الفصل الثالث

لقاء الأصدقاء القدامى

وضعَ البروفيسور كأسه على منضدة مطلية بالزنك. لم يتغيَّر كثيرًا إلا أنه زادَ وزنًا، وربما اكتسبَت وجنتاه المزيدَ من الحُمرة. كانت حركاته وإيماءاته أيضًا تنمُّ على ثقته وإيمانِه بنفسه. فقد كان شخصيةً مؤثرة، دون شكٍّ في هذه الحانة الصغيرة.

قال: «أصدقائي، ويسكي مضيفنا من النوع الجيد. وفي الوقت نفسِه، يجب ألَّا أنسى …»

قاطعه شابٌّ ملاصقٌ له قائلًا: «ستحتسي كأسًا معي يا بروفيسور. اثنان ويسكي مخصوص يا آنسة من فضلك.»

هزَّ البروفيسور كتفَيه … كانت إيماءةً تمنَّى أن يفهمها الجميع. كان يدفع الآن ثمنَ الشهرة التي لا يمكن إنكارها!

قال: «هذا لطفٌ منك يا سيدي، لطفٌ شديد حقًّا. كما كنتُ على وشك القول، يجب ألَّا أنسى أنني سأكون على المسرح في أقلَّ من نصف الساعة. ينبغي ألا أخيِّب ظنَّ الجمهور يا سيدي. إنه مكانٌ بسيط، هذا المسرح، لكنه مكتمِل العدد، لقد أخبروني أنه ممتلئٌ من الأرض إلى السقف. وفي الثامنة والنصف يجب أن أقدِّم عرضي.»

قال أحدُ الشباب الذين أحاطوا به: «وهو عرضٌ رائع أيضًا يا بروفيسور.»

أجابَ البروفيسور، ملتفِتًا نحو المتحدِّث، وكأسه في يده: «أشكرك يا سيدي. كان هناك آخرون قدَّموا لي مجاملةً مماثلة، ويمكنني أن أقول إنهم ليسوا بعيدين عن الطبقة الأرستقراطية في بلدك …» وتابعَ حديثه: «وليسوا بعيدين أيضًا، كما يمكنني أن أضيف، بأعلى المستويات في البلد، أولئك الذين من مكانتهم المرموقة لم يتوقَّفوا قطُّ عن إغداق عطاياهم على الأبناء الأكثرِ حظًّا في مهنتنا. العلم الذي أنا إلى حَدٍّ ما رائدٌ فيه … لن أحتسيَ أيَّ قطرةٍ أخرى يا صديقي الشاب. اسمعني، أنا جادٌّ جدًّا هذه المرة! لا مزيد من الشراب حقًّا.»

طرقَ الشاب الذي كان يرتدي ملابسَ ركوب فضفاضةً وكان قد دخل للتو برأسِ عصاه المنضدة.

وأكَّد بثقة: «لن ترفضَ عرضي أبدًا يا بروفيسور. فأنا من مؤيديك القدامى. لقد شاهدتُك في بلاكبيرن ومانشستر ومرتَين هنا. رائعٌ كما كنتَ دائمًا! وتلك الآنسة الشابة، يا بروفيسور، أستميحك عذرًا إن كانت ابنتَك، فهي بلا شك، مجنونة.»

تنهَّد البروفيسور. لقد كان يستمتعُ بالحديث، لكنه كان يشعر بالقلق من مرور الوقت.

قال: «صديقي الشاب، وجهُك ليس مألوفًا بالنسبة إليَّ، لا يمكنني رفضُ عرضِك الكريم. إلا أنه يجب أن يكون الأخير، آخر كأس.»

ثم دفعَ تافرنيك البابَ المتأرجح ودخلَ، بعد أن وُجِّه إلى هنا من قاعة الموسيقى. فوضعَ البروفيسور كأسَه دون أن يتذوقها. وعبر تافرنيك الغرفة ببطء.

ثم قال وهو يمدُّ يده نحوه: «أنت لم تنسَني، إذن، يا بروفيسور؟»

استقبله البروفيسور دون حماس؛ ولم يعُد حديثه مُنمَّقًا كما كان. لقد ذكَّره وصولُ تافرنيك بأشياءَ نسيَها بمنتهى السهولة.

تعثر قائلًا: «هذا أمرٌ مثيرٌ للدهشة للغاية، مثيرٌ للدهشة حقًّا. هل تعيش في هذه الأنحاء؟»

أجابَ تافرنيك: «ليس بعيدًا جدًّا من هنا. رأيتُ إعلانك في الصحف.»

أومأ البروفيسور برأسه.

وقال: «نعم، لقد نزلتُ الميدان من جديد.» ثم تابعَ وقد استعادَ بسرعةٍ بعضًا من أسلوبه السابق: «حاولتُ الراحة لكنني ازددتُ وزنًا وكسلًا، ولم يكن الناس لِيَقبلوا باعتزالي يا سيدي. عدد العروض التي انهالت عليَّ من وكلائي في كل مكان كان مذهلًا … مذهلًا حقًّا!»

قال تافرنيك بأدب: «إنني أتطلع إلى رؤية أدائك هذا المساء. وفي الوقت نفسِه …»

قاطعه البروفيسور قائلًا: «أنا أعرفُ ما تفكِّر فيه. حسنًا، حسنًا، أعطني ذراعك وسنذهب معًا إلى القاعة.» ثم أضافَ البروفيسور وهو يستدير: «أصدقائي، أتمنَّى لكم جميعًا ليلة سعيدة!»

ثم فُتِحَ البابُ قليلًا وقفزَ قلبُ تافرنيك من بين ضلوعه. كانت بياتريس هي التي تقف هناك، شاحبة جدًّا ومتعبة جدًّا وأنحف بكثيرٍ حتى من بياتريس التي عاشت معه في الفندق الصغير، لكنها لا تزال بياتريس.

صاحت قائلة: «أبي، هل تعلم أن الساعة أوشكَت …»

ثم رأت تافرنيك ولم تقل شيئًا بعدها. بدَت وكأنها تتأرجحُ قليلًا، فأخذ تافرنيك خطوةً سريعة إلى الأمام، وأمسكها من يديها.

وصرخ قائلًا: «أختي العزيزة، أنت مريضة!»

فاستعادت نفسها مرةً أخرى في لحظة.

فأجابت: «مريضة؟ على الإطلاق. كلُّ ما هنالك أنني كنتُ أُسرع … فقد تأخرنا بالفعل على العرض … وعندما رأيتُك هناك، حسنًا، لقد كانت صدمةً كبيرة، كما تعلم. انزل معنا وأخبِرني كلَّ شيء عنك. أخبرنا بما تفعله هنا … أو بالأحرى، لا تقُل شيئًا لحظة! هذا مذهل حقًّا.»

نزَلوا إلى الشارع الضيق المرصوف بالحصى، وكان البروفيسور يسير في منتصف الطريق، مؤرجِحًا عصاه، شخصية مهيبة ومدهشة، بينما يتطاير ذيلُ معطفه المشقوق في الهواء، وتكاد القبعة لا تُخفي سوى نصفِ شعره الطويل. كان يُدندن بلحنٍ لنفسه، ولم يهتمَّ مطلقًا بالانتباه إلى الرفيقَيْن الآخرَيْن. ثم أدركَ تافرنيك فجأة أنه قام بعملٍ جبان عندما تركها بدون أي كلمة.

بدأت الكلام أخيرًا: «هناك الكثير من الأسئلة، لكنك جئت.»

نظرَت إلى ملابس العُمَّال التي يرتديها.

وسألت بحِدَّة: «ماذا كنت تفعل؟»

أجابَ تافرنيك: «أعمل، وعملٌ جيد أيضًا. كنتُ متفوقًا فيه. لا تُبالي بملابسي يا بياتريس. لقد جُنِنتُ آونةً، ولكنه في النهاية كان جنونًا صِحيًّا.»

قالت: «لقد كان شيئًا غريبًا الذي فعلتَه … لقد اختفيت.»

أومأ برأسه.

وقال لها: «يومًا ما، ربما أكون قادرًا على جعلكِ تفهمين. أما الآن فلا أعتقدُ أنني قادرٌ على أن أفعل ذلك.»

فهمسَت بصوتٍ هادئ: «أكانت إليزابيث؟»

فاعترفَ قائلًا: «كانت إليزابيث.»

لم ينبس أحدُهما ببنتِ شفة إلى أن وصَلوا جميعًا إلى القاعة. توقَّفت عند الباب ومدَّت له يدَها بخجل.

وقالت: «هل سأراكَ بعد العرض؟»

فسألها: «هل تمانعين في قدومي إلى العرض؟»

فتردَّدَت.

وقالت مبتسمة: «منذ لحظاتٍ قليلة، كنتُ أخشى قدومك. أما الآن فأنا أعتقد أن من الأفضل أن تأتي. سينتهي العرضُ في الساعة العاشرة وسأنتظرك في الخارج. أنت تعيش في نوريتش، أليس كذلك؟»

أجابَ: «سأبقى هنا الليلة، على أي حال.»

فقالت: «حسنًا جدًّا، إذن سنتحدث فيما بعد.»

مرَّ تافرنيك عبر الحشود المتناثرة عند الباب وحجزَ لنفسه مقعدًا في القاعة الصغيرة، التي لم تكن ممتلئة، على الرغم من تفاخُر البروفيسور. كان المكان ذا طرازٍ قديم، به طاولاتٌ صغيرة في المقدمة، والنُّدُل يسارعون في تقديم المشروبات. كان الناس من أدنى طبقات المجتمع، وكان الجوُّ عبقًا بدخان التبغ. وكانت على المسرح امرأةٌ شابَّة ترتدي شعرًا مستعارًا أشقرَ اللون وملابس صبيانية، تُغني أغنية شعبية بسيطة، وتروح وتجيء على خشبة المسرح، بينما تُعبِّر عن كلمات أغنيتها بتعبيراتِ وجهها وحركاتِ جسدها. جلسَ تافرنيك متأوهًا بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا. فقد بدأ يُدرك المأساة التي تعثَّر فيها. تبعَ ذلك مُغنٍّ كوميدي يرتدي بدلةً رسمية أكبرَ من حجمه بدرجة كبيرة وراحَ يقلِّد ممثلًا كوميديًّا أيرلنديًّا مشهورًا. ثم رفعَ الستار وشُوهِدَ البروفيسور وهو يقف أمام الستار وينحني بطريقةٍ رسمية جادَّة للجمهور غيرِ المستجيب إلى حَدٍّ بعيد. بعد لحظةٍ جاءت بياتريس بهدوءٍ وجلسَت بجانبه. لم يكن هناك شيءٌ جديد في العرض. لقد شاهدَ تافرنيك العرضَ نفسَه من قبل، باستثناء أن البروفيسور ربما كان متخلِّفًا قليلًا عن غالبية زملائه في المهنة نفسِها. انتهى العرض في صمتٍ تام، وبعد أن انتهى، تقدَّمَت بياتريس إلى الأمام وبدأت الغناء. كانت شخصيةً غير عادية للغاية في مثلِ هذا المكان، ترتدي فستانَ سهرةٍ أسودَ سادة، مع قفازاتٍ سوداء بلا أي مجوهرات، لكنهم طالبوها بالاستمرار في الغناء مرة أخرى بحماس شديد، فغنَّت أغنيةً من المسرحية الكوميدية الغنائية التي رآها تافرنيك تؤديها لأول مرة. فأثارت داخلَه فجأةً موجةً عاتية من الذكريات. وبدا أن أفكاره عادت إلى الليلة التي انتظرها فيها خارج المسرح وتناولا العشاء في إيمانو، وإلى اليوم الذي غادر فيه الفندقَ ودخلَ حياته الجديدة. كان الأمرُ الآن أشبهَ بحُلم أكثر من أي وقت مضى.

نهضَ وخرجَ من المكان فورَ انتهائها من العرض، وانتظرها في الشارع إلى أن ظهرَت. وخرجَت في غضون بضع دقائق.

قالت: «أبي ذاهبٌ إلى حفل عشاء في النُّزُل الذي يحجز فيه غرفةً لاستقبال الناس. فهل ستعود إلى المنزل معي لمدة ساعة؟ ثم يمكننا الذَّهابُ وإحضارُه.»

أجابَ تافرنيك: «يُسعدني ذلك.»

كان مسكنها على بُعد خطواتٍ قليلة فحسب … كان منزلًا صغيرًا غريبًا في شارع ضيق. فتحَت البابَ الأمامي وأدخلَته.

ثم قالت مبتسمة: «أنت تفهم، بالطبع، أننا قد تخلينا تمامًا عن حياة الرفاهية.»

نظرَ حوله إلى الغرفة الصغيرة بنيران مِدفأتها التي تُقاوم الانطفاء، والأريكة المصنوعة من شعر الخيل، والمشمَّع المفروش على الأرض بدلًا من السجاد، والصور الزيتية البسيطة المعلَّقة بدلًا من اللوحات، وارتعدَ، ليس من أجله هو ولكن من أجلها. كان هناك بعض الخبز والجبن وزجاجة من جِعَة الزنجبيل على البوفيه.

قالت برجاءٍ وهي تُخرج الدبابيس من قبعتها: «أرجو أن تتخيَّل أنك في شقتنا المريحة العزيزة في تشيلسي. اسحب هذا الكرسيَّ المريح إلى أقربِ ما يمكن من المدفأة، واسمعني. هل ما زلت تُدخن؟»

اعترفَ قائلًا: «أصبحتُ أدخِّن الغليون.»

فتابعَت وهي تُمسِّد شعرها لحظةً أمام المرآة: «إذن فأشعِلْه واستمع إليَّ. تريد أن تعرف كلَّ شيء عن إليزابيث بالطبع.»

فقال: «نعم، أريد أن أعرف.»

واصلَت بياتريس حديثها قائلة: «بشكلٍ عام، خرجت إليزابيث من كل مشاكلها على نحوٍ رائع. كان أهل زوجها غِلاظًا معها، لكنها كانت غايةً في الذكاء. لم يتمكَّنوا على الإطلاق من إثباتِ أنها قد مارسَت أكثرَ من السيطرة العادية على وينهام المسكين. وقد مات بعد شهرين من حجزه في مستشفى الأمراض العقلية. وعرَضوا على إليزابيث مبلغًا كبيرًا من المال لتتخلَّى عن مُطالبتها بحقوقها في أملاكه، وقَبِلتْه. وأعتقد أنها الآن في مكانٍ ما في أوروبا.»

سألها: «وأنتِ؟ لماذا تركتِ المسرح؟»

قالت شارحةً له: «الأمر له علاقة بعنايتي بأبي. أنت تعلم أنه حين كان مع إليزابيث كان بحوزته قدرٌ كبيرٌ من المال ولم يكن لديه أيُّ عمل. وكانت النتيجة أنه كان دائمًا … حسنًا، أظن أن عليَّ أن أقول لك … كثير الشرب، وفقدَ كلَّ رغبته في العمل. وقد أقنعتُه بأن يَعِدَني بأن يرحل معي إذا استطعتُ أن أحصل على عملٍ مناسب؛ ولذا فقد لجأتُ إلى وكيلٍ وظللنا نتجوَّل بهذا الشكل منذ مدةٍ طويلة.»

صاحَ تافرنيك: «لكن يا لها من حياةٍ بالنسبة إليكِ! ألم يكن بإمكانكِ أن تبقَي في المسرح وتبحثي له عن عملٍ في لندن؟»

هزَّت رأسها.

وقالت: «لم يكن ليُغيِّر عاداتِه القديمةَ مطلقًا في لندن.» ثم استدركَت مترددة: «بالإضافة إلى أن الجمهور كما تعلم يريد شيئًا آخرَ إلى جانب التنويم المغناطيسي …»

قاطعها تافرنيك بقسوة.

وقال: «بالطبع أفهم ذلك، لقد كنتُ هناك الليلة. وفهمتُ على الفور لماذا لم تكوني متحمسةً لأن أحضرَ العرض. لم يكن الجمهور مهتمًّا على الإطلاق بأداء أبيك. لقد كانوا ببساطةٍ ينتظرونكِ أنتِ. كنتِ ستحصلين على الأجر نفسِه إذا قمتِ بالعرض وحدك بدونه.»

فأومأت برأسها وقد ظهر على وجهِها الخجل.

وقالت معترفة: «أخشى أن يُخبره أحدُهم بذلك. إنهم يطلبون مني طوالَ الوقت أن أتخلى عن دوره في العرض. بل إنهم عرَضوا عليَّ المزيد من المال إذا أدَّيتُ العرضَ وحدي. ولكنك تفهم الوضع. إنه يؤمنُ بنفسه، ويعتقد أنه شديدُ المهارة وأن الجمهور يُحبُّ عرضه. وهذا هو الشيءُ الوحيد الذي يساعده على الحفاظ على احترامه لنفسه. بل إنه حتى يظن أن غنائي غير ضروري.»

نظر تافرنيك في البريق الخافتِ لنيران المدفأة البائسة. وشعرَ بغُصَّة ومرارةٍ في حَلْقه. ما أقلَّ ما يعرفه عن الحياة! يا لها من حكاية أثارت في نفسه مشاعرَ الشفقة والعطف، فمجرد فكرة أن تُسافر بشجاعةٍ عبر البلاد وتُغني في قاعات الموسيقى من الدرجة الثالثة، دون أن تنسبَ أيَّ فضل لنفسها، ببساطةٍ لكي يظلَّ والدها يعتقد أنه رجلٌ موهوب، كانت فكرة راقت له بشدة. فمدَّ يدَه نحو يدها على حينِ غِرَّة.

وصاحَ: «بياتريس الصغيرة المسكينة! أختي الصغيرة العزيزة!»

كانت يدُها التي أمسكَ بها باردة، وتجنَّبت عينَيه.

وتمتمَت: «ليس عليك … ليس عليك أن تفعل هذا. أرجوك توقَّف!»

مدَّ يدَه الأخرى ونهضَ تقريبًا، ولكنَّ شفتَيها توقَّفتا فجأة عن الارتعاش وأشارت له بالرجوع.

قالت متوسلة: «لا يا ليونارد، أرجوك لا تقل أو تفعل أيَّ شيءٍ أحمق. ومع ذلك، فبما أننا التقينا مرةً أخرى، بهذا الشكل، فسوف أطرحُ عليك سؤالًا واحدًا. ما الذي جعلك تأتي إليَّ وتطلب مني الزواجَ منك في ذلك اليوم؟»

أشاحَ بنظره؛ فقد كان ثمة نظرةُ اتهام تلوح من عينَيها.

قال معترفًا: «بياتريس، لقد كنتُ شخصًا أحمقَ جاهلًا غبيًّا، لا أفهم شيئًا. لقد أتيتُ إليكِ طلبًا للأمان. كنتُ خائفًا من إليزابيث، كنت خائفًا مما شعرتُ به نحوها. وأردتُ الهروب منه.»

ابتسمَت بشفقة.

وقالت متلعثمة: «لم يكن هذا عملًا شجاعًا للغاية، أليس كذلك؟»

فقال معترفًا: «كان عملًا وضيعًا. بل كان أسوأ من ذلك.» ثم استدركَ قائلًا: «لكن، يا بياتريس، كنتُ أفتقدكِ بشدة. لقد تركتِ فجوةً كبيرة عندما ابتعدتِ عني. أنا لن أسامح نفسي بشأن إليزابيث. لقد عشتُ وقتًا من أغرب وأروع المشاعر التي يمكن للمرء أن يحلمَ بها. ثم انتهى كلُّ شيء وشعرتُ كما لو أن كلَّ شيء قد ظهَر على حقيقته.» ثم واصلَ مترددًا: «أعتقدُ أنني أحببتُها. لا أعرفُ. كلُّ ما أعرفه هو أنها شغَلتْ كلَّ تفكيري، وأنها احتلت كلَّ نبضة من نبضات قلبي، وأنني كنتُ سأذهبُ إلى الجحيم لمساعدتها. ثم فهمتُ. في ذلك الصباح أخبرَتني شيئًا عن حقيقة نفسها، دون قصد … دون أن تعيَ ذلك … كانت تُبرِّر فعالَها طَوال الوقت، ولم تدرك أنَّ كل كلمة قالتها كانت ملعونة. وبعد ذلك بدا لي أنه لم يتبقَّ أيُّ شيء، ولم يكن لديَّ سوى رغبة واحدة. أدرتُ ظهري لكل شيء وعُدْتُ إلى المكان الذي وُلِدتُ فيه، كان عبارةً عن قريةِ صيد صغيرة. ومشيتُ على مدى الثلاثين ميلًا الأخيرة. لن أنساها أبدًا. وعندما وصلتُ إلى هناك، لم أرد شيئًا سوى العمل، العمل بيدَيَّ. كنت أرغبُ في بناء شيءٍ، في إنشاء شيءٍ أستطيعُ الكَدَّ فيه. وأصبحتُ صانعَ قوارب — ومنذ ذلك الحين وأنا أعمل في صناعة القوارب.»

سألت: «والآن؟»

«بياتريس!»

استدارت نحوه وواجهته. ونظرَت في عينَيه متعمِّقة فيهما بحزنٍ شديد.

فقال: «بياتريس، إنني أوجِّه إليك السؤال نفسَه، ولكن هذه المرة على نحوٍ مختلف. هل تقبلين الزواجَ مني الآن؟ سأجدُ عملًا ما، وسأجني ما يكفي من المال لكِلَينا.» ثم تابعَ: «هل تتذكَّرين ما كنتُ أقوله دائمًا، وكيف كنتُ أشعر أن عليَّ فقط أن أُشمِّر عن ساعدي وعندها سأستطيع الفوز بأي شيء؟ سوف أشعر الشعور نفسَه مرةً أخرى، يا بياتريس، إذا وافقتِ على مرافقتي.»

هزَّت رأسها ببطءٍ. وأشاحت بنظرها بعيدًا عنه بحسرة. كانت كمَنْ سعى إلى شيء وفشلَ في العثور عليه.

قالت له: «يجب ألَّا تُفكر في ذلك مرةً أخرى يا ليونارد. سيكون هذا مستحيلًا تمامًا. فهذه هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ والدي. ولدينا جولةٌ ستستغرق الجزءَ الأكبر من العام القادم.»

فقال بصراحة: «ولكنكِ بذلك تُضحِّين بنفسكِ. سوف أعتني بوالدكِ.»

ردَّت قائلة: «ليس هذا فقط. أولًا: أنا لا أستطيع السماح لك بأن تفعل ذلك؛ وثانيًا: الأمر لا يتعلق بالمال فقط، إنه يتعلَّق بالعمل. فما دام يعتقد أن الجمهور يتوقَّع ظهورَه على المسرح كلَّ ليلة، فإنه يمتنعُ عن الإفراط في الشرب. وليس هناك شيءٌ آخرُ في العالم كلِّه من شأنه أن يُبقيه مستقيمًا. لا تتظاهَرْ بأنك لا تفهم يا ليونارد. إنه والدي، كما تعلم، وليس هناك ما هو أفظعُ من رؤية أي شخص مسئول منك يضيع بمثلِ هذه الطريقة. قد لا تتَّفق معي، ولكني أرجو منك أن تصدِّق أنني أفعل ما أشعر أنه الصواب.»

خمدَت نيرانُ المدفأة الصغيرة. ونظرَت بياتريس إلى الساعة ثم ارتدت سُترتها مرة أخرى.

وقالت: «أنا آسفةٌ يا ليونارد، لكنني أعتقد أنني يجب أن أذهب وأُحضر والدي الآن. يمكنك المشيُ معي إلى هناك، إذا أردتَ ذلك. لقد سُرِرتُ جدًّا بأن أراك مرةً أخرى. بالنسبة إلى ما قلتَه لا أعرف ماذا أقول لك. هل تعتقد أن هذا ما خُلِقتَ من أجله … صناعة القوارب؟»

ردَّ بإجهاد: «لا يبدو أن لديَّ أيَّ طموح آخر. عندما قرأتُ في الجريدة هذا الصباح أنكِ أنتِ ووالدكِ هنا، بدَت الأمور مختلفةً فجأة. وجئتُ في الحال. لم أكن أعرفُ ما أريده حتى رأيتُكِ، لكنني أعرفُ الآن، ولكن بلا فائدة.»

قالت بمرح: «بلا فائدة على الإطلاق. لن يمرَّ وقتٌ طويل يا ليونارد، حتى يأتيَ شيءٌ آخرُ ليُثير شغفك. لا أعتقدُ أنك قد خُلِقت لصناعة القوارب طوال حياتك.»

نهضَ والتقطَ قبعته. كانت تنتظره عند الباب. ومرة أخرى سارا في الشارع الضيق.

قال متوسلًا: «أخبريني يا بياتريس، هل يرجع رفضُك الاستماعَ لما أطلبه إلى أنك لا تُحبينني بما فيه الكفاية؟»

للحظةٍ أغمضَت عينيها جزئيًّا كما لو كانت تتألم. ثم ضحكت، ولكن ضحكتها ربما كانت ضحكةً مُتصنَّعة غير طبيعية. كانا واقفَين الآن بجوار باب النُّزُل.

قالت له: «ليونارد أنت شابٌّ صغير من حيث السنُّ، لكنك ما زلتَ طفلًا من حيث الخبرة. اسمعني، هناك أسبابٌ أخرى تجعلني لا أستطيع … ولا أحلم بأن أتزوجَك، أسبابٌ أخرى كافيةٌ تمامًا، ولكن … هل تعلم أنك قد طلبتَ مني بالفعل الزواج مرتَين، ولكنك لم تقل قطُّ إنك تُحبُّني، ولم تنظر إليَّ ولو مرةً نظرةً توحي بحبِّك لي؟» حاول الحديث فقاطعته: «لا، أرجوك، لا تفعل، لا تبرِّر أيَّ شيء. افهمني، المرأة دائمًا تعرف … وتعرف جيدًا جدًّا في بعض الأحيان.»

أومأت برأسها، ومرَّت من خلال الأبواب المتأرجِحة. سمعَ تافرنيك، في وقفته في الخارج في ذلك الشارع الضيق الملتوي، التصفيقَ والتهليل اللذَيْن استُقبِلَت بهما عند دخولها، وسمعَ صوتَ والدها. عزفَ أحدُهم مقطوعةً على البيانو … كانت على وشكِ أن تُغني. استدار ببطءٍ شديد وسار عبر الشارع المفروش بالحصى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤