الشعر المسرحي

حاضره ومستقبله

(١) عن المصطلح

الشعر المسرحي نوعٌ من أنواع الشعر، والشعر — كما نعرف — أنواع يشيرون إليها بمصطلح إنجليزي لا يوحي بالتخصص، وإن كان متخصصًا وهو kinds، في حين يشير النقاد إلى الأنواع الأدبية بالمصطلح الفرنسي الذي دخل الإنجليزية فتنجلز وهو genres،١ والتفرقة ضرورية لأن بعض أنواع الشعر العريقة تحوَّلت إلى أنواع أدبية قائمة برأسها، وأصبح بعضها يُكتب نثرًا — مثل الشعر القصصي الذي نشأ ملحميًّا، ثم تفرعت منه السير الشعبية والمواويل الغربية، حتى اشتد ساعد النثر فاكتسب فن القص النثري بعض ملامح الشعر القصصي، وتحوَّل إلى نوعَين أدبيَّين حديثَين هما الرواية الطويلة٢ والقصة القصيرة، وإن كانت الأخيرة قد تفرَّعت هي الأخرى إلى الأقصوصة very short story. والأقصوصة القصيدة — أو ما يسمَّى very very short story — والله أعلم بما ستصير إليه هذه الأنواع النثرية.

(١-١) الشعر المسرحي

والشعر المسرحي إذن شعر، والمولعون بالتقسيم والتصنيف والتبويب يفرقون بين الشعر المسرحي وبين المسرح الشعري، أما الأول فهو الشعر الذي ورثناه فيما ورثنا من شعر الأقدمين، والذي كتب عنه جون درايدن Dryden دراسته الذائعة التي ترجمتها في صدر شبابي إلى العربية، وصدرت في كتاب يحمل اسمي إلى جانب اسم العلَّامة مجدي وهبة، عام ١٩٦٣م،٣ وهي الدراسة التي تتناول الصراع الذي ما فتئ يتجدد بين السلفيين (الذين شاعت ترجمة صفتهم بالقدماء the ancients) بسبب إعلائهم لشأن القدماء من يونان ورومان، ودعوتهم إلى اتباع مذهبهم، وبين المجددين الذين شاعت ترجمة صفتهم بالمحدثين (the moderns). والخلاف بين الفريقَين لا يكاد يحسم أبدًا؛ فالسلفيون كانوا يريدون السير في ركاب القدماء، وفقًا للقواعد الكلاسيكية التي ثبتت في العصور الوسطى، ويريدون للشعر المسرحي أن يحتفظ بملامح الشعر الذي نطلق عليه اصطلاحًا تعبير الشعر الغنائي، مثل استقلال البيت distich، ومثل القافية، وعدم خلط الأنواع أي عدم المزج بين التراجيديا والكوميديا مثلًا، وإن كانت دعوتهم تتجلَّى في ملامح شكلية في المقام الأول، والمجددون يريدون التحرُّر من هذه الملامح، وتغليب البناء الدرامي الذي يقوم على «الفعل» action لا على «القول» words، وما برحت المعركة محتدمةً حتى عصرنا هذا، وأما الثاني، أي المسرح الشعري، فهو النوع الأدبي الذي يمثله شكسبير خير تمثيل، فهو نوع تلتقي فيه ملامح الشعر الغنائي lyrical بالفعل الدرامي وتمتزج به امتزاجًا دفع ت. س. إليوت إلى القول بأنه يمثل نوعًا أدبيًّا قائمًا برأسه، فلا هو شعر خالص (أي كلام موزون مقفًّى له معنًى ويتميز بالتكثيف، ويتوسل في جوهره بالاستعارة)، ولا هو دراما خالصة (أي فعل مسرحي يقوم على الصراع في جوهره) أي إن المسرح الشعري في رأي إليوت نوع مستقل، وهو «هجين» أو مولد.٤

(١-٢) الشعر الدرامي

وإلى جانب هذا التفريق الذي لا بدَّ منه، هناك ما يسميه النقاد والباحثون «الشعر الدرامي» dramatic verse وهو الشعر الذي يتضمَّن سمات الدراما في البناء structure، خصوصًا وجود قوًى متصارعة داخلية أو خارجية، وقد يتخذ شكل «القصيد الدرامي» dramatic poem أي القصيدة التي تبدو في ظاهرها «غنائية» أي مكتوبة بغير الحوار Dialogue، وهي في الواقع درامية أي تتضمن صراعًا إما بين «أصوات» voices متناقضة قد تمثِّل قوى النفس المتصارعة، وقد تمثل قوًى خارجية تفترق لتلتقي، ولا تلتقي إلا لتفترق. وهذا النوع الأدبي ليس جديدًا، لا في الشعر العربي ولا في الشعر الأجنبي، وهناك أيضًا ضربٌ منه يعتبر جديدًا ويسمى بالمناجاة الدرامية dramatic monologue (أو المونولوج الدرامي الذي سنعود إليه فيما بعد) أي القصيدة التي تبدو في ظاهرها حديثًا منفردًا لا يمثل إلا صوتًا واحدًا، وهي في الواقع حديثٌ متعدد الأصوات، يتضمن صراعاتٍ دائبة بين قوى النفس، أو بين النفس والعالم الخارجي؛ فهو ليس جديدًا في الواقع، وتاريخنا الأدبي حافلٌ به، والدراسات الحديثة للشعر العربي تؤكد وجوده في تراثنا القديم والحديث. ولقد أثبت صلاح عبد الصبور في كتابه الرائع «قراءة جديدة لشعرنا القديم»٥ أن بعض القصائد كانت تقترب حتى في الأداء، أي في الإلقاء من الشعر الدرامي، ودلل على ذلك بقصيدة المنخل اليشكري الذائعة، والتي لا يعرف الناس منها إلا بعض الأبيات، وأشهرها:
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
كما أثبت ذلك أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه «قصيدة لا».٦

(١-٣) شعر المسرح

وهنا نصل إلى شعر المسرح Poetry of the theatre، وهو نوع أدبي نثري وُصف بالشعر؛ بسبب رهافة المشاعر التي يتخذها الكاتب مادةً للعمل الأدبي، وبسبب دقة التحليل لتلك المشاعر التي تصعد بالموقف المسرحي إلى موقف (وهي كما سوف نرى قد تكون قائمة على الاستعارة) مما يضعنا أمام مصطلح جديد لم يكن مألوفًا لدى السلف من نقاد الشرق والغرب جميعًا، وهو «الرؤية» — أقصد باعتبارها مصطلحًا نقديًّا — فالشاعر، كما يقول نقاد اليوم، ليس صائغًا ينظم الدر ويؤلف بين الكلمات على أسس البديع والبيان، بل هو صاحب «رؤية» vision، وأبسط تعريف للرؤية هو كيف يرى الإنسان شيئًا ما، فهي مشتقة مثل الرأي من: رأى يرى رأيًا ورؤيةً ورؤيا (كما في اللسان). وقد يفضل المحدثون تعبير «وجهة نظر»، وهو تعبير قاصر، فإن المصطلح النقدي الجديد يشمل رأي العين في اليقظة (الرؤية)، ورأي القلب في المنام (الرؤيا)، ورأي العقل الذي لا يكون إلا رأيًا، والتفرقة هنا لازمة؛ لأن الشاعر الذي يقف عند الرأي لا يصل إلى منزلة الشاعر الذي يجسد في القصيدة رؤيته، لما يراه هو دون غيره، والأخير قد يكون أقل تأثيرًا من صاحب الرؤيا التي تنتظم المستقبل، مهما يكن من صدقها أو كذبها، وأفعل الرؤى هو الاستعاري منها؛ فالشاعر قادر على تخطِّي حدود الظواهر، وعلى النفاذ إلى جوهر الحياة التي وهبها الله لمخلوقاته، على اختلاف أنماطها، وفي هذا يتفق معظم المحدثين مع قول كارولين سبيرجون Caroline Spurgeon في كتابها الشهير Shakespeare’s imagery and what it tells us، الصادر عام ١٩٣٦م، إن الاستعارة دليل مقدرة الشاعر على الرؤية العميقة؛ لأنها تجمع بين ما يختفي أكثر مما تجمع بين ما يظهر، وكان أول من قال به كولريدج في مطلع القرن التاسع عشر٧ ثم أوضحه أ. أ. ريتشاردز I. A. Richards٨ في كتابه عن ذلك الشاعر والناقد، وسار على دربه جمهور النقاد في عالم اليوم، مما جعل المحدثين يبتكرون كلمتَين جديدتَين للتمييز بين الاستعارة التصريحية والمكنية اللتَين عرفهما العرب، وهما diaphor وperiphor على الترتيب، وبحيث أصبح كاتب المسرح الذي يتوصل بالاستعارة بنوعَيها أو بأنواعها (إن أضفنا المجاز المرسل synecdoche، والمثل السائر وغيرهما) يتوصل في الحقيقة برؤية الشاعر ولو كتب المسرح نثرًا، وخير نموذج عليه من الأدب العالمي هو أنطون تشيخوف الروسي، وهارولد بنتر الإنجليزي، ورشاد رشدي العربي، بل إن باحثًا عربيًّا كتب رسالته للدكتوراه في موضوع «المسرح باعتباره استعارة»، وهو الدكتور فاروق عبد الوهاب مصطفى، الذي نشرها كما هي بالإنجليزية منذ عشر سنوات تقريبًا،٩ وقد تسلل فن الشعر بهذا المعنى إلى مسرحيات عدد محدود من كتاب المسرح النثري في عصرنا هذا، مثل سعد الله ونوس وفوزي فهمي العربيَّين، ولا يكاد يمارسه اليوم إلا أقل القليل في الوطن العربي والعالم كله، لأسباب سنعرض لها فيما بعد.

(١-٤) المسرحية الغنائية

وأخيرًا نصل إلى الشعر المسرحي الذي يتخذ فيه المسرح شكلًا شعريًّا من نوع جديد، وهو المسرحية الغنائية الحديثة؛ فهذه هي أحدث صورة من صور تجاوب فن الشعر في صورته الغنائية مع قالب المسرح، ولا يوجد للأسف بين مسرحياتنا الغنائية العربية ما يمكن أن يرقى إلى المستوى الأدبي الذي وصلت إليه الصور الغنائية لبعض المسرحيات العالمية، مثل مسرحية سيدتي الجميلة١٠ المقتبسة عن مسرحية بيجماليون لبرنارد شو؛ إذ إن جاي ليرنر Jay Lerner يقدم في عرضه المسرحي سلسلة من الأغاني المنظومة والمقفَّاة، المستوحاة من المواقف الدرامية المتعاقبة، والتي تتلاحم تلاحمًا وثيقًا مع النص الذي أصبح لا ينطق إلا بالموسيقى. وهي هنا موسيقى باطنة، بالمعنى الذي حدده الناقد الإنجليزي والتر باتر Walter Pater، أي باعتبارها تتكوَّن من عناصر التناغم أو التوافق، وعناصر النشاز أو الافتراق، مما يجعل البناء الدرامي شعريًّا، ما دمنا قادرين على تصور نمط للنظم الظاهري قد يناقضه إيقاع داخلي مختلف Syncopated rhythm. وهذا من مجالات البحوث الحديثة في الشعر والموسيقى جميعًا، وفي أقصى حالات المسرحية الغنائية نجد «الأوبرا» التي تُكتب نظمًا من البداية إلى النهاية، وفي الطرف الآخر نجد المسرحية التي تكتفي ببعض الأغنيات، مثل مسرحية صوت الموسيقى، التي كتبها ريتشارد رودجرز Richard Rodgers. وفيما بينهما تتفاوت درجات مشاركة الشعر — بهذا المفهوم — في المسرح.

(٢) الشعر المسرحي في الحاضر

ترى أي نوع من الشعر المسرحي نقصد أن نتحدث عنه في الحاضر؟ إن الذهن ينصرف بسرعة إلى المسرح الشعري، باعتباره النوع الأدبي المألوف لدارس العربية منذ شوقي وحتى اليوم، ولكن هذا النوع الأدبي نفسه ينقسم إلى أنواع لا أقول إنها فرعية subspecies، بل هي أنواع أساسية، وأولها وأعلاها هو المسرحية المكتوبة نظمًا وبلغة شعرية، إن صح هذا التعبير، وتتميَّز بإحكام البناء الدرامي وتقبل التقديم على المسرح. وقد أوردت هذا الشرط في آخر القائمة، حتى أستثني من هذا النوع الرفيع أشكال الحوار المنظوم التي لا ترقى إلى مستوى فن المسرح المعروف، الذي يشترط إمكان العرض المسرحي بعناصره الثلاثة المعروفة؛ وهي النص والممثلون والجمهور. وهذا التعريف يتسع ليشمل الشكل السينمائي والتليفزيوني؛ لأنه يلغي الحاجة إلى وجود الجمهور مع الممثلين في المكان نفسه، أي إنه تعريف مُعدَّل، ويمليه اختلاف أساليب تقديم المسرح في العصر الحديث. وإذا كان هذا النوع هو أولها وأعلاها، كما قلت، فإن غيره من الأنواع المختلفة يُعتبر أساسيًّا أيضًا، ومنها: النوع المكتوب بلغة الشعر الراقية دون إحكام للبناء الدرامي، بحيث يصعب تقديمه على المسرح، ونوع تغيب عنه الغنائية تمامًا، فيكون كل شيء فيه مسخرًا للمواقف الدرامية، وتطور الصراع، وبناء الشخصية، وما إلى ذلك. وهي — كما أقول — أنواع رئيسية، من العبث إنكار وجودها أو أهميتها.

(٢-١) الانحسار وأسبابه

والحالة الراهنة لهذا النوع هي الانحسار الذي يكاد يكون كاملًا في الشرق والغرب جميعًا، وأقول «يكاد يكون» عامدًا، فآخر مسرحية شعرية قدَّمها المسرح القومي في القاهرة كانت عام ۱۹۹۲م، وهي جاسوس في قصر السلطان،١١ وتكاد تكون المسرحية الشعرية الوحيدة التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين في مصر، وأقول «تكاد تكون» هنا أيضًا عامدًا؛ فمسرحية الخديوي١٢ التي قدَّمها المسرح الغنائي في البالون عام ١٩٩٤م، كانت أقرب إلى المسرحية الموسيقية الاستعراضية منها إلى المسرحية الشعرية الخالصة، ومن قبلهما شهدت الثمانينيات مسرحية الوزير العاشق١٣ والغربان١٤ ودماء على ستار الكعبة،١٥ ومن قبلهما قدَّم مسرح الطليعة مسرحيتَين شعريتَين هما مسافر ليل١٦ وليلى والمجنون.١٧ وقدَّم المسرح الحديث مسرحية عرابي زعيم الفلاحين١٨ في مسرح السلام. فإذا وضعنا حصاد ربع القرن الأخير من هذه المسرحيات الشعرية التي قدِّمت على المسرح، إلى جانب مئات المسرحيات التي قدَّمتها فرق القطاع العام وفرق القطاع الخاص في مصر، رأينا أن عدد المسرحيات الشعرية التي تُقدَّم على المسرح يتضاءل باطِّراد، وليس هذا مقصورًا على مصر، بل هو من الظواهر المسرحية في شتى البلدان العربية الشقيقة أيضًا، وهو ولا شك ظاهرة عالمية لا بد من الوقوف على أسبابها.

(٢-٢) من الكلمة إلى الصورة

وربما يكون أول هذه الأسباب هو بوادر التحول من المسموع إلى المرئي في الفنون جميعًا، ومنها فن المسرح. فمن قال إن عصرنا هو عصر الصورة لم يخطئ، ونحن نسير بخُطًى حثيثة وراء الصورة التي ينقلها إلينا التليفزيون، ونكاد نكون — شئنا أم أبينا — من أسرى الصورة المرئية والمتحركة. وهذا يمثِّل، في رأي علماء النفس وعلماء اللغة، تدهورًا في نمط التفكير أو أنماطه التي بدأت تغزو عالم اليوم مع وسائل الاتصال الحديثة؛ فالفكر في المرحلة البدائية مرتبط بالصورة وبكل ما هو محسوس ملموس، وهو يسعى في تطوره ونماء العقل البشري إلى التجريد والتعميم، أي إلى قوة الكلام وقدرة الألفاظ على استحثاث الخيال والفكر. والإنسان حيوان ناطق لأنه يستخدم المنطق، أي نظم الفكر المجسدة في اللغة. والمنطق بَعدُ هو اللغة، مثلما هو الفكر، ولا يمكن للإنسان أن يمارس التحليل والتفسير إلا إذا فكَّر، أي إذا استخدم اللغة. وربما كان طابع الحياة الحديثة التي تُعلي من شأن الإنسان العادي وتُوجِّه إليه الرسالة الإعلامية والفنية، أو ما يسمَّى بالثقافة الجماهيرية mass culture، من وراء هذا التركيز على الصورة؛ فالصورة وسيلة تُقيد الخيال وتحبسه، ولا تتيح له الانطلاق الذي هو سبيل الحرية الفكرية الحقيقية.

() التصويرية

وإذا كانت مدرسة التصويريين في الشعر الحديث قد طالبت بالتركيز على المُجسَّدات والمحسوسات، والابتعاد عن التجريد والتعميم، فإنها كانت تدعو لذلك في الشعر، أي في الفن اللغوي الرئيسي لبني الإنسان. ولا أعتقد أن عزرا باوند (Ezra Pound)١٩ جال بخاطره أن تتحول دعوته اللغوية إلى دعوة لإهمال اللغة، فجميع جهود الحداثة الفنية في النصف الأول من القرن العشرين، كانت جهود تحوُّل عن المحاكاة إلى التعديل في تفسير الواقع، وتقديمه في صور هضمها الخيال، فحوَّلها عمَّا تبدو عليه للعين. وعندما انتقلت هذه التيارات إلى الأدب، كانت مدارس الحداثة اللغوية بمثابة نزعة لمناهضة الواقعية، اصطلاحًا anti-realist impulse.٢٠ وهكذا نرى أن تجديدات لغة الشعر عند التصويريين لا تقدم صورًا من الواقع، بل صورًا حوَّرها الخيال للواقع، بل أحيانًا ما كان يشتطُّ في تحويرها حتى تستعصي على الفهم؛ سواء كان ذلك في شعر باوند، أو في نثر الحداثي جيمس جويس. وليس من قبيل المصادفة أن يؤدي ذلك إلى إبداع ت. س. إليوت وكريستوفر فراي للمسرح الشعري، وأن يسبق ذلك (أو يكاد يواكبه في الواقع في القرن العشرين)، إبداع أحمد شوقي وعزيز أباظة في المسرح الشعري. وكان العقاد (على خلافه مع شوقي) من كبار من هاجموا دعوة الواقعية التي كانت قد بدأت تطلُّ برأسها، فأوضح أن المحاكاة — ذلك المذهب الأرسطي العتيد — لا تعني النقل بحذافيره، ولا محاكاة لغة العامة، فكان من أوائل المُحدَثين الذين أدركوا جوهر مدرسة التصوير؛ فهي ليست تصويرًا للواقع المرئي، بل تصويرًا في اللغة لكل ما حوَّره الخيال وغيَّر طبيعته. وعلينا إذن ألَّا نتصوَّر أن التصويرية imagism تعني محاكاة الصور، وأن نذكر دائمًا أنها كانت إحياءً لمبدأ الخيال التشكيلي في اللغة بالقوة التشكيلية (esemplastic power) التي تحدَّث عنها كولريدج قبل العقاد بمائة عام.

(٢-٣) الفنون السمعية

ويرتبط بتيار التحوُّل العام إلى الصورة، وتضاؤل الدور المنوط باللغة في المسرح، ازدهار فنون سمعية أخرى على مستوى الشعوب، أي على مستوى الإنسان العادي، فكان اختراع الحاكي (أو الفونوغراف) في أواخر القرن التاسع عشر (١٨٧٧م) نذيرًا بانتفاء الحاجة إلى وجود المغني أو العازف بشخصه أمام الجمهور، وأصبحت الأسطوانات وسيلة نقل الموسيقى والغناء إلى الأفراد في منازلهم، مما أدى إلى تغيرات هائلة في فنون الأداء، فأصبح بإمكان الشخص العادي أن يستمع إلى سيمفونيات بيتهوفن وهو في بيته ينعم بالدفء، وأصبح التلاقي المباشر بين العازف أو المغني والمستمع مقصورًا على الحفلات العامة الكبرى، بعد أن كانت حفلات العزف والغناء من مزايا الطبقات القادرة (والأرستقراطية ومن لحق بها ماديًّا من الطبقات الوسطى). ولا شك أن دخول الموسيقى والغناء إلى المنازل في أوروبا أولًا ثم في الوطن العربي أصبح منافسًا للقراءة، والجماهير التي لم تتلقَّ قدرًا كافيًا من التعليم تفضِّل الفنون التي لا تتطلب إعمال الذهن أو الخيال على الفنون اللغوية. وسرعان ما تأثرت مبيعات الشعراء من دواوينهم، ومبيعات القصاصين من رواياتهم وقصصهم، فكان أن اتجه بعضهم إلى استثمار الشعر في فن الغناء الناهض، واستثمار الروايات في فن السينما الناشئ، وما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى أصبحت دور السينما (أو الخيالة) تنافس دور المسرح في اجتذاب الجمهور، وأصبح الخروج لمشاهدة السينما التي تعتمد اعتمادًا عظيمًا على الصورة بديلًا عن الخروج إلى المسرح، خصوصًا في البلدان التي لا تتمتع بتراث مسرحي عريق، مثل أمريكا، حيث يُطلق تعبير theatre على دار السينما ودار المسرح جميعًا.

(٢-٤) تأثير السينما

ويكفي أن نتأمل الدمار الذي أحدثته السينما في المسرح الشعري، حتى ندرك طبيعة ظاهرة الانحسار أو التراجع. لقد قدَّمت السينما أعمال شكسبير — وهي مسرحيات شعرية تقوم اللغة فيها، أو قل يقوم الشعر فيها بالدور الرئيسي — وجمهور المسرح يُشار إليه اصطلاحًا بتعبير audience أي المستمعون، ولكنه أصبح في السينما spectators أي المتفرجون أو المشاهدون؛ فالسينما تُحوِّل ما يُروى أو ما يُقال إلى مناظر وصور متحركة، ومقياس نجاح الفيلم المأخوذ عن مسرحية شعرية هو مدى نجاحه في تحويل القوة الشعرية إلى قوة بصرية، وربما كانت قوة التعبير البصرية، وما يصاحبها من قوة تعبير سمعية تتمثَّل في الموسيقى التصويرية (أو ما يُشار إليه اصطلاحًا بتعبيرَين هما incidental music في المسرح وbackground music في السينما)، بديلًا عن الكلام نفسه. وإن كان كبار الممثلين قد عارضوا ذلك في البداية، فكان لورد أوليفييه (لورانس أوليفييه) يصرُّ على إلقاء كلمات شكسبير نفسها، ويُبدع في إلقائها إبداعًا، ولكن المخرجين الأجانب لم يكونوا من أنصار ذلك؛ فعيونهم على المتفرج أو المشاهد، وقد يكون غير إنجليزي، وقد تكون الترجمة عائقًا يحول دون نقل شحنة الشعر المسرحي الإبداعية كاملة إليه، فتعددت طرائق الإخراج السينمائية، ورأى بعضُ المجددين في التفسيرات والنظريات النقدية ما يُبرر الاستعاضة عن اللغة بالصورة، فخرجت لنا أفلام روسية مبنية على مسرحيات شكسبير، مثل هاملت التي اختصر المخرج النص فيها إلى نحو الثلث، وعطيل الروسي التي أُخرجت بأسلوب ميلودرامي، أي يتميز بالمبالغة في الأداء التمثيلي، والتعبير عن المشاعر الجياشة، على حساب لغة الشعر. وبعد ذلك أقدم الإيطالي زيفرلي Zeffirelli على إخراج شكسبير للمسرح في السينما، بأسلوب يؤكد فيه ضرورة تحويل لغة الشعر إلى ألوان بصرية وحركة جسدية وزوايا تصويرية متفاوتة، مثلما فعل في إخراجه لفيلم روميو وجوليت. وأخيرًا، أقدم المخرج البولندي الأصل رومان بولانسكي على إخراج مسرحية ماكبث بأسلوب السينما المحض، كأنما ليُثبت أن السينما فن مستقل، قد يقتبس بعض الشاعرية من النص الشعري المسرحي، ولكنه يُحوِّله إلى لغة السينما العالمية التي لا تتوسل بالألفاظ، بل تعتمد على الصورة والموسيقى.

(٢-٥) المسرح النثري

وأما السبب الثالث لانحسار المسرح الشعري، فهو نشأة المسرح النثري وازدهاره، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان ذلك أيضًا من ثمار التحولات الاجتماعية التي صاحبت التحولات السياسية التي كانت تسير بخُطًى وئيدة في أوروبا، منذ مطلع القرن العشرين. وقد يظن البعض أن هذه التغيرات التي بدأت منذ عصر النهضة وزوال النظام الإقطاعي، قد أتت بنظام الدولة الثابت الذي تحدث عنه ألدوس هكسلي Aldous Huxley في مطلع القرن، ولكن الواقع أن النظام كان أبعد ما يكون عن الثبات، فإن الثورة الفرنسية كانت قد أحدثت تغيرًا خطيرًا في الفكر السياسي والاجتماعي، لم تظهر آثاره في الدول الأوروبية الأخرى بين عشية وضحاها، بل استغرقت قرنًا كاملًا. وأهمُّ هذه التغيرات هو بروز مكانة الرجل العادي، أو ما نسميه اليوم «أبناء الشعب»، تمييزًا له ولهم عن الطبقات الغنية أو صاحبة السطوة. وقد يدهش القارئ إذا علم أن النقاد يعتبرون القرن التاسع عشر أفقر القرون في الإنتاج المسرحي الأوروبي؛ ففي بدايته كان الرومانسيون من ألمان وإنجليز ما يزالون يُحاكون كبار كُتَّاب التراث. يكفي أن نذكر المسرحيات الشعرية التي كتبها كبار شعراء الحركة الرومانسية، مثل مسرحية سكان الحدود The Borderers للشاعر الإنجليزي الأشهر وليم وردزورث Wordsworth، التي لم تُقدَّم على المسرح إلا في عام ١٩٧٠م، أي بعد مائتَي عام على مولده، والتي تأثر فيها بمسرحية الكاتب الألماني شيلر، وعنوانها اللصوص Die Reuber، أو مسرحية جيته Goethe فاوست Faust، التي تنظر إلى مسرحية الإنجليزي مارلو Marlowe، وعنوانها الدكتور فاوستوس Dr. Faustus ومسرحيتَي كولريدج، بعنوان الندم Remorse، أو سقوط روبسبير، وكلتاهما مما رفض مدير مسرح كوفنت جاردن Covent Garden تقديمها على المسرح (وكان الكاتب الساخر شريدان Sheridan). أو مثل مسرحية شلي Shelley، بعنوان بروميثيوس طليقًا Prometheus Unbound، التي كانت شعرًا بديعًا في قالب حواري، من المحال أن تُقدَّم على المسرح. وكان ذلك كله يسير في تيار ضد الزمن كما يقولون؛ فمسرحية سكان الحدود تُحاكي شكسبير دون أن تصل إلى عبقريته الدرامية، ودون أن تجسد آراء وردزورث التي اشتهر بها، وهي كتابة الشعر بلغة الرجل العادي، أي النزول بالشعر من علياء الخاصة إلى سفوح ووديان أبناء الشعب، مما جعل تلك الروائع من الشعر المسرحي حبيسة الكتب، يقرؤها القارئ فيستمتع بها دون أن يتصور أنها مسرحيات تقبل التقديم على خشبة المسرح. والأمثلة عديدة من مسرحيات شِلي الأخرى، أو المسرحيات الرائعة شعرًا التي أبدعها اللورد بايرون Byron، وأعدت فيها الدكتورة نهاد صليحة رسالة الدكتوراه (وهي منشورة بالإنجليزية)، ذلك أن التحوُّل عن ثقافة الخاصة كان يسير بخُطًى ثابتة، وإن كانت بطيئة، وكانت المسرحيات الشعرية التي كتبها الراهب لويس Monk Lewis وغيره، مما رصده ألاردايس نيكول Allardyce Nicoll على امتداد القرن التاسع عشر، تؤكد أن الجمهور كان يريد شيئًا آخر، وأن جمهور السامعين أو المشاهدين كان قد بدأت تشغله مشاغل جديدة، لم تتحقق إلا في المسرح النثري.

() لغة الإنسان العادي

وكان من أوائل من استجابوا للنزعة الجديدة كتَّاب من بلدان الشمال الباردة، من النرويج والسويد، أهمهم إبسن Ibsen وسترندبرج Strindberg على الترتيب. وكان إبسن شاعرًا، ولم يُقيَّض له النجاح في الشعر، وكانت مسرحياته الأولى شعرية، فالتقاليد الأدبية حتى عصره لم تكن تعرف نوعًا أدبيًّا اسمه النثر المسرحي، ولكنه حاول، ثم أخرج لنا قطوفًا من هذا وذاك، فاكتسح بجرأة تجديداته عواصم المسرح الأوروبية، وأهمها باريس ولندن؛ إذ كانت الأرض ممهدة لتقبُّل الكتابة عن المجتمع ومشكلاته الواقعية، مثل مكانة المرأة ومدى الحرية التي يجب على المجتمع أن يكفلها لها، ولكن أهم ما أتى به إبسن، فغيَّر مسار المسرح الحديث، هو اتخاذ أبطاله من الناس العاديين، أي من أبناء الشعب، فكان بذلك يعارض التقاليد الكلاسيكية التي تقول إن الأحزان العظيمة لا تبدو عظمتها إلا إذا كانت أحزان رجل عظيم، وإن المشكلات المهمة لا تصبح مهمة إلا إذا كانت تهم عددًا كبيرًا من الناس. والناس لا تقول الشعر، وإذن، فإننا إذا شئنا صدق المحاكاة، كان علينا أن ننزل بلغة الشعر في المسرح إلى لغة النثر في الحياة. وكان بذلك يجري تعديلًا مهمًّا في مبدأ اللياقة decorum الكلاسيكي.

اللياقة

ومعنى اللياقة — ذلك المصطلح الأجنبي — هو ما نعنيه نحن العرب بقولنا: «لكل مقام مقال»، ولكن المسرحيين يتوسَّعون فيه استنادًا إلى مذهب السلف في أن التراجيديا أو المأساة تتناول قضايا الإنسان العليا، التي لا يعي بها إلا الخاصة من الكبار — سواء كانوا كبارًا في المكانة أم في الثقافة والعلم — وأما الكوميديا أو الملهاة، فتتناول قضايا المجتمع الآنية أو الزمنية التي يعيها الجميع، وتهمُّ الإنسان العادي؛ ولذلك كان القدماء، كما يقول أورباخ Auerbach في كتابه المسمَّى المحاكاة أو التمثيل Mimesis، إن الشعر هو الوسيط Medium المناسب للتراجيديا، فهو لغة رفيعة شريفة، وإن النثر هو الوسيط المقبول للكوميديا؛ إذ يقبل النثر أن يستخدم لغة العامة، بل وأن يهبط إلى لغة السوقة. ولذلك كان الكلاسيكيون يسخرون من اللغة البسيطة الميسرة التي يكتبها وردزورث، وقال بعضهم إنه يكتب لغة مثل أهازيج الأطفال وأراجيزهم nursery rhymes، ولكن إبسن كان يعرف أن الزمن قد تغير، وأنه قد آن للشعر المسرحي أن يُخلي المكان — ولو مؤقتًا — للنثر، الذي كان يراه قادرًا على التصدي للمشكلات الاجتماعية، التي كان يراها ذات خطر لا يقلُّ عن مشكلات المسرح الشعري الكلاسيكي.

() بين النثر والشعر

ولم تلبث ترجمات إبسن (وكان وليم آرتشر William Archer هو الذي ترجمها إلى الإنجليزية) أن سرت مسرى النار في الهشيم، كما يقولون، إذ تفتحت عيون الجماهير الأوروبية على نوع جديد من المسرح يتناقض مع كتابات آخر القرن، التي كانت بمثابة استمرار للتيار الجمالي السائد aestheticism، والذي كان يُعتبر امتدادًا شاحبًا للرومانسية في إنجلترا وفرنسا وألمانيا؛ إذ كان إبسن يحتفل بإحكام الصنعة والتركيز بوضوح على مشكلات فردية واجتماعية أبطالها من أبناء الشعب، وسرعان ما اجتذب هذا اللون كاتبًا أيرلنديًّا عالي النبرة هو برنارد شو Bernard Shaw، كما ترجمت كونستانس جارنيت Constance Garnett مسرحيات تشيخوف، التي كانت مكتوبة بالنثر، وإن كانت نبرتها خفيضة وشاعرية، فبدا أن شعر المسرح ما يزال حيًّا لديه، وإن كان المسرح الشعري يُحتضر. وأما المسارح فكانت حائرة بين هذا وذاك، وكانت العشرينيات والثلاثينيات بمثابة المرجل الذي انصهر فيه التياران، فكتب نويل كوارد Noel Coward مسرحيات بدأت كلاسيكية مثل الدوامة The Vortex التي لاقت نجاحًا كبيرًا، وأتبعها بكوميديات ضمَّت بعضها الموسيقى والأغاني، وهي التي كان يرى — محقًّا — أن الجمهور الذي أرهقته الحرب يريدها للتسرية. وكتب ت. س. إليوت مسرحياته التي كان يحاول الإبقاء فيها على الشعر المسرحي حيًّا نابضًا، ولو كان ذلك يعني العودة للقدماء. ولا شك أن جريمة قتل في الكاتدرائية، التي لم يُقدِّمها المسرح في حياته، وإنما عُرضت عرضًا خاصًّا في إحدى الكنائس، تمثل ذروة هذا الانشغال بالشعر المسرحي الكلاسيكي، وإن كان إليوت يريد أن يعالج أيضًا «الإنسان العادي» في شعره المسرحي، فكتب مسرحية التئام شمل الأسرة (١٩٣٩م)، وأعقبها بعد الحرب بكوميديا شعرية هي حفلة كوكتيل، وتبعه كريستوفر فراي Christopher Fry، الذي يُرجَع إليه الفضل في إحياء المسرح الشعري بنبراته الكلاسيكية بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن تيار المسرح النثري كان قد استقر، خصوصًا بسبب صلابة القضايا الاجتماعية التي كان برنارد شو وأتباعه يتناولونها، وبسبب دخول عدد من كتاب المسرح الأمريكيين هذه الساحة المنثورة، مما كتب للناثرين الغلبة، وأنذر بانحسارٍ ما زلنا نشهده في الشعر المسرحي الغربي. ولم ينقذ الشعر المسرحي من الانحسار ازدهارُ الإذاعة؛ فالتمثيليات الشعرية التي كتبها لويس ماكنيس Louis MacNeice، على جمالها، كانت محدودة التأثير، وكان مستمعوها في البرنامج الثالث للإذاعة البريطانية من الصفوة، الذين كانوا ما يزالون يطربون للشعر؛ ولذلك فيندر أن نجد من بين النقاد من يعدُّها من المسرح الشعري، ولم يقدم مخرج حتى الآن على تقديمها إلى الجمهور.

(٣) أسباب انحسار الشعر المسرحي العربي

أما أسباب انحسار المسرح الشعري العربي، فهي تشترك مع هذه الأسباب جميعًا: أولًا بسبب حداثة هذا المسرح، الذي لم يُكتب إلا في القرن العشرين، وثانيًا بسبب التطورات غير المتوقعة في الحياة الأدبية واللغوية في الوطن العربي.

(٣-١) حركة الإحياء والشعر المسرحي

وأما السبب الأول — أي حداثة هذا المسرح — فهو أنه لم يُكتب إلا محاكاةً للفن الغربي، لا استجابةً لحاجة الجمهور، أو حتى لحاجة الشاعر أو الكاتب، فحاجة الجمهور كان يرضيها الرواد المسرحيون العرب في الشام ومصر، الذين كانوا يرون ما يرضي جماهيرهم في المسرح الغنائي أولًا، وفي المسرحيات الكلاسيكية المترجمة إلى النثر ثانيًا، حتى لو كانت شعرًا في الأصل؛ إذ كان ذلك ما يريده الناس من مسرح العشرينيات والثلاثينيات. فهي الفترة التي شهدت انتهاء الحرب، وهي الفترة التي شهدت الثورات الوطنية على الاحتلال في الشام ومصر، والدعوة إلى الاستقلال، ودعوة البعث أو الإحياء الأدبي والشعري؛ إذ ارتبط الاستقلال بالدعوة إلى العودة إلى منابع الشعر العربي القديم الصافية، فكان كُتاب المسرح الشعري من كبار الشعراء الغنائيين، وكان بعضهم، خصوصًا أحمد أبو خليل القباني، من رجال المسرح الشامل، فكان يؤلف ويكتب الأغاني ويضع موسيقاها ويُخرج مسرحياته بل ويمثل فيها. وعندما احترق مسرحه في دمشق، جاء إلى مصر، وكتب وهو في الباخرة موشحه الشهير:

ما لعيني أبصرت
أرضنا قد أقفرت
ومثل الشيخ سيد درويش، الذي كتب ألحان وموسيقى المسرحيات الغنائية التي كان يؤلف كلماتها نصًّا وأغاني: بديع خيري، وإبراهيم رمزي، وأمين صدقي، ومحمد يونس القاضي، ومحمد تيمور (العشرة الطيبة) [مع أغاني بديع خيري]، وعمر عارف وعباس علام (رواية عبد الرحمن الناصر) [مع أغاني مصطفى ممتاز]، وعزيز عيد (شهرزاد) [مع أغاني بيرم التونسي]، وعبد الحميد كامل، وبعض المترجمات إلى العامية والفصحى.٢١ وهنا نضع أيدينا على أول عامل يميز حاضر المسرح الشعري العربي عن حاضره في العالم الخارجي، ألا وهو وجود تيارَين متناقضَين يندر أن يُوجَدا في أي مكان وفي أي فترة زمنية: الأول هو فورة الحماس للفصحى واستلهام التراث ومحاكاة الأقدمين، والثاني هو ما يسميه النقاد «النزول إلى الشارع» واستلهام لغة العامة والعمال وغير العالمين بالفصحى!

(٣-٢) الشعر المسرحي بالعامية

فإذا تساءلنا — وهو تساؤل لا نملك أن نتجاهله — هل نعتبر الشعر المسرحي المكتوب بالعامية (المصرية أو الشامية) شعرًا جديرًا بمكانه على الخريطة الأدبية المعتمدة؟ وجدنا إجابتَين متقاربتَين على اختلافهما؛ الأولى ترفضه دون إبداء الأسباب، كما يقولون، وتدرجه في نطاق الأدب الشعبي، وتضعه مع ألوان الشعر الشعبي بمختلف ألوانه وضروبه، ولا تمنحه إلا القيمة المحدودة التي يهبها النقاد لما يُسمى بأدب الهامش marginal literature، الذي لا يسمح بدخوله إلى ما يسمى بالأدب الرسمي أو المعتمد the canon، وتقدم إثباتًا لذلك حججًا من تدني الألفاظ وبذاءة بعضها وطابعها السوقي، وهي لا تُفرِّق في هذا بين الزجل والقوما والكان كان والموشح وما إلى ذلك بسبيل. وأما الإجابة الثانية، فتقبله بشروط عسيرة، ونادرًا ما تتحقق، أهمها أن تكون اللغة العامية راقية (أو العامية الجزلة كما يسميها محمد مندور)، وأن تكون أبنيتها الشعرية سليمة، وموضوعاتها بعيدة عن الإسفاف والهزل الصارخ. وسواء اخترنا الإجابة الأولى أم الثانية، فلن نستطيع إدراج الأعمال الغنائية المنظومة التي قدَّمها الشيخ سلامة حجازي (وبعضها مترجم أو مقتبس)، أو التي ألفها المؤلفون الذين أوردنا أسماءهم آنفًا للشيخ سيد درويش، في قائمة المسرح الشعري العربي، ولا الشعر المسرحي العربي مهما كان التعريف الذي نضعه له.

() شعر العامية

وقضية شعر العامية ما تزال شائكة، وأظن أننا لن نكون بحاجة إلى مناقشتها في إطار شعر المسرح أو الشعر المسرحي؛ لأن ما كتب للمسرح من الشعر العامي محدود، ومعظمه موجَّه إلى الفنون الغنائية والموسيقية التي عرضنا لها في التعريفات المبدئية، وإن كنا سنعود لها ننتقل من حاضر المسرح الشعري إلى مستقبله.

(٣-٣) الفصحى المعاصرة

أما أهمية التعرض للعامية في هذا البحث، فهو أن انتشار فن المسرح النثري أو سيادته في الوطن العربي يختلف عن انتشاره في العالم الخارجي؛ بسبب التنازع بين الفصحى والعامية فيه، مما يعتبر من العوامل ذات الصلة بحاضر الشعر المسرحي العربي؛ فالعامل الذي أعنيه هو عامل لغوي محض، وهو مستوى معرفة «الرجل العادي» أو «أبناء الشعب» الذي تقدم لهم المسرحيات بالفصحى المُعربة، وأقصد بها الفصحى الحديثة القياسية Modern Standard Arabic يقصد بها العلماء لغة الصحافة وأجهزة الإعلام ولغة البحث العلمي والأدب المكتوب، والمقصود بصفة «القياسية» هو التمييز بينها وبين اللغة التراثية من ناحية، وبين ما يسميه توفيق الحكيم اللغة الوسطى أو الثالثة من ناحية أخرى، والتي قد تكون فصحى معربة أو غير معربة؛ فهي لغة بين بين، ومستوى معرفة جمهور المسرح بهذه اللغة القياسية (التي يصفها الدكتور السعيد بدوي بأنها «العربية المعاصرة»)٢٢ عامل يعمل له الشاعر ألف حساب حين يكتب شعرًا مسرحيًّا؛ فالواضح أن مستوى الإلمام بهذه اللغة، ولا أقول إتقانها، يتطلَّب مستوًى معينًا من التعليم يتفاوت من منطقة إلى أخرى في الوطن العربي، ويتذبذب بين الريف والحضر، بل وفي داخل المدينة الواحدة تبعًا لمستوى التعليم العام نفسه، وشيوع الأمية أو غيابها. فنحن نفترض أن العرب جميعًا يكتبون ويفهمون هذه اللغة القياسية، مع اختلافات معروفة بين شرق الوطن العربي وغربه، على نحو ما ذكره الدكتور السامرائي عن العربية المعاصرة في تونس، ولكن هذا الافتراض يتجاهل مدى اعتماد هذه اللغة على التراث الشعري العربي، وضرورة رجوع الشاعر الذي يكتب المسرح الشعري إلى التراث لينهل منه، في اللفظ والمصطلح والدلالة والإيقاع، وذلك محتوم مهما يبلغ حرص الشاعر المعاصر على مخاطبة الجمهور بلغته (أي بلغة الجمهور) المعاصرة، بل إن الشاعر المسرحي لن يكون شاعرًا إلا إذا اكتملت آلته اللغوية بهضم التراث واستيعابه، ومن حقِّه بطبيعة الحال أن يدرج في حواره ما يراه مناسبًا من كلام العامة، بعد تطويعه وفقًا لمقتضيات المواقف الدرامية المختلفة، ولكنه سيجد أنه يتحرك دومًا في كنف الفصحى المعربة، وأن تراث العربية الجزلة سيكون المعين الأول له. ومن العبث أن تتصور شاعرًا عربيًّا يكتب الشعر المسرحي ثم لا يكترث لمدى تقبل الجمهور له، أو يكتبه ليقرأه قارئ الشعر، لا ليقدم على المسرح؛ ولذلك فقضية الإلمام بالفصحى المعاصرة لدى الجمهور قضية لن تختفي بتجاهلها.

(٣-٤) اللغة والشاعر

وأما قضية اللغة عند الشاعر نفسه، فهي جديرة بمحور مستقل، بل بعدة دراسات ولا أعتقد أننا أهملناها، ولكنها تهمنا في إطار بحثنا لحاضر الشعر المسرحي؛ لأن أغلب من يكتبون الشعر المسرحي العربي هم من الشعراء الذين كتبوا الشعر الغنائي (أي غير القصصي وغير الدرامي) ثم اتجهوا بعد ذلك إلى المسرح؛ فمنهم مَن نجح في البناء الدرامي ووجدت أعماله طريقها إلى المسرح، ومنهم من ظلَّت أعماله حبيسة الكتب، لا تجد من يُخرجها. وبغض النظر عن مستوى البناء الدرامي أو الصلاحية للتقديم على المسرح، نجد أن عدد الشعراء القادرين — بالقوة أو بالفعل — كما يقول إخوان الصفا (potentially or actually) على كتابة شعر يصلح للعرض المسرحي، ويعتبر أدبًا دراميًّا في الوقت نفسه جد محدود، بل إن عدد الشعراء الذين يكتبون العربية الفصحى ويكتبون شعرًا موزونًا (مقفًّى كان أم غير مقفًّى) لا يتناسب مطلقًا مع أمة تفخر بتاريخ شعرها، وتعتز به، بل وتباهي غيرها من الأمم به، ذلك لأننا أصبحنا لا نولي العربية الفصحى ما هي جديرة به من التوقير والاحترام، ولا نولي الشاعر ما هو أهل له من التقدير والإجلال، فتضاءلت أعداد المتبحرين في اللغة العربية، ولا يخرج الشعراء إلا منهم، وضاقت تبعًا لذلك مساحة الأرض المنبتة للشعراء.

(٣-٥) الفصحى والممثلون

وتفاوت حظ الشعراء من الإلمام بالعربية وإتقانها، وهو أمر طبيعي، يقابله جهل شبه تام لدى الفنانين بالفصحى المُعربة، باستثناء فئة قليلة احترفت أداء الأعمال التاريخية، وبعضها ديني، ويقتصر تسويقها على قنوات التلفزيون؛ بسبب ميل معظم رواد المسرح إلى ما هو ضاحك يبعث على التسرية والمرح، فالممثل في بلادنا لا يتعلم الشعر، بل هو لا يتعلم إلقاء العربية في معاهد التمثيل، والغالبية لا تحلم بأداء أدوار كُتبت بالشعر المسرحي لأنها لم تتذوق حلاوته، ولم تنشأ على حبه، بل ولا تكاد تعرفه. فإذا استثنينا فئة الذين يُجيدون العربية ويطربون لها وينفعلون بالشعر كما ينبغي، وكلهم من كبار السن، وجدنا أن السواد الأعظم من فناني الأداء المسرحي ينفرون من الفصحى (ومن الشعر طبعًا) ويفضِّلون ما هو مُيسَّر، سهل المطلع. وذلك سبب لا يُستهان به لانصراف الشاعر المسرحي عن تقديم عمله على المسرح، ولانصراف الشعراء عن الكتابة للمسرح أصلًا. وسوف نعود للموضوع عند الحديث عن مستقبل الشعر المسرحي؛ فاللغة العربية تتمزَّق إربًا في أفواه الممثلين، ويتمزق معها قلب الشاعر الذي يرى أوزانه تتكسر، ومعانيه تتشوَّه، وقوافيه تتوه بين الشفاه والآذان.

(٤) مادة الشعر المسرحي

ومن أسباب انحسار المسرح الشعري في الشرق والغرب جميعًا، سببٌ لا علاقة له بقضايا الشكل التي ركزنا عليها حتى الآن في بحثنا، ألا وهو المفهوم التقليدي للشعر المسرحي الذي ورثناه من المسرح الأوروبي، وهو خاص بالمادة التي يتناولها ذلك اللون من الشعر، أو قُل الموضوعات، والأفكار، والشخصيات، والأحداث التي يُعمِل فيها الشاعر خيالَه ليصوغ منها مسرحه؛ إذ وقر في النفوس أن الشعر المسرحي، باعتباره نوعًا أدبيًّا كلاسيكيًّا، لا بد أن يعالج موضوعات تاريخية، خصوصًا قصص العظماء من ملوك وأمراء وقادة، وأن يبتعد تمامًا عن كل ما هو معاصر أو مألوف زمنًا أو مكانًا. أي لا بد، بتعبير آخر، من وجود مسافةٍ كافيةٍ تفصل بين المشاهد أو السامع وبين أبطال العمل وأحداثه، فكأنما يطلُّ المشاهد على زمن لا يعرفه، ولا يستطيع التوحُّد شعوريًّا معه إلا بقدر ما تسمح به رسالة الشاعر المسرحي، بخلاف المسرح النثري والكوميديا، حيث يُسمح بالتفاعل بين المُشاهد وما يرى، بل وبالمشاركة فكريًّا ووجدانيًّا فيما يحدث على خشبة المسرح؛ ولذلك لم يتردَّد شوقي في اختيار موضوعاته من التاريخ، وكذلك فعل عزيز أباظة وغيره، حتى صلاح عبد الصبور، وفاروق جويدة، وعبد الرحمن الشرقاوي، وكاتب هذا البحث، وغيرهم ممن قُدِّمت أعمالهم الشعرية على المسرح في مصر.

(٤-١) الخروج على الكلاسيكية

وكان خروج صلاح عبد الصبور على هذه القاعدة في مسرحية مسافر ليل وفي ليلى والمجنون، بمثابة كسر للقاعدة الكلاسيكية، هلَّل له بعض النقاد، ناسين أو متناسين أن شكسبير لم يُحقق أمجاده إلا بالخروج على القواعد الكلاسيكية، فكتب الكوميديا شعرًا، ومزج الكوميديا بالتراجيديا، ولم يلتزم بجلال الموضوع في كل مسرحية، ولا بالأسلوب الشعري الرفيع، بل ولا بالنظم دائمًا في مسرحياته الشهيرة حتى الذائع منها، بل مزج النظم بالنثر، واستخدم من أساليب النظم ما جعله يقترب به من النثر، مثلما نلجأ نحن إلى زحافات الرجز وعلله، حتى تنكسر الرتابة، ويبدو للقارئ قريبًا من النثر. كما كان يُلوِّن أسلوبه، فينخفض به إلى مستوى لغة الناس حين تكون الشخصيات عادية، بل ويُكثر هنا من التلاعب بالألفاظ، وخصوصًا من التوريات، والطباق، والجناس؛ لأنه كان شاعر مسرح لا شاعر كتاب يُقرأ، وكان همُّه التمازج مع فكر الجمهور ووجدانه، دون مراعاة دقيقة للقواعد الكلاسيكية، وأهمها الوحدات الثلاث المنسوبة إلى أرسطو (وإن كان أرسطو لم يقُل إلا بوحدتَين؛ هما وحدة الحدث والزمان)، وهكذا اعتُبر صلاح عبد الصبور مجددًا، ولقد كان مجددًا حقًّا في الشعر العربي المسرحي، ولكن الذين كتبوا المسرح الشعري من بعده لم ينهجوا نهجه، ولم توفَّق وفاء وجدي في مسرحيتها الشعرية بيسان والأبواب السبعة، في حين نجح أحمد سويلم في إخناتون، وهي — على أية حال — مسرحية تاريخية، وكان اختيار فاروق جويدة للتاريخ في مسرحياته الثلاث بمثابة عودة إلى التيار الرئيسي للشعر المسرحي؛ فالأولى الوزير العاشق، تقع أحداثها في الأندلس، وتختصر الزمن لأسباب درامية، فتُسرع بالحدث إلى سقوط قرطبة (ولذلك صَدرت الترجمة الإنجليزية لها تحمل عنوان سقوط قرطبة)، وكانت الثانية هي دماء على ستار الكعبة، وهي تروي قصة الحجاج بن يوسف، وكانت الثالثة هي الخديوي، وهي أقرب مسرحياته إلى العصر الحاضر، وإن كانت، كما قلتُ، تمثل تجربة فنية خاصة يخرج بها جويدة عن خط عبد الصبور، وعن خط شوقي جميعًا. ولم يُوفَّق في الخروج عن التاريخ ممن كتبوا المسرح الشعري المعاصر إلا عز الدين إسماعيل، في مسرحية محاكمة رجل مجهول التي تُرجمت إلى الإنجليزية، واحتفظت بالعنوان نفسه، وإن كان لم يستطع أن يخرج خروجًا كاملًا، فأدخل في الأحداث مشاهد من الماضي البعيد لسعيد بن جبير وأبي ذر الغفاري. وعندما كتب عبد الرحمن الشرقاوي عن الحسين بن علي مسرحيتَيه الشهيرتَين: الحسين ثائرًا والحسين شهيدًا، وتأكَّد له استحالة تقديمها على المسرح لأسباب معروفة، عاد إلى التاريخ القريب، فكتب عن الثورة العرابية، وهي أقرب زمنًا من الخديوي إسماعيل، وتكاد تكون معاصرة. ولم تُحقق المسرحية أيَّ نجاح على المسرح، ولم يُرحِّب بها أحد.

(٤-٢) التاريخ والرواية

ولا تنفصل قضية المادة الكلاسيكية عن العوامل التي أدَّت إلى انحسار المسرح الشعري في كل مكان، وأجملنا الحديث عنها في الباب الثاني؛ فقد وجد المحدثون أن معالجة التاريخ أصبحت تنتمي لفن الرواية النثرية أكثر مما تنتمي إلى فن الشعر المسرحي؛ فالرواية فن حديث بالعربية أيضًا، وأنا أقصد الرواية الفنية بمفهومها الغربي، وكانت روايات جورجي زيدان هي السابقة في هذا المضمار، وسرعان ما أثَّرت في الكثيرين ممن تناولوا التاريخ العربي والإسلامي، بل إن بعض من كتبوا التاريخ أو أعادوا كتابته قد تأثروا بهذا الفن، مثل طه حسين والعقاد وهيكل. وعندما كتب علي أحمد باكثير روايته وا إسلاماه، وجدتها السينما مادة صالحة لإعادة تشكيل الجو التاريخي على الشاشة، وكانت السينما هنا هي البديل عن المسرح الشعري في تناول التاريخ دراميًّا، واللافت للنظر أن السينما قد اجتذبت كُتَّاب المسرح الذين وجدوا من النقاد في الغرب والشرق من يقول لهم إن شعر المسرح أقدر الفنون اللغوية على التحول إلى الصور والألوان والحركة، ودعمهم في ذلك المتخصصون في فنون الأداء performing arts وفنون التلقي reception، ممن ركَّزوا على فكرة الاجتماع في دار مخصصة للأداء التمثيلي، ووجود الجو النفسي الذي يُهيِّئ المتلقي لتذوق إبداع الشاعر بعد تحوله إلى لغة السينما.

() اللغة والسينما

وبدأ المدافعون عن السينما يطعنون في مدى قدرة اللغة على إثارة الخيال، وهي القدرة التي يستند إليها المدافعون عن الشعر المسرحي، قائلين إن المتلقي receiver ليس دائمًا القارئ المثالي ideal reader أو أفضل قارئ optimal reader، وفقًا لنظريات النقد الحديثة،٢٣ أي المستمع الذي يتمتَّع بالمعرفة اللغوية التي تتيح له أن يتذوق الصور الشعرية المكثفة التي لا غنى لشعر المسرح عنها؛ فالقارئ المثقف قد يقرأ الصورة مرات ومرات قبل أن يستوعبها، وقد يتطلب زمنًا أو مهلة يُتيح فيها لخياله أن يُعيد رسم تلك الصورة، أما في المسرح فإنه محدود بزمن إلقاء البيت الشعري أو الأبيات التي تتضمن الصورة. وأغلب المستمعين أو المشاهدين في المسرح ليسوا من الفطنة، ولا يتمتعون بالحس الفني العالي الذي يُمكنهم من تذوق هذه الصور المنطوقة مهما بلغت براعة المؤدي (الممثل). أما في السينما، فقد يحوِّلها المخرج إلى صور مرئية رأي العين، ومحسوسة بأسلوب التجسيد الحركي واللوني، ومدعومة بالموسيقى، وله أن يبسطها زمنيًّا على دقائق طويلة من الصمت القادر على إتاحة المهلة اللازمة لعمل الخيال، بل وتذوق اللغة نفسها إذا رأى أن وجود الكلمات نفسها سيُضيف عامل تفاعل بين الشعر وتفسير المخرج له بلغة السينما.

() لغة الشعر والسينما

وقد ردَّ أنصار الشعر المسرحي على ذلك، قائلين إن الصورة السينمائية ستكون محدودة بخيال كاتب السيناريو، وسوف تخضع دائمًا للمفهوم الراهن للعمل الشعري المسرحي؛ بحيث تكون الصورة السينمائية تعبيرًا عن تفسير شخص آخر هو المخرج، وقد تبتعد عن روح النص الأصلي، بل قد يكون لكل عصر مفهومه عن العمل الشعري؛ بحيث تتعدَّد المفاهيم، أو بحيث يغلب مفهوم معيَّن على تفسير النص إلى الحد الذي يُلوِّنه بلون خاص قد يكون غريبًا عنه. وكان ردُّ أنصار السينما هو أن ذلك محتوم حتى في المسرح، فإن إلقاء الممثل هو الذي يُحدد في كل مرة مفهوم الكلمات، والنقَّاد يختلفون في تفسيراتهم لنصوص الشعر المسرحي الكلاسيكية، وفي إخراج النصوص المعاصرة، وما يصدق على القارئ والناقد يصدق على المخرج والمستمع أو المشاهد. وقالوا إن السينما أقدر على نقل الصور السمعية مثلًا في الأبيات التالية بمحاكاة أصوات الريح والحيوان:

عندما عدنا غداة الروع ونجتاز الفلاة،
وهبطنا بطن وادٍ ليس ندري منتهاه،
هبت الريح سمومًا عاصفة
تملأ الجو فحيحًا وعواءً وزئيرًا،
وغدا العِثْيَرُ في الجو سحاباتِ سوادٍ تحجب الشمس،
كأن الكون تاه؛
غامت الأبصار وابيضَّت من الخوف الشفاه.٢٤

وكان الردُّ الذي أراه مفحمًا هو أن تحويل الشعر المسرحي إلى شعر سينمائي لا يُغني عن وجود الشعر أصلًا؛ فدرجات الخوف التي ينقلها التدرُّج من الفحيح إلى العواء ثم إلى الزئير، لن ينقلها صوت الريح في السينما مهما بلغت دقة المخرج، ولن يستطيع مخرجٌ مهما بلغت قوة خياله البصري أن ينقل قوة الحروف الحلقية (العين والغين) في البيت الأول، ولا حروف العلة المديدة في القافية، ولا الجناس في البيت الثاني. وإذا نجح في إخراج صورة سحابات السواد التي تحجب الشمس، فكيف ينقل الإحساس بالتِّيه الذي نقله الشاعر من الإنسان إلى الكون؟ وإذا نجح في نقل صورة الأبصار الغائمة، فكيف ينقل صورة الشفاه التي غاض لونها فابيضَّت هلعًا؟! أي إن جمال الصورة الشعرية لا يرجع إلى المنظر الخارجي، بل إلى التكثيف الذي يتميَّز به الشعر، وقد يحتاج المستمع — كما يقول السينمائيون — إلى وقت لتذوُّقه، ولكن جمال الصورة قد لا يحتاج إلى بسط أو تبسيط، بل قد يرجع إلى الضغط، وما يُسمَّى في النقد الحديث بالأثر التراكمي. وأخيرًا، فإن كل ما يقوله أنصار السينما مردود عليه بأن هناك نصًّا شعريًّا كتبه الشاعر أولًا، ولولاه ما أمكن للغة الشعر السينمائية أن تُبدع ما تُبدعه اليوم.

(٤-٣) التاريخ بين الشعر والسينما

والواضح أن الالتزام بالمادة التاريخية هو الذي دفع السينمائيين إلى هجر المسرح الشعري، والانسياق وراء الرواية التاريخية؛ ولذلك فأنا أتصوَّر أن يستعين الشاعر المسرحي المعاصر بالسينما في إبداعه بدلًا من معاداتها، فمثلما لجأ المسرح إلى مصادقة التليفزيون بأن عقد معه اتفاقًا غير مكتوب ينصُّ على تخصص كلٍّ منهما في فرع من فروع الدراما؛ فالتليفزيون يُحاكي السينما في تقديم الحركة وسرعة الانتقال والتركيز على ملامح الوجه، والدخول إلى الأماكن التي لا تستطيع النفاذ إليها إلا آلة التصوير، والمسرح يُركِّز على التفاعل الحي مع الجمهور وتقديم العروض الكبيرة (الموسيقية والغنائية والاستعراضية) التي لا تستطيع آلة التصوير أن تُعطيها حقَّها، والتي لا بد لها من الوجود المادي للمتفرِّج الذي ينقِّل بصره بين أجزائها يمينًا وشمالًا، ويستمع إلى الأصوات من مكبرات الصوت المجسدة والمبثوثة في شتَّى قاعات المسرح، أقول: مثلما فعل المسرح ذلك مع التليفزيون، يستطيع الشعر المسرحي أن يفعل الشيء نفسه مع السينما، بل والتليفزيون، ويجب أن يفعل ذلك عن طريق إحياء الكلمة — إحياء الشعر المُكثَّف الموزون المُقفَّى في إطار سينمائي أو تليفزيوني، وليس عن طريق تحويله إلى صور متحركة، أي إن تقديم الشعر المسرحي على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة يجب أن يستمر نقلًا عن العرض المسرحي الناطق بالشعر، لا الناطق بالصورة، ولماذا لا نتعلم من أمير إلقاء الشعر الإنجليزي اللورد أوليفييه، الذي رفض تصوير مسرحية عطيل للسينما إلا من إخراجه المسرحي لها؛ إذ قدَّمها على المسرح ولم يحذف من شعرها شيئًا يُذكر، ودرس إلقاء أبياتها أحد عشر عامًا، ثم قدمها كاملة (أو شبه كاملة) على المسرح، وعندها سمح لآلات التصوير أن تدور، فسمعنا في قاعة العرض السينمائي كل كلمة كتبها شاعر الإنجليزية الأكبر. وكان أمير الإلقاء يتمهَّل حين يستدعي الموقف تمهُّلًا، ويُسرع وينفعل حين يتطلَّب الشعر المسرحي سرعة الإيقاع، وربما لو فعلنا ذلك بإحدى روائع مسرحنا الشعري الكلاسيكي، لتصالحنا مع السينما والتليفزيون جميعًا، ولربما نجحنا بذلك في تربية الجيل الجديد على تذوق الشعر؛ من حيث هو شعر، لا من حيث كونه صورًا مرئية وموسيقى مسموعة؛ فنحن نريد له أن يشعر، كما يشعر الإنجليز الذين يجري المسرح في عروقهم مجرى الدم، بمعنى الإيقاع الشعري ومعنى البحور العربية؛ فالعربية أغنى لغات الأرض الحيَّة ببحورها الشعرية، وإذا كان الشعر الأوروبي يعتمد على المقاطع في تحديد النبر وطول البيت، فنحن نتمتع بحساسية مرهفة لا نقيس فيها البحر بالعدد ولا بالنبر، بل بفطرة الأذن السليمة التي أتت لنا بتنويعات لا حصر لها على البحور. والشعر المسرحي هو — دون شك — الفن العربي الذي يستطيع الشاعر فيه أن ينتقل من بحر إلى بحر، وفقًا لما تمليه اللحظة النفسية في الموقف الدرامي. ولقد واجهتُ هذه الظاهرة عندما ترجمتُ شعر شكسبير إلى شعر عربي، فوجدتُ أن ما يراه الناس «صعوبة» قد أثبت في الممارسة أنه تيسير لا يتوافر في اللغات الأخرى. فحينما انتقل شكسبير من إيقاع راقص في ختام مسرحية حلم ليلة صيف٢٥ رأيته قريبًا من الخبب، إلى إيقاع أقرب في سمعي إلى الرجز، لم أتردد في تغيير البحر، أي من:
Now until the break of day
Through this palace each fairy stray

إلى:

Trip away, trip away, make no stay
Meet me all at break of day

أو من:

هيا الآن وحتى الفجر،
نرقص في أبهاء القصر.

إلى:

هيا بنا، هيا بنا، ولتتفرَّق يا جمعنا!
عند الفجر فقابلننا!

ولنلاحظ أيضًا تغيير القافية؛ فهو من تيسيرات المسرح الشعري الخاصة!

(٥) مستقبل الشعر المسرحي

وهكذا ننتقل إلى مستقبل الشعر المسرحي الذي لا أراه مظلمًا ولا كئيبًا، على نحو ما يقول المتشائمون؛ فالعوامل التي أدَّت إلى انحساره تقابلها عوامل أخرى تبشِّر بازدهاره، وإن كانت العوامل الأخيرة تتطلَّب مضاعفة الجهد للتغلُّب على عوامل الانحسار. وأول ما ينبغي أن نعيه في هذا الصدد هو أن العالم قد تغيَّر كثيرًا، وأنه يتغيَّر باستمرار وبسرعة. وسوف أُجمِل ما أراه خاصًّا بمستقبل الشعر المسرحي.

(٥-١) التعدُّدية والدينامية

الشعر المسرحي يقوم على أُسس التعددية pluralism والحركة أو الديناميَّة dynamism، وهي من أُسس التغيُّر في عالم اليوم. فلم يَعُد الفنَّان أسير وجهة نظر واحدة، أو ما يُسمَّى بالموقف الواحد الثابت، بل هو، حتى في الشعر الغنائي الذي يتكلَّم فيه الشاعر بلسانه وحده، يجد أنه كثيرًا ما يتكلَّم بألسنة غيره ويحاكي أصواتهم. وتطوُّر الشعر على امتداد القرن العشرين هو تطور دائب من الصوت المُفرَد إلى تعدُّد الأصوات polyphony، والشاعر الحديث في الوطن العربي كثيرًا ما يرتدي أقنعة كأنَّما يُمثِّل غيره personae. وإيضاح ذلك يسير بالرجوع إلى التمييز الذي وضعه ت. س. إليوت بين أصوات الشعر الثلاثة؛ أمَّا الصوت الأول فهو الشعر الغنائي الذي يتحدَّث فيه الشاعر بصوته المُفرَد، وأمَّا الصوت الثاني فهو الشعر الذي يتحدَّث فيه الشاعر بصوت غيره، وأمَّا الصوت الثالث فهو الذي يتحدَّث فيه الشاعر بعدَّة أصوات، وهو الشعر الدرامي أو المسرحي. وما أقوله إذن هو أن حركة الشعر العربي قد اتَّجهت، شأنه في ذلك شأن الشعر العالمي، إلى تعدُّد الأصوات، وأصبحت كثرة وجهات النظر من السمات المعتادة في القصيدة، حتى التي تتَّسم بما يُسمَّى بالوحدة البنائية القائمة على الوحدة الشعورية. ومن مظاهر ذلك اتجاه معظم المعاصرين إلى كتابة القصيدة الطويلة، سواء كانت عمودية أو مرسلة (مما يُطلق عليه شعر التفعيلة)؛ فالطُّول دليل على إحساس الشاعر الحديث بمبادئ المعمار architectonics (وفق تعريف ماثيو أرنولد Matthew Arnold)، بل أحيانًا ما تقوم القصيدة القصيرة على المفارقة paradox، وهي أبسط صور التعدُّد في النظرة أو في الفكرة multiplicity، حتى في إطار الوحدة المشار إليها؛ فالشاعر الحديث ينسج خيوطه الفنية أو ثيماته themes التي قد تكون صورًا، وقد تكون أفكارًا، وقد تكون إيقاعات شعرية؛ نَسْجًا يقترب به من البناء الدرامي، حتى أصبح تعدُّد الأصوات مجالًا للدراسات الأكاديمية المقارنة، كان أحدثها دراسة تصارع الأصوات في شعر محمود درويش ودنيس بروتس Brutus مع أن شعرهما لا ينتمي، وفقًا للتصنيفات الشكلية، إلى الشعر المسرحي، بل إلى الشعر الغنائي. ولنستدرِك بإضافة معنًى جديد للظاهرة، وهو المعنى الذي يضرب بجذوره في التراث الشعري العربي، وإن كنا لم نلتفت إليه كثيرًا، وأقصد به معنى البُعد الزمني الذي يربط الشاعر الحديث بعصره وبالماضي في آنٍ واحد؛ فنهج البُردة قصيدة ذات زمنَين، والمعارضة المقصودة ترمي إلى تأكيد هذه الازدواجية. كما أن تعدُّد الأغراض في القصيدة العربية قد يكون إشارةً إلى تعدُّد الأصوات، وقد يفعل الشاعر ذلك عامدًا عن طريق التضمين، وقد يفعله غير عامد حين يُوحي، عن طريق الأصداء اللفظية verbal echoes، بالبُعد الزمني الذي يربطه بزمنٍ آخر، بخلاف العصر الذي يعيش فيه. وخلاصة القول: إن المُحدثين اكتشفوا فنَّ البناء الذي يستفيد من الدينامية في التعددية، التي هي من أهمِّ مقومات الشعر الدرامي أو المسرحي. وأصبحت قصائدهم الطويلة، ومن أشهرها «سلسلة المقطوعات» كالرباعيات أو المقطعات التي تُشكِّل قصيدة واحدة، مثل قصيدة بلقيس لنزار قباني، التي نَسَجها على منوال قصيدة الرثاء الكبرى التي كتبها لورد تنيسون Tennyson في القرن التاسع عشر In Memoriam، وغيرها كثير، مما يؤكد التعدُّدية وتعدُّد الأصوات، الذي يربط نزعة الشعراء المُحدثين بالشعر المسرحي.

(٥-٢) تمازج الأنواع الأدبية

والعامل الثاني والحاسم هو تمازج الأنواع الأدبية وتداخلها في العالم الذي ضاق ذرعًا بالتقسيمات الشكلية التي كادت أن تصبح «رسمية»؛ فلقد تسرب الشعر إلى المسرح من بعض الأبواب القديمة (مثل الأناشيد والأغاني)، وبعض الأبواب الجديدة مثل التركيب الشعري للصور، بمعنى الأبنية الفنية التي أصبحت بعض النصوص المحدثة تتميز بها محاكاةً للأبنية الشعرية. ومن اللافت للنظر أن تكون بعض هذه الأبنية — مثل الاستعارة الممتدة على مدى أبيات كثيرة متتابعة أو غير متتابعة — ذات جذور راسخة في الملاحم القديمة عند اليونان والرومان، وكانت الاستعارة المبسوطة أو المنبسطة أو المديدة extended metaphor عند شكسبير تطويرًا للتشبيه المبسوط عند هوميروس extended simile. وكان تداخل الصور التي تشكل نمطًا متسقًا consistent pattern هو الأساس الذي رجع إليه المحدثون، في بناء ما يسمى بالقصيدة القصيرة، ابنة اللحظة الواحدة، والتي تُرجمت أحيانًا بالنفثة effusion. وأصبح وجود العديد من هذه النفثات يمثِّل دفقات شعورية، أحيانًا ما ينشأ بينها توتر يشبه التوتر الدرامي dramatic tension. وهكذا نرى في بعض مسرحيات الكُتاب الذين ارتضوا النثر وسيلة، أبنية تشبه النفثات وتستغرق من القارئ أو المُشاهد وقتًا يماثل الوقت الذي يتطلَّبه استيعاب الصور الشعرية. كما أصبحت التراكيب اللغوية، حتى المنثور المُغرق في نثريَّته منها (أي البعيد تمامًا عن إيقاع النظم) تتميز في بعض الأحيان بصور من التوتر الداخلي الراجع إلى التقابل والتضاد بين فكر الشخصيات أو بين مشاعرها. فبدأنا نقرأ في بعض كتاب الموجة الجديدة — كما يسميهم جون راسل تايلور في كتابه الذي يحمل هذا العنوان John Russell Taylor: The New Wave — ما يدلُّ على وعي بمنهج الشعر في البناء اللغوي والحواري، وكان من رواد هذا الاتجاه توم ستوبارد Tom Stoppard، الذي بنى شهرته أولًا على وضع أو تأليف نص يعارض فيه مسرحية هاملت لشكسبير، معارضة من يعي بأن جوهر الشعر في المسرحية لا يكمن في النظم، بقدر ما يكمن في التقابلات المتوالية بين النفثات المتعاقبة، وهو مسرحية Rosencrantz and Guildenstern Are Dead؛ فالمسرحية الشكسبيرية المذكورة تُحاكي الموسيقى في منهجها الكنترابُنطي (إذا استعملنا الكلمة التي عرَّبها حسين فوزي contrapuntal)، إلى الحد الذي جعل بعض الدارسين يرجع جوهر الشعر فيها إلى هذا المنهج نفسه؛ فالملك كلوديوس Claudius يقول كلامًا يمثل نفثة محددة، تتبعها نفثة من صدر هاملت، وتتوالى هذه النفثات كأنها تنويعات على صورة مركزية طالت فأمعنت في الطول، أو كأن المسرحية كلها صور تتفاوت مظاهرها بين النفثات المتعاقبة.

() التصوير والبناء الدرامي

ومثلما دخل الشعر إلى المسرح من باب بناء الصور، دخلت الدراما إلى النثر القصصي من باب التصوير نفسه، مما يدل على أن المساحة التي كانت تفصل بين النوعَين الرئيسيَّين — وهما الشعر والنثر — قد ضاقت، وأصبح من اليسير على القارئ أن يلمح الخيوط الشعرية التي ينسج الروائي منها روايته، وأن يتابع تصارعها الدرامي وهو يتصاعد في البناء إلى ذروة واحدة أو عدة ذُرًى، والأمثلة على ذلك عديدة من روايات المحدثين (القصير منها والطويل)، وقد تحوَّل الكثير منها إلى أعمال درامية لا تستند إلى الأحداث بقدر ما تستند إلى البناء الدرامي الذي يستمد روحه من الشعر، وتبارى رجال المسرح في الوطن العربي في صياغة أعمال درامية تقوم على الصور المنبسطة، وتباروا في وضع المقابلات الأدائية على المسرح لتفاصيل هذه الصور وعناصرها المتشابكة، من حركة وموسيقى وألوان وتشكيلات بصرية، فقدَّم المسرح في مصر مثلًا عدة عروض مسرحية مستقاة من روايات أو قصص قصيرة أو مسرحيات عربية أو عالمية، تميزت جميعًا بالقصر، حفاظًا على وحدة الصورة المركزية، وكان الأداء التمثيلي في كلٍّ منها ثانويًّا بالقياس إلى المفهوم الشعري الذي يهب العمل روحه الدرامية، والأمثلة على ذلك حاضرة، وتؤكد الخط الذي لا بد أن يستمرَّ في القرن القادم.

() الأنواع الأدبية الجديدة

ولا أدلَّ على التداخل بين الأنواع الأدبية من بروز أنواع جديدة علينا في العربية، مهما تكن جذورها راسخة في تراثنا، ومن بينها نوع المونولوج المسرحي soliloquy الذي وَلَّد ما يسمى بالمونودراما، وهي أصلًا نوع شعري خالص، جذوره الأولى تضرب في أعمال التاريخ، مثل المونولوج الداخلي، أي التفكير والإحساس اللذين يدوران داخل النفس، ثم يصعدان من خلال الصراع إلى ذروة، ومثل المونولوج الدرامي dramatic monologue الذي أشاعه براوننج في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وسبقت الإشارة إليه باسم المناجاة الدرامية، وهو قصيدة تتكوَّن من كلمات حوار يوجهه شخص واحد إلى مستمع لا يتكلم، بل يُفترض وجوده وحسب؛ فهي قصيدة حوارية حُذف شريك الحوار فيها، أو اقتصر وجوده على ما نلمحه في المونولوج من ردود على تساؤلاته أو تفاعل مع أفكاره. ونقول إن هذه من الجذور التي ولَّدت المونودراما النثرية، ففيها شخص واحد يعرض حالة تتطور دون حوار إلا مع ذاته، وفي جوهرها أيضًا تكمن الصورة الشعرية الأساسية التي تهب العمل تماسكه، وعادة ما تكون من قبيل «المفارقة» paradox؛ لأن التفارق هنا يمثل وسيلة الكاتب لإبراز الصراع الذي يتطور حتى يصل إلى الذروة، ويندر أن تنجح مونودراما دون مفارقة، وهي ترسم خطًّا يمتد بلا شك نحو المستقبل.

() قصيدة النثر

كما شاعت قصيدة النثر التي لا تمثِّل ثورة على النظم الكلاسيكي، أو اعتراضًا على الانحباس في تفاعيل الشعر التقليدية، بقدر ما تمثِّل رغبة الشباب في التأكيد بأن الشعر غير النظم، أي التأكيد بأن جوهر الشعر لا يكمن في الإيقاع الرتيب؛ ومن ثم فهم يستطيعون — في ظنِّهم — إذا تحرروا من الشكل السمعي المنتظم أن يبرزوا ما يمثِّل لهم خبرات خاصة جديرة بالإبداع الأدبي، لعوامل أساسية فيها لا تتصل بالنظم. ومعنى ذلك، كما ذكر أحدهم، أن الشعر المسرحي يمكن أن يُكتب نثرًا في المستقبل، وأن منهج الشعر المنظوم لا بد أن ينحصر في إنتاج السلف، بحيث يصبح أسلوبًا واحدًا من بين عدة أساليب؛ ومن ثم فقد دخل هؤلاء، أو دخل بعضهم، إلى ساحة الشعر المسرحي من باب شكليٍّ محصَّن، على الرغم من زعمهم أنهم يحاربون القيود الشكلية؛ فالإصرار على أن بعض النثر شعر قول قديم، وهي دعوى شكلية؛ لأن العبرة في الحكم على الشعر كانت دائمًا، وما تزال، تستند إلى معايير فنية تتجاوز النَّظْم، بل وتستند — كما قلنا في المقدمة — إلى الرؤية، وكان الأجدر بهؤلاء الشباب ألَّا يؤكدوا نثرية شعرهم، بل أن ينشدوا معيارًا آخر أو معايير أخرى، وإن كان القدماء — والحق يُقال — لم يغفلوا أيًّا منها؛ ولذلك فإن مستقبل شعر النثر في المسرح يتطلب النظر في بعض القضايا الشكلية.

(٥-٣) النظام والفوضى

وتدور هذه القضايا الشكلية في فلك فكرة أساسية تتخطَّى التحديد الدقيق للأنواع الأدبية المفردة، وتنصب على معنى النظام order أو الانتظام regularity في الفن؛ فالقول بأن الفن يقدِّم صورة منتظمة ordered لعالم هو بطبيعته غير منتظم disordered قول قديم، وعليه قامت معظم النظريات التي صاحبت نشوء النقد وتطوُّره، فكان القدماء يقولون إن الشاعر يختار من الواقع عناصر بعينها، ويعيد تشكيلها حتى تتخذ صورة تُعين عين القارئ على إدراك أنساق patterns لم يكن يراها، وإن هذه الأنساق قد تكون منتظمة إلى الحد الذي يرقى بها إلى مستوى النُّظُم systems، وإن اتساق هذه الأنساق consistency أو عدم اتساقها في العمل الشعري يتوقَّف على الرؤية الشعرية لكل شاعر، وكانوا يقصدون بالشاعر كل من يكتب الأدب، بل كل من يمارس الفن؛ فالفن كان يتخذ مثله الأعلى في الشعر. وهكذا فإن الرؤية الشعرية كانت تُعتبر العامل الذي يتحكَّم في اتساق الأنساق أو تنافرها، وإن النظم في الشعر ليس سوى وسيلةٍ سمعيةٍ لتحديد نسق من الأنساق، وهو وسيلة ظاهرة تتحوَّل في يد الشاعر المبدع إلى نظام داخلي قد يواكب النسق المسموع، وقد لا يواكبه. وأما النظام الداخلي، فهو يتصل بتركيب الأفكار والمشاعر وبنائها؛ بحيث تكون الصورة العامة للعمل جامعة لعدة أنساق تُشكِّل بدورها في النهاية نسق العمل المفرد الخاص به.

() النسق والنمط

ومن ثَم اتجه النقاد إلى اعتبار المسرحية الشعرية نسقًا عامًّا تتصارع فيه القوى التي يمثل كلٌّ منها نمطًا خاصًّا type أو نموذجًا أو رمزًا لشيءٍ ما في العالم، وصولًا إلى لحظة اكتمال النسق العام، أي لحظة بلورة النظام الذي تراه بصيرة الشاعر في الواقع غير المنظَّم. وفي سبيل ذلك، يبذل الشاعر المسرحي جهده لاستبعاد ما يُفسد صورة ذلك النظام، ويُقيم وشائج داخلية قد لا تكون واضحة للقارئ أو المستمع المتعجل، بين شتى العناصر التي اختارها (ومبدأ الاختيار مهم)، حتى يصل بالصورة النهائية إلى نظامٍ يرضي شوق القارئ أو المستمع إلى إدراك ما يُحسُّ فطريًّا بأنه سر حياة الكون، ألا وهو التوافق والتناغم والاتساق، سواء كان ذلك في التراجيديا حيث يدفع البطل ثمن خطئه بالموت، أو في الكوميديا حيث يحل الفرح بعودة المياه إلى مجاريها بالتصالح، أو يشرق أمل جديد بتحقيق لقاء المحبين وتواصلهم بالزواج؛ أي إن النَّظْم في الشعر المسرحي، في رأي هؤلاء، لا يعدو كونه نسقًا صوتيًّا من بين عدة أنساق أخرى، وهذا هو الذي دفع بعض المحدثين إلى الطعن في النظم، لا باعتباره نسقًا مهمًّا، فهذا لا خلاف عليه، بل باعتباره النسق الأوحد المتاح للشاعر في المسرح الشعري، مما جعلهم يرسمون مستقبلًا يتضاءل فيه دور النظم في الشعر المسرحي.

(٥-٤) فلسفة النظام

وكان من وراء هذه القضية الشكلية نظرة نقدية بدأت في الستينيات، وما لبثت أن زوَّدت النقاد بزادٍ جديد يُعينهم في إعادة فحص دور النظم في الشعر، وأعني بها نظرية مورس بيكام Morse Beckham٢٦ عالم النفس الذي أمدَّ التفكيكيين the deconstructivists ببعض الأسلحة التي حاربوا النقد الكلاسيكي بها، وأهمها إنكار قول القدماء إن الفنان يسعى لإبداع بناءٍ منتظم، أو إن القارئ ينشد إدراك هذا النظام في العمل. وقد بنى بيكام نظريته على افتراض أن الإنسان بفطرته يعرف النظام ويستند إليه، بل إن الإنسان يدركه حتى ولو كره؛ فهو قائم في جسمه، وقائم من حوله في الكون؛ ومن ثَم فإن الفنان الذي يُقدِّم عملًا منتظمًا، أو يستند إلى الاتساق الكامل داخليًّا أو خارجيًّا، يُخاطب نزعة طبيعية في الإنسان، فلا يستثير القارئ أو المشاهد أو السامع، ولا يحثه على التفكير والانفعال، أي إنه لا يضيف إضافة معرفية أو شعورية؛ ومن ثم فإن إنتاجه يُمثِّل لونًا من المحاكاة لأنساق الوجود وأنماطه. وأما الفنان الناجح، في رأي بيكام، فهو الذي لا يُحاكي هذه الأنساق والأنماط بل يكسرها، لا لكي يُعيد بناءها، بل لكي يدفع القارئ أو المشاهد أو السامع إلى إدراك وجود نزعة أخرى في الإنسان، وهي نزعة الفوضى. وهذه النزعة هي، في رأي بيكام، العامل الإنساني وراء كل إبداع حقيقي. فما معنى الفوضى؟

() معنى الفوضى

الفوضى في رأي علماء النفس وبعض الفلاسفة المحدثين anarchy هي نزوع فطري إلى الثورة على واقع الإنسان البدني والطبيعي والنفسي، وهي تمثِّل محاولة لمقارعة الواقع وتغييره، وقد تتخذ في حالاتها المتطرفة صورة النزوع إلى التدمير والإهلاك، مما درجنا على تسميته بالشر؛ فالإنسان يحب اللجاج والجدل بفطرته، وهو يتساءل دائمًا ويبحث ويفتش وينقِّب ويتشكك، وهو لا يقنع أبدًا بما لديه أو ما يمكن أن يكون لديه، ولو لم يكن الإنسان كذلك ما عمرت الأرض وما ازَّينت، ولما تحقَّق ما نسميه بالتقدم، وقد وصفه بعض أرباب مدرسة ما بعد الحداثة بأنه ميل طبيعي للعودة إلى الهيولى، أو إلى حالة العماء chaos، أي حالة الوجود الذي لم يتخذ شكلًا ما، أو التحرر من الشكل، ولو كان في ذلك نفي الذات المتفردة. وهم يفسرون بذلك صورة «الماء»؛ فالماء ليس مادةً خُلق منها الخَلْق فقط، بل هو مثال المادة التي لا شكل لها في ذاتها؛ ومن ثم لا تستطيع أن تتخذ كيانات ذات ذوات متفردة. كما يربطون بينها وبين سائر العناصر التي قيل إن الكون يتكوَّن منها، وهي (إلى جانب الماء) النار، والهواء، والتراب، فكلُّها لا تتخذ أشكالًا بعينها. وما الإنسان الذي خُلق من طين إلا صورة مشكَّلة، أي أنه شُكِّل، وهو نظام، في داخله قلب يحنُّ إلى العماء، وعقل يحفزه أحيانًا على العودة إلى العماء! وهذا، في رأي بيكام، هو ما يسعى إلى تصويره كل فنان.

() النظم والألفة

والشعراء الذين يكتبون الشعر نظمًا يقبلون الواقع ويقرُّون بجمال النظام في الوجود، ولكنهم، في رأي بعض المحدثين، لا يغيِّرون شيئًا، ولا يزيدون على البستاني الذي يهذِّب ويشذب حتى يزيد من جمال حديقته. أما الذين يثورون على النظم ويكتبون الشعر نثرًا، فهم، في رأي بعض هؤلاء المحدثين، الشعراء الحقيقيون الذين يغيرون من الأنساق والأنماط، ويقومون بما يسمى في النقد الحديث بنزع الألفة defamiliarization بين القارئ والعالم الخارجي، وهو المبدأ الذي نادى به الرومانسيون الإنجليز وردزورث وشِلي قبل قرابة قرنَين.

() نزع الألفة

ونزع الألفة من أساليب الحداثة، وهو من أساليب ما بعد الحداثة، وكلاهما من الاتجاهات التي لا بد أن تغيِّر من مسار الشعر المسرحي في القرن المقبل. أما لدى الحداثيين فإن نزع الألفة يعني تقديم الواقع في صورة أو في صور غير مألوفة، حتى تنكسر أنساق الرؤية وأنماطها لدى القارئ، وأما لدى ما بعد الحداثيين فإن الواقع نفسه أصبح غير متَّسق ولا منسق، ومن التزييف تقديمه في صور تتحلَّى بأيِّ لون من ألوان النظام. وإزاء دلالة هاتَين المدرستَين لمستقبل الشعر المسرحي، لا بد من الحديث عن دلالة كلٍّ منهما للمسرح الشعري على حدة.

(٦) الحداثة وما بعدها

إذا كان المستقبل سيحمل لنا تيارًا آخر يمثِّل امتدادًا، مهما يكن لونه الخاص، لتيار الحداثية وما بعد الحداثية، وأنا أستخدم المصدر الصناعي هنا عامدًا للتمييز بين الحداثة modernity التي قد يقتصر معناها على الدلالة الزمنية، وبين الحداثية modernism التي تمثِّل الاتجاه الذي بدأ منذ أواخر القرن الماضي في الفنون التشكيلية، ثم امتد إلى الأدب، ومن بعده إلى الموسيقى — أقول: إن كان المستقبل سوف يحمل لنا مثل هذا الامتداد، فإن ذلك سوف يكون في صالح الشعر المسرحي، وهذه هي القضية التي أعتزم التدليل على صحتها.

(٦-١) معنى الحداثة

الحداثية، كما ذكرت، اتجاه معارض للواقعية بصفة عامة، والمدارس التي نشأت في كنفه، مثل التصويرية والتكعيبية والانطباعية والدادية والسريالية وما إليها، تقوم جميعًا على ما سبق أن أشرت إليه بتعبير «النزوع إلى مناهضة الواقعية»، أي النزوع إلى التحرر من معطيات الحواس، واستلهام كوامن النفس، حيث تتحوَّل تلك المعطيات إلى صور غريبة أو غير مألوفة، ولكن ذلك كله يفترض علاقة ثابتة قائمة بين الحواس والعالم الخارجي، وهي العلاقة التي تحددها الكلمات، أي التي تتخذ من اللغة وسيلةً لتأكيد الوجود في عالم محسوس يضمُّ الرائي والمرئي والسامع والمسموع؛ فالرسَّام الذي يحيل صورة شجرة إلى ألوان مجرَّدة، أو إلى مكعبات، أو أشكال ذات زوايا، يفترض معرفة الرائي بوجود الشجيرات ذات الخطوط المحددة والأشكال الملتوية والألوان المتداخلة؛ ومن ثم فهو يحيل عين الرائي إلى واقعَين في وقت واحد؛ الواقع الذهني الذي يتضمَّن نمط الشجرة أو مثالها كما يقول علماء دلالة الألفاظ (type أو token)، والواقع المرئي الذي يجسِّده على اللوحة. والشاعر المسرحي الذي يجعل بوَّاب المسكن يقول للضيف الذي جاء يطلب مقابلة عالم يقيم فيه:
يا مرحبًا لكن أتيت مبكرًا؛
فالعالم النحرير ما اكتحلت
عيناه ليل الأمس بالوسن.
يعرف خير المعرفة أن البواب في الواقع لا يقول ذلك، ويفترض أن القارئ سوف يرى واقعًا آخر — وهو واقع لغوي هنا — وقد يرى الواقعَين معًا، أو يترجم ما قيل إلى ما يمكن للبواب أن يقوله في الحياة الواقعية؛ ولذلك كان العقَّاد يدافع عن الكتابة بالفصحى في كل الأحوال، قائلًا: إن شكسبير كان ينطق شخوصه بالشعر وبلغة لا يرتقي إليها إلا ذو الموهبة اللغوية، وإن لم يكن ذلك صحيحًا في كل الأحوال، وما أريد أن أشير إليه بهذا النموذج هو أن الشعر في المسرح يعتبر (تعريفًا) كسرًا للواقع أو خروجًا عنه، وهو (تعريفًا أيضًا) مذهب حداثي بالمعنى الفني الدقيق. ومهما قلنا إن مستوى الشعر سوف يتفاوت بين المتحدثين به في المسرحية الشعرية تبعًا لمنطق «اللياقة»، أو اتفاق مستوى اللغة مع مستوى فكر الشخصية، فإننا ما دمنا قبلنا الحوار الشعري فقد قبلنا مبدأ الخروج عن إطار الواقع إلى إطار الواقع الوهمي أو المتخيل hyperreality٢٧ وهذا من مصطلحات ما بعد الحداثة التي سنعود إليها بعد قليل، بل إننا سنجد في الشعر المسرحي نماذج لمدارس أخرى من مدارس الحداثة (أو الحداثية) مثل النقلات المفاجئة بين الأفكار والصور، وهي التي تؤدي إلى اتخاذ منطق الأحلام الذي يبتعد تمامًا عن منطق الحياة الواقعية، والذي توسل به صلاح عبد الصبور في مسافر ليل، أو مثل الإغراق في تصوير مظاهر القبح وتضخيمها، مثل فعل الشاعر نفسه في مسرحية ليلى والمجنون؛ ففي الأولى يقترب من السريالية، وفي الثانية يقترب من التعبيرية. وكان نجاح المسرحية الأولى على المسرح (في السبعينيات)، وفشل الثانية (في الثمانينيات)، دليلًا على أننا ما زلنا لا نعرف الفروق الدقيقة بين المدارس الحداثية. وكان الجمهور الذي يتابع المسرحية الثانية يطالب الممثل الذي يلعب دور الشاعر بإعادة إلقاء شعره، كأنَّما هو مطرب يستعيده الجمهور ويُصفِّق له. وربما كنَّا ما نزال أسرى الواقعية في هذه وتلك.

(٦-٢) ما بعد الحداثة

أما ما بعد الحداثية فتختلف في أنها تفتح الطريق أمام الشاعر المسرحي لتقديم صور من واقع تمزَّق، فأصبح تحويله إلى شعر أيسر وأقرب منالًا، فما بعد الحداثية مذهب يحرر الشاعر من الرؤية الموحدة التي كانت حتى الآن عماد كل شعر صلب قادر على «الاستقلال»، وهذا مصطلح مهم لشاعر المسرح؛ لأنه من المفترض أنه يُنشئ عالمًا مستقلًّا لا يحتاج إلى إحالة إلى واقع الدنيا من حوله؛ فالشاعر الحداثي، الذي يستطيع أن يقدم الواقع الوهمي جنبًا إلى جنب مع الواقع الفعلي، يرى أنه ملتزم بالحفاظ على الصدق المعياري normative truth، ومعناه الاطمئنان إلى وجود المعايير العرفية عند الجمهور، سواء كانت أفكارًا أو مشاعر ثابتة أو تقاليد راسخة، وهو يتخذ منها إطارًا لبناء واقعه الوهمي؛ فهو لا يصبح وهميًّا إلا بالإحالة إلى الواقع الصادق. أما الشاعر «بعد الحداثي» فليس لديه مرجع معياري، وأَنصَع نموذج عليه في الشعر الغنائي هو عزرا باوند، على الرغم من أنه يُصنَّف بين المحدثين الأوائل؛ فأناشيده Cantos لا تقدم إلا واقعًا وهميًّا كاملًا، عناصره من الصور والأفكار المتناثرة في واقع مشتت، وهو بذلك أول شاعر يتخطى الحداثية، بل ويسبق كتاب الرواية التي كانت — وما تزال حتى الآن — المجال الأول لما بعد الحداثية.

() الشخصية على ضوء ما بعد الحداثة

عندما تبلور فكر ما بعد الحداثة في الثمانينيات، كما يقول هانز بيرتنز Hans Bertens في كتابه عن «فكرة ما بعد الحداثة» (۱۹۹٥م)٢٨ كان التركيز منصبًّا على «أشكال التحوُّل التي وصل إليها العالم»، أو قُل على المناهج الفكرية التي تكمن وراء التغيرات والتحولات التي شهدها العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان من بينها — على نحو ما ألمحنا آنفًا — نشدان التحرر من النظام، وهو المذهب الذي وضع له بيكام أسسًا بيولوجية، ووضع له آخرون أسسًا فلسفية، ومن أهمهم فردريك جيمسون Fredric Jameson (الذي يخصِّص له بيرتنز فصلًا كاملًا). وتلتقي المداخل العلمية والفلسفية عند إعادة تعريف ما درج علماء النفس على تسميته بالشخصية personality، وما درج النقاد على تسميته بكلمة أجنبية أخرى، ما زلنا نترجمها باللفظة العربية نفسها، وهي character. ولن يتسع المجال هنا لتحليل كلٍّ منهما، بل سنكتفي بالتمييز بينهما في نطاق موضوعنا، وهو الشعر المسرحي؛ فالأولى هي جماع الصفات النفسية التي توفر للفرد تفرده، ونحن نتعرف عليها من طرائق السلوك والانفعال والتفكير لدى الفرد جميعًا. وأما الثانية فهي الصفات المختارة منها لتمثيل الفرد في العمل الأدبي، وخصوصًا في الرواية والدراما. وهناك اسم جامع يشمل هذه وتلك، نطلق عليه تعبير الذات subject، في مقابل كل ما هو خارج الإنسان ويُسمَّى الموضوع أو الشيء object. ويقول علماء الاجتماع إن الذات هي مناطق بحث الهُويَّة identity (المصدر الصناعي من «هو» و«هي» التي أتى به ابن خلدون في المقدمة.) ونحن في حاجة إلى هذه المصطلحات جميعًا لتساعدنا في التقسيم والتبويب taxonomy والتصنيف classification؛ ولذلك اعترض بعض العلماء على استعمال عالم النفس الشهير يونج Jung لتعبير الشخصية المستخدم في النقد الأدبي لإطلاقه على أنماط الشخصيات؛ أي types of characters، التي حددها واستحدث لها بعض المصطلحات الجديدة مثل الشخصية الانطوائية introvert، وعكسها الانبساطية extravert وما إلى ذلك، ولكنه كان يعي في الواقع ما يفعل، إذ كان يزيد بذلك من تحديد التمييز بين الصفات النفسية المجتمعة، وبين الطابع الغلاب الذي يحدد مسار تلك الصفات، وكان يقيم بذلك حاجزًا علميًّا دقيقًا بين المكونات النفسية elements/ingredients/components أو العناصر، التي قد تتعدد حتى تبدو كأنما لا حصر لها، وبين المقومات basic constituents، التي يمكن حصرها وتحديدها بيولوجيًّا واجتماعيًّا. ويونج لم يخطئ حين استخدم الكلمة التي قد نستخدمها اليوم مرادفة للخلق، والخلق — كما يقول لنا علماء العربية — مرتبط بالخَلْق أو الخِلْقة، وهذا هو المعنى الذي يركز عليه نقاد الأدب عند قيامهم بتحليل الشخصيات في الرواية والمسرح، ومهما تبلغ مهارة الأديب في وصف شخصية يرسمها في أدبه، فسوف يكون تصويره منصبًّا على المقومات الأساسية لا على العناصر كلها. وفي هذا يختلف شاعر مسرحي مثل بن جونسون Ben Jonson عن شاعر معاصر له هو شكسبير؛ فكلٌّ منهما يتناول أحد المقومات الأساسية، ولكن الأول يُضخِّمها ويبرزها حتى تطغى على كل ما عداها، والثاني يجمع بينها وبين مقومات أخرى قد لا تعادلها في القوة، ولكنها تحافظ على اعتدال التصوير، بل لقد أدى ذلك إلى ما يعتبره النقاد أخطاء المنهج النقدي؛ إذ إن برادلي Bradley مؤلف التراجيديا الشكسبيرية (وقد ترجمها إلى العربية حنا إلياس في الستينيات) يدرس شخصيات شكسبير من وجهة نظر الشخصية النفسية، لا الشخصية الأدبية، وبذلك يعرض نفسه للاتهام بأنه يُخرج الشخصية الأدبية من العمل الأدبي، أي من سياقه الحي، ويتحدث عنها باعتبارها شخصية حياتية، وهو ما أغضب المُحدَثين. وأما نقاد ما بعد الحداثة فقد سلكوا مسلك التفكيكيين في رفض المفهومَين جميعًا، والإصرار على أن ما نسميه بالشخصية لا يعدو كونه نقطة التقاء للعوامل النفسية الموروثة، والعوامل الاجتماعية المكتسبة في الإنسان. وهم بذلك ينكرون «وحدة» الشخصية، أي اعتبارها كلًّا متكاملًا؛ ولذلك فهم ينفرون من اتجاه النقاد إلى مناقشة الشخصية باعتبارها «الذات»، ولا يُلقون بالًا إلى نظريات التفرد أو عملية التفرد individuation process، التي قال يونج إن كل طفل يمر بها في نموه أثناء المراهقة حتى يصل إلى اليفوعة. وهم ينكرون — من ثَم — التمييز التقليدي بين الشخصيات الروائية، مما استتبع مذهبًا نقديًّا يقول إن تخصيص لغة خاصة في الشعر المسرحي (والرواية من قبله) لكل شخصية، معناه الإسراف في تصور التفرد، وهو — من ثم — من ثمار الواقع الوهمي hyperreality لأنه يُحيل القارئ أو المشاهد إلى ما لا يوجد في الواقع، بل إلى ما يتصور الكاتب وجوده فحسب. وعندما رد عليهم الأستاذ جون إليس John Ellis في كتابه نقض التفكيكية (أو مناهضة التفكيكية أو تهافت التفكيكية) Against Deconstruction (1989) قائلًا إنهم بذلك يفترضون وجود واقع مشكوك في صحته، ثم يطالبون الكاتب بمحاكاته (بالمعنى الأرسطي) أو الالتزام به أو الإحالة إلى العالم الخارجي logocentrism، وما لبث هارولد بلوم Bloom، داعية التفكيكية الأعظم، أن خرج علينا في عام ۱۹۹۸م بكتاب عنوانه شكسبير وابتداع الخصيصة الإنسانية Shakespeare: The Invention of the Human، يقول فيه إن تغيير الشاعر للغته وفقًا لما تتصوَّر أنه يتفق مع كل إنسان، لا يتجاوز ما يمكن تسميته بحيل الصنعة tricks of the trade. فالذات التي يفترضها الشاعر في الشخصية متوهمة؛ لأن معظم مكوناتها (أو حتى مقوماتها) مشتركة مع غيرها من الذوات. وهو يضرب نماذج لا حصر لها من مسرحيات شكسبير غير المألوفة لنا — قراء العربية — للتدليل على جواز نقل كلام شخصية إلى شخصية أخرى. وهو بهذا يعارض كل من أثبت أن الشخصيات الرئيسية في مسرحيات شكسبير المعروفة تتميز بأساليب تقترن بها، ولكن كلام بلوم ينطبق انطباقًا أصدق على فن الرواية؛ فالشعر فن خاص، وإن كانت الأسس الشعرية the poetics التي تحكم الفنون اللغوية واحدة. ولا أظن الشاعر العربي القديم كان من دعاة ما بعد الحداثة، حين أنطق شخصياته بكلام يصعب تصور نطقها به، ولكن المبدأ واحد؛ فعزرا باوند يتكلَّم بأكثر من لسان في شعره، وكذلك أقرب المحدثين من شعراء الإنجليز، وهو فيليب لاركن Larkin، الذي اصطنع أسلوبًا سهلًا في ظاهره حتى يوحي للقارئ أنه يتحدث بلسان شخص عادي، أو أنه لا يعبر عن ذاته، وهو في الواقع يعيد تشكيل تلك الذات في كل لحظة، مثلما فعل مالكوم برادبري Bradbury في رواياته.

وما بعد الحداثية تفتح مجالات أوسع، من ثم، للشعر المسرحي؛ لأنها تتيح له أن يُحاكي الرواية من حيث الانفصال عن الواقع الحياتي الملموس، وتشكيل رؤًى خاصة مستمدة من شذرات الواقع لا من نظمه ومنطقه العقلاني. والغريب ألا يلتفت النقاد إلى هذا الجانب من جوانب الفكر النقدي والفلسفي، رغم وجود نماذج سبَّاقة في الشعر العربي له، أهمها نموذج أدونيس، الذي اندفع في تطوره — سواء كان متأثرًا أم غير متأثر بشعر الغرب — حتى قدَّم ما يمكن اعتباره أسلوب الشعر الجديد، الذي قد يجد له مكانًا على مسرح المستقبل.

(٦-٣) المستقبل والجمهور

ولكن مشكلة المستقبل ستظلُّ مرتبطةً بالجمهور؛ فمن اليسير أن نتصور تذوق الجمهور للشعر المسرحي الحداثي؛ فالجمهور العربي لم يعد يأنف من تزامن الواقعَين المشار إليهما، وأصبح بعض القراء يألفون مثل ذلك التزامن والتمازج، ولكنه لم يقبل ما بعد الحداثية إلا من خلال تطور الحرفة المسرحية نفسها. ورجال المسرح مشغولون الآن بأساليب العرض القادرة على تقديم نصوص شعرية «بعد حداثية»، لا يعتمدون فيها على «الألفة» بل على كسر جميع حواجز الألفة، على نحو ما حدث حين قُدِّمت نماذج مسرح العبث في مصر. والمشكلة، في رأيي، ستظل قائمة في استعدادنا للشطحات في استعمال اللغة العربية.

(٦-٤) الازدواجية اللغوية

سبق أن أشرنا إلى مشكلة الازدواجية اللغوية في الوطن العربي، وقلنا إنها من عقبات ازدهار المسرح الشعري في الحاضر، ولكن هذه المشكلة نفسها قد تكون أسلوبًا من أساليب ازدهار المسرح الشعري في المستقبل. وقد سبقنا إلى حلها توم ستوبارد حين لجأ في مسرحياته إلى مزج الفصحى بالعامية الإنجليزية، واستحدث ما يسمى بالمحاكاة الساخرة parody لأساليب غيره، وخصوصًا كبار شعراء المسرح وعلى رأسهم شكسبير. وكان جيمس جويس قد سبقه إلى ذلك باصطناع عدة أساليب أدبية في روايته الكبيرة أوليس — معظمها ساخر — ولكن صلاح عبد الصبور لم يجرؤ على استخدام العامية في أية مسرحية شعرية له، وكان المزج الوحيد الذي أقدم عليه هو مزج الفصحى المعاصرة بالفصحى التراثية، مما ولَّد السخرية نفسها. فإذا كنا نرفض العامية للأسباب السابق ذكرها، فأمامنا الاختيار الذي فضَّله عبد الصبور، وإن كان يشير في تذييله لمسرحية مسافر ليل أنه اختار إطار مسرح العبث أو اللامعقول. والنتيجة التي لا مناص من مواجهتها في أية حالة من هذه الحالات، هي أن أي مزيج لغوي سوف يؤدي إلى الكوميديا، لا إلى التراجيديا. لماذا؟

(٦-٥) الشعر ونبرة الجد

ما تزال تقاليدنا الشعرية تُحتم نبرة الجد العالية؛ فالشعر هو ديوان العرب، وافق أنصار الرواية على ذلك أم لم يوافقوا، وشعر الهجَّائين والساخرين، وذوي الألفاظ البذيئة (مثل حماد عجرد وصحبه)، لا يكاد يجد مكانًا في مختاراتنا الشعرية، ونحن ما زلنا نشعر بالحرج إزاء هذا اللون من الشعر، على عكس القدماء، فكتاب الأغاني حافل بالمساجلات التي تُضارع كل ما يجده الإنسان في المواويل الغربية ballads الغاصَّة بالكلمات الخارجة والبذيئة. وما زلنا لا نُقرُّ لشعر العامية، حتى للرفيع والجزل منه، بمكانٍ بين نماذج الشعر العربي «الرسمي»، وما زلنا نضعه في مصاف الأدب الشعبي؛ ولذلك فإن أي هبوط لمستوى اللغة الشعرية في المسرح قد يؤذي الذوق الأدبي، وقد يعترض عليه الرقيب حين يُقدَّم على المسرح؛ ومن ثم فإن الدخول في ساحة ما بعد الحداثة حافل بالأخطار، ولا أتصوَّر أن نُحرز النجاح الذي أحرزه غيرنا حين كتب الكوميديا شعرًا؛ لأن تغيير المفاهيم يتطلَّب دهورًا، ومن الغريب أن نقبل ألوان الشعر الهازل بالإنجليزية أو الفرنسية، ولا نقبله بالعربية، فما يزال الشعر مرتبطًا بالنظام الثابت، وما سبق أن تحدَّثتُ عنه فيما يتعلق بمفهوم الفن الرفيع.

(٦-٦) إمكانيات العربية اللامتناهية

ولكن إمكانيات تطويع أساليب اللغة العربية في الشعر المسرحي لا متناهية، فإذا كنت قد تحدَّثتُ عن ازدواجية اللغة في الأقطار العربية؛ فالواقع أن ذلك من قبيل التبسيط الذي قد يكون مُخِلًّا، خصوصًا في البحث العلمي؛ فالسعيد بدوي يُحدِّد للغة العربية في مصر خمسة مستويات: أولها هو العربية التراثية، وثانيها هو الفصحى المعاصرة، وثالثها عامية المثقفين، ورابعها عامية متوسطي التعليم، وخامسها عامية الأميين، ممن نشير إليهم عادة بالطبقات الشعبية، وهو يُدلِّل على كل مستوًى تدليلًا علميًّا صلبًا يُمكننا من تحديد المستويات المتوقعة في الشعر المسرحي القادر على الوفاء بحاجات ممارسي هذا الفن من كُتاب وقراء وممثلين وجمهور. وأنا أقول ممارسي هذا الفن لأُدرج القارئ والممثل والمتفرج، فيما يسمى بالعملية المسرحية، فلا يجدي أن نكتب شعرًا مسرحيًّا لا يُقدَّم على المسرح. وأتصوَّر أن إدراكنا لهذه المستويات قادر على توجيه دفَّة السفينة في الاتجاه الصحيح، ونون الجمع في «إدراكنا» متعددة؛ فنحن العرب جميعًا شركاء في مسئولية انطلاق هذا الفن اللغوي الجميل نحو آفاق أرحب، بمعنى عدم اعتبار نموذج شوقي أو أباظة مثلًا أعلى، بل وعدم اعتبار أي نموذج للشعر المسرحي اللاحق عليهما معيارًا قياسيًّا؛ فالشاعر العربي في حاجة إلى ارتياد مناطق جديدة في عالم التجربة اللغوية المسرحية. فإذا كتب الكوميديا شعرًا، وكان يُدرك الأبعاد اللغوية التي تفرضها تلك التجربة، لم يشعر بالحرج إذا تنقَّل في حرية بين المستويات الخمسة المشار إليها، وإذا مزج الكوميديا بالتراجيديا، عرف أين وكيف يُغيِّر من مستوى اللغة المستعملة في كل موقع من مواقع النص المسرحي، وإذا شاء أن يلتزم بالمنهج الكلاسيكي فيقتصر على مستوى اللغة التراثية ومستوى الفصحى المعاصرة، لم يغفل عن الجمهور الذي يُخاطبه، ولا عن الممثلين الذين سوف ينطقون كلماته الموزونة، وإذا شاء أن يُعالج موضوعًا معاصرًا، فلا جناح عليه إن هو مزج الفصحى المعاصرة ببعض تعابير العامية، في بعض المستويات التي تحقق له النجاح. ومن دواعي تفاؤلي في هذا المجال أن أرى ذلك التقارب غير المسبوق بين عامية المثقفين في شتى البلدان العربية، وربما كانت هذه إحدى حسنات أجهزة الإعلام الجماهيرية التي ساعدت على المزج المحمود بين العامية الشائعة في بلدان المشرق العربي، وقد استغل دريد لحام ذلك فيما أبدعه من مسرح ومن سينما ومن تليفزيون.

(٦-٧) أمانٍ لو تتحقَّق

المستقبل مجهول، ولكننا نستقرئ ملامحه من ظواهر الحاضر، وقد تدفعنا بعض ظواهر الحاضر إلى التشاؤم، خصوصًا حين نتأمل غزو اللغات الأجنبية الحديثة التي أصبحت تنافس لغتنا القومية في أجهزة الإعلام، بل وفي التعليم، وحين نذكر كيف نهلنا من مناهل العربية الجزلة في صبانا، بعد أن ذقنا حلاوتها في طفولتنا، وحين نقارن مستوى علم شباب اليوم بها بمستوى ما تعلمناه ودرجنا عليه، ولكن ذلك يجب ألا يصرفنا عن إدراك حقيقة جلية ساطعة، وهي أن إدخال دراسة المسرح الشعري في المدارس دراسة عملية، أي تشجيع الطلاب على تقديم عيون المسرح الشعري العربي على المسارح المدرسية، وإقامة مسابقات في التمثيل بالفصحى، وخصوصًا بالشعر، وفي التأليف أيضًا بالشعر، وأن يشرف على هذه الدروس أساتذة العربية ممن يتوافر لهم الحماس قبل الحس الفني، هذا تقويم لألسنة النشء. والشعر أيسر حفظًا من النثر، والطالب الذي يحفظ دوره في العمل الشعري يجد أنه قد حفظ في حالات كثيرة أدوار غيره، بل وأن شهيته قد تفتحت لقراءة المزيد؛ ومن ثم نكون قد غرسنا حب المسرح الشعري، وحب اللغة العربية جميعًا في نفوس النشء. وقد تشتطُّ بي الأحلام، فأتصور إعداد مسرحيات شعرية خاصة، مستقاة من التراث، وأن تتولى الجهات المسئولة تنظيم رحلات ثقافية للفرق المدرسية الفائزة — يزور فيها الطلاب أشقاءهم في البلدان العربية، القريبة أو البعيدة. وأنا أركز هنا على المدارس؛ لأنها «المصانع» التي تتشكل فيها الأفكار مع اللغة، وغني عن البيان أننا نستطيع بذلك أن نخطو إلى القرن الحادي والعشرين، وقد أصبح المسرح الشعري بديلًا ناجحًا أو منافسًا قويًّا للمسرح النثري، وإسفاف مسارح القطاع الخاص، بل ومسلسلات التلفاز الأجنبية منها والعربية. ومن يدري، فلعل التلفاز نفسه يخصص ساعات لإذاعة المسرح الشعري، فالقضية لا تتصل بالمسرح فقط، ولا بالشعر فقط، بل هي تتعلق بالانتماء إلى تاريخٍ تتجسد فيه هُويتنا، ومنه يتشكَّل مستقبلنا في عالم يتغير بسرعة لاهثة، ومن هذا المنطلق أتطلع إلى ما تخبئه الأيام بهذه الأماني التي أرجو أن تتحقَّق.

١  يترجمها البعض الأجناس الأدبية استنادًا إلى أن genre مشتقَّة من اللاتينية genera وهي جمع كلمة genus التي تترجم بالجنس.
٢  كان تعريف القرن الثامن عشر للرواية الطويلة — على عدم استقراره — يقابل قول القائل إنها ملحمة نثرية فكاهية A comic epic in prose ولم يثبت تعريفها إلا في القرن التاسع عشر.
٣  درايدن والشعر المسرحي، تأليف مجدي وهبة ومحمد عناني، والمقال عنوانه: An Essay of Dramatic Poesy، وصدرت الطبعة الأولى عن دار المعرفة (١٩٦٣م)، ثم صدرت الطبعة الثانية عن مكتبة الأنجلو المصرية (۱۹۸۲م)، والثالثة عن هيئة الكتاب (١٩٩٤م).
٤  T. S. Eliot “Poetry and Drama” (1951), in On Poetry and Poets, Faber and Faber, London, 1984, pp. 72–88.
٥  jk.
٦  أحمد عبد المعطي حجازي، قصيدة لا: قراءة في شعر التمرد والخروج، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ۱۹۸۹م.
٧  النظرية الرومانتيكية في الشعر: سيرة أدبية لكولريدج، ترجمة الدكتور عبد الحكيم حسان، دار المعارف بمصر، ۱۹۷۱م.
٨  I. A. Richards, Coleridge on Imagination (1934), Routledge, & Kegan Paul, London, 1935.
٩  Mostapha, F. A., Drama as Metaphor: Varieties of Theatrical Experience, General Egyptian Book Organization, 1988.
١٠  نشر النص الغنائي في سلسلة بنجوين عام ١٩٦٦م.
١١  تأليف محمد عناني، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام ۱۹۹۱م.
١٢  تأليف فاروق جويدة، القاهرة، دار غريب، ١٩٩٥م.
١٣  تأليف فاروق جويدة، القاهرة، دار غريب، ١٩٨٦م.
١٤  تأليف محمد عناني، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ۱۹۸۷م.
١٥  تأليف فاروق جويدة، القاهرة، دار غريب، ۱۹۹۰م.
١٦  تأليف صلاح عبد الصبور، في الأعمال الكاملة، طبعة بيروت، دار العودة، ۱۹۷۲م.
١٧  تأليف صلاح عبد الصبور، في الأعمال الكاملة، طبعة بيروت، دار العودة، ۱۹۷۲م.
١٨  تأليف عبد الرحمن الشرقاوي.
١٩  انظر الدراسة المنشورة عنه في كتاب قضايا الأدب الحديث، تأليف محمد عناني، القاهرة، ١٩٩٥م.
٢٠  Modernism, edited by M. Bradbury & McFarlane.
٢١  انظر كتاب سيد درويش، إعداد ومراجعة حسن درويش وإيزيس فتح الله ومحمود كامل، الصادر في سلسلة قاعدة بيانات أعلام الموسيقى العربية، القاهرة، ١٩٩٧م.
٢٢  د. السعيد بدوي، مستويات اللغة العربية المعاصرة في مصر، دار المعارف، ۱۹۷۳م.
٢٣  انظر: محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، القاهرة، ١٩٩٦م.
٢٤  من مسرحية جاسوس في قصر السلطان.
٢٥  من مسرحية حلم ليلة صيف، ترجمة محمد عناني، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٢م.
٢٦  Morse Beckham, Man’s Rage for Chaos, London, 1967.
٢٧  انظر: Christopher Norris, The Truth about Postmodernism, London, 1992.
٢٨  Hans Bertens, The idea of the postmodern, London (Routledge), 1995.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥