الفصل السادس

العمل مع أجهزة إنفاذ القانون

يُفترض غالبًا أن علم النفس الشرعي جزء لا يتجزأ من عمل الشرطة، ولكن في الحقيقة إنفاذ القانون هو — على الأرجح — أحدث المجالات التي غامر علماء النفس بولوجها. قد يتوقع البعض أن دراسة أسباب الإجرام ستؤدي دورًا مهمًّا في إعداد ضابط الشرطة، بحيث يتضمن تدريبه فهمًا أشمل للمجرمين. لكن الحقيقة هي أن تدريب الشرطة حول العالم يركز عادةً على دراسة القانون والإجراءات الشرطية. ولم يجد علم النفس سبيله إلى عمل أجهزة إنفاذ القانون في الواقع إلا منذ تسعينيات القرن العشرين. وربما لقي هذا تحفيزًا نتيجة الاهتمام الواسع بموضوع «تحديد أوصاف الجناة»؛ أي فكرة أن عالم النفس يعمل مثل شخصية شيرلوك هولمز العصر الحديث، ويحل ألغاز الجريمة بفهمه العميق للطبيعة البشرية. وفي حين أن هذا قد يكون مشوقًا في الأدب الروائي، إلا أنه يضخم من الواقع ويشوهه، ولا يرتبط إلا على نحو محدود للغاية بما تقوم به الشرطة والطريقة التي يساهم بها علماء النفس في عملها، كما سنرى في هذا الفصل.

إجراءات التحقيقات

في القصة البوليسية التقليدية، توجد حفنة صغيرة من المشتبه بهم المحتملين يجب أن يختار المحققون من بينهم. وغالبًا ما يكون المجرمون المحتملون مجتمعين في مكان محدود؛ على غرار منزل منعزل، أو على متن قارب، أو مستقلين قطارًا، أو في مجموعة متقوقعة صغيرة. وحتى عندما توجد مساحة أكبر بكثير يمكن استنتاج المشتبه بهم منها، إذ تقتضي متطلبات الحبكة الروائية سهلة التناول أن تجد الشرطة سبيلها إلى الجاني، عن طريق مجموعة مباشرة نسبيًّا من المراحل. وقد تكون هناك قفزات خلال القصة، غالبًا تصنعها شخصية مثيرة للاهتمام داخل الشرطة أو خارجها. واليوم، يحتمل أن يكون هذا الشخص عالمًا أو «محدد أوصاف» من نوع ما. ونادرًا ما يعرض أدبُ الجريمة البحثَ المستمر والدقيق، الذي يحتاج لعدد كبير من المشاركين فيه، وذلك خلال السجلات وغيرها من مصادر المعلومات الأخرى المعتادة في أغلب التحقيقات الكبيرة. كما لا يوضح أدب الجريمة — كما قال لي محقق بمشاعر قوية — الكم الضخم من الأعمال الورقية وملء الاستمارات الذي يتعين على ضباط الشرطة القيام به.

في القضايا الحقيقية، عندما لا يوجد مشتبه به واضح، يتوجب على المحققين المرور بمجموعة من المراحل قبل أن يقدموا الجاني المحتمل إلى المحكمة؛ فعليهم أن يقرروا المكان الذي سيبحثون فيه عن مجرمين محتملين ويعدوا قوائم بالجناة المحتملين. وعلى سبيل المثال، ربما يبحثون في سجلات الشرطة عن أشخاص ارتكبوا جرائم مشابهة في الماضي، أو قد يستعرضون جميع المعارف المعروفين لأي ضحية أو أشخاص قد يتوفر لديهم سبب لارتكاب الجريمة. ثم يجب أن يغربلوا هذه القائمة إلى عدد معقول من المشتبه بهم من أجل دراستهم بعناية. وقد يتضمن هذا فحص ما إذا كان أيٌّ من المشتبه بهم في السجن وقت وقوع الجريمة، أو عُرف عنه مغادرته للبلد، أو كان قد تُوُفِّيَ دون أن يُسجَّل هذا في سجلاته. والأسماء بهذه القائمة المرشحة يجب ترتيبها عندئذٍ حسب الأولوية على نحو معين، بحيث يمكن تنفيذ عمليات فحص مكثفة جدًّا حول كل مشتبه به محتمل؛ لتحديد ما إذا كان لديه ذريعة مقبولة قانونًا أو غيرها من الأدلة على أنه لم يرتكب الجريمة.

تتضمن هذه المراحل كلها جمع المعلومات وإدراك فحواها والتصرف حسبما يستخلص منها. بمعنًى آخر، تتكرر دورة من المراحل حتى تُحل القضية. والمرحلة الأولى هي مرحلة تتوافر فيها المعلومات أن جريمة ارتُكبت، أو ربما قد ارتُكبت. وهذه المعلومات كثيرًا ما تكون ملتبسة؛ فحتى مع اكتشاف رجل واقفًا فوق جثة وممسكًا بسلاح ناري، لا يزال على المحققين إثبات أن الرجل أطلق السلاح الناري عن عمد لقتل الضحية حتى تطمئن المحكمة. وفي قضايا أخرى، قد يكون هناك تفسير للوقائع أكثر تعقيدًا وتحديًا.
fig10
شكل ٦-١: صورة لمسرح جريمة قتل.1

يمكن أن يقدم علماء النفس يد العون في هذه الجوانب الكثيرة للتحقيق، مثل جمع الوقائع وإدراك فحواها وإدارة الإجراءات التي ينبغي أن تعقب هذا. ومع انتقال علماء النفس إلى هذا النطاق الضخم من الأنشطة، نشأ فرع جديد من علم النفس التطبيقي أطلق عليه «علم نفس التحقيقات». ويبدو أن هذه التسمية حظيت بشعبية، وأنشأ عدد متنامٍ من قوات الشرطة حول العالم وحدات لعلم نفس التحقيقات، وأصبح جزءًا من مقرر برامج جامعية كثيرة.

تحسين تنظيم المعلومات

ترتكز تحريات الشرطة على المعلومات. ويمكن أن تضم هذه المعلومات سجلات جرائم أو مجرمين سابقين أو ملاحظات من واقع المراقبة أو صور مسارح الجرائم أو مقابلات مع ضحايا أو شهود أو مشتبه بهم. يُستعان بخدمات علماء النفس لجمع المعلومات وتصنيفها. ولذا ثمة سبل كثيرة يساعدون فيها المحققين كي يكونوا أكثر فعالية في إجراءات جمعهم للمعلومات.

ثمة مثال بسيط هو أنه بدلًا من أن يذهب ضابط شرطة إلى منزل ليتابع حادث سطو ويدوِّن ملاحظاته عن أي شيء يجده مهمًّا، ستُجهز له قائمة تدقيق مُعدة بعناية. ويمكن أن يستفيد إعداد مثل هذه القائمة استفادة كبيرة من قرن أو نحو ذلك من الخبرة التي يمتلكها علماء النفس في تصميم الاستبيانات. لكن لم يستفد من هذا إلا قلة من قوات الشرطة، وتوجد قوائم تدقيق كثيرة مستخدمة غير عملية ومبهمة، ولا تتمتع بخصائص المصداقية التي ستُنتظر من أداة تسجيل ابتكرها علماء نفس. ولكن الشرطة بصدد إدراك هذه التحديات. وقد قدَّر ضابط شرطة كبير أنه بالنسبة للقوة العاملة تحت إمرته، كان عليهم أن يوظفوا شخصًا إضافيًّا لكل معلومة جديدة حصلوا عليها. ولذا سيكون استحداث بروتوكول فعال لجمع المعلومات ذا فائدة مالية مباشرة.

تحسين عملية إجراء المقابلات

تقع المقابلات مع الشهود والضحايا والمشتبه بهم في قلب العمل الشُّرطِي. وحتى إجراء «التوقيف والتفتيش»، أو اكتشاف ما حدث في حادث مروري، يلزم رجل الشرطة بأن يطرح أسئلة ويسجل الإجابات. والمقابلة إجراء نفسي جوهري يستند إلى تفاعلات شخصية؛ لذلك توجد أبحاث ضخمة تدرس كيفية تحسين المقابلات في مواقف مختلفة كثيرة. وقد أدى هذا في إنجلترا وإمارة ويلز إلى إجراءات قياسية لمقابلات الشرطة تقوم على إجراء تحليل نفسي لما يحدث في المقابلة.

ثمة عمليتان مرتبطتان تقعان في صلب إجراء المقابلة؛ تعتمد أولاهما على أن ما يجري عادة في مقابلة التحقيق هو أن من تُجرى معه المقابلة يحاول تذكُّر ما حدث. والثانية هي أن العلاقة بين مجري المقابلة ومن تُجرى معه المقابلة تسمح بسرد ما حدث بصراحة وأمانة.

كان التذكر إحدى أولى العمليات النفسية التي جرت دراستها مع استقلال علم النفس عن الطب والفلسفة. وقد أظهرت هذه الدراسات — كما أشرنا سابقًا — أن الذاكرة لا تشحب على نحو سلبي بحيث تصبح الذكريات أكثر غموضًا من ذي قبل بمرور الوقت، مثل رسم بالألوان المائية تُرك تحت الشمس. بل هي بالأحرى عملية استبنائية تستخدم مزيجًا من الخبرات. وهي في الأساس عملية معرفية نشطة. ولذلك لقي الإجراء المعروف باسم «المقابلة المعرفية» قبولًا للمساعدة على تحسين ذاكرة الشهود للأحداث. وهو يتكون من مجموعة من الاقتراحات:
  • خلق شعور بالتفاهم المتبادل.

  • الإصغاء إلى ما يقال بنشاط ويقظة.

  • السماح للمستجيب بالتذكر بأكبر قدر ممكن من الحرية.

  • التأكد من أن الأسئلة غير محددة الإجابات، لا تسمح بإجابة نعم/لا مباشرة.

  • التمهل لإدراك فحوى الاستجابات، والتوقف إن كان ذلك ضروريًّا.

  • عدم مقاطعة تدفق الاستجابة.

  • التحقق من تفاصيل القصة التي تُروى.

  • محاولة إعادة تكوين السياق الأصلي للأحداث التي توصف.

أظهرت الدراسات المعملية أن هذه الإجراءات تؤدي بالفعل إلى معلومات أكثر بكثير، ولكن يصعب تحديد مدى النفع الحقيقي الذي يعود من هذه المعلومات على التحقيق. وتتجه هذه الدراسات أيضًا إلى التقليل من قيمة الجانب الحاسم الثاني لمقابلة: العلاقة بين مجري المقابلة ومن تُجرى معه المقابلة. ففي البيئات الإكلينيكية للتجارب الجامعية، لا توجد التوترات والأفكار نفسها المبلوَرة مسبقًا الموجودة عندما يجلس شاهد في حجرة مقابلة الشرطة. وإرساء علاقة عملية داعمة مع المستجيب، والتمتع بالقدرة على تقديم العون له طوال المقابلة للكشف عما يتذكره؛ هما مهارتان اجتماعيتان قد يشق على رجال الشرطة اكتسابهما.

عندما يكون من تُجرى معه المقابلة مشتبهًا به، تصبح الأمور أكثر صعوبة؛ حيث تفترض المقابلة المعرفية وجود مستجيب مستعد حريص على تذكر أكبر قدر ممكن. ولكن لا يمكن افتراض ذلك في حالة المشتبه به، رغم أنه ستكون هناك مواقف قد يحتاج فيها فعلًا إلى مساعدته على التذكر. وهنا يمكن أن تكون الصلة بمجري المقابلة مهمة جدًّا، ولكن إذا كان المشتبه به غير راغب في التعاون، يجب أن تأخذ المقابلة شكلًا مختلفًا تمامًا.

تحرت الدراسات أي العمليات هي الأكثر ملاءمة لتشجيع الجناة على التعاون، وقد لا يثير الدهشة معرفة أن هذا مرتبط بمدى قوة البينة ضدهم. ويندر جدًّا في الواقع بالنسبة للجناة أن يعدلوا من الرواية التي يقصونها عن الأحداث خلال سير أي مقابلة. والإحباط الذي يسببه هذا إلى الشرطة ينعكس على رغبتهم في إيجاد سبل لإجبار الجناة على الاعتراف. وفي الولايات المتحدة الأمريكية — حيث القوانين المعنية بما هو مسموح به عند إجراء مقابلة مع مشبته به أقل تشددًا مما هي عليه في المملكة المتحدة — تُقترَح استراتيجيات لخداع المشتبه بهم وإجبارهم. ولكن احتمالات تسببها في الإدلاء باعترافات كاذبة كبيرة للغاية، لدرجة أنه يجب تقييم استخدامها بعناية.

شهادة شهود العيان

يصير هذا التحدي لجدوى ما يورده الشهود ذا أهمية خاصة عندما يكون الشاهد بصدد التعرف على مرتكب الجريمة. ويمكن أن تكون هذه الشهادة مؤثرة للغاية، لا سيما أمام هيئة المحلفين. ومع ذلك، أشارت مجموعة دراسات أجريت على مدار العقدين الماضيين إلى أن شهادة شهود العيان يمكن أن تكون معيبة، حتى عندما يكون شهود العيان واثقين تمامًا في تعرفهم على الجاني. وقد ثبت أنه إضافةً إلى القيود الواضحة على موثوقية شهادة الشهود — والمتعلقة مثلًا بمدى جودة الإضاءة وطول المدة التي قضوها في وجود الجاني — توجد أيضًا جوانب من الحدث نفسه يمكن أن تشوه الذاكرة.

تأتي أكثر التشويهات المبلغ عنها على نطاق واسع مما يُعرف باسم «التركيز على السلاح»؛ وهي الفكرة أنه إذا استُخدم سلاح — كسلاح ناري أو سكين — فستتسمَّر تقريبًا أي ضحية أو شاهد نتيجة انصراف انتباهه إلى السلاح؛ ومن ثَمَّ لن يلحظ ملامح الجاني بدقة كبيرة. ويمكن لصدمة الحدث أن يكون لها آثار أعم أيضًا من شأنها أن تزيد من إدراك الشخص لما كان يجري؛ ومن ثَمَّ تحسن من ذاكرته، أو تركز انتباهه بطرق تجعل التعرف صعبًا.

تعود تفاصيل الطريقة التي تحدث بها عمليات التعرف إلى دراسات معملية دقيقة. وهذه الدراسات تؤكد بالفعل أنه يمكن أن ينصرف انتباه الشهود دون وعي إلى اختيار الشخص الذي يعتقد المشرفون على الإجراء أنه الجاني، مثلما في طابور عرض المشتبه بهم. ويمكن أيضًا أن يشعر الشهود بالضغط للإقدام على اختيار بعينه رغم أنهم غير متأكدين؛ مما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى تضليل العدالة. ويمكن أن تكون هذه الآثار صعبة الاكتشاف تمامًا، كما ورد في بحث حديث يظهر أنه تزيد احتمالات اختيار الأطفال لشخص ما في طابور عرض المشتبه بهم إذا كان الشخص الذي يدير العملية يرتدي زيًّا رسميًّا عما إذا لم يكن. ولذا قُدمت اقتراحات حول كيفية إدارة عمليات تعرُّف شهود العيان على المشتبه بهم، منها على سبيل المثال أنه لا ينبغي أن يعرف الشخص المسئول عن إدارة عملية التعرف هوية المشتبه به الحقيقي.
fig11
شكل ٦-٢: طابور عرض لمشتبه بهم.2

اعتمدت أغلب الأبحاث التي تجرى على الاستجواب وشهادة شهود العيان على دراسات معملية؛ وهو ما أدى على مدار السنوات الأخيرة إلى مجادلات حول مقدار ما يمكن تطبيقه على تحقيقات الشرطة الحالية مما تكشف عنه الدراسات بالفعل. وقد طرحت اصطناعية التجارب شكوكًا حول قيمتها في المساعدة في عمليات الاستجواب. والمشكلة هي أنه — في ظل ضغوط القيام بالعمل الشرطي يوميًّا — من العسير جدًّا إعداد كثير من الإجراءات الموصى بها، سواءٌ كانت استجوابات معرفية أو طرقًا خاصة لإجراء طوابير عرض المشتبه بهم. وأيضًا بينما يمكن السيطرة على ما يحدث مع المشتبه بهم والشهود عندما يكونون في مخفر الشرطة، فإن إدارة كيفية التعامل معهم خارج تلك الجدران أصعب بكثير، مثلما في سيارة الشرطة في الطريق إلى مخفر الشرطة.

الشهود الضعفاء

بعض الشهود — أو الضحايا — يكونون أكثر شعورًا بضغوط عملية الاستجواب. وهذا يمكن أن يشمل الأطفال ومَن يعانون من صعوبات في التعلم والضعفاء أو كبار السن؛ إذ إن فهمهم للإجراءات القانونية التي هم جزء منها — أو للأسئلة التي تطرح عليهم، أو للأحداث التي يوردونها — قد لا يكون بالقدر نفسه المتوقع من أغلب الراشدين. ويمكن أيضًا أن يكون الشهود الضعفاء أكثر عرضة للوقوع تحت تأثير شخصيات لها سلطة عليهم. وتوجد أدلة أيضًا تشير إلى أنه لا يُتوقع أن تكون ذاكرتهم للأحداث بالقوة نفسها كما الحال مع الناس عامة.

لذلك اقتُرحت مجموعة من الإجراءات لضمان ألا يتأثر هؤلاء الشهود تأثرًا غير ملائم بسياق التحريات أو السياق القانوني. وهي تتضمن إصدارات محسنة للاستجواب المعرفي، وغيرها من الخطوط الإرشادية الخاصة بالكيفية التي ينبغي أن يجرى بها الاستجواب. وأحيانًا تُستخدم دائرة تليفزيونية مغلقة في المحاكم مع الأطفال بحيث لا ترهبهم العملية القضائية أكثر مما ينبغي.

كشف الغش

عندما يكون لدى من يُجرى معه الاستجواب أسباب تجعله لا يقول الحقيقة أو يتعاون مع التحقيق — لا سيما إن كان هو الجاني — توجد ضرورة لكشف التضليل. لكن هذا أصعب بكثير مما يُظن غالبًا، رغم أن الأساليب التي تعتمد على قياس الاستجابة الفسيولوجية للشخص (جهاز كشف الكذب) حققت نجاحًا محدودًا في بعض المواقف. وتكمن الصعوبة في حاجتنا جميعًا من وقت لآخر لعدم قول الحقيقة؛ ومن ثَمَّ قدرتنا كلنا على أن نكون كاذبين مقنعين على نحو معقول. أيضًا إذا كان الشخص يعتقد أنه يقول الحقيقة، فالطريقة التي يتحدث بها قد لا تختلف مطلقًا عنها عندما يروي قصة حقيقية. بمعنًى آخر، ليس الكذب سلوكًا نادرًا وغريبًا ستصاحبه حتمًا علامات تدل عليه.
fig12
شكل ٦-٣: استخدام المخطاط المتعدد (جهاز كشف الكذب).3

مع ذلك، ثمة متطلبات معينة يخضع لها أي شخص إذا كان يداوم على الكذب، ومن شأن تفهم هذا أن يكون ذا قيمة في كشف الغش. وأوضح تقييد واقع على عدم قول الحقيقة هو أن الكذبة يجب أن تكون نوعًا ما من الابتكار، وتتطلب صنيع خيال. ولهذا سيبني الكاذبون المتمرسون تلفيقهم على شيء حدث بالفعل، أو سيتجنبون إعطاء معلومات كثيرة على الإطلاق. ومن ثم، يمكن أن يكون تجنب قول الحقيقة أحد المؤشرات الرئيسية على الغش؛ بمعنًى آخر، عدم الرغبة في الإجابة أو الإسهاب في الوقائع.

ما إن يستعد أحدهم ليروي قصة ما، فإن أوضح محك لتحديد دقتها هو ما إذا كانت جديرة بالتصديق وتتناسب مع غيرها من الوقائع المعروفة أم لا. وحالات عدم الاتساق مؤشر مفيد، إضافة إلى غياب الدقة المناسبة. وقد أعدت قوائم تدقيق مفيدة خصوصًا لفحص الإفادات المكتوبة لتساعد على جذب الانتباه إلى أنواع التفاصيل الصحيحة التي يمكن توقعها. وهي تستخدم في بعض الدول — ألمانيا بالخصوص — لا سيما لفحص روايات الأطفال عن الانتهاك الجنسي. وأكثرها استخدامًا هي تحليل صحة العبارات، الذي يعتمد على تحليل المحتوى القائم على معايير. وهو يستخدم ١٣ معيارًا رئيسيًّا:
  • الاتساق المنطقي

  • الرواية غير المنظمة

  • مقدار التفصيل

  • الإدماج السياقي

  • وصف التفاعلات

  • نقل الحوار

  • المشكلات غير المتوقعة

  • التفاصيل غير العادية

  • التفاصيل الزائدة عن الحاجة

  • حالة المستجيب العقلية

  • التصحيحات العفوية

  • الاعتراف بعدم التذكر

  • إثارة الشكوك

الضغط الانفعالي عند الكذب

يمكن أن يسبب التلفيق المتضمن في الكذب، «الحمل المعرفي»، إضافة إلى تداعيات وجود أحدهم في هذا الموقف رد فعل انفعاليًّا لدى الكاذبين. وهذه الاستجابة الانفعالية هي التي تحاول التقاطها إجراءات كشف الكذب الأكثر موضوعية. وتزعم بعض الإجراءات قدرتها على استخدام إشارات غير لفظية مثل التململ والتحدث على نحو أبطأ، ولكن المشكلة هنا هي أنه عليك معرفة الحالة الطبيعية لذلك الشخص أولًا؛ فإذا كانت طبيعته التململ والتحدث ببطء، فقد يتحدث في الحقيقة بوقع أسرع عندما يركز على الإفلات بكذبة. وقد حققت المقاييس المباشرة للنشاط الانفعالي (المعروف فنيًّا باسم «الاستثارة») نجاحًا أكبر نوعًا ما. ويقيس أشهرها — المشار إليه باسم «جهاز كشف الكذب» أو «المخطاط المتعدد» — مستوى استثارة المستجيب في مقابل مجموعة من المؤشرات في الوقت نفسه، مثل سرعة خفقان القلب وسرعة التنفس ومقدار التعرق موضحًا عن طريق الاستجابة الكهربية للجلد. وفي بدايته كانت هناك مجموعة من الأقلام ترسم المستويات على فرخ من الورق، ولهذا أطلق عليه «المخطاط المتعدد».

تتألف العملية من طرح مجموعة من الأسئلة ثم تحديد ما إذا كانت توجد أية استجابة انفعالية واضحة لبعضها دون الأخرى. وتتكون مجموعة الأسئلة الأفيد، المعروفة باسم «اختبار المعرفة بالجرم»، من أسئلة محايدة — مثل: ما هو اليوم من الأسبوع؟ — مصحوبة بأسئلة ترتبط بأشياء لن يعرفها سوى الشخص المذنب؛ مثل معالم مسرح الجريمة. وتظهر الدراسات أن هذه الإجراءات يمكن بلا شك أن تساعد في دعم براءة المتهم، لكنها أقل فائدة بكثير في تحديد أنه قد يكون مذنبًا. بمعنًى آخر، لا يبدو كثير من الأشخاص الأبرياء مذنبين، ولكن عددًا كبيرًا من الناس الذين يَبدون مذنبين هم في الحقيقة أبرياء. ومما يثير الاهتمام أن إحدى نقاط القوة المذكورة للأسلوب، هي أن المشتبه بهم الذين يعتقدون بجدواه يمكن أن يعترفوا غالبًا بجرائمهم عند عرضهم على جهاز كشف الكذب.

تُستخدم أيضًا على نطاق واسع أشكال أخرى من الاستجواب وأساليب تزعم تقييم الإجهاد في الخصائص الفيزيائية للصوت (تحليل إجهاد الصوت)، ولكن لا توجد بينة علمية دامغة على صدقها. ومؤخرًا ظهرت أيضًا مزاعم بوجود إجراءات تجري قياسات مباشرة لنشاط المخ، أحيانًا تطلق عليها التسمية غير الدقيقة لحد ما «تسجيل بصمات المخ». وكما هو الحال مع الإجراءات الأخرى كافة، تعود نقاط ضعفها إلى مسألتين؛ الأولى هي ما إذا كان يمكن بناء علاقة فعالة ومقنعة بين المحقق والمستجوَب، والثانية هي الطريقة التي يمكن أن تحجب بها المستويات العامة للاستثارة التي تحدثها عملية الاستجواب البراءة الحقيقية. توجد صعوبة أخرى هي أن التركيز على الاستجابة الصادرة من الجهاز يمكن أن تصرف انتباه المحقق عن الإنصات بإصغاء إلى الرواية، ومن ثَمَّ التعرف على مواضع الغموض وعدم الاتساق فيها.

يمكن إجراء تجارب يستخدم فيها مجري الاختبار قياسًا فسيولوجيًّا من نوع ما لتحديد ما إذا كان الخاضعون للاختبار يقولون الحقيقة حول أي مجموعة من بطاقات اللعب يمسكون بها. يحق للشركات التجارية التي تبيع مثل هذه الأجهزة الترويج لها بوصفها غير قابلة للخطأ. ولكن هذا «الكذب» يختلف تمامًا عن حالة مشتبه به يصف بالضبط ما كان يقوم به ليلة وقوع جريمة قتل.

إجراء مقابلة أم استجواب؟

أحيانًا يعتقد كثير من ضباط الشرطة — والناس عامة — أن المقصد من إجراء مقابلة مع مشتبه به هو الحصول على اعتراف — أو بعض المعلومات الحاسمة — مثل أسماء شركاء. وفي المقابل، يُستخدم مصطلح «استجواب» للإشارة إلى هذا الهدف. ونتيجة لذلك، تكوَّن مفهوم خاطئ بشأن قدرة علماء النفس على مساعدة المحققين على «انتزاع الاعتراف»، كما تُسمَّى العملية باللغة الدارجة. مع ذلك، تَعتبر الغالبية العظمى لعلماء النفس هذا غير لائق وغير أخلاقي وربما مجازفًا. ومن الأدلة المتطرفة على ذلك المحاولة التي جرت داخل الجمعية النفسية الأمريكية لحرمان علماء النفس الذين ربما أشرفوا على تعذيب المعتقلين في خليج جوانتانامو من ممارسة المهنة.

ولذا، رغم وجود اقتراحات من عملاء سابقين في مكتب التحقيقات الفيدرالي وآخرين بشأن كيفية إجراء مقابلة للحصول على اعتراف، يعتقد علماء النفس عامة أنها تأتي بنتائج عكسية. ويمكن أن تؤدي إلى معلومات مضللة وتبتعد كثيرًا عما يقبله القانون بحيث لا تكون جديرة بالمخاطرة. أضف إلى ذلك أن أفضل سبيل للحصول على معلومات حقيقية — كما ذكرنا — هو بناء علاقة مناسبة مع المشتبه به وتوضيح ما ضده من أدلة. وإذا لم تكن الأدلة موجودة، يُفضل بذل مجهود إضافي للحصول عليها بدلًا من الاعتماد على مقابلة قسرية.

أيضًا تواجه محاولات متنوعة لاستخدام «أمصال الحقيقة» — مثل أميتال الصوديوم وبنتوثال الصوديوم — المشكلات نفسها بوصفها أساليب قسرية أخرى. قد يتحدث الشخص الذي تُجرى معه المقابلة أكثر، ولكن يمكن أن يخلط دون وعي منه الحقيقة بالخيال. وتَعتبر أغلب الولايات القضائية استخدامها غير مقبول وشكلًا من أشكال التعذيب.

لا يواجِه استخدام التنويم المغناطيسي — باعتباره جزءًا من أسلوب مقابلة معززة — المشكلات نفسها التي تواجهها الأشكال القسرية للاستجواب، واستُخدم بنجاح مع الشهود. ومع ذلك، لا توجد بالتأكيد ضمانة أن ما يكشف عنه الفرد في حالة التنويم المغناطيسي هو الحقيقة أو أنه لن يتأثر بالمنوِّم المغناطيسي. ولهذا السبب، توجد خطوط إرشادية صارمة في كثير من الدول بشأن الكيفية التي ينبغي بها القيام بالتنويم المغناطيسي الشرعي، وثمة إحجام حصيف عن استخدامه عدا في ظروف خاصة جدًّا.

الادعاءات الكاذبة

ذكرنا الاعترافات الكاذبة في الفصل الرابع — حول علم النفس في قاعة المحكمة — ولكن المقابل لها — الادعاءات الكاذبة — يمثل أيضًا تحديًا حقيقيًّا لتحقيقات الشرطة. ويمكن أن يتورط في هذا — على سبيل المثال — أطفال يدعون أنهم أُسيء لهم جنسيًّا، أو ضحايا أكبر سنًّا يزعمون كذبًا أنهم تعرضوا لاعتداء. ويمكن تحري هذه المسألة مع الأطفال باستخدام تحليل صحة العبارات، ولكن قد يكون هذا الإجراء أقل فعالية مما يأمل كثيرون.

الادعاءات التي تنشأ أثناء سير العلاج والتي تظهر باعتبارها ذكريات مستعادة — كما شرحنا من قبل — هي محل جدل بشكل خاص. ولكن توجد قضايا أخرى كثيرة — لا سيما التي تكتنف ادعاءات الاغتصاب والتحرش الجنسي — يكون من العسير جدًّا فيها تحديد ما إذا كان الادعاء كاذبًا. وتنشأ الصعوبات من توجهات اجتماعية، زاد من شدتها الأسلوب المروِّع الذي كان يُجرى التعامل به في الغالب مع ضحايا الاعتداءات الجنسية في الماضي. وأدى هذا إلى تحول في الموقف؛ بحيث صار مجرد اقتراح إمكانية كذب الادعاء بالاغتصاب أمرًا غير لائق. مع ذلك، ثمة أدلة تفيد بأن ما يصل إلى ادعاء من بين ثلاثة ادعاءات بالاغتصاب قد يكون غير صحيح، ولكن دون إجراء قدر كبير من الأبحاث العلمية الدقيقة، من الصعب تحديد هذا بأي قدر من الثقة. لكن هذا له علاقة بالنسبة الضئيلة جدًّا من بلاغات الاغتصاب الأولية التي تنتهي بالإدانة.

عمليات الاستدلال الفعالة وتحديد أوصاف الجناة

ثمة مرحلة ثانية في عملية التحقيق هي الوصول إلى استدلالات على أساس المعلومات المجمعة. وتوجد اقتراحات بالنسبة للمواضع التي سيكون البحث فيها عن معلومات إضافية مفيدًا ولأنواع الأشخاص أو البيانات المثمرة أكثر في حل القضية. عندما تُرتكب الجريمة على نحو لا يتيح مفاتيح مباشرة كثيرة لحل الألغاز — أي عندما يندر وجود أدلة شرعية يمكن استخدامها للوصول إلى الجاني — يُضطَر المحققون إلى أخذ بعض القفزات التخيلية لتحديد الجاني. وفي هذه الحالات سيظهر غالبًا «تحديد أوصاف المذنبين» الممدوح كثيرًا في قصص أدب الجريمة.

في ثمانينيات القرن العشرين، أُطلقت التسمية «تحديد أوصاف المذنبين» على عملية استنتاج فرضيات — من طريقة ارتكاب الجريمة — بشأن نوعية الشخص الذي اقترف الجريمة. وأكثر السبل مباشرة للتفكير في هذه العملية هو أنها محاولة لاستخدام بعض التفسيرات لأسباب ارتكاب الناس لجرائم والتفكير فيها على نحو معكوس. وفي أبسط صورها، إذا اعتقدنا أن تلفًا بالمخ يؤدي بشخص إلى العنف ونحن نتحرى جريمة عنيفة، فقد نفترض أن المجرم يعاني من تلف بالمخ. ومع ذلك، يكشف هذا المثال مباشرة عن صعوبات في استخدام تفسيرات كثيرة للجريمة باعتبارها أساسًا للوصول إلى استدلالات عن المجرمين، كما ناقشنا في الفصل الثاني. فيوجد عدد كبير من الأشخاص الذين يعانون من تلف بالمخ ولا يرتكبون جرائم، وعدد كبير من الأشخاص العنيفين غير المصابين بتلف واضح بالمخ.

إلا أن «تحديد الأوصاف» تحول سريعًا إلى جزء من ذخيرة كتَّاب الأدب الروائي، ليثير انبهار الناس بتطبيقه على القضايا الحقيقية. وبحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين، كان الصحفيون يسألون في أي تحقيق كبير تقوم به الشرطة: «هل استعنتم بمحدد أوصاف؟» ومع ذلك — كما ذكرنا في الفصل الأول — فالفكرة الشائعة القائلة بأن عالم النفس بمقدوره حل لغز جريمة عن طريق تقمص عقل المجرم؛ بعيدة تمامًا عن الواقع.

لذا، رغم أن تطبيق علم النفس على عالم الجريمة تصدر عناوين الصحف تصدرًا جليًّا، ممثلًا في فكرة «تحديد أوصاف» السفاحين لمساعدة الشرطة على الإيقاع بهم، إلا أن هذه الشهرة تدين إلى الأدب الروائي أكثر مما تدين إلى الواقع. فلا يُدرَك غالبًا أن محددي الأوصاف المصورين في الأدب الروائي ليسوا سوى نُسخ معاصرة من أولئك المحققين الخياليين جمعيهم الذين ألهمهم شيرلوك هولمز. ولجعل الأدب الروائي مسليًا، من الضروري تصوير «محددي الأوصاف» هؤلاء المتمردين غالبًا باعتبارهم أفرادًا موهوبين، تساهم استضاءاتهم الفكرية المفاجئة مساهمة حاسمة في تحقيقات الشرطة ليحلوا ألغاز الجريمة. لكن الأدب الروائي يتجاهل حقيقة أن تحقيقات الشرطة عمليات معقدة متطورة تمر بمراحل كثيرة. ويندر أن تساهم معرفة طبيعة أو شخصية مجرم مجهول مساهمة كبيرة في حل لغز جريمة.

تكشف جيدًا إحدى القضايا التي يُستشهد بها كثيرًا باعتبارها توضيحًا مبكرًا لأهمية عملية تحديد أوصاف الجناة حقيقة أن الأمر عادة ما يكون أقل إثارة عما يُصور كثيرًا. فعلى مدار ١٦ عامًا حتى ١٩٥١، كانت قنابل منزلية الصنع تُترك في أماكن عامة في نيويورك. وأرسل المفجر خطابات إلى صحف أوضحت أنه يسعى للانتقام بسبب «الأعمال الخسيسة» التي ارتكبتها في حقه شركة كونسوليديتيد إديسون كومباني. ولمَّا لم تتمكن الشرطة من تحديد مكان الشخص الذي أصبح معروفًا باسم «المفجر المجنون»، التمست مساعدة الدكتور جيمس براسل — طبيب نفسي من نيويورك — الذي قال: «عن طريق دراسة أفعال الرجل، استنتجت أي نوعية من الرجال قد يكون عليها»، وبذا بشر بمصطلح «تحديد أوصاف الجناة».

أعطى براسل وصفًا تفصيليًّا للجاني المحتمل، تضمن توصيفًا لبنيته الجسمانية وتعليمه، وتلك التفاصيل المثيرة للاهتمام مثل أنه لم يجتز المرحلة الأوديبية لحبه لوالدته، إضافة إلى التعليق المقتبس كثيرًا أن المفجر المجنون سيرتدي بذلة مزدوجة الصدر مزررة عند إلقاء القبض عليه. وعندما أدين جورج ميتسكي في النهاية بارتكاب التفجيرات، اكتُشف أن كثيرًا من وصف براسل كان دقيقًا، حتى البذلة مزدوجة الصدر المزررة. ولم يجرِ في الواقع اختبار عقدة أوديب لدى ميتسكي.

لقيت تنبؤات براسل اللافتة للنظر بوضوح ترحيبًا سريعًا باعتبارها البداية لتحديد أوصاف الجناة، وجذبت خيال الجمهور إلى ما بدا الآن بمقدور جيل جديد من محققي الطب النفسي أن يفعله. ولكن عند فحص الأمر عن كثب، لا يبدو أن السمات التي حددها براسل قد ساهمت في تحقيق الشرطة وتحديد هوية ميتسكي على الإطلاق. وكان أفيد شيء قام به طبيب النفس الذي من نيويورك هو تشجيع الشرطة على الإعلان عن التفجيرات والخطابات للجمهور، بعد أن حاولوا الحفاظ على سريتها. وأدت هذه التقارير الصحفية بدورها إلى أن بحث موظف لدى كونسوليديتيد إديسون كومباني بعناية خلال الملفات عن أي موظفين أصدروا تهديدات كجزء من مطالباتهم بتعويضات. وحوى ملف ميتسكي خطابات تضمنت صياغة مشابهة جدًّا لتلك التي صيغت بها خطابات المفجر المجنون.

أما توقع البذلة مزدوجة الصدر المزررة فليس بهذه الأهمية؛ نظرًا لأن أغلب الرجال في تلك الأيام ارتدوا بذلات مزدوجة الصدر، ونادرًا ما يرتدي أحدهم هذه البذلات غير مزررة. وبفهمنا الآن لمساهمة براسل، يمكننا أن نرى أن قيمتها تكمن في النصح الذي قدمه للشرطة بشأن كيفية بدء تحقيقهم، وليس في تخميناته للمشكلات الأوديبية للمفجر.

ينبغي لذلك إدراك أن الوصول إلى هذه الاستدلالات، بشأن تحديد أوصاف مرتكب الجرم من المعلومات المتاحة بمسرح الجريمة — أو من الشهود أو المجني عليهم — أكثر صعوبة من الحصول على معلومات موثوق منها في المقام الأول. ومع ذلك، منذ طرح راسيل الأول، ظهرت عمليات تستند إلى أسس أكثر صحة من محاولات عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، لوضع هذه «الأوصاف المحددة» على أساس الخبرات والاستنارات الفكرية الشخصية. وثمة اتجاه حديث قيد التطور في صميم علم نفس التحقيقات، يتناول كيفية الوصول إلى هذه الاستدلالات على نحو يعتمد عليه. وتُظهر الدراسات التي أُجريت على قضايا تم حلها، أنه توجد أوجه اتساق يمكن تمييزها بين ما قد يقوم به مجرم عندما يضرم النيران بمكان — أو يغتصب غريبًا عنه أو حتى يرتكب سطوًا — وبين الجوانب الأخرى من حياته التي يمكن أن تقود الشرطة إليه.

رغم الإثارة التي يمكن أن تضيفها هذه «الأوصاف المحددة» إلى الأدب الروائي، فالواقع أن النصح المستمد من الاستدلالات بشأن الصفات المميزة للمجرمين غالبًا ما يكون متواضعًا إلى حدٍّ ما، ويرتبط أفيد ارتباط بالاقتراحات العملية للكيفية التي ينبغي بها مباشرة التحقيق. ويمكن أن يتضمن هذا ماهية أنواع سجلات المجرمين التي ينبغي فحصها من أجل إعداد قائمة الجناة المحتملين، وجوانب المهارات والخلفية الاجتماعية التي يُتوقع أن تميز الجاني — التي يمكن أن تفيد الشرطة في البحث بين المشتبه بهم المحتملين الذين استُنبطوا من مصادر أخرى، مثل التحقيقات من منزل لمنزل — والاقتراحات حول الحالة العقلية للجاني واحتمالات وجود سجل طب نفسي له. ويمكن أيضًا تقديم أفكار حول أفضل الطرق التي يمكن بها مناقشة مشتبه به على أساس الاستدلالات المستمدة من أحداث الجريمة.

يتمثل جوهر تقديم النصح للمحققين في اكتشاف تضمينات ما حدث بالفعل في الجريمة. والحجة المركزية هي ما أُطلق عليه «مبدأ الاتساق»؛ فالأعمال المرتكَبة في جريمة ستكون متسقة بوجه عام مع كيفية تصرف الجاني في مواقف غير إجرامية، رغم أنها ستكون أكثر تطرفًا عندما تكون جزءًا من جريمة. وتظهر مجموعة من المؤشرات من المفيد مراعاتها، ويمكن التعبير عنها بخمسة أسئلة رئيسية:
  • (١)

    ما الذي تشير إليه الجريمة بشأن ذكاء الجاني ومعرفته؟

  • (٢)

    ما الذي تقترحه الجريمة بشأن مدى تخطيطه أو اندفاعيته؟

  • (٣)

    كيف يتفاعل المجرم مع الضحية المباشرة أو غير المباشرة؟

  • (٤)

    ما الذي تشير إليه أفعاله بشأن مدى اعتياده على موقف الجريمة أو ظروفها؟

  • (٥)

    ما المهارات الخاصة التي يمتلكها الجاني؟

مما يثير الاهتمام أن هذه الأسئلة تلفت الانتباه إلى جوانب من الجريمة عادة ما تلقى تجاهلًا عند النظر في الأسباب العامة للجريمة. وحتى داخل الأطر العلاجية — العمل مع الجناة — لا يُجرى غالبًا تحري التفاصيل الفعلية للجرائم، بل تكون السمات الشخصية العامة للجاني هي محور الاهتمام. وفي حالة نظر الجريمة، يمكن أن يكون ذلك من خلال وصف الجاني لها فقط وليس العمل على نوعية المعلومات الموضوعية المفصلة التي بحوزة الشرطة.

التشريح النفسي

يتخذ إجراءً غير معتاد نوعًا ما — يقوم على استنتاج استدلالات حول الشخص — عندما يكون سبب الوفاة ملتبسًا. ويمكن أن يحدث هذا إذا كان هناك شك فيما إذا كان الشخص انتحر أو تعرض لحادث أو قُتل. وفي هذه القضايا، يمكن إجراء محاولة لتحديد الصفات المميزة للمُتَوَفَّى من أجل إلقاء الضوء على ما حدث. ومن ثَمَّ لا يُجرى التشريح على جثة المُتَوَفَّى، بل على سيكولوجيته. ويمكن استنباط ذلك من وثائق، مثل: خطابات أو مذكرات أو مدونات أو رسائل بريد إلكتروني خلَّفها المُتَوَفَّى وراءه، ومقابلات تُجرى مع جميع من عرفوه.

لكن ليست هذه مهمة يسيرة، لا سيما في حالة الانتحار؛ لأن الأشخاص المقربين جدًّا من الشخص المُتَوَفَّى قد يشعرون بقدر من الندم إذا قتل نفسه؛ ومن ثَمَّ لا يكونون متعاونين. وفي حالةِ مباشرةِ تحقيق في جريمة قتل، قد تكون هناك أيضًا عقبات قانونية في سبيل مناقشة جميع الأشخاص الذين لديهم معرفة ما بالقتيل. ومن المتوقع أن يصل الادعاء والدفاع إلى مجموعات مختلفة من الشهود الذين قد يحملون رؤًى متعارضة.

ثمة مثال مهم على الشكوك التي يمكن أن تكتنف الاستدلالات حول شخص مُتُوَفًّى، هو تحري الانفجار الذي وقع في برج المدفع على البارجة الحربية التابعة للأسطول الأمريكي يو إس إس أوهايو في عام ١٩٨٩، والذي أودى بحياة ٤٧ فردًا من طاقم البرج. أجرى عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي ما أطلقوا عليه «تحليل الموت الملتبس» للحادث وأولئك في حجرة البرج. وخلص هذا التحليل إلى أن أحد أفراد الطاقم — كلايتون هارتويج — قد فجر المدفع في عمل انتحاري؛ ونتيجة لذلك، شكلت الجمعية النفسية الأمريكية فريق بحث خاصًّا لاستعراض ما قام به مكتب التحقيقات الفيدرالي والأدلة المتعلقة. فانتقدوا تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي ولم يؤيدوا تمامًا الرأي القائل بأن هارتويج قد انتحر. وانتهى فحص فني مفصَّل إضافي للمدفع إلى أن انحشار طلقة على نحو مفاجئ في المدفع هو ما أدى إلى انفجاره. لكن اعترضت التحقيقات اللاحقة على هذا الاستنتاج؛ الأمر الذي يبدي مدى التعقد الذي يمكن أن يكون عليه تحري حالات الوفاة الملتبسة.

تحديد الأوصاف الجغرافية

نشأ تطور مفيد بوجه خاص في إطار علم نفس التحقيقات من المزج بين السبل النفسية والجغرافية لتحليل معلومات الجرائم، ويُعرف باسم «تحديد أوصاف الجناة الجغرافية». ومن المفيد التمييز بين «نظم دعم القرار» التي تلعب دورًا رئيسًا في تحديد أوصاف الجناة الجغرافية وبين «نظم الخبراء». في تسعينيات القرن العشرين، كان هناك اعتقاد ساذج أن أجهزة الكمبيوتر ستتمكن قريبًا من التفكير مثل البشر، ويمكن برمجتها للعمل كخبراء يتخذون القرارات بدلًا من نظرائهم من البشر الذين ستحل محلهم. ولقي هذا التخيل المستمد من الخيال العلمي تشجيعًا كبيرًا من قِبل مهندسي الكمبيوتر الذين حصلوا على منح بحثية ضخمة للسعي وراء هذا المطلب العسير. وسريعًا ما اتضح — كما توقع كثير من علماء النفس — أنه من غير الممكن في الواقع محاكاة عمليات التفكير والمعرفة والخبرة لدى الخبراء البشريين، عدا في حالات خاصة جدًّا.

بدأت في الظهور نظم كمبيوتر أكثر تواضعًا نوعًا ما — ولكنها مع ذلك مفيدة للغاية — عقب هذا الاكتشاف. وهي نظم تساعد الخبراء على اتخاذ قرار أكثر اطلاعًا، وتُعرف عادة بنظم دعم القرار. ومهمتها هي ترتيب المعلومات المتاحة وتحليل بعض جوانبها. وهذا يساعد أي خبير على رؤية الأنماط داخل تلك المعلومات والاعتماد على خبرته وتدريبه لفهم تلك الأنماط. وكثيرًا ما نصادف تلك النظم متى يُطلب منا تقديم معلومات للتحقق من استخدامنا لبطاقة الائتمان؛ فربما أدرك نظام الكمبيوتر أنك تريد إنفاق مبلغ من المال كبير على غير العادة بالنسبة لك، أو أنك تشتري شيئًا ما — أو تبتاع في مكان — مختلفًا تمامًا عن نشاطك المعتاد. وهذا ينبه أشخاصًا شتى للتحقق منك ومما تشتريه، وعندئذٍ تُطرح عليك أسئلة عن اسم والدتك قبل الزواج أو اسم كتابك المفضل.

المثال الذي سقناه عن التحقق من بطاقة الائتمان هو توضيح مثير للاهتمام لنظام دعم القرار؛ لأنه يستند إلى فكرة أن عادات الناس متسقة بشكل معقول. ومن ثمَّ فإن أجهزة الكمبيوتر الحديثة قادرة على حساب النطاق النموذجي لقيم ومواقع وأنواع المشتريات لأي شخص، ثم تشغيل تنبيهات إذا خرجت خطوات عملية الشراء عن تلك الحدود. وفي بعض الدول — لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية — أخذت هذه الأفكار بُعدًا إضافيًّا على يد سلطات تحصيل الضرائب؛ فلديهم معادلات تمكنهم من حساب القيمة النموذجية التي سيكون عليها الإقرار الضريبي لأي شخص يشغل وظيفة معينة. فإذا كان الإقرار المقدم مختلفًا اختلافًا ملحوظًا عما تقترحه المعادلة، يُجرى تدقيق حسابات هذا الشخص بعناية.

تعمل نظم تحديد أوصاف الجناة الجغرافية على أسس مشابهة لنظم دعم القرار الأخرى المذكورة. وتُستخدم أكثر من غيرها عندما يرتكب مجرم سلسلة من الجرائم، ويكون الافتراض هو أننا مثلما يمكن أن ننزع إلى استخدام مجموعة متاجر بعينها في منطقة معينة، سينزع بالمثل أي مجرم إلى قصر نطاق جرائمه في منطقة محددة. وبالطبع لا يقوم جميع الجناة بذلك، بالضبط مثلما لا نتسوق دومًا في الأماكن نفسها. لكن النتيجة الجديرة بالملاحظة هي أن عددًا كافيًا من المجرمين يتبع نسقًا بالنسبة للأماكن التي يختارونها لارتكاب الجرائم، وستكون هذه نقطة بداية مفيدة لمحاولة اكتشاف مكان إقامة المجرم.
fig13
شكل ٦-٤: خريطة بمواقع سلسلة جرائم ارتُكبت مع توضيح موقع منزل المجرم.4

ينتقل النظام بهذه الفكرة الأساسية خطوتين إضافيتين؛ أولاهما هي أنه يفترض أنه كلما بَعُد الجاني عن المنزل، تقل احتمالات إقدامه على ارتكاب جريمة. ثانيتهما هي إذا كانت «فرص» ارتكاب الجرائم موزعة توزيعًا متساويًا نسبيًّا حول منزله؛ فمن ثَمَّ يُتوقع أن تكون الجرائم نفسها موزعة حول منزله. ونتيجة هذين الافتراضين هي أنه إذا عُرف أن سلسلة من الجرائم ارتكبها المجرم نفسه، فيُحتمل أن يكون قاطنًا داخل المنطقة التي وقعت بها تلك الجرائم. وثمة فرضية تسمى «فرضية الدائرة»، يُستشهد بها على نطاق واسع، تجمل هذه الفكرة وتقضي بأنه إذا رُسمت دائرة بحيث يتكون قطرها من خط يصل بين الجريمتين الأبعد عن بعضهما، يُتوقع أن يقع منزل الجاني داخل هذه الدائرة، وغالبًا قرب مركزها. والجدير بالملاحظة أن النتائج تُظهر أن هذا الافتراض يلقى تأييدًا من واقع أغلب الحالات التي يرتكب المجرمون فيها أكثر من خمس جرائم؛ ولكن هذا بالطبع يعني أن هذه الافتراضات غير صحيحة على الإطلاق بالنسبة لعدد ضخم من المجرمين.

فرضية الدائرة عبارة عن تطور بسيط نسبيًّا للافتراض المبدئي. وقد ابتُكرت خوارزميات أكثر تطورًا تستخدم حسابات الاحتمالات مدمجة في برنامج لتخطيط دعم القرار مثل نظام دراجنت. ويزداد اعتماد قوات الشرطة على مثل هذه البرامج في مختلِف دول العالم.

الربط بين الجرائم

كلما زادت المعلومات المتاحة عن الجاني، زادت إمكانية مباشرة التحقيق بيسر. من ثَمَّ إذا أمكن تحديد أن مجموعة من الجرائم ارتكبها الشخص نفسه، تتيح هذه «السلسلة» فرصًا أكبر للمحققين. كما يمكن أن تجعل الادعاء أكثر قوة من خلال «بينات وقائع مشابهة». وإذا كانت هيئة المحلفين ترى أن مجموعة الجرائم هي من عمل شخص واحد — ولا سيما في الأمور التي تثير مسألة القبول، كما في الاغتصاب — تزيد احتمالات إصدارها قرارًا بالإدانة.

لا يمكن الربط بين جميع الجرائم بسهولة، عن طريق أوصاف الشهود أو البصمات أو الأنسجة أو الحمض النووي أو ما على شاكلتها؛ لذا تُجرى محاولات لربطها بوسائل سلوكية. وهذا يحقق أفضل النتائج إذا كانت هناك بعض السلوكيات غير المعتادة تمامًا، مثلما في قضية سلسلة من جرائم الاغتصاب، حيث خنق الجاني الضحية عن طريق إقحام يده في فمها. ولكن هذا يتطلب فعليًّا بعض المعرفة بشيوع مختلِف السلوكيات في أنواع الجرائم التي يجري ربطها؛ وبِناءً عليه ثمة ضرورة لمجموعة دقيقة من الحسابات الإحصائية.

لكن المثير للاهتمام أنه في حالة ارتكاب جرائم متعددة، فإن مواقع ارتكاب الجرائم تقدم مؤشرات طيبة لما إذا كانت هذه الجرائم من ارتكاب الشخص نفسه. وهذا صحيح خصوصًا بالنسبة للجرائم النادرة للغاية مثل اغتصاب شخص غريب، ولكنه يمكن أن يكون الحال أيضًا مع جرائم أكثر شيوعًا مثل السطو.

السفاحون والقتلة المتسلسلون والجماعيون

لا يوجد طريق واحد يسلكه كافة الجناة كي يصبحوا مجرمين. كما أن أية فئة من فئات الجرائم — مثل القتل أو السرقة أو الاحتيال — سيكون لها أيضًا أشكال مختلفة كثيرة؛ ويمكن لكلٍّ منها أن يكون له مؤشرات منذرة مختلفة؛ ومن ثَمَّ فإن أي نصح يُقدَّم للشرطة بِناءً على افتراضات بشأن الأوصاف المميزة للجناة، يجب أن يكون مستمدًا من جوانب متباينة للجرائم. ولتوضيح ذلك، كثيرًا ما أُسأل عن «الأوصاف المحددة للسفاح»، ولكن رغم أن هؤلاء القتلة المزعجين الأشرار نادرون جدًّا في الحقيقة، إلا أنهم يتنوعون إلى حدٍّ بعيد؛ فلا توجد مجموعة «أوصاف محددة» واحدة تناسب جميعهم. وهذا ينطبق على جميع الجناة. فينبغي علينا أن نراعي تفاصيل الجريمة بدقة متناهية؛ لتحري ما يميز أي جانٍ بعينه وتحديده.

فيما يتعلق بالسفاحين، ينبغي وضع فارق بين أولئك الرجال (لا يحضرني نساء قمن بذلك) الذين يقتلون عددًا من الأشخاص في نوبة واحدة، والآخرين الذين يقتلون عددًا من الأفراد على فترات زمنية مختلفة. ومطلقو الرصاص في مدرسة كولمباين مثال معروف على نطاق كبير على قتلة النوبة الواحدة، لكن للأسف سيستمر وجود آخرين كثيرين سيطلقون الرصاص — عادة — على مجموعة من الناس في ثورة عنيفة واحدة. وينتهي بهؤلاء الحال حتمًا وهم قتلى، سواءٌ أطلق آخرون عليهم الرصاص أثناء عملهم الوحشي، أو أطلقوا هم الرصاص على أنفسهم في نهاية ثورتهم العنيفة. ولذلك أفضل تفسير لأفعالهم هو أنها شكل عنيف متهور من أشكال الانتحار. وهم يشتركون في الكثير مع الأشخاص الآخرين الذين يقتلون أنفسهم؛ فهم يشعرون بالعزلة، وكثيرًا ما يكونون مصابين بالاكتئاب بشكل واضح، لكنهم أيضًا يثورون على الأشخاص الذين يلقون عليهم باللوم لقلة تقديرهم لذاتهم ومن يظنون أنهم قد آذوهم. وعادة ما يكون هؤلاء «الآخرون» مجموعة عامة ما أو مؤسسة كالمدرسة، أو مطعمًا للوجبات السريعة أو شركة أو المجتمع ككل. ويشترك هؤلاء القتلة في الكثير مع المفجرين الانتحاريين، رغم أن أولئك يكسون غضبهم بلغة أيديولوجية بليغة.

الأشخاص (عادة الرجال، ولكن أحيانًا النساء) الذين يقتلون على مدار فترة زمنية، مع وجود ما يشار إليه غالبًا بفترة «هدوء» بين كل جريمة قتل وأخرى، هم مزيج أكثر تنوعًا بكثير. وما إن يقتل أحدهم ثلاثة أشخاص مع تخلل فترة فاصلة بين جرائم القتل، يطلق أغلب الخبراء عليه لقب «سفَّاح». لكن تحت هذا المصطلح العام توجد أصناف مختلفة كثيرة من الأشرار؛ فيمكن أن يشمل المصطلح أولئك الذين يشار إليهم بوصفهم «يقتلون من أجل التربح». وثمة أمثلة كثيرة معروفة لهؤلاء عاشت في العصر الفيكتوري أو قبله. ولعل الأكثر بشاعة كان بيرك وهير، اللذين قتلا أشخاصًا حتى يبيعا جثثهم إلى كليات التشريح المزدهرة. وأنا أكتب هذه السطور، توجد امرأة في إيران تُعرف باسم ماهين، متهمة بقتل عدد من الأشخاص بعد أن أقلتهم في سيارتها، رغم أنهم لم يؤذوها، وقد سرقت متعلقاتهم لتبيعها كي تسدد ديونها. وكما هو الحال في قضايا مشابهة أخرى كثيرة جدًّا، يمكن القول إن أحد أسباب الجرائم التي يرتكبها سفاحون هي أن القتلة يكتشفون أنهم يمكنهم الإفلات بجرائمهم مرات ومرات. وكما يُقال أحيانًا: أحد أسباب جرائم السفاحين جهاز شرطة غير كفء.

ومع ذلك، ليس الأمر مقصورًا على القتلة الحذرين باردي الأعصاب، الذين يَبدون قادرين — من وقت لآخر — على تجنب الإيقاع بهم طيلة شهور، وأحيانًا سنين. فكثير من القتلة المتوحشين يَبدون مدفوعين بغضب أو ما قد يبدو لهم أنها «مهمة». وهم عادة يختارون ضحايا ضعفاء، مثل العاهرات اللواتي يمارسن مهنتهن بالشوارع، أو أشخاص يعيشون في المناطق الفقيرة فلا يُكتشف غيابهم بسهولة. كان فريد ويست ينتقي الفتيات اللواتي يعشن وحدهن، بعيدًا عن منازل أسرهن، ولم تكن أسرهن تعلم الكثير عن مستقرهن. وعدد قليل جدًّا من هؤلاء السفاحين مضطربون عقليًّا، فيمثلون بجثث ضحاياهم، ويجدون إشباعًا شاذًّا في معاملة هؤلاء الأشخاص باعتبارهم أشياء. وهناك آخرون مدفوعون جنسيًّا بقوة؛ فيغتصبون الأشخاص الذين يوقعونهم في شركهم وينتهكونهم ثم يقتلونهم لتجنب انكشاف أمرهم.

ثمة مجموعة أخرى هي القتلة الجماعيون. وهم أكثر تنوعًا من السفاحين؛ حيث إنهم لا يقتلون عددًا من الأشخاص في نوبة عنف — أو على مدار فترة زمنية مثل السفاحين — بل كجزء من عمل ما أكثر وحشية. وهذا يشمل أشكالًا مختلفة من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. بل وتدرج بعض السلطات حادثة الانتحار الجماعي في جونزتاون في جويانا في عام ١٩٧٨ تحت هذه الفئة، حيث لقي ٩١٨ شخصًا مصرعهم بِناءً على أوامر الزعيم الديني جيم جونز. إلا أن هذه الاعتبارات تقودنا إلى العنف الذي تمارسه الدولة، وتطرح أسئلة أخلاقية وقانونية تتخطى نطاق علم النفس الشرعي. ولكنْ ثمة جانب منها جدير ببعض الانتباه هنا: الإرهاب.

تحدي الإرهاب

منذ الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي والبنتاجون في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، زاد الاهتمام بالإرهاب زيادة كبيرة. وفي صميم هذا الاهتمام محاولة فهم كيف يمكن لأناس أن يَقتلوا بهذه القسوة باسم أيديولوجية مجردة ما. إن نوبات الغضب العارم ملازمة لنا دائمًا، منذ قتال الزيلوت ضد الهيمنة الرومانية على اليهود في القرن الأول، مرورًا بالحشاشين في القرن الثالث عشر الذين كانوا فصيلًا منشقًّا عن الإسلام الشيعي، حتى حركة الفينيان في القرن التاسع عشر الذين رفضوا الحكم البريطاني في أيرلندا، والجماعة الإرهابية في مطلع القرن العشرين التي ساهمت في إشعال شرارة الحرب العالمية الأولى بقتل الأرشيدوق فرانز فرديناند.

على مدار أكثر من مائة عام، تحدَّث الفوضويون على غرار ميخائيل باكونين عن المفهوم الذي يقوم عليه أغلب الأعمال الإرهابية في كتابه «دعاية الفعل». هذا المفهوم يقضي بأن مجموعات كثيرة ترى أن مهمتها هي السعي لإحداث تأثير على الرأي العام، ومن ثَمَّ استقرار الحكومات، من خلال شن هجمات على أشخاص أو مبانٍ يرون أنها تحمل أهمية سياسية أو أيديولوجية.

ومن ثَمَّ، رغم أنه من المغري تصنيف الإرهابيين مع المجرمين الآخرين أو البحث عن اضطراب عقلي في خلفياتهم، فالخاتمة التي نتعلم منها، والتي يجب استخلاصها من دراسات كثيرة، هي أنهم غالبًا ما لا يختلفون عن المواطنين الآخرين الممتثلين للقانون، باستثناء تعصبهم لقضية ما. ونسبة كبيرة منهم حصلت على قدر عالٍ من التعليم يفوق القطاع السكاني الذي خرجوا منه. ويجب لذلك البحث عن أصل ولائهم لقضية عنيفة في رفقائهم وخبراتهم.

في خضم جذب الانتباه إلى السياق الاجتماعي والثقافي للعنف المرتكَب بحق الغرباء، علينا الانتباه أيضًا إلى الدور الذي تلعبه العمليات الاجتماعية في جميع الأنشطة المخالفة للقانون. ويجد علماء النفس إغراءً لبحث جذور الإجرام في تكوين الشخص، ولكن لا ينبغي إغفال الأصول الاجتماعية والثقافية للجرائم. وكما ناقشنا في الفصل الثاني، لكل جريمة تفاعل اجتماعي ما، سواءٌ كان ضمنيًّا أم جليًّا. وتتشكل هذه التفاعلات بفعل سياق الاحتكاك بين الأفراد الذي ينمو المجرم فيه ويترعرع. ولا يمكن أبدًا تفسير أية جريمة على نحو كامل عن طريق السمات المميزة للفرد المجرم وحدها.

آفاق متسعة

ما إن أدركت أجهزة إنفاذ القانون قوة علم النفس، حتى بدأت في الاعتماد على إسهاماته الفكرية في جوانب كثيرة من نشاطها. وتنوعت الدراسات في هذا المجال، بداية من محاولات تحري الأسباب التي تجعل الناس يتخطون حد السرعة المسموح به في سياراتهم، وصولًا إلى الأسباب التي تؤدي إلى فساد الشرطة. وفي الوقت الحالي، يتوقع مَن يشتركون في مفاوضات تحرير الرهائن، أو الذين يتحدثون إلى من يهددون بقتل أنفسهم؛ أن يحصلوا على مقدمة عامة عن المسائل الرئيسة على الأقل في علم النفس الشرعي وسيكولوجية الإقناع. ويمكن تقديم مساعدة نفسية إلى ضباط الشرطة الذين يؤدون مهام وهم متخفون عندما يحتاجون إلى العودة للمجتمع الممتثل للقانون.

ثمة تغيير على قدر خاص من الأهمية أيضًا في التوجهات نحو الصدمة، وإدارة الصدمات التي قد يعاني منها ضباط الشرطة باعتبارها جزءًا من عملهم. وفي الماضي، كان هناك مشرب في مقار الشرطة الرئيسية، وكان يُنتظر من ضباط الشرطة المصابين بصدمات أن يكونوا «رجالًا»، وألا يتحدثوا عما يعانون منه ويتخلصون منه عن طريق معاقرة الخمر. ولا عجب إذن أن زيجات كثيرة فشلت، وأن هؤلاء الرجال أصبحوا أشخاصًا محطمين بحلول وقت تقاعدهم. واليوم، كثير من أجهزة إنفاذ القانون يُتوقع أن يكون لديها خدمة استشارات سرية متوافرة مجانًا لجميع من يوظفونهم. وهذا يؤكد ما ورد في أغنية جيلبرت وسوليفان من أن نصيب رجل الشرطة ليس سعيدًا غالبًا.

تنطوي أغلب التحقيقات على ضغوط هائلة، وجزء كبير من نشاط الشرطة ذاته يتحول إلى الاستشارة أو غيرها من أشكال الدعم أو التدخل النفسي. وحوادث الرهائن أو التظاهرات هي مثال دقيق على المواقف، التي يمكن فيها لضابط شرطة لا يدرك المسائل النفسية المتضمنة، أن يجعل موقفًا صعبًا أسوأ مما هو عليه. والسيطرة على الجموع أو التعامل مع حوادث الطرق مواقف أخرى يحتمل أن تسبب ضغوطًا. ويمكن أيضًا أن تأتي الضغوط الواقعة على الشرطة من الاحتكاك بالمجرمين، لا سيما في سياق العمليات السرية. لذلك يمكن أن يساعد فهم هذه الضغوط في الحيلولة دون فساد الشرطة.

تعتمد أغلب هذه المساهمات على علم النفس التنظيمي والاجتماعي. وتشترك في الكثير مع المسائل التي تواجهها أغلب المؤسسات، ولكن لا سيما تلك المؤسسات التي عليها التعامل مع محن الآخرين ومعاناتهم. وبِناءً على ذلك فإن عملية انتقاء الأشخاص القادرين على تحمل ضغوط المهنة والسبل الفعالة لإدارة الأشخاص الواقعين تحت ظروف مجهدة تزداد تأثرًا بما تعلمه علماء النفس في أطر أخرى كثيرة. ومما يدعو للحزن أنه رغم ذلك، لا يزال من النادر أن يملك ضباط الشرطة أو العاملون بأجهزة إنفاذ القانون الأخرى الكثيرة؛ المبادئَ الأساسية لعلم النفس؛ ليكونوا قادرين على الاستخدام الفعال لكل ما يستطيع ذلك الفرع من العلم تقديمه لهم.

خاتمة

يساهم علماء النفس في جميع مراحل عملية التحقيق، بما في ذلك المراحل المهمة قبل التحقيق، والمساعدة في انتقاء ضباط الشرطة. فهم يساعدون في إعداد نظم فعالة لتجميع كافة المعلومات المطلوبة أثناء التحقيق وإدراك فحواها. وهذا يتضمن دراسة تفصيلية لعمليات استجواب الشهود والمجني عليهم والمشتبه بهم الحاسمة.

عادة ما يُنظر إلى مفاتيح حل اللغز باعتبارها مجموعة من الخيوط المجدولة التي إن تتبعتها بدقة فستؤدي في النهاية إلى الجاني. ويمكن أن تختلف هذه المفاتيح على غرار بصمة متروكة في مسرح الجريمة أو طريقة معينة لاقتحام منزل أو حتى شيء لم يحدث، كما في قضايا الأدب الروائي حيث لا تنبح الكلاب؛ مما يدل على أنها ربما تعرف المتطفل. ولكن ما أسر خيال الجموع في ربع القرن الأخير كان إمكانية أن شيئًا معنويًّا إلى حدٍّ ما — مثل أسلوب ارتكاب جريمة من الجرائم — يمكن أن يمثل مفتاحًا لحل اللغز. وهذه المفاتيح لن تقود إلى كشف النقاب عن هوية الجاني فحسب، وإنما يمكن أن تكشف عن شيء من شخصيته. وأصبح هذا معروفًا باسم «تحديد أوصاف الجناة».

على أرض الواقع، المساهمات التي يقدمها علم النفس للوصول إلى استدلالات عن جانٍ من الجناة — من تفاصيل الجريمة — أقل درامية بكثير مما تُظهر قصص الأدب الروائي. ومع ذلك، كانت هذه المساهمات النفسية ذات فائدة عظيمة إلى حدٍّ مهَّد السبيل لمجال علم نفس التحقيقات الجديد. يتناول هذا العلم سبل تحسين جودة الشهادة، بما في ذلك مداخل للكشف عن الغش وأساليب إدارة بيانات الشرطة وربط الجرائم بجانٍ مشترك، إضافة إلى مجموعة كبيرة من المعلومات لإدارة تحقيقات الشرطة. وتحديد أوصاف الجناة جزء من هذا كله، لكنه مع مرور الوقت يأخذ دورًا أقل بروزًا عن ذي قبل.

هوامش

(1) © Rex Features.
(2) © James Shaffer/PhotoEdit.
(3) © Anna Clopet/Corbis.
(4) © Cartographer/Fotolia.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤