الشعر المسرحي
(١) عن المصطلح
(١-١) الشعر المسرحي
(١-٢) الشعر الدرامي
(١-٣) شعر المسرح
(١-٤) المسرحية الغنائية
(٢) الشعر المسرحي في الحاضر
(٢-١) الانحسار وأسبابه
(٢-٢) من الكلمة إلى الصورة
() التصويرية
(٢-٣) الفنون السمعية
(٢-٤) تأثير السينما
(٢-٥) المسرح النثري
() لغة الإنسان العادي
اللياقة
() بين النثر والشعر
(٣) أسباب انحسار الشعر المسرحي العربي
أما أسباب انحسار المسرح الشعري العربي، فهي تشترك مع هذه الأسباب جميعًا: أولًا بسبب حداثة هذا المسرح، الذي لم يُكتب إلا في القرن العشرين، وثانيًا بسبب التطورات غير المتوقعة في الحياة الأدبية واللغوية في الوطن العربي.
(٣-١) حركة الإحياء والشعر المسرحي
وأما السبب الأول — أي حداثة هذا المسرح — فهو أنه لم يُكتب إلا محاكاةً للفن الغربي، لا استجابةً لحاجة الجمهور، أو حتى لحاجة الشاعر أو الكاتب، فحاجة الجمهور كان يرضيها الرواد المسرحيون العرب في الشام ومصر، الذين كانوا يرون ما يرضي جماهيرهم في المسرح الغنائي أولًا، وفي المسرحيات الكلاسيكية المترجمة إلى النثر ثانيًا، حتى لو كانت شعرًا في الأصل؛ إذ كان ذلك ما يريده الناس من مسرح العشرينيات والثلاثينيات. فهي الفترة التي شهدت انتهاء الحرب، وهي الفترة التي شهدت الثورات الوطنية على الاحتلال في الشام ومصر، والدعوة إلى الاستقلال، ودعوة البعث أو الإحياء الأدبي والشعري؛ إذ ارتبط الاستقلال بالدعوة إلى العودة إلى منابع الشعر العربي القديم الصافية، فكان كُتاب المسرح الشعري من كبار الشعراء الغنائيين، وكان بعضهم، خصوصًا أحمد أبو خليل القباني، من رجال المسرح الشامل، فكان يؤلف ويكتب الأغاني ويضع موسيقاها ويُخرج مسرحياته بل ويمثل فيها. وعندما احترق مسرحه في دمشق، جاء إلى مصر، وكتب وهو في الباخرة موشحه الشهير:
(٣-٢) الشعر المسرحي بالعامية
() شعر العامية
وقضية شعر العامية ما تزال شائكة، وأظن أننا لن نكون بحاجة إلى مناقشتها في إطار شعر المسرح أو الشعر المسرحي؛ لأن ما كتب للمسرح من الشعر العامي محدود، ومعظمه موجَّه إلى الفنون الغنائية والموسيقية التي عرضنا لها في التعريفات المبدئية، وإن كنا سنعود لها ننتقل من حاضر المسرح الشعري إلى مستقبله.
(٣-٣) الفصحى المعاصرة
(٣-٤) اللغة والشاعر
(٣-٥) الفصحى والممثلون
وتفاوت حظ الشعراء من الإلمام بالعربية وإتقانها، وهو أمر طبيعي، يقابله جهل شبه تام لدى الفنانين بالفصحى المُعربة، باستثناء فئة قليلة احترفت أداء الأعمال التاريخية، وبعضها ديني، ويقتصر تسويقها على قنوات التلفزيون؛ بسبب ميل معظم رواد المسرح إلى ما هو ضاحك يبعث على التسرية والمرح، فالممثل في بلادنا لا يتعلم الشعر، بل هو لا يتعلم إلقاء العربية في معاهد التمثيل، والغالبية لا تحلم بأداء أدوار كُتبت بالشعر المسرحي لأنها لم تتذوق حلاوته، ولم تنشأ على حبه، بل ولا تكاد تعرفه. فإذا استثنينا فئة الذين يُجيدون العربية ويطربون لها وينفعلون بالشعر كما ينبغي، وكلهم من كبار السن، وجدنا أن السواد الأعظم من فناني الأداء المسرحي ينفرون من الفصحى (ومن الشعر طبعًا) ويفضِّلون ما هو مُيسَّر، سهل المطلع. وذلك سبب لا يُستهان به لانصراف الشاعر المسرحي عن تقديم عمله على المسرح، ولانصراف الشعراء عن الكتابة للمسرح أصلًا. وسوف نعود للموضوع عند الحديث عن مستقبل الشعر المسرحي؛ فاللغة العربية تتمزَّق إربًا في أفواه الممثلين، ويتمزق معها قلب الشاعر الذي يرى أوزانه تتكسر، ومعانيه تتشوَّه، وقوافيه تتوه بين الشفاه والآذان.
(٤) مادة الشعر المسرحي
ومن أسباب انحسار المسرح الشعري في الشرق والغرب جميعًا، سببٌ لا علاقة له بقضايا الشكل التي ركزنا عليها حتى الآن في بحثنا، ألا وهو المفهوم التقليدي للشعر المسرحي الذي ورثناه من المسرح الأوروبي، وهو خاص بالمادة التي يتناولها ذلك اللون من الشعر، أو قُل الموضوعات، والأفكار، والشخصيات، والأحداث التي يُعمِل فيها الشاعر خيالَه ليصوغ منها مسرحه؛ إذ وقر في النفوس أن الشعر المسرحي، باعتباره نوعًا أدبيًّا كلاسيكيًّا، لا بد أن يعالج موضوعات تاريخية، خصوصًا قصص العظماء من ملوك وأمراء وقادة، وأن يبتعد تمامًا عن كل ما هو معاصر أو مألوف زمنًا أو مكانًا. أي لا بد، بتعبير آخر، من وجود مسافةٍ كافيةٍ تفصل بين المشاهد أو السامع وبين أبطال العمل وأحداثه، فكأنما يطلُّ المشاهد على زمن لا يعرفه، ولا يستطيع التوحُّد شعوريًّا معه إلا بقدر ما تسمح به رسالة الشاعر المسرحي، بخلاف المسرح النثري والكوميديا، حيث يُسمح بالتفاعل بين المُشاهد وما يرى، بل وبالمشاركة فكريًّا ووجدانيًّا فيما يحدث على خشبة المسرح؛ ولذلك لم يتردَّد شوقي في اختيار موضوعاته من التاريخ، وكذلك فعل عزيز أباظة وغيره، حتى صلاح عبد الصبور، وفاروق جويدة، وعبد الرحمن الشرقاوي، وكاتب هذا البحث، وغيرهم ممن قُدِّمت أعمالهم الشعرية على المسرح في مصر.
(٤-١) الخروج على الكلاسيكية
وكان خروج صلاح عبد الصبور على هذه القاعدة في مسرحية مسافر ليل وفي ليلى والمجنون، بمثابة كسر للقاعدة الكلاسيكية، هلَّل له بعض النقاد، ناسين أو متناسين أن شكسبير لم يُحقق أمجاده إلا بالخروج على القواعد الكلاسيكية، فكتب الكوميديا شعرًا، ومزج الكوميديا بالتراجيديا، ولم يلتزم بجلال الموضوع في كل مسرحية، ولا بالأسلوب الشعري الرفيع، بل ولا بالنظم دائمًا في مسرحياته الشهيرة حتى الذائع منها، بل مزج النظم بالنثر، واستخدم من أساليب النظم ما جعله يقترب به من النثر، مثلما نلجأ نحن إلى زحافات الرجز وعلله، حتى تنكسر الرتابة، ويبدو للقارئ قريبًا من النثر. كما كان يُلوِّن أسلوبه، فينخفض به إلى مستوى لغة الناس حين تكون الشخصيات عادية، بل ويُكثر هنا من التلاعب بالألفاظ، وخصوصًا من التوريات، والطباق، والجناس؛ لأنه كان شاعر مسرح لا شاعر كتاب يُقرأ، وكان همُّه التمازج مع فكر الجمهور ووجدانه، دون مراعاة دقيقة للقواعد الكلاسيكية، وأهمها الوحدات الثلاث المنسوبة إلى أرسطو (وإن كان أرسطو لم يقُل إلا بوحدتَين؛ هما وحدة الحدث والزمان)، وهكذا اعتُبر صلاح عبد الصبور مجددًا، ولقد كان مجددًا حقًّا في الشعر العربي المسرحي، ولكن الذين كتبوا المسرح الشعري من بعده لم ينهجوا نهجه، ولم توفَّق وفاء وجدي في مسرحيتها الشعرية بيسان والأبواب السبعة، في حين نجح أحمد سويلم في إخناتون، وهي — على أية حال — مسرحية تاريخية، وكان اختيار فاروق جويدة للتاريخ في مسرحياته الثلاث بمثابة عودة إلى التيار الرئيسي للشعر المسرحي؛ فالأولى الوزير العاشق، تقع أحداثها في الأندلس، وتختصر الزمن لأسباب درامية، فتُسرع بالحدث إلى سقوط قرطبة (ولذلك صَدرت الترجمة الإنجليزية لها تحمل عنوان سقوط قرطبة)، وكانت الثانية هي دماء على ستار الكعبة، وهي تروي قصة الحجاج بن يوسف، وكانت الثالثة هي الخديوي، وهي أقرب مسرحياته إلى العصر الحاضر، وإن كانت، كما قلتُ، تمثل تجربة فنية خاصة يخرج بها جويدة عن خط عبد الصبور، وعن خط شوقي جميعًا. ولم يُوفَّق في الخروج عن التاريخ ممن كتبوا المسرح الشعري المعاصر إلا عز الدين إسماعيل، في مسرحية محاكمة رجل مجهول التي تُرجمت إلى الإنجليزية، واحتفظت بالعنوان نفسه، وإن كان لم يستطع أن يخرج خروجًا كاملًا، فأدخل في الأحداث مشاهد من الماضي البعيد لسعيد بن جبير وأبي ذر الغفاري. وعندما كتب عبد الرحمن الشرقاوي عن الحسين بن علي مسرحيتَيه الشهيرتَين: الحسين ثائرًا والحسين شهيدًا، وتأكَّد له استحالة تقديمها على المسرح لأسباب معروفة، عاد إلى التاريخ القريب، فكتب عن الثورة العرابية، وهي أقرب زمنًا من الخديوي إسماعيل، وتكاد تكون معاصرة. ولم تُحقق المسرحية أيَّ نجاح على المسرح، ولم يُرحِّب بها أحد.
(٤-٢) التاريخ والرواية
() اللغة والسينما
() لغة الشعر والسينما
وقد ردَّ أنصار الشعر المسرحي على ذلك، قائلين إن الصورة السينمائية ستكون محدودة بخيال كاتب السيناريو، وسوف تخضع دائمًا للمفهوم الراهن للعمل الشعري المسرحي؛ بحيث تكون الصورة السينمائية تعبيرًا عن تفسير شخص آخر هو المخرج، وقد تبتعد عن روح النص الأصلي، بل قد يكون لكل عصر مفهومه عن العمل الشعري؛ بحيث تتعدَّد المفاهيم، أو بحيث يغلب مفهوم معيَّن على تفسير النص إلى الحد الذي يُلوِّنه بلون خاص قد يكون غريبًا عنه. وكان ردُّ أنصار السينما هو أن ذلك محتوم حتى في المسرح، فإن إلقاء الممثل هو الذي يُحدد في كل مرة مفهوم الكلمات، والنقَّاد يختلفون في تفسيراتهم لنصوص الشعر المسرحي الكلاسيكية، وفي إخراج النصوص المعاصرة، وما يصدق على القارئ والناقد يصدق على المخرج والمستمع أو المشاهد. وقالوا إن السينما أقدر على نقل الصور السمعية مثلًا في الأبيات التالية بمحاكاة أصوات الريح والحيوان:
وكان الردُّ الذي أراه مفحمًا هو أن تحويل الشعر المسرحي إلى شعر سينمائي لا يُغني عن وجود الشعر أصلًا؛ فدرجات الخوف التي ينقلها التدرُّج من الفحيح إلى العواء ثم إلى الزئير، لن ينقلها صوت الريح في السينما مهما بلغت دقة المخرج، ولن يستطيع مخرجٌ مهما بلغت قوة خياله البصري أن ينقل قوة الحروف الحلقية (العين والغين) في البيت الأول، ولا حروف العلة المديدة في القافية، ولا الجناس في البيت الثاني. وإذا نجح في إخراج صورة سحابات السواد التي تحجب الشمس، فكيف ينقل الإحساس بالتِّيه الذي نقله الشاعر من الإنسان إلى الكون؟ وإذا نجح في نقل صورة الأبصار الغائمة، فكيف ينقل صورة الشفاه التي غاض لونها فابيضَّت هلعًا؟! أي إن جمال الصورة الشعرية لا يرجع إلى المنظر الخارجي، بل إلى التكثيف الذي يتميَّز به الشعر، وقد يحتاج المستمع — كما يقول السينمائيون — إلى وقت لتذوُّقه، ولكن جمال الصورة قد لا يحتاج إلى بسط أو تبسيط، بل قد يرجع إلى الضغط، وما يُسمَّى في النقد الحديث بالأثر التراكمي. وأخيرًا، فإن كل ما يقوله أنصار السينما مردود عليه بأن هناك نصًّا شعريًّا كتبه الشاعر أولًا، ولولاه ما أمكن للغة الشعر السينمائية أن تُبدع ما تُبدعه اليوم.
(٤-٣) التاريخ بين الشعر والسينما
إلى:
أو من:
إلى:
ولنلاحظ أيضًا تغيير القافية؛ فهو من تيسيرات المسرح الشعري الخاصة!
(٥) مستقبل الشعر المسرحي
وهكذا ننتقل إلى مستقبل الشعر المسرحي الذي لا أراه مظلمًا ولا كئيبًا، على نحو ما يقول المتشائمون؛ فالعوامل التي أدَّت إلى انحساره تقابلها عوامل أخرى تبشِّر بازدهاره، وإن كانت العوامل الأخيرة تتطلَّب مضاعفة الجهد للتغلُّب على عوامل الانحسار. وأول ما ينبغي أن نعيه في هذا الصدد هو أن العالم قد تغيَّر كثيرًا، وأنه يتغيَّر باستمرار وبسرعة. وسوف أُجمِل ما أراه خاصًّا بمستقبل الشعر المسرحي.
(٥-١) التعدُّدية والدينامية
(٥-٢) تمازج الأنواع الأدبية
() التصوير والبناء الدرامي
ومثلما دخل الشعر إلى المسرح من باب بناء الصور، دخلت الدراما إلى النثر القصصي من باب التصوير نفسه، مما يدل على أن المساحة التي كانت تفصل بين النوعَين الرئيسيَّين — وهما الشعر والنثر — قد ضاقت، وأصبح من اليسير على القارئ أن يلمح الخيوط الشعرية التي ينسج الروائي منها روايته، وأن يتابع تصارعها الدرامي وهو يتصاعد في البناء إلى ذروة واحدة أو عدة ذُرًى، والأمثلة على ذلك عديدة من روايات المحدثين (القصير منها والطويل)، وقد تحوَّل الكثير منها إلى أعمال درامية لا تستند إلى الأحداث بقدر ما تستند إلى البناء الدرامي الذي يستمد روحه من الشعر، وتبارى رجال المسرح في الوطن العربي في صياغة أعمال درامية تقوم على الصور المنبسطة، وتباروا في وضع المقابلات الأدائية على المسرح لتفاصيل هذه الصور وعناصرها المتشابكة، من حركة وموسيقى وألوان وتشكيلات بصرية، فقدَّم المسرح في مصر مثلًا عدة عروض مسرحية مستقاة من روايات أو قصص قصيرة أو مسرحيات عربية أو عالمية، تميزت جميعًا بالقصر، حفاظًا على وحدة الصورة المركزية، وكان الأداء التمثيلي في كلٍّ منها ثانويًّا بالقياس إلى المفهوم الشعري الذي يهب العمل روحه الدرامية، والأمثلة على ذلك حاضرة، وتؤكد الخط الذي لا بد أن يستمرَّ في القرن القادم.
() الأنواع الأدبية الجديدة
() قصيدة النثر
كما شاعت قصيدة النثر التي لا تمثِّل ثورة على النظم الكلاسيكي، أو اعتراضًا على الانحباس في تفاعيل الشعر التقليدية، بقدر ما تمثِّل رغبة الشباب في التأكيد بأن الشعر غير النظم، أي التأكيد بأن جوهر الشعر لا يكمن في الإيقاع الرتيب؛ ومن ثم فهم يستطيعون — في ظنِّهم — إذا تحرروا من الشكل السمعي المنتظم أن يبرزوا ما يمثِّل لهم خبرات خاصة جديرة بالإبداع الأدبي، لعوامل أساسية فيها لا تتصل بالنظم. ومعنى ذلك، كما ذكر أحدهم، أن الشعر المسرحي يمكن أن يُكتب نثرًا في المستقبل، وأن منهج الشعر المنظوم لا بد أن ينحصر في إنتاج السلف، بحيث يصبح أسلوبًا واحدًا من بين عدة أساليب؛ ومن ثم فقد دخل هؤلاء، أو دخل بعضهم، إلى ساحة الشعر المسرحي من باب شكليٍّ محصَّن، على الرغم من زعمهم أنهم يحاربون القيود الشكلية؛ فالإصرار على أن بعض النثر شعر قول قديم، وهي دعوى شكلية؛ لأن العبرة في الحكم على الشعر كانت دائمًا، وما تزال، تستند إلى معايير فنية تتجاوز النَّظْم، بل وتستند — كما قلنا في المقدمة — إلى الرؤية، وكان الأجدر بهؤلاء الشباب ألَّا يؤكدوا نثرية شعرهم، بل أن ينشدوا معيارًا آخر أو معايير أخرى، وإن كان القدماء — والحق يُقال — لم يغفلوا أيًّا منها؛ ولذلك فإن مستقبل شعر النثر في المسرح يتطلب النظر في بعض القضايا الشكلية.
(٥-٣) النظام والفوضى
() النسق والنمط
(٥-٤) فلسفة النظام
() معنى الفوضى
() النظم والألفة
() نزع الألفة
ونزع الألفة من أساليب الحداثة، وهو من أساليب ما بعد الحداثة، وكلاهما من الاتجاهات التي لا بد أن تغيِّر من مسار الشعر المسرحي في القرن المقبل. أما لدى الحداثيين فإن نزع الألفة يعني تقديم الواقع في صورة أو في صور غير مألوفة، حتى تنكسر أنساق الرؤية وأنماطها لدى القارئ، وأما لدى ما بعد الحداثيين فإن الواقع نفسه أصبح غير متَّسق ولا منسق، ومن التزييف تقديمه في صور تتحلَّى بأيِّ لون من ألوان النظام. وإزاء دلالة هاتَين المدرستَين لمستقبل الشعر المسرحي، لا بد من الحديث عن دلالة كلٍّ منهما للمسرح الشعري على حدة.
(٦) الحداثة وما بعدها
(٦-١) معنى الحداثة
(٦-٢) ما بعد الحداثة
() الشخصية على ضوء ما بعد الحداثة
وما بعد الحداثية تفتح مجالات أوسع، من ثم، للشعر المسرحي؛ لأنها تتيح له أن يُحاكي الرواية من حيث الانفصال عن الواقع الحياتي الملموس، وتشكيل رؤًى خاصة مستمدة من شذرات الواقع لا من نظمه ومنطقه العقلاني. والغريب ألا يلتفت النقاد إلى هذا الجانب من جوانب الفكر النقدي والفلسفي، رغم وجود نماذج سبَّاقة في الشعر العربي له، أهمها نموذج أدونيس، الذي اندفع في تطوره — سواء كان متأثرًا أم غير متأثر بشعر الغرب — حتى قدَّم ما يمكن اعتباره أسلوب الشعر الجديد، الذي قد يجد له مكانًا على مسرح المستقبل.
(٦-٣) المستقبل والجمهور
ولكن مشكلة المستقبل ستظلُّ مرتبطةً بالجمهور؛ فمن اليسير أن نتصور تذوق الجمهور للشعر المسرحي الحداثي؛ فالجمهور العربي لم يعد يأنف من تزامن الواقعَين المشار إليهما، وأصبح بعض القراء يألفون مثل ذلك التزامن والتمازج، ولكنه لم يقبل ما بعد الحداثية إلا من خلال تطور الحرفة المسرحية نفسها. ورجال المسرح مشغولون الآن بأساليب العرض القادرة على تقديم نصوص شعرية «بعد حداثية»، لا يعتمدون فيها على «الألفة» بل على كسر جميع حواجز الألفة، على نحو ما حدث حين قُدِّمت نماذج مسرح العبث في مصر. والمشكلة، في رأيي، ستظل قائمة في استعدادنا للشطحات في استعمال اللغة العربية.
(٦-٤) الازدواجية اللغوية
(٦-٥) الشعر ونبرة الجد
(٦-٦) إمكانيات العربية اللامتناهية
ولكن إمكانيات تطويع أساليب اللغة العربية في الشعر المسرحي لا متناهية، فإذا كنت قد تحدَّثتُ عن ازدواجية اللغة في الأقطار العربية؛ فالواقع أن ذلك من قبيل التبسيط الذي قد يكون مُخِلًّا، خصوصًا في البحث العلمي؛ فالسعيد بدوي يُحدِّد للغة العربية في مصر خمسة مستويات: أولها هو العربية التراثية، وثانيها هو الفصحى المعاصرة، وثالثها عامية المثقفين، ورابعها عامية متوسطي التعليم، وخامسها عامية الأميين، ممن نشير إليهم عادة بالطبقات الشعبية، وهو يُدلِّل على كل مستوًى تدليلًا علميًّا صلبًا يُمكننا من تحديد المستويات المتوقعة في الشعر المسرحي القادر على الوفاء بحاجات ممارسي هذا الفن من كُتاب وقراء وممثلين وجمهور. وأنا أقول ممارسي هذا الفن لأُدرج القارئ والممثل والمتفرج، فيما يسمى بالعملية المسرحية، فلا يجدي أن نكتب شعرًا مسرحيًّا لا يُقدَّم على المسرح. وأتصوَّر أن إدراكنا لهذه المستويات قادر على توجيه دفَّة السفينة في الاتجاه الصحيح، ونون الجمع في «إدراكنا» متعددة؛ فنحن العرب جميعًا شركاء في مسئولية انطلاق هذا الفن اللغوي الجميل نحو آفاق أرحب، بمعنى عدم اعتبار نموذج شوقي أو أباظة مثلًا أعلى، بل وعدم اعتبار أي نموذج للشعر المسرحي اللاحق عليهما معيارًا قياسيًّا؛ فالشاعر العربي في حاجة إلى ارتياد مناطق جديدة في عالم التجربة اللغوية المسرحية. فإذا كتب الكوميديا شعرًا، وكان يُدرك الأبعاد اللغوية التي تفرضها تلك التجربة، لم يشعر بالحرج إذا تنقَّل في حرية بين المستويات الخمسة المشار إليها، وإذا مزج الكوميديا بالتراجيديا، عرف أين وكيف يُغيِّر من مستوى اللغة المستعملة في كل موقع من مواقع النص المسرحي، وإذا شاء أن يلتزم بالمنهج الكلاسيكي فيقتصر على مستوى اللغة التراثية ومستوى الفصحى المعاصرة، لم يغفل عن الجمهور الذي يُخاطبه، ولا عن الممثلين الذين سوف ينطقون كلماته الموزونة، وإذا شاء أن يُعالج موضوعًا معاصرًا، فلا جناح عليه إن هو مزج الفصحى المعاصرة ببعض تعابير العامية، في بعض المستويات التي تحقق له النجاح. ومن دواعي تفاؤلي في هذا المجال أن أرى ذلك التقارب غير المسبوق بين عامية المثقفين في شتى البلدان العربية، وربما كانت هذه إحدى حسنات أجهزة الإعلام الجماهيرية التي ساعدت على المزج المحمود بين العامية الشائعة في بلدان المشرق العربي، وقد استغل دريد لحام ذلك فيما أبدعه من مسرح ومن سينما ومن تليفزيون.
(٦-٧) أمانٍ لو تتحقَّق
المستقبل مجهول، ولكننا نستقرئ ملامحه من ظواهر الحاضر، وقد تدفعنا بعض ظواهر الحاضر إلى التشاؤم، خصوصًا حين نتأمل غزو اللغات الأجنبية الحديثة التي أصبحت تنافس لغتنا القومية في أجهزة الإعلام، بل وفي التعليم، وحين نذكر كيف نهلنا من مناهل العربية الجزلة في صبانا، بعد أن ذقنا حلاوتها في طفولتنا، وحين نقارن مستوى علم شباب اليوم بها بمستوى ما تعلمناه ودرجنا عليه، ولكن ذلك يجب ألا يصرفنا عن إدراك حقيقة جلية ساطعة، وهي أن إدخال دراسة المسرح الشعري في المدارس دراسة عملية، أي تشجيع الطلاب على تقديم عيون المسرح الشعري العربي على المسارح المدرسية، وإقامة مسابقات في التمثيل بالفصحى، وخصوصًا بالشعر، وفي التأليف أيضًا بالشعر، وأن يشرف على هذه الدروس أساتذة العربية ممن يتوافر لهم الحماس قبل الحس الفني، هذا تقويم لألسنة النشء. والشعر أيسر حفظًا من النثر، والطالب الذي يحفظ دوره في العمل الشعري يجد أنه قد حفظ في حالات كثيرة أدوار غيره، بل وأن شهيته قد تفتحت لقراءة المزيد؛ ومن ثم نكون قد غرسنا حب المسرح الشعري، وحب اللغة العربية جميعًا في نفوس النشء. وقد تشتطُّ بي الأحلام، فأتصور إعداد مسرحيات شعرية خاصة، مستقاة من التراث، وأن تتولى الجهات المسئولة تنظيم رحلات ثقافية للفرق المدرسية الفائزة — يزور فيها الطلاب أشقاءهم في البلدان العربية، القريبة أو البعيدة. وأنا أركز هنا على المدارس؛ لأنها «المصانع» التي تتشكل فيها الأفكار مع اللغة، وغني عن البيان أننا نستطيع بذلك أن نخطو إلى القرن الحادي والعشرين، وقد أصبح المسرح الشعري بديلًا ناجحًا أو منافسًا قويًّا للمسرح النثري، وإسفاف مسارح القطاع الخاص، بل ومسلسلات التلفاز الأجنبية منها والعربية. ومن يدري، فلعل التلفاز نفسه يخصص ساعات لإذاعة المسرح الشعري، فالقضية لا تتصل بالمسرح فقط، ولا بالشعر فقط، بل هي تتعلق بالانتماء إلى تاريخٍ تتجسد فيه هُويتنا، ومنه يتشكَّل مستقبلنا في عالم يتغير بسرعة لاهثة، ومن هذا المنطلق أتطلع إلى ما تخبئه الأيام بهذه الأماني التي أرجو أن تتحقَّق.