آفاقٌ جديدة
غادر تافرنيك محطة السكة الحديد سيرًا على الأقدام متوجهًا نحو أُفق السماء، عبر الريف المنبسط، يتعثَّر ويزحف فوق الخنادق العميقة، ويخوض أحيانًا في المستنقع ليشقَّ طريقه في تلك الليلة بثباتٍ في اتجاه البحر، كشخص يلاحقه عَدوٌّ شرس لا يعرف الكَلل. وأُسْدِلَ الشفق مثل عباءةٍ من حوله، أُسْدِلَ على تلك المنطقة المستوية العظيمة من المراعي والمستنقعات. وبدأَت بقعٌ صغيرة من الضباب، التي تُنذر بالغموض القادم، تُسحَب الآن إلى الظلام التدريجي. وبدأت الأضواء القادمة من المساكن المتناثرة تومض. ويتصاعد من هنا وهناك نُباحُ كلب، وصياحُ طائرٍ منعزل يبحث عن مَلجأ إلى رفيقه، ولكن يبدو أنه لا يوجد أحدٌ في الأفق من البشر باستثناء هذا المسافر الوحيد.
كان تافرنيك في حالةٍ يُرثَى لها. كانت ملابسُه ملطَّخةً بالطين، وشعره مشعَّثًا بفِعل الريح، ووجنتاه شاحبتَين، وعيناه مفعَمتَين باليأس إثرَ تلك الاضطرابات العنيفة التي مرَّ بها. لعدة ساعات، انتصر الألمُ المعنوي الذي دفعه إلى مسقط رأسه على الإرهاق الجسدي. ولكن حان الوقت الذي أكَّد فيه الأخيرُ نفسَه. فقد انهار جسده وهو يئنُّ أنينًا مكتومًا. تسبَّب الإرهاقُ التام في غفوةٍ قصيرة ولكن رحيمة من النوم غير المستقر. استلقى على ظهره بالقرب من أحد السياجات العريضة، وذراعاه ممدودتان، وعيناه اللتان عجزَتا عن الرؤية تتجهان نحو السماء. تعمَّق الظلامُ ثم خفَّ مرةً أخرى أمام نور القمر. وعندما جلسَ أخيرًا، كان ينظر إلى عالَم جديد، أرضٍ غريبة، مُقمِرَة في بعض الأماكن، لكنها مليئةٌ بالكآبة المظلمة. كان يُحدِّق حوله بتساؤل وقد نسيَ كلَّ شيءٍ لحظات. ثم رجعَت الذاكرة، ومع رجوعها رجعَ شعورُه بالطعنة في قلبه. فوقفَ على قدمَيه وذهبَ بعزم في طريقه.
سار تقريبًا حتى بزوغ الفجر، مقتربًا قدر الإمكان من الخط الطويل الرتيب من أعمدة التلغراف، ومتجنبًا الطريقَ قدر الإمكان. ومع شروق الشمس، تسلَّل إلى كوخٍ على جانب الطريق وظلَّ مختبئًا فيه ساعات. بدا أن الجوع والعطش كأنهما أشياءُ لا يفكِّر بها. كان كلُّ ما يشتهيه هو النوم فحسب، النوم والنسيان.
بدأت خيوطُ الغسَق تُغزَل حوله مرةً أخرى قبل أن يجد نفسَه واقفًا على قدمَيه، ويبدأ مرةً أخرى في رحلته ذاتِ الفكر الغريب هذه. هذه المرةَ استمرَّ في السير على الطريق، وهو يسير بخُطًى متعبةٍ ومكتئبة، ولا يزال فيها شيءٌ من تلك العجَلة المضطربة التي دفعَته للمُضي قُدمًا بلا توقف كما لو كانت تتملَّكُه بالفعل روحٌ قَلِقَة. إلا أنه بدأ الآن يستعيد جزءًا قليلًا من فطرته السليمة. وتذكَّر أنه ينبغي أن يأكل ويشرب، فبحث عن الطعام والشراب في إحدى الحانات على جانب الطريق مثل مسافرٍ عادي، وقهَر دون أي جهد ظاهر نفوره الشديد من وجه أي إنسان. ثم مضى مرةً أخرى عبر هذه الأرض الغريبة من طواحين الهواء والسهول المنتشرة، حتى أجبره الظلامُ على الاحتماء مرةً أخرى. في تلك الليلة نام كالطفل. وبحلول الصباح، كانت الحُمَّى قد زالت من دمه. وهَبَّت على وجهه ريحٌ عظيمة وهو يفتح عينَيه بعد أن أيقظته شمسُ الصباح، ريحٌ هبَّت عبر السهول المستوية، وعبقَت بملوحة المحيط وشذى الكثير من نباتات المستنقعات. كان قادمًا نحو البحر الآن، وعلى مسافةٍ قصيرة جدًّا من المكان الذي أمضى فيه الليل، وجد نهرًا واسعًا يترقرقُ في الأرض. وبأصابعه الشغوفة جرَّد نفسَه من ملابسه وانغمسَ في الماء، غاصَ مِرارًا وتَكرارًا تحت سطح الماء، وراحَ يضرب الماءَ ضرباتٍ طويلةً وهادئة سابحًا في كل اتجاه. بعد ذلك استلقى فوق العُشب الدافئ الجاف، وارتدى ملابسه بهدوء، ثم مضى في طريقه. دوَّت الريحُ، التي ازدادت الآن قوةً منذ الصباح الباكر، عبر الأراضي المستوية، وراحت تحني قمم الأشجار القليلة المتناثرة، وتلفُّ طواحين الهواء، وتعبق الآن برائحة البحر والملح المنعشة التي أصبحت أقوى من أي وقتٍ مضى. فقال تافرنيك لنفسه إنه دخلَ إلى عالَم جديد تمامًا. سيحتضن هذا العالَم وسوف تصبح الحياة مختلفة وجديدة.
هاجت ذكرياته عندما اقتربَ المساء، وهو ينزل على تلٍّ شديد الانحدار ويسير إلى قريةٍ غريبة مَنسيَّة، بُنيَت أكواخُها المتناثرة ذاتُ القرميد الأحمر حول ذراعٍ من البحر. وبجُرأةٍ كافية، دخلَ الآن إلى النُّزُل الوحيد الذي عرضَ لافتته متباهيًا على الشارع المرصوف بالحصى، واحتلَّ مقعدًا في المطبخ ذي الأرضية الحجرية، وأكَل وشَرِب وحجزَ سريرًا. في وقتٍ لاحق، نزلَ إلى رصيف الميناء وأقام صداقاتٍ مع العدد القليل من الصيادين الذين كانوا يتسكَّعون هناك. أجابوا عن أسئلته دون تردُّد، على الرغم من أنه وجَد صعوبةً في البداية في التعرُّف مرة أخرى على اللهجة التي كان يستخدمها هو نفسُه ذات مرة. لم يَكد المكان الصغير يتغيَّر. في الواقع، بدا أن التطوُّر لم يمَسَّه بأي شكل. كان في القرية حَفنةٌ من الصيادين وباني قواربَ وبائعُ أسماك. لم تكن هناك صناعةٌ أخرى باستثناء بيتَي مزرعةٍ صغيرَين على أطراف المكان، ولم تكن هناك سكةٌ حديدية في حدود اثني عشر ميلًا. نادرًا ما كان السيَّاح يأتون، أما المتنزهون فلم يأتوا إطلاقًا. وقرأ تافرنيك في تعبيراتهم نصفِ القانعة ونصف الشهوانية التي بدَت شائعةً في جميع السكان، بسهولة كافية؛ تاريخَ حياتهم الخاليةِ من الأحداث. لقد كان مثلُ هذا الملجأ، في الواقع، هو ما يبحث عنه.
في الليلة الثانية بعد وصوله، سار مع صانع القوارب على الرصيف الخشبي. كان اسم صانع القوارب نيكولز، وكان رجلًا موسرًا إلى حدٍّ ما، وكان شمَّاسَ الكنيسة، وله علاقاتٌ واسعة بصفته نجَّارًا عاملًا، وبصفته يمتلك الحصان الوحيد والعربة في المكان.
قال تافرنيك: «نيكولز، أنت لا تتذكرني، أليس كذلك؟»
هزَّ صانعُ القوارب رأسه ببطءٍ وتأمُّل.
ثم قال بطريقةٍ تُوحي بالتذكُّر: «كان هناك رجلٌ يُدعَى ريتشارد تافرنيك وكان يزرع الحقول المنخفضة. ربما أنت ابنُه. الآن بدأتُ أتذكَّر، كان لديه صبيٌّ يتدرَّب على النجارة.»
أجابَ تافرنيك: «كنتُ أنا هذا الصبي. وسرعان ما سئمتُ من النجارة وذهبتُ إلى لندن.»
قال نيكولز: «لقد كَبِرتَ للغاية حتى كدتُ لا أعرفُك، لكنني تذكَّرتُك الآن. إذن، فقد كنتَ في لندن كلَّ هذه السنوات؟»
اعترفَ تافرنيك: «لقد كنتُ في لندن، وأعتقدُ أن هذه القرية هي المكانُ الأفضل بين الاثنين.»
اعترفَ صانع القوارب: «إنها جيدةٌ بما يكفي، جيدة بما يكفي لرجلٍ غير قادر على التغيير.»
أكَّد تافرنيك بتجهُّم: «التغيير سعادةٌ مُبالَغ في تقديرها. لقد كان لديَّ الكثيرُ منه في حياتي. أعتقدُ أنني أودُّ البقاء هنا بعض الوقت.»
فُوجِئَ صانعُ القوارب، لكنه كان رجلًا ذا فِكر راجِح متروٍّ، ولم يُلزم نفسَه بالكلام. وواصل تافرنيك حديثه.
قال: «كنت أعرفُ شيئًا عن النجارة في أيام صِبايَ، ولا أعتقدُ أنني نسيتُ كلَّ شيء. تُرى، هل بإمكاني أن أجد أيَّ شيءٍ أفعله هنا؟»
مسَّدَ ماثيو نيكولز لحيته متفكِّرًا.
وقال: «الناسُ في هذه الأنحاء ليست منحازةً إلى الغرباء، وأنت ابتعدتَ منذ مدةٍ طويلة وأعتقدُ أنك لن تجد الكثيرين يتذكَّرونك. أما بالنسبة إلى أعمال النجارة، فهناك توم ليك في ليسر بليكني وشقيقه في برانكاستر، بالإضافة إليَّ أنا في هذه البقعة، كما تعرف. إنها بدايةٌ سيئة، إذا سألت رأيي، لا سيَّما بالنسبة إلى شخص مثلك، شخص متعلِّم.»
أصرَّ تافرنيك قائلًا: «سوف أرضى بأقلِّ القليل. أريدُ أن أعمل بيدي. أودُّ أن أنسى بعضَ الوقت أنني تلقيتُ أيَّ تعليم على الإطلاق.»
قال نيكولز بتأمُّل: «هذا يبدو غريبًا للغاية بالنسبة إليَّ.»
ابتسمَ تافرنيك.
وقال: «اسمعني، ليس الأمر غيرَ طبيعي تمامًا. أريدُ أن أصنعَ شيئًا بيدي. أعتقدُ أنه يمكنني بناءُ القوارب. لماذا لا تأخذني إلى حوض بناء القوارب الخاص بك؟ لا يمكنني أن أتسبَّب في أي ضرر ولا أريدُ أجرًا عاليًا.»
مسَّدَ ماثيو نيكولز لحيته مرةً أخرى وفي هذه المرة عَدَّ حتى خمسين، كما كانت عادته عند مواجهة أمر صعب. لم يكن بحاجةٍ إلى فعل أي شيء من هذا القبيل؛ لأنه لا يوجد شيءٌ في العالم كان سيحثُّه على اتخاذ قراره على الفور فيما يتعلق بعرضٍ خطير مثل هذا.
اعترضَ قائلًا: «لستَ جادًّا بالتأكيد. فأنت شابٌّ وذو بِنية قوية، على ما أعتقد، ولكنك على قدرٍ من التعليم … يمكنني أن أرى ذلك من خلال الطريقة التي تنطق بها كلماتِك. لن تحصل هنا إلا على حياةٍ فقيرة، رغم كل شيء.»
قال تافرنيك بإصرار: «أحبُّ المكان. وأنا رجلٌ ذو احتياجاتٍ بسيطة. أريدُ أن أعمل طَوال اليوم، أعمل حتى أتعب بما يكفي للنوم ليلًا، أعملُ حتى تصرخ عظامي وتتقرَّح ذراعي. وأظنُ أنك يمكن أن تُعطيَني ما يكفي للعيش بطريقةٍ متواضعة؟»
أجابَ نيكولز: «تناوَلْ معي طعام العشاء. في هذه المسائل المهمة، لطالما كانت ابنتي لها رأيُها. سنعرض الأمر عليها ونرى ما تعتقد فيه.»
استمرَّا في التمشية على رصيف الميناء حتى ومض الضوءُ من مَنارة ويلز عبر البحر، وحتى استطاعا على البُعد سماعَ أنين المَدِّ القادم وهو يترقرقُ فوق الحاجز ويبدأ في مَلْء طريق المَدِّ الذي امتدَّ إلى الرصيف الخشبي نفسِه. ثم شقَّ الرجلان طريقهما عبر شارع القرية، وعبر أحد الحقول، حتى وصلا إلى الحوض الصغير الذي كانت توجد فوقه لافتة «ماثيو نيكولز، صانع قوارب». وفي زاوية من الحوض، كان يوجد الكوخ الذي يعيش فيه.
قال وقد ثارت غريزةُ حُسن الضيافة داخلَه فور أن عبرا البوابة: «تفضَّل بالدخول مباشرةً يا سيد تافرنيك. سنتحدَّث في هذا الأمر معًا، أنت وأنا وابنتي.»
بدا تافرنيك، عند تقديمه للأسرة، رجلًا غيرَ معتاد على المجتمع الأنثوي. ربما لم يكن يتوقع أن يجدَ هذا النوع من الفتيات مثل روث نيكولز في مثل هذا الحي النائي. كانت نحيفةً وخدَّاها أكثر شحوبًا من خدَّي أي فتاة أخرى رآها في القرية. كانت عيناها أيضًا أغمقَ لونًا، وكان حديثُها مختلفًا. لم يكن هناك أيُّ شيءٍ فيها يُذكِّره على الإطلاق بالطفلة التي لعبَ معها. راقبها تافرنيك باهتمام. وسرعان ما خطرت له فكرة أنها هي أيضًا تبحث عن ملجأ.
كان العشاءُ وجبة بسيطة، لكنها كانت تُقدَّم بشكلٍ أنيق ومهذَّب. وكان للفتاة موهبةُ التحرك بلا ضوضاء. كانت سريعةً دون أن تُعطي انطباعًا بالتسرُّع. عاملت ضيفَهما على نحوٍ مهذَّب، لكن يبدو أنها لم تكن تتذكَّره كثيرًا، كما أن مجيئه لم يكن أمرًا ذا أهمية. بعد أن نظَّفَت المفرش، وقدَّمت التبغ، طلب منها والدها أن تجلسَ معهما.
وبدأ حديثه بهدوء: «السيد تافرنيك يفكِّر في الاستقرار في هذه الأنحاء يا روث.»
أومأت برأسها بجدية.
وتابعَ والدها: «يبدو أنه سئم وتعب من المدينة ومن العمل الذِّهني. ويتمنَّى أن يأتيَ معي إلى حوض بناء القوارب، إذا أمكننا أن نجدَ ما يكفي من العمل لشخصَين.»
نظرَت الفتاة إلى الزائر، ولأول مرة كان هناك قدرٌ من الفضول في نظرتها الجادَّة. كان تافرنيك، بطريقته، وسيمًا بما يكفي عند النظر إليه. كان ذا بِنْية سليمة، وكان كتفاه وقِوامه ينمَّان على القوة. وكانت ملامحه محدَّدةً بوضوح، على الرغم من أن تعبيرات وجهه بشكلٍ عام كانت متجهِّمة. ولكن باستثناء تقطيبةِ جبينه وفظاظته التي يبدو أنه يُحاول تهذيبها، ربما كان يمكن اعتباره حسَنَ المظهر.
قالت بتردُّد: «السيد تافرنيك سيرتكب خطأً فادحًا. ليس من المُرضي لأولئك الذين يَحظَوْن بالتعليم أن يعملوا بأيديهم. إنه ليس مكانًا يعيش فيه أولئك الذين خرَجوا إلى العالَم. ففي معظم فصول السنة ما هي إلا بَريَّة. وفي بعض الأحيان يكون هناك القليلُ للقيام به، حتى بالنسبة إلى أبي.»
أجابَ تافرنيك: «أنا لا أطمح إلى العمل الكثير أو إلى المال الوفير يا آنسة نيكولز. سأكون صريحًا مع كِلَيكما. لقد سارت معي الأمور في ذلك العالم على غير ما يُرام؛ لم يكن خطئي، لكن أحوالي تدهورَت. وكل طموحاتي قد انتهت … على الأقل في الوقت الحالي. أريدُ أن أرتاح، أريد أن أعمل بيدي، وأن أنمِّي عضلاتي مرةً أخرى، وأشعر بقوتي، وأصدِّق أنَّ هناك شيئًا مفيدًا في العالم يمكنني القيامُ به. لقد أُصِبتُ بصدمة، بخيبةِ أمل … أطلِقي عليها ما تريدين.»
أومأ العجوز نيكولز برأسه متأملًا.
وقال: «حسنًا، إنه تغييرٌ كبير للقيام به. لم أفكِّر مطلقًا في الحصول على مساعدةٍ في حوض بناء القوارب من قبل. عندما يكون هناك أكثرُ مما يمكنني فعله، فإنني كنتُ أرفض العمل. تعالَ مدة أسبوع للتجرِبة يا ليونارد تافرنيك. إذا كان سيفيد أحدُنا الآخر، فسرعان ما سنعرف ذلك.»
عادت الفتاة التي كانت تتطلع إلى الليل في الخارج.
وقالت: «أنت ترتكبُ خطأً يا سيد تافرنيك. أنت أصغر بكثير وأقوى من أن تنهيَ معركتك.»
نظرَ إليها بثباتٍ وتنهد. كان من الواضح جدًّا أنها قد حاربت معركتها وانهزمت فيها.
أجابَ بهدوءٍ: «ربما أنتِ على حق. ربما ما أريده هو الراحة فحسب. سوف نرى.»