكري سنِّي، يا إليزابيث العزيزة. ليس لديَّ أعصابكِ … ومن غير المحتمل أن أفعل. عندما كنت في الخامسة والعشرين، لم يكن هناك شيء في العالم أخافه.»

نظرَت إليه بتمعُّن.

وقالت: «ربما لستُ شجاعة تمامًا كما تعتقد. لأقول لك الحقيقة، هناك أشياءُ كثيرة جدًّا أخاف منها عندما تأتي إليَّ في مثل هذه الحالة. أنا خائفة منك، مما ستفعله أو تقوله.»

طمْأنَها على عجَل: «لا داعي لذلك. عندما أكون بعيدًا عنك، أصبح معتوهًا. لا أحد يعرف ما أعاني منه. أحتفظ به لنفسي.»

أومأت برأسها بازدراء.

صرَّحت: «أفترضُ أنك تبذل قصارى جهدك. قل لي، الآن، ما الشيء الجديد الذي أزعَجك؟»

حدَّق إليها زائرها.

وتمتم: «هل لا بد من وجود شيء جديد؟»

سألت: «أفترضُ أنه شيء عن وينهام؟»

ارتجفَ الرجل. فتحَ شفتَيه وأغلقهما مرة أخرى. وازدادت نبرة المرأة، إن جاز القول، برودة.

قالت: «آملُ ألا تُخبرني أنك قد عصيت أوامري.»

نفى قائلًا: «لا! لا! لقد كنتُ هناك بالأمس. عدتُ بقطار البريد من بينزانس. اضطررت إلى القيادة مسافةَ ثلاثين ميلًا للَّحاق به.»

قالت: «لقد حدث شيءٌ ما، بالطبع، شيء تخشى أن تخبرني به. اجلس منتصبًا كرجل، يا أبي العزيز، ودعني أعرف الحقيقة.»

أكَّد لها قائلًا: «لم يحدث شيءٌ جديد على الإطلاق. الأمر ببساطة هو أن ذكرى اليوم الذي قضيتُه في ذلك المكان ورؤيته قد أثارا أعصابي حتى إنني لا أستطيع النوم أو التفكير في أي شيء آخر.»

صاحت متعجِّبة: «يا له من هراء!»

تابعَ خافضًا صوته قليلًا: «لم ترَي المكان إلا في الطقس الجيد. إليزابيث، ليس لديكِ فكرة عمَّا عليه الحال بالفعل. نزلتُ صباح أمس من القطار في بودمين وقدت السيارة إلى قرية كلوز. بعد ذلك كان عليَّ أن أمشي مسافة خمسة أميال. ولا يوجد طريق، مجرد دَرْب وعر، وطوال هذه المسافة لم يكن هناك حتى مبنى مزرعة يمكن رؤيته ولم أقابل أي إنسان. كان هناك نوع من الضباب الباهت في كل مكان فوق المستنقع، وأحيانًا يكون شديد الكثافة لدرجة أنني لا أستطيع رؤية طريقي، ويمكن أن تتوقفي وتُنصتي، ولكن هيهات أن تسمعي شيئًا، ولا حتى أجراس الأغنام.»

ضحكَت بهدوء.

تمتمَت قائلة: «والدي العزيز الأحمق، أنت لا تفهم ما هو العلاج بالراحة. إنه شيءٌ جيد جدًّا، لا بأسَ به على الإطلاق. وينهام المسكين كان يرى الكثيرَ من الناس طوال حياته … ولهذا السبب علينا أن نُبقيه في هدوءٍ بعض الوقت. يمكنك تخطِّي هذا المشهد. أأفترض أنك وصلتَ إلى المنزل أخيرًا؟»

تابعَ والدها: «نعم، لقد وصلتُ إلى هناك. أنت تعرفين كم هو قاتم هذا المكان، بجوار تلٍّ أجرد — مبنًى صخري مربع، رمادي في نفس لون التل. حسنًا، وصلتُ إلى هناك ودخلتُ. وهناك وجدتُ تيد ماذرز، يرتدي نصفَ ملابسه، بلا ياقة، وزجاجة ويسكي أمامه على الطاولة، يلعب لعبةَ الورق البائسة وحده. إليزابيث، يا لوحشية هذا الرجل!»

هزَّت رأسها.

ثم قالت: «استمر. ماذا عن وينهام؟»

«كان هناك في أحد الأركان، يُحدِّق من النافذة. عندما جئتُ هَبَّ واقفًا، ولكن عندما رأى مَنْ أكون، حاول … حاول أن يختبئ. كان خائفًا مني.»

سألت: «لماذا؟»

«قال إنني … إنني ذكَّرتُه بكِ.»

تمتمَت: «يا له من سخف! قل لي كيف بدا؟»

«مريض، بائس، شاحب ونحيفٌ أكثر من أي وقتٍ مضى، ووحشي المظهر.»

سألت: «ماذا قال عنه ماذرز؟»

«ماذا يمكنه أن يقول؟ أخبرني أنه يبكي طوال اليوم ويتوسَّل أن يعود إلى أمريكا.»

سألت: «لا أحد يقترب من المكان، أليس كذلك؟»

«لا أحد على الإطلاق. يأتي رجلٌ من القرية لبيع بعض الأغراض مرةً واحدة في الأسبوع. ويعرف ماذرز متى يتوقَّعه ويحرص على ألَّا يكون وينهام في الجوار. إنهما خارج العالم هناك — لا طريق ولا ممرَّات ولا شيء حتى لجلب السائح. كان بإمكاني تخيُّلُ مثلِ هذه البقعة في أريزونا، يا إليزابيث، ولكن في إنجلترا … لا!»

استفسرَت: «هل لديه أي تسلية بأية حال؟»

كانت يدُ الرجل ترتعش، ومرةً أخرى اتَّجهَت عيناه بشوق نحو الخزانة.

قال: «لقد صنع … دُمية، ونحَتها من قطعةٍ من الخشب وألبسَها قِطعَ قماش من أربطة عنقه. ماذرز أراني إياها على سبيل المزاح. إليزابيث، لقد كانت رائعة … أمر مروع!»

سألته: «لماذا؟»

وتابعَ وهو يُبلِّل شفتَيه بلسانه: «إنها أنتِ، أنتِ في ثوب أزرق … درجة اللون المفضَّلة لديكِ. لقد صنعَ حتى جواربَ زرقاء وحذاءً صغيرًا غريبًا. وحصلَ على بعض الشعر من مكانٍ ما وفرقه مثل شعركِ تمامًا.»

قالت: «يبدو الأمر مؤثرًا للغاية.»

كان الرجل يرتجف مرة أخرى.

قال: «إليزابيث، لا أعتقد أنه يقصد شيئًا لطيفًا. ماذرز أخذَني إلى غرفته. لقد صنع شيئًا هناك يشبه المشنقة. كانت الدمية معلَّقة بحبل من المشنقة.» ثم صرخَ: «إليزابيث! … يا إلهي، لكنها كانت تشبهكِ!» وفجأة سقط رأسه على ذراعيه.

لبرهة ظهر انعكاسٌ للرعب الذي استولى عليه على وجهها. ثم مرَّ بسرعة. وضحكَت ساخرة.

احتجَّت قائلة: «والدي العزيز، أنت بالتأكيد لست نفسك هذا الصباح.»

تمتَم قائلًا: «رأيتُكِ تتأرجَحين، تتأرجحين بذلك الحبل! وكان هناك دبوس أسود كبير في قلبك. إليزابيث، إذا قُدِّر له أن يهرب في وقتٍ ما! إذا قُدِّر أن يأتي أحدٌ من أمريكا ويكتشف مكانه! إذا قُدِّر أن يعثر علينا! أوه، يا إلهي، إذا قُدِّر أن يعثر علينا!»

وقفَت إليزابيث على قدمَيها. كانت تقف الآن أمام النار، ومرفقها الأيسر يستند إلى رف المدفأة، وشيءٌ صغير من الفضة اللامعة يتلألأ في يدها اليمنى.

قالت: «أبي، لا يوجد خطر في الحياة لمَنْ لا يعرف الخوف. انظر إلي.»

التقت عيناه بعينَيها، مفتونًا.

وتابعَت: «إذا قُدِّر له أن يعثر عليَّ، فلن يكون الأمر فظيعًا على أي حال. ستكون النهاية.»

كشفَت أصابعُها عن الشيء الصغير الذي كانت تحمله … مسدس صغير. أعادته مرة أخرى إلى جيبها. كان الرجل يتساءل كيف تحوَّلت ابنته إلى مثل هذا الشيء الفظيع.

همسَ قائلًا: «تتمتعين بالشجاعة يا إليزابيث.»

ووافقَت على ذلك قائلة: «أتمتع بالشجاعة، لأنَّ لديَّ عقلًا. أنا لا أسمح أبدًا لنفسي أن أكون في وضع من المحتمل أن أتعرَّض فيه للأسوأ. منذ اليوم الذي انقلب فيه فجأةً عليَّ، أصبحت حَذِرة.»

مالَ والدُها نحوها.

قال: «إليزابيث، لم أفهم ذلك قطُّ حقًّا. ما الذي اعتراه فجأة؟ في يوم كان عبدَكِ، وفي اليوم التالي أعتقد أنه كان من الممكن أن يقتلكِ لو استطاع.»

هزَّت كتفَيها.

أجابت: «بصراحة، شعرتُ أنه من المستحيل أن أستمرَّ في التظاهر أكثرَ من هذا. تزوجتُ وينهام جاردنر في نيويورك لأنه كان من المفترض أن يكون مليونيرًا ولأنه تراءى لي أن هذا أفضلُ شيءٍ يمكن فعله، لكن بالنسبة إلى العيش معه، لم أُرِد ذلك قطُّ. أنت تعرف كم كان سلوكه سخيفًا على متن القارب. لم يتركني أبعد عن عينَيه مطلقًا، لكنه أقسمَ أنه سيُقلع عن التدخين واحتساء الخمر ويعيش حياة جديدة إكرامًا لي. وأعتقد حقًّا أنه كان يعني ذلك أيضًا.»

اقترحَ والدها بخوف: «ألم يكن من الأفضل يا عزيزتي لو شجَّعتِه؟»

هزَّت رأسها.

وقالت: «لقد كان ميئوسًا منه تمامًا. أنت تقول إنني شجاعة؛ هذا لأنني لا أسمح لنفسي بالمعاناة. إذا كنتُ قد واصلتُ العيش مع وينهام، كان سيصيبني بالجنون. عاداته، أسلوبُ حياته، كل شيء أثار اشمئزازي. لم أكن أفهم قطُّ معنى كلمة «انحطاط» حتى عاشرتُه. لقد أصبحَت لمسته نفسُها بغيضة. لا يمكن لامرأة أن تعيش مع مثل هذا الرجل. بالمناسبة، لقد وقَّع المسوَّدة، أليس كذلك؟»

أعطاها والدها قصاصة من الورق، نظرَت إليها ثم وضعتها في درجها وأوصَدَته.

سألت: «هل أثار أي ضجة حيالها؟»

ارتجفَ البروفيسور.

قال بنبرة خافتة: «لقد رفضَ التوقيع عليها، وأقسمَ أنه لن يُوقِّعها أبدًا. وأرسلني ماذرز إلى الخارج بضع دقائق، وجعلني أذهب إلى غرفة أخرى. وعندما عُدت، أعطاني المسوَّدة. وسمعتُه يصرخ بصوتٍ عالٍ.»

قالت بجفاء: «ماذرز يستحقُّ بالتأكيد كلَّ ما يحصل عليه من مال.»

نظر إليها بإعجابٍ حاقد. كانت هذه ابنته، لحمه ودمه. بدا كأنه يراها عبر السنين، طفلة شعرها ينسدلُ على ظهرها، تجلس على ركبته، وتستمع إلى حكاياته، متسائلة عن الألعاب والحيل البسيطة التي يستخدمها لينتزع من جمهوره الساذج قروشهم وأنصاف شلناتهم. عالِم الفِراسة، المنوِّم المغناطيسي، الساحر … كل هذه الألقاب كان البروفيسور العظيم فرانكلين يُطلقها على نفسه. في كثير من الأحيان، من المسرح البسيط الذي كان يؤدي عليه عروضه، كان يروِّع جمهوره من النساء والأطفال حتى الموت. وخطر له في تلك اللحظة، أنه لم يرَ الخوف قطُّ على وجه إليزابيث، حتى في أيام طفولتها.

تمتم: «كان يجب أن تكوني رجلًا يا إليزابيث.»

هزَّت رأسها وهي تبتسم كأنها مسرورة بالمجاملة.

وقالت: «قوة الرجل محدودةٌ للغاية. المرأة لديها أسلحة أكثر.»

وافقَ البروفيسور، بينما كانت عيناه تتنقلان عبر قَدِّها النحيل وقوامها الرائع، وتوقَّف لحظةً عند عُقدة الدانتيل الصغيرة في رقبتها، يُصارع حلاوة ملامحها الرقيقة، وراح يفكِّر جاهدًا عمَّنْ من بين أسلافه ورثت هذه المخلوقة جاذبيتَها الجسدية، وقال: «أسلحة أكثر بالفعل.»

وكرَّر: «أسلحة أكثر بالفعل. إليزابيث، يا لها من هبة … يا لها من هبة!»

فأجابت: «أنت تتكلم وكأنها هبةٌ مؤذية.»

قال: «كنت أفكِّر فقط في أن ذلك يبدو أمرًا مؤسفًا. أنتِ شديدة الجمال، ربما كنا سنجد طريقة أسهلَ وأقلَّ خطورة للثروة.»

ابتسمت.

ثم قالت: «أظن أن الدمَ البوهيمي يسري بداخلي. الطرق الملتوية تجتذب المرء، كما تعلم، عندما ينشأ المرءُ كما نشأت.»

ذكَّرها قائلًا: «والدتُكِ المسكينة لم تكن تحبها.»

«لقد ورثت بياتريس كلَّ ما يخص أمي. أما أنا، فابنتك أنت يا أبي. يجب أن تكون فخورًا بي. ولكن ها نحن ذا، سأعطيك مهمة أخرى. هل صحيحٌ أن جيري هنا حقًّا؟»

«وصل إلى إنجلترا يوم الأربعاء على متن لوسيتانيا. وكان في المدينة طوال الوقت منذ ذلك الحين.»

قطَّبَت ما بين حاجبَيها فأظلمَ وجهُها.

وتمتمت وكأنها تُحدِّث نفسها: «لا بد أنه استلمَ رسالتي إذن.»

اعترفَ والدُها: «دون شك. إليزابيث، لماذا تُخاطرين بمقابلة هذا الرجل؟ أعلم أنه كان مغرمًا بكِ في نيويورك، ولكنه أيضًا كان مغرمًا بأخيه. ربما لا يُصدِّق قصتكِ. قد يكون خطرًا.»

ابتسمت.

وقالت: «أعتقد أنني أستطيع إقناعَ جيري جاردنر بأي شيءٍ أختار قوله له. علاوةً على ذلك، من الضروري للغاية أن يكون لديَّ بعض المعلومات عن شئون وينهام. لا بد أن لديه المزيدَ من المال في مكانٍ ما ويجب أن أكتشف كيف سنصل إليه.»

هزَّ البروفيسور رأسه.

وتمتم: «أنا لا أحبُّ ذلك. لنفترض أنه وجدَ بياتريس!»

هزَّت إليزابيث كتفَيها.

قالت: «بياتريس خُلِقَتْ صامتة. أنا لا أخشى منها على الإطلاق. ومع ذلك، أتمنى أن أتمكَّن من معرفة مكانها. سيبدو الأمر أفضل إذا كنا نعيش معًا.»

هزَّ البروفيسور رأسه بحزن.

وقال: «لقد تركَتنا بمحض إرادتها، ولا أظن يا إليزابيث أنها ستعود مرة أخرى. كانت تعرف جيدًا ما تفعله. كانت تعلم أن وجهات نظرنا في الحياة مختلفةٌ عن وجهة نظرها. لم تكن تعرف النصف لكنها عرَفَت ما يكفي. لقد كنتِ محقة تمامًا فيما قُلتِه الآن؛ كانت بياتريس أشبه بوالدتها، وكانت والدتها امرأةً صالحة.»

علَّقت إليزابيث بوقاحة: «حقًّا!»

صرخَ وهو يضرب الطاولة: «لا تردِّي بهذه الطريقة. لقد كانت أمَّكِ أيضًا.»

كان وجه المرأة غامضًا وقاسيًا وخاليًا من العيوب خلف سحابة دخان التبغ الصغيرة. بدأ الرجل يرتجف مرةً أخرى. في كل مرةٍ كان يُغامر بالتحدُّث بجُرأة، كانت نظرة واحدة منها كافية لقمعه.

تمتم: «إليزابيث، ليس لديكِ قلب، وليس لديكِ روح، وليس لديكِ ضمير. تُرى أيُّ نوع من النساء أنتِ!»

ذكَّرته بسُرور: «أنا ابنتك.»

تابعَ وهو يأخذ منديلًا كبيرًا من الحرير من جيبه ويُجفِّف جبينه: «لم أكن بهذا السوء من قبل. كان عليَّ أن أعيش وكانت الأوقات صعبة. ربما أكون قد خدعتُ الجمهور. لم يتجاوز الأمرُ لعبَ الورق بشيءٍ من الذكاء، أو الاستيلاء على بعض المال من الرجال السذج، عندما أستطيع. لكن يا إليزابيث، أنا خائفٌ منكِ.»

قالت وهي تنفض الرماد من سيجارتها: «الرجال يخافون عمومًا من المخاطر الكبيرة.» وواصلَت: «سوف يغشُّون ويكذبون من أجل أنصاف القروش، ولكنهم مقامرون سيئون عندما تكون مسألة حياة أو موت … الأشياء الكبيرة على المحك. سحقًا! أبي، أريد أن يأتي جيري جاردنر ويقابلني.»

قال البروفيسور: «إذا لم تتمكَّني من جعله يأتي، يا عزيزتي، فأنا على يقينٍ من أن محاولتي ستبوء بالفشل.»

تابعَت، وكأنها تُحدِّث نفسها: «لقد استلم رسالتي؛ استلم رسالتي ولم يأتِ.»

قرَّر والدها: «ما من شيء يمكن فعله سوى الانتظار.»

واستطردَت قائلة: «وفي تلك الأثناء، لنفترض أنه سيجدُ بياتريس، ولنفترض أنهما سيتقابلان؛ لنفترض أنه سيخبرها بما يعرفه وأنها ستخبره بما خمَّنَته!»

دفنَ البروفيسور وجهَه بين يديه. ورمَت إليزابيث سيجارتها بنفادِ صبر.

قالت: «يا لي من حمقاء! ما فائدة إضاعة الوقت بهذه الطريقة؟»

كان هناك طَرْقٌ على الباب. قدَّمَت خادمةٌ فرَنسية أنيقة المظهر نفسَها. خاطبَت سيدتها بلغةٍ فرنسية فصيحة. كان ثمة مصفِّفُ شعر وأخصائيُّ تجميل أظافر ينتظران في الغرفة المجاورة؛ حان الوقت لتهتمَّ السيدة بنفسِها. استمع البروفيسور إلى هذه الإعلانات بمزيج من الإعجاب والاندهاش.

قال ناهضًا على قدمَيه: «أعتقد أن عليَّ أن أغادر. هناك شيءٌ واحد فقط أودُّ أن أسألكِ عنه يا إليزابيث، إن جاز لي، قبل أن أذهب.»

«ما هو؟»

«مَن الشاب الذي التقيتُه هنا الآن؟»

سألت: «لماذا تطرح هذا السؤال؟»

أجابها والدها بتمعُّن: «لا أعرف حقًّا، ما عدا أن مظهره بدا متفردًا قليلًا. في بعض النواحي بدا شخصًا عاديًّا جدًّا. في الواقع، كانت ملابسه وهيئته عاديَّتين للغاية لدرجة أنني فُوجِئتُ بوجوده هنا معكِ. ومن ناحية أخرى، وجهه … يجب أن تتذكري يا عزيزتي، أن هذه غريزة احترافية تمامًا؛ أنا ما زلت مهتمًّا بالوجوه …»

اعترفَت قائلة: «صحيحٌ تمامًا. استمر. هذا الشابُّ يُحيِّرني أنا شخصيًّا. أودُّ أن أسمع رأيك فيه. ما رأيك في وجهه؟»

قال: «كان ثمة قوةٌ في وجهه، نوعٌ من العناد، والروعة، والضيق، والاستحالة … نوع الوجه الذي يخصُّ رجلًا يُحقِّق أشياءَ عظيمة لأنه أغبى مِن أن يُدرك الفشل، حتى ولو كان الفشل يُطوِّقه بذراعَيه ويُطبِق أصابعَه على عنقه. أنا واثقٌ يا عزيزتي من أن هذا الشاب لديه مميزات. في الوقت الحالي، هذه المميزات خامدة، ولكنها موجودة.»

قادته إلى الباب.

قالت: «والدي العزيز، أحيانًا أحترمك حقًّا. إذا صادفت ذلك الشابَّ مرة أخرى، أبقِ عينيك عليه. فهو يعرف شيئًا واحدًا على الأقل أتمنى أن يُخبرنا به — إنه يعرف مكان بياتريس.»

نظر إليها والدها بذهول.

«يعرف مكان بياتريس ولم يخبركِ؟»

أومأت برأسها.

أصرَّ البروفيسور قائلًا: «حاولتِ أن تجعليه يُخبركِ ورفض؟»

اعترفت قائلةً: «بالضبط.»

ارتدى والدها قبعته.

«كنتُ أعرف أن الشابَّ خارجٌ عن المألوف.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤