مقدمة: أخلاقيات الرأسمالية

بقلم توم جي بالمر

يدور هذا الكتاب عن التبرير الأخلاقي لما أسماه الفيلسوف روبرت نوزيك «أفعال رأسمالية بين بالغين متراضين».1 إنه يتناول نظام الإنتاج التعاوني والتبادل الحر الذي تميزه هيمنة مثل هذه الأفعال.

وربما كان من الملائم أن نتحدث قليلًا أولًا عن العنوان؛ «أخلاقيات الرأسمالية». تدور مقالات هذا الكتاب عن «أخلاقيات» الرأسمالية، وهي ليست مقتصرة على الفلسفة الأخلاقية المجردة، بل تعتمد أيضًا على علم الاقتصاد والمنطق والتاريخ والأدب وغيرها من مجالات المعرفة. علاوة على ذلك، تتناول المقالات أخلاقيات «الرأسمالية»، وليس فقط أخلاقيات التبادل الحر. فمصطلح «الرأسمالية» لا يشير فقط إلى أسواق تبادل السلع والخدمات، الموجودة منذ قديم الزمان، لكنه يشير أيضًا إلى نظامٍ، من الابتكار وتكوين الثروة والتغير الاجتماعي، جلب لمليارات البشر رخاءً لم يخطر ببال الأجيال السابقة.

تشير الرأسمالية إلى نظام قانوني واجتماعي واقتصادي وثقافي يتبنى المساواة في الحقوق و«إتاحة فرص العمل أمام المواهب» ويستحث الابتكار اللامركزي وعمليات المحاولة والخطأ — ما أسماه الاقتصادي جوزيف شومبيتر «التدمير الإبداعي» — من خلال العمليات الطوعية للتبادل السوقي. تحتفي الثقافة الرأسمالية برائد الأعمال والعالِم والمُخاطر والمبتكر والمبدع. ومع أن بعض الفلاسفة (أبرزهم الماركسيون) يسخرون من الرأسمالية بوصفها مذهبًا ماديًّا، مع أنهم أنفسهم من الموالين للمذهب المادي، فإن الرأسمالية في جوهرها مشروع روحي وثقافي أيضًا. وكما ذكرت المؤرخة جويس أبلباي في دراسة حديثة لها بعنوان «الثورة القاسية: تاريخ الرأسمالية»: «لما كانت الرأسمالية نظامًا ثقافيًّا، وليست نظامًا اقتصاديًّا وحسب، يستحيل تفسيرها من خلال العوامل المادية وحدها.»2
الرأسمالية نظام من القيم الثقافية والروحية والأخلاقية. وكما ذكر عالما الاقتصاد ديفيد شواب وإلينور أوستروم في دراستهما المؤثرة، القائمة على استخدام أسلوب نظرية الألعاب، عن دور الأعراف والقواعد في الحفاظ على الاقتصاديات المفتوحة، فإن الأسواق الحرة ترتكن بقوة على الأعراف التي تمنعنا من السرقة والتي «تعزز الثقة».3 فالرأسمالية ليست بحلبة تتصارع فيها المصالح دون أدنى اعتبار للأخلاق، كما يصورها من يسعون لتقويضها أو تدميرها، بل إن التفاعل الرأسمالي منظم تنظيمًا كبيرًا بمجموعة من الأعراف والقواعد الأخلاقية. وفي الواقع، تقوم الرأسمالية على رفض سلوكيات السلب والنهب، وهي الطريقة التي تكونت بها ثروات الأثرياء في النظم السياسية والاقتصادية الأخرى. (في الواقع، في كثير من الدول اليوم، وعلى امتداد السواد الأعظم من تاريخ البشر، كان من المفهوم على نطاق واسع أن سبب ثراء الأثرياء هو أنهم أخذوا من غيرهم، وتحديدًا بفضل اقترابهم من القوة المنظمة، أو بمصطلحات اليوم، الدولة. مثل هذه الصفوة الناهبة تستخدم هذه القوة لكسب حقوق الاحتكار ومصادرة منتجات وسلع الآخرين من خلال الضرائب. إنهم يقتاتون على خزينة الدولة ويستفيدون من الاحتكارات والقيود التي تفرضها الدولة على المنافسة. وفقط في ظل الرأسمالية يستطيع الشخص العادي تحقيق الثراء دون أن يكون مجرمًا.)
فكر فيما تسميه عالمة الاقتصاد والمؤرخة ديردري ماكلوسكي ﺑ «الحقيقة العظمى» التي تقول: «الدخل الحقيقي لكل فرد اليوم يفوق دخل الفرد نحو عام ١٧٠٠ أو ١٨٠٠، في بريطانيا وغيرها من الدول التي شهدت نموًّا اقتصاديًّا حديثًا، بما يصل إلى ستة عشر ضعفًا، على الأقل.»4 هذا أمر غير مسبوق في تاريخ البشر بأسره. وفي الحقيقة فإن تقديرات ماكلوسكي متحفظة تمامًا. إنها لا تضع في الاعتبار التطورات المذهلة في العلم والتكنولوجيا التي وضعت ثقافات العالم عند أطراف أصابعنا.

تسخّر الرأسمالية قدرة الإبداع الإنسانية في خدمة البشرية، وذلك باحترامها للابتكارات المغامرة والتشجيع عليها، وهذا هو العامل المراوغ الذي يفسر الفارق بين الطريقة التي نعيش بها الآن والطريقة التي عاشت بها أجيال وراء أجيال من البشر قبل القرن التاسع عشر. فالابتكارات التي غيرت الحياة البشرية إلى الأفضل لم تكن ابتكارات علمية وتكنولوجية وحسب، بل كانت مؤسسية أيضًا. تنسق منشآت تجارية جديدة من كل نوع جهود العمل الخاصة بأعداد مهولة من الموظفين طوعًا، وتربط أسواق وأدوات مالية جديدة المدخرات وقرارات الاستثمار الخاصة بمليارات البشر على مدار أربع وعشرين ساعة يوميًّا، وتقرب شبكات الاتصال عن بُعد بين الناس من كل أرجاء الدنيا. (اليوم أجريت محادثة مع أصدقاء من فنلندا والصين والمغرب والولايات المتحدة وروسيا، كما وردتني تعليقات واتصالات على صفحتي على فيس بوك من أصدقاء ومعارف في الولايات المتحدة وكندا وباكستان والدنمارك وفرنسا وقرغستان.) وتوفر المنتجات الجديدة سبلًا للراحة والبهجة والتعليم لم تتخيلها الأجيال السابقة. (أكتب هذه الكلمات الآن على حاسب آبل ماكبوك برو.) هذه التغيرات جعلت مجتمعاتنا مختلفة اختلافًا شديدًا، وبصور لا حصر لها، عن المجتمعات البشرية التي سبقتنا.

ليست الرأسمالية معنية فقط ببناء الأشياء، مثلما كان الطواغيت يحضون عبيدهم على «بناء المستقبل»! فالرأسمالية معنية بخلق القيمة، وليس فقط العمل بكد أو تقديم التضحيات أو الانشغال بالعمل. إن من يفشلون في فهم الرأسمالية سريعًا ما يدعمون برامج «خلق الوظائف» لتوفير العمل. لقد أساءوا فهم المغزى من العمل، ناهيك عن مغزى الرأسمالية. في موقف كثيرًا ما اسْتُشْهِد به، شهد الاقتصادي ميلتون فريدمان حفر قناة ضخمة بإحدى الدول الآسيوية. وعندما عبر عن تعجبه من أن ينقل العمال كميات كبيرة من الأتربة والصخور بمجارف صغيرة، وليس بمعدات لنقل الأتربة، قيل له: «أنت لا تفهم؛ هذا برنامج لتوفير الوظائف.» فكان رده: «حسن، لقد اعتقدت أنكم تحاولون حفر قناة. فإذا كان هدفكم هو توفير الوظائف، فلمَ لم توزعوا على العمال ملاعق، بدلًا من المجارف؟»

حين كان إتش روس بيرو، المؤمن بمذهب التجاريين (المركنتيلية) والمحاباة، يخوض سباق الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام ١٩٩٢، تحسر أثناء المناظرات الرئاسية على أن الأمريكيين يشترون رقائق الكمبيوتر من تايوان، بينما يبيعون لها رقائق البطاطس. بدا وكأن بيرو خجلان من أن الأمريكيين يبيعون رقائق البطاطس وحسب؛ فقد كان مقتنعًا بنظرة لينين القائلة إن القيمة تضاف فقط من خلال الإنتاج الصناعي في المصانع. لكن الاقتصادي مايكل بوسكين من جامعة ستانفورد ذكر، محقًّا، أنك لو كنت تتحدث عن رقائق كمبيوتر قيمتها دولار، أو رقائق بطاطس قيمتها دولار، فأنت في كل الأحوال تتحدث الدولار عينه. فإضافة القيمة من خلال زراعة البطاطس في إيداهو لا تختلف عن إضافة القيمة من خلال تصنيع رقائق السليكون في تايبيه. إن تحقيق مزية نسبية5 هو أحد أسس التخصص والتجارة، ولا يوجد ما يخزي في إنتاج القيمة، سواء كمزارع، أو كناقل أثاث (استعنت بثلاثة من ناقلي الأثاث اليوم لنقل الجزء الأعظم من مكتبتي، ولدي شعور قوي بالقيمة التي أضافوها لحياتي)، أو كخبير مالي، أو غير ذلك. فالسوق — وليس السياسيون المتعجرفون المؤمنون بمذهب التجاريين — هو ما يبين لنا أننا نضيف القيمة، ودون الأسواق الحرة سنعجز عن معرفة ذلك.
ليست الرأسمالية مجرد عملية يتبادل فيها الناس البيض بالزبد في السوق المحلي، وهو ما دام عليه الحال لآلاف السنين، بل هي معنية بإضافة القيمة من خلال حشد الطاقة والبراعة البشريتين على مستوى غير مسبوق عبر تاريخ البشر، وذلك من أجل خلق ثروة لعامة الشعب من شأنها أن تبهر وتذهل أغنى ملوك وسلاطين وأباطرة الماضي وأوسعهم سلطانًا. إنها معنية بالخلاص من نظم السلطة والسيطرة والامتيازات الضاربة بجذورها عبر الزمن، وإتاحة «فرص العمل أمام المواهب». إنها معنية بالاستعاضة عن القوة بالإقناع،6 والاستعاضة عن الحسد بالإنجاز.7 إنها معنية بما يجعل حياتي وحياتك ممكنة.

(الشيء الوحيد الذي امتلكه الملوك والسلاطين والأباطرة — ولا يملكه عامة البشر اليوم — هو السلطة على غيرهم من البشر، والقدرة على إصدار الأوامر لهم. كان لديهم قصور فسيحة بناها العبيد أو مولتها الضرائب، لكنهم لم يملكوا نظمًا للتدفئة أو التبريد داخلها. كان لديهم عبيد وخدم، لكنهم لم يملكوا غسالات الملابس أو الأطباق الكهربائية. كان لديهم حاشية ملكية كبيرة العدد، لكنهم لم يملكوا هواتف محمولة أو شبكات بث لاسلكي فائقة السرعة (واي فاي). كان لديهم أطباء وسحرة للبلاط، لكنهم لم يملكوا مسكنات تخفف آلامهم أو مضادات حيوية تشفي أمراضهم؛ كانوا ذوي سلطان، لكنهم كانوا فقراء بائسين بمعاييرنا.)

تاريخ كلمة

تعد الأسواق الحرة — التي تعني نظمًا للتبادل الحر للموارد الضئيلة بين الأشخاص ذوي الحقوق المحددة تحديدًا دقيقًا والمضمونة قانونًا والقابلة للتنازل — شرطًا أساسيًّا لتحقق ثروة العالم الحديث. لكن كما بين لنا المؤرخون الاقتصاديون، وأبرزهم ديردري ماكلوسكي، على نحو مقنع، فإن هذه الشروط ليست كافية. فثمة حاجة لشيء آخر؛ أخلاقيات للتبادل الحر وإنتاج الثروة من خلال الابتكار.

ومن الملائم هنا التحدث قليلًا عن استخدام مصطلح «الرأسمالية». تتبع المؤرخ الاجتماعي فرناند براودل مصطلح «رأس المال» حتى الفترة الممتدة بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حين كان يشير إلى «الودائع، أو مخزون السلع، أو المبالغ المالية، أو المال الذي يحمل فائدة».8 وعلق براودل على الاستخدامات العديدة التي أوردها لمصطلح «رأسمالي» باقتضاب قائلًا: «إن الكلمة … لا تُستخدم بمعنى ودود على الإطلاق.»9 ظهرت كلمة «رأسمالية» مصطلحًا، معبرًا عن الاستغلال بصورة عامة، في القرن التاسع عشر، كما حدث حين عرف عالم الاجتماع الفرنسي لوي بلان المصطلح على أنه «استيلاء البعض على رأس المال وحرمان غيرهم منه».10 استخدم كارل ماركس مصطلح «طريقة الإنتاج الرأسمالية»، لكن تابعه المتحمس فيرنر سومبارت هو مَن أشاع مصطلح «الرأسمالية» من خلال كتابه المؤثر الصادر عام ١٩١٢ بعنوان «الرأسمالية الحديثة»، (اعتبر فريدريك إنجلز، رفيق ماركس، أن سومبارت هو المفكر الوحيد في ألمانيا الذي فهم ماركس حقًّا، ولاحقًا صار سومبارت مؤيدًا لشكل آخر من أشكال الفكر المعادي للرأسمالية؛ الاشتراكية القومية؛ أي: النازية.)
وفي خضم هجومهما على «الرأسماليين» و«طريقة الإنتاج الرأسمالية»، أشار ماركس وإنجلز إلى أن «الطبقة البرجوازية» (وهو المصطلح الذي أطلقاه على «الطبقة» التي ملكت «وسائل الإنتاج») غيرت وجه العالم تغييرًا جذريًّا:
أوجدت البرجوازية، إبان فترة حكمها الهزيلة التي لم تتجاوز المائة عام، من قوى الإنتاج الضخمة والجبارة أكثر مما أنتجته الأجيال السابقة مجتمعة؛ كإخضاع قوى الطبيعة للإنسان، والآلات، واستخدام الكيمياء في الصناعة والزراعة، والمحركات البخارية، والسكك الحديدية، والتلغراف الكهربائي، وإزالة غابات قارات بأكملها لغرض الزراعة، وشق الأنهار، وظهور مجمعات سكانية كاملة من الأرض؛ هل راود الناس في القرن الماضي ولو شعور بعيد بأن مثل هذه القوى المنتجة تقبع في كنف الطبقة العاملة؟11
أظهر ماركس وإنجلز إعجابهما ليس فقط بالابتكار التكنولوجي، بل ﺑ «ظهور مجتمعات سكانية كاملة من الأرض»، وهي طريقة لافتة لوصف انخفاض معدلات الوفيات وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة المعدلات العمرية. لكن رغم هذه الإنجازات، دعا ماركس وإنجلز، بطبيعة الحال، إلى تدمير «طريقة الإنتاج الرأسمالية»، أو، على نحو أدق، ظنَّا أنها ستدمر نفسها وتبشر بنظام جديد في غاية الروعة حتى إنه لن يكون من الضروري — بل حتى من غير العلمي في واقع الأمر — تقديم أبسط التلميحات بشأن الكيفية التي سيعمل بها.12
الأهم من ذلك هو أن ماركس وإنجلز بنيا نقديهما للرأسمالية — وهو النقد الذي لا يزال يحظى بتأثير استثنائي بين مفكري العالم، رغم فشل الأنظمة الشيوعية كافة في الوفاء بما تعد به — على قدر كبير من الارتباك بشأن ما قصداه بمصطلح «البرجوازية»، التي ربطاها ﺑ «طريقة الإنتاج الرأسمالية». فمن ناحية، استخدما المصطلح ليعنيا ملاك «رأس المال» الذين ينظمون المشروعات الإنتاجية، لكن من ناحية أخرى استخدماه للإشارة إلى من يعيشون على موارد الدولة وسلطتها، وهو ما أورده ماركس في واحد من أشهر مقالاته عن السياسة:
إن المصلحة المادية للطبقة البرجوازية الفرنسية متشابكة [يقصد «متداخلة»] عن كثب مع المحافظة على تلك الطبقة الحاكمة الواسعة والمتشعبة. فهذه الطبقة هي التي تزود الفائض من أفرادها بالوظائف، وترتضي بالرواتب الحكومية بديلًا لما تعجز عن اختلاسه على صورة أرباح وفوائد وإيجارات وأتعاب. وقد أكرهتها مصلحتها السياسية على زيادة القمع يوميًّا، وبالتالي زيادة موارد السلطة الحكومية وموظفيها.13
وهكذا رأى ماركس، من ناحية، أن «الطبقة البرجوازية» مساوية تمامًا لطبقة رواد الأعمال التي أوجدت «شخصية عالمية للإنتاج والاستهلاك في كل دولة»، وجعلت «الانحياز وضيق الأفق القوميين» «أكثر استحالة»، وأوجدت «أدبًا عالميًّا»، وأحدثت «التحسن السريع في كل أدوات الإنتاج» و«سهلت وسائل الاتصال على نحو كبير» وتغلبت على «كراهية الهمج العنيدين للأجانب» بواسطة «الأسعار الرخيصة للسلع» التي قدمتها.14 لكن على الجانب الآخر، استخدم مصطلح «الطبقة البرجوازية» للإشارة لمن يستغلون «المال العام» (بمعنى: الدين الحكومي):
إن سوق المال الحديث بأسرها، وكل الأعمال المصرفية، متشابكة على نحو وثيق بالمال العام. إن جزءًا من رأس مال أعمال السوق يُوظَّف بالضرورة بفائدة في صناديق حكومية قصيرة الأجل، وودائع هذه السوق — رأس المال الموضوع تحت تصرفها بواسطة التجار ورجال الصناعة ويوزع من قبلها بين الأشخاص عينهم — تتدفق على نحو جزئي من أرباح حملة السندات الحكومية.15
اعتبر ماركس أن «الطبقة البرجوازية» متورطة بشدة في صراع السيطرة على نظام الدولة، وتستفيد منه كذلك:
كل التغيرات السياسية أتقنت صنع هذا النظام بدلًا من أن تحطمه. والأحزاب التي جاهدت تباعًا من أجل السلطة والسيادة اعتبرت أن امتلاك هذا البنيان الحكومي المهول هو الغنيمة الأساسية لانتصارها.16
وبحسب كلمات المؤرخ شيرلي جرونر: «شعر ماركس بأنه تفهم الواقع حين عثر على «الطبقة البرجوازية» لكنه في الحقيقة وضع يده على مصطلح مراوغ بدرجة كبيرة.»17 ففي بعض النصوص استخدم ماركس هذا المصطلح للإشارة إلى رواد الأعمال المبتكرين الذين ينظمون المشروعات الإنتاجية ويستثمرون في صناعة الثروة، واستخدمه في نصوص أخرى ليشير إلى من يتجمعون حول الدولة ويعيشون على الضرائب ومن يضغطون بهدف منع المنافسة والحد من حرية التجارة؛ أي باختصار من يستثمرون، ليس في صناعة الثروة، بل في تأمين السلطة لأنفسهم بغرض إعادة توزيع ثروات الآخرين على أنفسهم أو تدميرها، وإبقاء الأسواق مغلقة، والفقراء على حالهم، والمجتمع طوع بنانهم.

بفضل تأثير ماركس وتابعه المخلص سومبارت، شاع استخدام مصطلح «الرأسمالية». وهنا يجدر بنا أن نتذكر أن المصطلح شاع على أيدي أناس لم يخلطوا وحسب بين ريادة الأعمال الإنتاجية والتبادل السوقي وبين العيش على الضرائب المأخوذة من الغير، بل دعوا كذلك إلى إلغاء المِلْكية والأسواق والمال والأسعار وتقسيم العمل وبنيان الليبرالية بالكامل؛ حقوق الفرد والحرية الدينية وحرية التعبير والمساواة أمام القانون والحكومة الديمقراطية التي يحكمها الدستور.

ومن غير المستغرب أن مصطلح «الرأسمالية»، شأن غيره من المصطلحات المقصود من ورائها معنى سلبي، تبناه بعض المفكرين المدافعين عن الأسواق الحرة، التي استُخدم المصطلح ضدها. ونتيجة لتاريخ مصطلح «الرأسمالية»، صار من تبنوه عنوانًا لما ينادون به، أو حتى كمصطلح محايد في المناقشات العلمية الاجتماعية، في موقف ضعف لأن (١) المصطلح استُخدم على نحو مبهم (للإشارة إلى ريادة المشاريع في السوق الحرة والعيش على الضرائب والاستفادة من سلطة الحكومة ومحاباتها)، و(٢) لأنه استُخدم دومًا على نحو سلبي واضح.

يقترح البعض التخلي عن المصطلح كليًّا؛ لأنه محمل بالمعاني والدلالات الأيديولوجية المتضاربة.18 لهذه الفكرة وجاهتها، لكن تظل أمامنا مشكلة. فمجرد السماح للناس بالمتاجرة بحرية وبأن توجههم الأرباح والخسائر، مع أنه أمر ضروري للتقدم الاقتصادي، ليس كافيًا لتشكيل العالم الحديث. فالأسواق الحديثة نشأت من عاصفة من المبتكرات المؤسسية والتكنولوجية والثقافية والفنية والاجتماعية التي تتجاوز النموذج البسيط المتمثل في تبادل الزبد بالبيض بين البشر، وهي تغذي هذه العاصفة بدورها. فرأسمالية السوق الحرة الحديثة تبتكر وتجدد، ليس على نحو هادئ يمتد عبر آلاف السنين، بل على نحو أسرع وأسرع، وهو تحديدًا ما وجده الاشتراكيون (وأبرزهم ماركس) وحلفاؤهم، من المحافظين المعادين للسوق، أمرًا مرعبًا في العالم الحديث. وقد انتقد جوزيف شومبيتر، في كتابه «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية»، مَن يرون أن «المشكلة التي تراود الخيال عادة هي كيف تدير الرأسمالية البُنى الحالية، في حين أن المشكلة الحقيقية هي كيف تخلق الرأسمالية البُنى وتدمرها».19

ليست الأسواق الحرة الحديثة مجرد أماكن للتبادل، كالأسواق القديمة. فهي تتميز بوجود موجات من «التدمير الإبداعي»؛ فما كان جديدًا منذ عشر سنوات يعد قديمًا الآن، وحلت محله نسخ محسنة، بواسطة معدات وترتيبات مؤسسية وتقنيات وطرق تواصل جديدة لم يتخيلها أحد من قبل. هذا هو ما يميز الأسواق الحرة الحديثة عن مثيلاتها في الماضي. وأفضل مصطلح متاح لتمييز علاقات السوق الحرة التي شكلت العالم الحديث عن تلك التي سبقتها هو، في رأيي: «الرأسمالية».

غير أن الرأسمالية ليست شكلًا من أشكال الفوضى، بل هي شكل من النظام التلقائي، الذي ينشأ نتيجة عملية مستمرة. (يشير بعض الكتَّاب لمثل هذه النظم باسم «النظم الناشئة».) والثبات المتوقع لسيادة القانون وتأمين الحقوق يجعل مثل هذا الابتكار أمرًا ممكنًا. وكما أشار ديفيد بواز في مجلة «المستقبلي»:
واجه البشر دائمًا صعوبة في رؤية النظام في أي سوق يبدو فوضويًّا. وحتى بينما يحرك نظام الأسعار الموارد على نحو ثابت صوب أفضل استخدام لها، يبدو السوق ظاهريًّا وكأنه على النقيض تمامًا من النظام؛ فالشركات تفشل، والوظائف تُفقَد، والأشخاص يحققون الثروة بمعدلات غير متساوية، ويُكتشف ضياع الاستثمارات. وسيبدو عصر الابتكار سريع الخطى أكثر فوضوية مع نشأة شركات عملاقة وتداعيها على نحو أسرع مما سبق، واحتفاظ عدد أقل من الأشخاص بوظائف طويلة الأمد. لكن الكفاءة المتزايدة في النقل والاتصالات وأسواق رأس المال ستعني في الواقع وجود قدر من التنظيم أكبر مما استطاع السوق تحقيقه في العصر الصناعي. المغزى هو تجنب استخدام الإجراءات الحكومية القسرية ﻟ «تشذيب الزوائد» أو «توجيه» السوق نحو النتائج التي يرغبها شخص معين.20

رأسمالية السوق الحرة مقابل رأسمالية المحاباة

لتجنب الخلط الناجم عن الاستخدام المبهم لمصطلح «الرأسمالية» من جانب المفكرين الاشتراكيين، ينبغي التفريق بين «رأسمالية السوق الحرة» و«رأسمالية المحاباة»؛ ذلك النظام الذي جعل أممًا عديدة تغوص في مستنقعات الفساد والتخلف. ففي دول عديدة، إذا كان الشخص غنيًّا، فمن المرجح أنه (أو أنها في أحوال نادرة) يملك سلطة سياسية أو له قريب أو صديق أو مؤيد — أي شخص يحابيه — ممن يملكون السلطة، وأن ثروة هذا الشخص لم تتحقق لأنه أنتج سلعًا ذات قيمة، بل من التمتع بامتيازات تمنحها الدولة للبعض على حساب البعض الآخر. المحزن في الأمر أن مصطلح «رأسمالية المحاباة» أصبح قابلًا للتطبيق بدقة متزايدة على اقتصاد الولايات المتحدة؛ الدولة التي «تُنقَذ» فيها الشركات المتعثرة على نحو روتيني بأموال مأخوذة من دافعي الضرائب، والتي لا تختلف عاصمتها كثيرًا عن خلية نحل عملاقة من أعضاء جماعات الضغط والبيروقراطيين والسياسيين والمستشارين والمستغلين الباحثين عن الريع غير المستحق، والتي يتولى فيها الموظفون المعينون بكل من وزارة الخزانة والبنك المركزي (بنك الاحتياطي الفيدرالي) مهمة مكافأة بعض الشركات ومعاقبة البعض الآخر. لا ينبغي الخلط بين ممارسات المحاباة الفاسدة هذه و«رأسمالية السوق الحرة»؛ التي تشير إلى نظام من الإنتاج والتبادل مبني على سيادة القانون، وتساوي الجميع في الحقوق وعلى حرية الاختيار وحرية التجارة وحرية الابتكار، وعلى نظام الربح والخسارة الإرشادي، وعلى حق المرء في التمتع بثمار عمله ومدخراته واستثماراته دون الخوف من المصادرة أو الحظر من جانب من استثمروا في السلطة السياسية، لا في إنتاج الثروة.

كثيرًا ما تستاء النخب المحافظة من موجات التغيير التي تحدثها رأسمالية السوق الحرة. فمن منظورهم للعالم صارت الأقليات أكثر استعلاءً ولم تعد الطبقات الدنيا تعرف مكانها. والأفظع من هذا، من منظورهم، أنه في ظل رأسمالية السوق الحرة، صارت النساء يدافعن عن حقوقهن. قوّضت المكانة، وصار الناس يقيمون العلاقات على أساس الاختيار والقبول، وليس المولد أو المكانة.21 إن كراهية المحافظين لرأسمالية السوق الحرة، التي لخصها ماركس بأناقة بالغة ودمجها في كتاباته، تعكس الغضب حيال مثل هذا التغير، وعادة ما يكون سبب الغضب هو فقدان الامتيازات. اعتمد ليو ميلاميد (الرئيس الفخري لمجموعة سي إم إي [شيكاجو للتبادل التجاري سابقًا] الذي تجسد قصة حياته المتمثلة في الهرب من الجستابو والمخابرات الروسية، كي جي بي، ثم إحداث ثورة في عالم التمويل معاني الشجاعة والرؤية)، على خبرته حين قال: «في أسواق المال بشيكاجو، لا يهم من أنت — نسبك وأصل عائلتك وعللك البدنية ونوعك — بل المهم هو قدرتك على تحديد ما يريده العملاء، وإلى أين تتجه السوق. ولا شيء يهم تقريبًا خلاف ذلك.»22 إن اعتناق رأسمالية السوق الحرة يعني اعتناق حرية التغيير، والابتكار، والاختراع؛ يعني التكيف مع التغيير واحترام حرية الآخرين في فعل ما يشاءون بما يملكون؛ يعني إفساح المجال للتقنيات الحديثة، والنظريات العلمية الجديدة، وأشكال الفن الجديدة، والهويات الجديدة، والعلاقات الجديدة؛ يعني اعتناق حرية تكوين الثروة، السبيل الوحيد للخلاص من الفقر. (للثروة أسباب، لكن ليس للفقر أسباب؛ فالفقر يوجد إذا لم تحدث عملية إنتاج الثروة، بينما لا توجد الثروة إذا لم تحدث عملية إنتاج الفقر.)23 إنه يعني الاحتفاء بتحرر البشر وتحقيق الإمكانات البشرية.

الكُتّاب المعروضة مقالاتهم بين دفتي هذا الكتاب يأتون من مجموعة متنوعة من البلدان والثقافات، ومن مهن ومدارس فكرية متنوعة. كل منهم يبدي رؤيته للكيفية التي تضرب بها الأخلاقيات في جذور تبادلات السوق الحرة، والكيفية التي تعزز بها هذه التبادلات السلوك الأخلاقي. تضم هذه المجموعة المختارة مزيجًا من المقالات، بعضها قصير إلى حد ما، وبعضها أطول؛ بعضها يسير الفهم، والبعض الآخر أكثر تخصصًا. يضم الكتاب مقالين تُرجما للمرة الأولى من الصينية والروسية إلى الإنجليزية خاصة لهذه المجموعة. كما يضم إسهامات اثنين من الحاصلين على جائزة نوبل، أحدهما روائي والثاني عالم اقتصاد، إضافة إلى مقابلة أُجريت مع رائد أعمال ناجح يعد نصيرًا صريحًا لما يطلق عليه «الرأسمالية الواعية». لا تضم المقالات جميع الحجج المؤيدة لرأسمالية السوق الحرة، بيد أنها تمدنا بمقدمة لكتابات غنية للغاية عن هذا الموضوع. (أُدرجت عينة صغيرة من هذه الكتابات في مسرد الكتب المختصر الوارد في نهاية الكتاب.)

لماذا لا يضم الكتاب سوى دفاع شرس عن رأسمالية السوق الحرة؟ لأن هناك مئات الكتب — بل آلاف في الواقع — عن السوق تدعي أنها تقدم مناقشات «متوازنة»، لكنها في الحقيقة لا تحمل سوى الإدانة لعملية تكوين الثروة، وريادة الأعمال، والابتكار، ونظام الربح والخسارة، ورأسمالية السوق الحرة بصفة عامة. عبر حياتي المهنية قرأت مئات الكتب التي تهاجم رأسمالية السوق الحرة، وقد تدبرت الحجج وكافحت لإثبات خطئها. وعلى النقيض، من غير المعتاد أن تجد بين منتقدي رأسمالية السوق الحرة من قرأ لأكثر من مؤلف واحد تجرأ وقدم دفاعًا عنها. إن أكثر مؤلف يُستشهد بكلامه، على الأقل في عالم الفكر الأنجلوساكسوني، هو روبرت نوزيك، وحتى حينها يصير من الجلي أنه لم يُقرأ سوى فصل واحد من كتاب واحد؛ الفصل الذي عرض فيه تجربة فكرية افتراضية مثيرة للتحدي لاختبار أعداء رأسمالية السوق الحرة. يعتقد أغلب الاشتراكيين أنه يكفي قراءة مقال واحد وتفنيد تجربة فكرية واحدة.24 وبعد قراءة حجة ما وتفنيدها، إذا ظن من يستهجنون رأسمالية السوق الحرة أن مواصلة النقد أمر يستحق العناء، فعادة ما يعتمدون على عبارة مغلوطة أو رواية مبتورة لما آمن به ميلتون فريدمان أو آين راند أو إف إيه هايك أو آدم سميث، ويقدمونها دون ذكر مصدر الاستشهاد.
لنأخذ مثالًا حديثًا بارزًا على هذا الأمر؛ إذ قدم مايكل ساندل، الأستاذ بجامعة هارفارد، تفنيدًا لحجة رأسمالية السوق الحرة في كتابه الحديث «العدالة: ما الشيء الصائب فعله؟» وقد استشهد، بجانب نوزيك، بكل من فريدمان وهايك، لكنه أوضح أنه لم يقرأ لهما. وقد استشهد بتساؤل فريدمان: «هل يحق لنا استخدام القوة الجبرية لمنعه [شخص لن يدخر من أجل تقاعده] من فعل ما يختار فعله؟»25 لكنه لم يذكر أن فريدمان قدم في الفقرة التالية مباشرة أسباب استخدام مثل هذه القوة الجبرية26 وقال: «إن ثقل هذه الحجة يعتمد بشكل واضح على الحقيقة.»27 (كان فريدمان يحتكم إلى مبدأ الحرية الكلاسيكي القاضي ﺑ «افتراض الحرية»،28 ولم يعن إصدار تصريح مطلقًا عن الحقوق، كما زعم ساندل مخطئًا.) يقول ساندل أيضًا إنه «في دستور الحرية (١٩٦٠)، نادى الفيلسوف الاقتصادي النمساوي المولد فريدريك إيه هايك (١٨٩٩–١٩٩٢) بأن «أي محاولة لإحداث مساواة اقتصادية أعظم مقدر لها أن تكون جبرية ومدمرة للمجتمع الحر»، وهو الزعم الذي لم يصدر، في واقع الأمر، عن هايك؛ الذي نادى بالفعل بأن «الضرائب التصاعدية» (التي بموجبها تزيد معدلات الضرائب مع زيادة الدخل) لا تتوافق مع مبدأ سيادة القانون؛ لأن «التصاعد، على عكس التناسب، لا يوفر أي مبدأ يخبرنا بما ينبغي عليه أن يكون العبء النسبي للأشخاص المختلفين»29 لكن هذا ليس مساويًا للقول إن أي محاولة لإحداث مساواة اقتصادية أعظم (مثلًا من خلال إلغاء الإعانات الخاصة والمزايا المقدمة للأغنياء) هي جبرية قطعًا. (إن زعم ساندل الخاطئ ووصفه يوضحان أنه لم يهتم حتى بالرجوع لكتاب هايك، وهذا يجعلنا نتساءل عما إذا كان سيصف كتاب آدم سميث «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم» بأنه كتاب عن كيفية تصنيع المسامير.)

على الجادين أن يفعلوا ما هو أفضل من هذا. وأنا أشجعك عزيزي قارئ هذا المقال وهذا الكتاب على أن تفعل ما هو أفضل من هذا. اقرأ أفضل الانتقادات الموجهة لرأسمالية السوق الحرة. اقرأ لماركس، واقرأ لسومبارت، واقرأ لرولز، واقرأ لساندل. تفهم ما يقولون. كن منفتحًا للاقتناع بآرائهم. فكر فيها. لقد قرأت من الحجج المناهضة لرأسمالية السوق الحرة أكثر مما قرأه غالبية أعداء رأسمالية السوق الحرة أنفسهم، وأعتقد أنني أستطيع الدفاع عن قضيتهم أفضل منهم؛ لأنني أعرف أكثر. ما أقدمه هنا هو الوجه الآخر من النقاش، الجانب الذي نادرًا ما يقر أحد حتى بوجوده.

تقدم إذن، وجرب حظك. حاول أن تدحض الحجج المقدمة في مقالات هذا الكتاب. فكر فيها. ثم احسم أمرك بنفسك.

واشنطن العاصمة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤