آدم سميث وخرافة الجشع

بقلم توم جي بالمر

في هذا المقال، يهدم الكاتب الصورة المغلوطة التي تقضي بأن الغر الساذج آدم سميث آمن بأن الاعتماد على «المصلحة الذاتية» وحده سينتج عنه الرخاء. يبدو أن من يستشهدون بآدم سميث بهذا المعنى لم يقرءوا أكثر من بضع عبارات مأخوذة من أعماله، وهم غير واعين لتأكيده العظيم على دور المؤسسات وعلى الآثار المضرة للسلوك الهادف للمصلحة الذاتية حين يوجَّه من خلال مؤسسات الدولة الجبرية. إن سيادة القانون والملكية والاتفاقات والتبادل توجه المصلحة الذاتية نحو الفائدة المشتركة، بينما غياب القانون وعدم احترام الملكيات يعطي المصلحة الذاتية معنى مختلفًا تمامًا ويجعلها متنفسًا مؤذيًا للغاية.

***

كثيرًا ما نسمع بأن آدم سميث آمن بأنه لو كانت أفعال الناس مبنية على الأنانية وحدها، فسيسير كل شيء على ما يرام في العالم، وأن «الجشع هو ما يجعل العالم يدور». بالطبع لم يؤمن سميث بأن الاعتماد على المحفزات الأنانية فحسب سيجعل العالم مكانًا أفضل، كما لم يشجع السلوك الأناني أو يناصره. ومن شأن مناقشته الشاملة لدور «المراقب المحايد»، التي أوردها في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية»، أن تحسم أمر هذا التأويل المغلوط تمامًا. لم يكن سميث مناصرًا للأنانية، لكنه بالمثل لم يكن ساذجًا بحيث يظن أن التفاني المنكر للذات في خدمة الآخرين (أو التصريح بمثل هذا التفاني) سيجعل العالم مكانًا أفضل بالمثل. وكما ذكر ستيفن هولمز في مقاله التصحيحي بعنوان «التاريخ السري للمصلحة الذاتية»1 فإن سميث كان يعرف جيدًا التأثيرات المدمرة لكثير من المشاعر «اللامبالية»، كالحسد والحقد والانتقام والتعصب وما شابهها. فالمتعصبون المنكرون لذواتهم القائمون على محاكم التفتيش الإسبانية فعلوا ما فعلوا على أمل أن يتوب المهرطقون وهم في آخر لحظات عذابهم، وبالتالي ينعمون برحمة الله. عُرف هذا بمذهب التبرير المخلّص. وقد أصر أومبرت الروماني، في تعليماته إلى القائمين على الاستجواب بمحاكم التفتيش، على أن يبرروا للرعايا العقوبات المنزلة بالمهرطقين، لأننا «نرجو الله، ونرجوكم أن ترجوه معي، بأن يسبغ نعمته على من سيعاقَبون حتى يتحملوا في صبر العقوبات التي سننزلها بهم (سعيًا للعدل، وإن كان بأسى)، وأن يسهم ذلك في خلاصهم. ولهذا السبب نحن ننزل بهم مثل هذا العقاب».2 من وجهة نظر سميث، كان من الجلي أن مثل هذا التفاني المنكر للذات في خدمة الآخرين ليس أسمى من الناحية الأخلاقية من السلوك الأناني المزعوم للتجار الساعين لإثراء أنفسهم عن طريق بيع الجعة والسمك المملح للزبائن العطاشى والجوعى.

ليس سميث نصيرًا للسلوك الأناني؛ لأنه سواء كان مثل هذا الدافع يؤدي «كما لو بفعل يد خفية» إلى تعزيز المصلحة العامة أو لا إنما هو أمر يعتمد بالأساس على سياق الأفعال، وخصوصًا على السياق المؤسسي.

أحيانًا تدفعنا رغبتنا الأنانية في أن يحبنا الآخرون إلى تبني منظور أخلاقي، وذلك بأن تجعلنا نفكر في الكيفية التي نبدو بها في نظر الآخرين. وفي عمليات التفاعل الشخصي محدود النطاق الموصوفة في كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» قد يسهم هذا الدافع في تعزيز المصلحة العامة؛ لأن «الرغبة في أن نصير نحن أنفسنا محط مشاعر الإعجاب المحببة، وأن نكون ودودين وفاتنين مثل أكثر من نحبهم ونفتتن بهم» تتطلب منا أن «نصير مشاهدين محايدين لشخصياتنا وسلوكنا».3 وحتى الاهتمام الزائد بالمصلحة الذاتية يبدو أنه — حين يوضع في السياق المؤسسي السليم — يمكن أن يفيد الآخرين، كما هو الحال في القصة التي يحكيها سميث عن ابن الرجل الفقير الذي يجعله طموحه يعمل بدأب من أجل مراكمة الثروة، لكنه يكتشف بعد عمر طويل من العمل الجاد أنه ليس أسعد من الشحاذ البسيط الذي يجلس ليتشمس على قارعة الطريق؛ فالسعي الطَّموح الدءوب وراء المصلحة الذاتية جعل ابن الفقير يفيد بقية البشرية، وذلك بأن قاده إلى إنتاج الثروة ومراكمتها، تلك الثروة التي جعلت وجود أشخاص كُثُر آخرين ممكنًا؛ لأن «جهود البشر أجبرت الأرض على مضاعفة خصوبتها الطبيعية، وإعالة أعداد أكثر من السكان».4
وفي السياق الأعظم للاقتصاد السياسي الموصوف في فقرات عديدة بكتاب «بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم»، خاصة تلك التي تتعرض للتفاعل مع مؤسسات الدولة، ليس من المرجح أن يؤدي السعي وراء المصلحة الذاتية إلى آثار إيجابية. فالمصلحة الذاتية للتجار، على سبيل المثال، تؤدي بهم إلى الضغط على الدولة من أجل تكوين اتحادات احتكارية وفرض سياسات حماية المنتج الوطني، بل حتى شن الحرب: «في الواقع، إن توقع استعادة حرية التجارة بالكامل في بريطانيا العظمى يومًا ما هو أمر مساوٍ في السخف لتوقعنا أن تتأسس أوشينا أو يوتوبيا بها. فليس فقط تحامل العامة هو ما يعارض هذا دون كلل، بل أيضًا المصالح الخاصة للعديد من الأفراد.»5 إن المكاسب التافهة التي يحققها التجار من الاحتكار تتحقق على حساب الأعباء المروعة التي يتحملها العامة في حالة الإمبراطوريات والحروب:
في نظام القوانين الذي وضع لإدارة مستعمراتنا في أمريكا وجزر الهند الغربية، ضحينا بمصلحة المستهلك الداخلي لمصلحة المنتِج ذي الوفرة المفرطة أكثر مما حدث في أي من قواعدنا التجارية الأخرى. لقد تأسست إمبراطورية عظيمة لغرض وحيد وهو خلق أمة من المستهلكين المجبرين على أن يشتروا من محال منتِجينا المختلفين كل السلع التي يستطيع المنتجون تزويدهم بها. ولتعويض الزيادة الطفيفة في السعر التي يتكلفها منتجونا مقابل هذا الاحتكار، حُمّل المستهلكون الداخليون بجميع نفقات الحفاظ على الإمبراطورية والدفاع عنها. ولهذا الغرض، ولهذا الغرض وحده، أنفقنا في الحربين الأخيرتين أكثر من مائتي مليون، واستدنا مبالغ تتجاوز قيمتها المائة وسبعين مليونًا فوق كل ما أُنفق لتحقيق الغرض ذاته في الحروب السابقة. إن فائدة هذا الدين وحدها ليست فقط أكبر من الربح الإجمالي المذهل الذي تحقق، كما يُزعم، بفضل احتكار تجارة المستعمرات، بل هي أكبر من القيمة الإجمالية لهذه التجارة أو من القيمة الإجمالية لمتوسط السلع التي كان يجري تصديرها سنويًّا للمستعمرات.6

وعلى هذا يكون رأي سميث في مسألة كون «الجشع أمرًا طيبًا أم لا»، حسب كلمات جوردون جيكو — الشخصية الخيالية في فيلم أوليفر ستون «وول ستريت» — هو بلا شك «أحيانًا نعم، وأحيانًا لا» (على فرض أن كل سلوك للمصلحة الذاتية هو «جشع»). الفارق هو السياق المؤسسي.

ماذا عن النظرة الشائعة القائلة إن الأسواق تعزز السلوك الأناني، وإن التوجه النفسي الذي يولده التبادل يشجع على الأنانية؟ لا أملك سببًا مقنعًا يدفعني للاعتقاد بأن الأسواق تحض على الأنانية أو الجشع، بمعنى أن تفاعلات السوق تزيد من كمية الجشع داخل البشر أو ميلهم للتصرف بأنانية بأكثر مما يحدث في المجتمعات التي تحكمها دول تقيد الأسواق أو تعيقها أو تتدخل فيها أو تعطلها. في الواقع، تمكن الأسواق أكثر الأشخاص إيثارًا، مثلما تمكن أكثرهم أنانية، من السعي وراء أغراضهم في سلام. فمن يكرسون حياتهم لمساعدة الآخرين يستخدمون الأسواق لدعم أهدافهم، تمامًا كما يفعل من يكون هدفهم اكتناز الثروة. بل إن بعضًا ممن يكتنزون الثروة يفعلون هذا بغرض زيادة قدرتهم على مساعدة الآخرين. جورج سوروس وبيل جيتس مثالان على هذه النوعية من الأشخاص؛ فهما يربحان أموالًا طائلة، وجزءٌ من دافعيهما لعمل ذلك هو زيادة قدرتهما على مساعدة الآخرين من خلال أنشطتهما الخيرية الواسعة. وخلق الثروة والسعي وراء الربح يمكنهما من أن يكونا سخيين.

يرغب رجل الخير أو القديس في استخدام الثروة المتاحة له في إطعام أكبر عدد ممكن من البشر وكسوتهم وتزويدهم بسبل الراحة والرفاهية. وتمكنه الأسواق من العثور على أرخص أسعار البطاطين والطعام والدواء للاعتناء بمن يحتاجون للعون. وتسمح الأسواق بتكوين الثروة التي يمكن استخدامها في مساعدة المعوزين وتمكن الخيِّرين من تعظيم قدرتهم على مساعدة الغير. وتمكن الأسواق المحسنين من أداء أفعال الإحسان.

ثمة خطأ شائع يتمثل في حصر أهداف الناس في «مصلحتهم الذاتية» وحسب، التي يتم الخلط بعد ذلك بينها وبين «الأنانية». صحيح أن أهداف الناس من السوق تتعلق بشخصهم، لكننا بالمثل، كأشخاص ذوي أهداف، مهتمون بمصالح الآخرين وسعادتهم؛ كأفراد أسرنا وأصدقائنا وجيراننا، بل حتى الغرباء الذين قد لا نقابلهم أبدًا. في الحقيقة، تساعد الأسواق على تعويد الناس على التفكر في احتياجات الآخرين، بمن فيهم الغرباء.

قدم فيليب ويكستيد معالجة دقيقة للفوارق بين الدوافع الموجودة في تبادلات السوق. وبدلًا من استخدام كلمة «الأنانية» لوصف الدافع للانخراط في تبادلات السوق (فقد يذهب المرء للسوق لشراء طعام للفقراء مثلًا)، صك مصطلح «اللاغيرية».7 فقد نبيع منتجاتنا بهدف كسب المال كي نكون قادرين على مساعدة أصدقائنا، أو حتى الغرباء، لكن حين نساوم بغرض الوصول لأقل الأسعار أو أعلاها، فنادرًا ما نفعل هذا من منطلق الاهتمام بمصلحة الطرف الذي نجري الصفقة معه. وإذا فعلنا، فنحن نجري تبادلًا ونمنح عطية في الوقت ذاته، وهو ما يعقد طبيعة التبادل إلى حد ما. ومن يتعمدون أن يدفعوا أكثر من اللازم نادرًا ما يكونون رجال أعمال ناجحين، وكما ذكر إتش بي أكتون في كتابه «أخلاق الأسواق»،8 فإن إدارة مشروع تجاري يخسر هي طريقة حمقاء، بل غبية، لعمل الخير.
ولمن يفضلون الانخراط في السياسة عن الانخراط في الصناعة والتجارة، من الجدير أن نتذكر أن السياسة قد تتسبب في قدر كبير من الضرر، ونادرًا ما تفعل أي خير. رأى فولتير، الذي كتب عن الأمر قبل سميث، الفارق بوضوح. وفي مقاله بعنوان «عن التجارة» المأخوذ من كتابه «خطابات عن الأمة الإنجليزية» (الذي كتبه فولتير بلغة إنجليزية رشيقة بحق، ثم أعاد كتابته بنفسه بالفرنسية ونشره بعنوان «خطابات فلسفية») ذكر أنه:
في فرنسا يُمنح لقب المركيز مجانًا لأي شخص يقبله، ويستطيع أي شخص يصل إلى باريس من مجاهل أبعد المقاطعات ويحمل مالًا في جيبه، ولقب عائلة ينتهي بالأحرف «اك» أو «إل»، أن يختال في مشيته ويصيح قائلًا «أنا الرجل!» أو «رجل في مرتبتي وقامتي!» وينظر في تعالٍ لأي تاجر في احتقار، بينما التاجر على الجانب الآخر، بسبب سماعه المتوالي عن الازدراء الذي تقابل به مهنته، يكون من الحماقة بما يكفي لأن يخجل منه. ومع ذلك، لا أعرف أيهما أكثر إفادة للأمة، السيد النبيل، المتزين على أحدث موضة، الذي يعرف تحديدًا الساعة التي يستيقظ فيها الملك والساعة التي ينام فيها، والذي يمنح نفسه مظهر العظمة والمكانة، بينما هو في الوقت نفسه يتصرف كالعبد في غرفة انتظار مكتب رئيس الوزراء، أم التاجر الذي يثري بلده، ويرسل الطلبيات من مقر عمله إلى سورات أو القاهرة الكبرى، ويسهم في بهجة العالم.9

ليس التجار وأصحاب رأس المال بحاجة للخجل حين يعاملهم السياسيون والمفكرون المعاصرون بتعالٍ، ويختالون وهم يتحدثون بصورة خطابية عن هذا ويشجبون ذاك، في الوقت الذي يطالبون فيه التجار وأصحاب رأس المال والعمال والمستثمرين والحرفيين والمزارعين والمخترعين وغيرهم من المنتجين بإنتاج الثروة التي يصادرها السياسيون ويبغضها المفكرون المعادون لأصحاب رأس المال لكنهم يستهلكونها بجشع.

لا تقوم الأسواق على أنانية الناس، أو تفترض هذا، بأكثر من السياسة. ولا تشجع تبادلات السوق على المزيد من السلوك الأناني أو الدوافع الأنانية. لكن على عكس السياسة، فالتبادلات الحرة بين المشاركين الراغبين تولد الثروة والسلام، وهما الشرطان اللذان يزدهر السخاء والصداقة والحب في ظلهما. يجب أن يقال شيءٌ في هذا الصدد، وهو ما فهمه آدم سميث جيدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤