الحياة البسيطة
هكذا أصبح تافرنيك صانعَ قوارب. ومرَّ الصيفُ وفي أعقابه الشتاءُ وبَدَتْ هذه القريةُ الصغيرة الواقعة على البحر، كما لو كانت إحدى البُقع المَنسيَّة على الأرض. باستثناء تلك الأكواخ القليلة، وبيتَي المزرعة على بُعد بضع مئاتٍ من الياردات نحو الداخل، والقاعة المهجورة نصف المخبَّأة في بستان من أشجار الصَّنوبر، لم يكن هناك مكانٌ للسكن ولا أي علامة على وجود بشر إلى أميالٍ عديدة. كان تافرنيك يعمل مدةَ ثماني ساعات في اليوم، معظمها في الخارج، في حوض بناء القوارب الصغير المعلَّق فوق الشاطئ. في بعض الأحيان كان يرتاح من أعماله وينظر إلى البحر، وينظر حوله كما لو كان مبتهجًا بتلك العُزلة غير المنقطعة، وفراغ المحيط الرمادي، ووحدة الأرض خلفه. لم يعرف أيُّ أحدٍ ما كان يعتملُ في خلايا ذاكرته، فهو لم يحْكِ لأحد عن ماضيه، ولا حتى لروث. لقد كان عاملًا مجتهدًا، وعاشَ الحياة البسيطة التي يعيشها الآخرون دون شكوى أو كَلل. لم يكن هناك شيءٌ في طريقته يشير إلى أنه اعتادَ على حياةٍ أخرى. وقَبِلتْه القريةُ دون سؤال. أما روث فكانت هي الوحيدةَ التي ما زالت رافضةً لوجوده، بصرامة ولكن بلطفٍ بما فيه الكفاية.
في يوم جاءت وجلسَت معه وهو يُدخِّن غليونه بعد العشاء، متكئًا على قاربٍ مقلوب، وعيناه مثبَّتتان على هذا الخط من الموجات الرمادية المتكسرة.
قالت بهدوء: «أنت تقضي قدرًا كبيرًا من وقتك في التفكير، يا سيد تافرنيك.»
فاعترفَ على الفور: «كبيرًا جدًّا، يا آنسة نيكولز. من الأفضل أن أستغلَّ وقتي في كَشْط ذلك الصاري هناك وتسويته.»
فقالت بلوم: «أنت تعلم أنني لم أقصد ذلك. أحيانًا فقط تجعلني … هل أعترف بذلك؟ … أكادُ أغضبُ منك.»
أخرجَ غليونه من فمه وأسقطَ الرماد. وبينما يقع على الأرض، نظر إليه.
وقال بتجهُّم: «كلُّ التفكير هو وقتٌ ضائع. الماضي مثل هذا الرماد؛ ماتَ وانتهى.»
هزَّت رأسها.
وردَّت: «ليس دائمًا. أحيانًا يعود الماضي إلى الحياة من جديد. في بعض الأحيان، ينسحب أشجعُنا من القتال مبكرًا جدًّا.»
نظر إليها بتساؤلٍ وبعُنف تقريبًا. إلا أن كلماتها بدَت غير مقصودة.
قال: «فيما يتعلق بماضِيَّ أنا، فقد مات وانتهى. ووضعتُ عليه نُصبًا تذكاريًّا، ولم يعد من الممكن أن يعود إلى الحياة.»
أجابت: «لا يمكنك الجزم بهذا. لا أحدَ يستطيع أن يجزم بهذا.»
عاد إلى عمله بأسلوبٍ يكاد يكون فظًّا، ولكنها بقيت بجانبه.
قالت بتأمُّل: «في مرة، أنا أيضًا خرجتُ قليلًا إلى العالم. كنت معلِّمةً في مدرسة في نوريتش. ووقعتُ في حبِّ شخصٍ ما هناك؛ وعُقِدَت خطوبتنا. ثم ماتت والدتي واضطُرِرت إلى العودة لرعاية والدي.»
أومأ برأسه.
وقال: «ثم ماذا؟»
تابعَت بهدوء: «نحن بعيدون جدًّا عن نوريتش. بعد مدةٍ وجيزة من مغادرتي، شعرَ الرجل الذي كنتُ مغرَمة به بالوحدة. ووجدَ امرأة أخرى.»
فسألها تافرنيك بسرعة: «وهل نسيتِه؟»
فأجابت: «لن أنساه أبدًا. لقد انتهى هذا الفصلُ من حياتي، ولكن إذا استطاع أحدٌ أن يحلَّ محلي لدى والدي، فسأعود إلى عملي مرةً أخرى. في بعض الأحيان، هؤلاء الذين يعملون بشكلٍ أفضل ويُحقِّقون نجاحًا أكبر هم مَنْ يحملون ندوبَ جُرحٍ عميق.»
وعادت إلى المنزل مرةً أخرى، وبعد ذلك بدا له أنها تجنَّبتْه بعض الوقت. على أي حال، لم تقم بأي محاولة أخرى لكسبِ ثقته. ومع ذلك كان القرب المكانيُّ أمرًا صعبًا بالنسبة إلى كليهما. كان ساكنًا تحت سقف والدها. وكان من غير الممكن بالنسبة إليهما أن يفترقا. أيام السبت والأحد كانا يمشيان أحيانًا أميالًا عبر المستنقعات المتجمِّدة، في الأجواء المتسارعة القاتمة إلى ما بعد الظهيرة، عندما كانت الشمس المخضَّبة باللون الأحمر تغرق مبكرًا خلف التلال، ويزداد وقتُ الشفَق قِصَرًا كلَّ يوم. راقبَا طيور البحر معًا ورأَيَا البطَّ البري ينزل إلى البِرَك؛ شعَرَا بحرارة التمرين تحرق وجنيتَهما، وشعرا أيضًا بهذه البهجة الشائعة التي يتعذَّر وصفُها، الناجمةِ عن وَحدتِهما في عُزلة هذه الأماكن الخالية الجميلة. وفي المساء، غالبًا ما كانا يقرَآن معًا؛ فقد كان نيكولز، على الرغم من أنه لم يكن سكيرًا، لا يُفوِّت أبدًا الساعة أو نحوَها التي يقضيها في حانة القرية. وبمرور الوقت، بدأ تافرنيك يجدُ في صحبتها الهادئة غيرِ المتأثرة بالجنس، نوعًا من الراحة. كان يعرف جيدًا أنه بالنسبة إليها كما هي بالنسبة إليه، شيء بشري، شيء يملأ فراغًا، ومع ذلك فهو شيء بلا شخصيةٍ واضحة. شيئًا فشيئًا شعر بالغُصَّة التي كانت في قلبه تتضاءل. ثم تسلَّل ربيعٌ متأخر — متأخر، على أي حال، في هذا الركن الجذَّاب من العالم — تسلَّل مثلَ بعض السحر الرائع عبر وجه المستنقَعات والسهول. وتراصَّت نباتاتُ الجورد الصفراء الذهبية على جانب التل البُني؛ بينما تلألأت زهور الخُزامى البرِّية في مجموعاتٍ عبر السهول ذات الخطوط الفضية، وعادت الغصونُ الميتة إلى الحياة. وتفتَّح الزعفران، خطوطٌ طويلة من الزعفران الأصفر والأرجواني؛ تفتَّحَت من براعم شمعية إلى أزهارٍ نَجميةِ الشكل على امتداد الجزء الأمامي من حديقة ماثيو نيكولز. ومع حلول الربيع، وجد تافرنيك نفسَه فجأةً قادرًا على التخلص من الماضي. كانت مرحلة جديدة من الحياة. يمكنه الجلوس والتفكير في الأشياء التي حدثَت له دون أن يخشى أن تُدمِّره العاصفة. كثيرًا ما كان يجلس ناظرًا نحو البحر، يفكِّر في الأيام التي التقى فيها بياتريس لأول مرة، في تلك الأيام الأولى من الرفقة اللطيفة، والحماس الرائع الذي تعلَّم به منها. فقط عندما تسلَّل وجهُ إليزابيث إلى المقدِّمة، وثبَ من مكانه وعادَ إلى عمله.
قاعة الملكة، أنثانك رود، نوريتش
سيُقدِّم عرضه الترفيهيَّ الراقيَ المتميِّز الذي يشمل التنويم المغناطيسي، وعروض الاستبصار التي لم يسبق تجرِبتُها على أي مسرح من قبل، وقراءة الأفكار، ومحاضرة مختصَرة عن العلاقة بين الخرافات القديمة والتطورات الاستثنائية للعلم الحديث.
يمكن استشارة البروفيسور فرانكلين بشكل خاص سواءٌ برسالة أو بتحديد موعدٍ سابق. العنوان هذا الأسبوع: ذا جولدن كاو، بيلز لين، نوريتش
قرأ تافرنيك الإعلان مرتَين. ثم خرجَ باحثًا عن روث.
وقال لها: «روث، هناك شيءٌ يناديني للرجوع، وربما للأبد.»
وللمرة الأولى، أعطته يدَها.
وقالت بصراحة: «أنت الآن تتحدَّث كرجلٍ مرةً أخرى. اذهبْ ونَلْ مُرادك. وعُدْ إلينا لتُودِّعنا، إذا أردتَ ذلك، ولكن ألْقِ أدواتِ النجارة في البحر.»
ضحكَ تافرنيك، ونظر نحو ورشة العمل الخاصة به.
وقال: «لا أظن أنَّ لديكِ أيَّ ثقة في قاربي.»
أجابت: «لستُ متأكِّدة من أنني سأبحر معك، حتى لو انتهيتَ من هذا القارب. فالحِرفيُّون أولى بحِرفتهم. أما أنت، فيجب أن تعود إلى شئونك الأخرى.»