اقتصاد السوق وتوزيع الثروة

بقلم لودفيج لاكمان

في هذا المقال يستعرض الاقتصادي البارز لودفيج لاكمان انتقادات «العدالة الاجتماعية» الموجهة لرأسمالية السوق الحرة ويكشف النقاب عن عدم منطقيتها. وهو يوضح الفرق بين «الملكية» و«الثروة» ويبين كيف أن احترام الممتلكات الخاصة (الملكية) يتوافق مع إعادة التوزيع الشاملة للثروة في أرجاء السوق. لهذا المقال أهمية كبيرة من أجل فهم الطبيعة النشطة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية في الأنظمة الرأسمالية.

حصل لودفيج لاكمان (١٩٠٦–١٩٩٠) على شهادة الدكتوراه من جامعة برلين. وقد ترك ألمانيا عام ١٩٣٣ ليستقر في إنجلترا، حيث أكمل أبحاثه في كلية لندن لعلوم الاقتصاد. كان للاكمان إسهامات جوهرية في نظرية رأس المال والنمو الاقتصادي والأسس المنهجية لعلمي الاقتصاد والاجتماع. وقد ألف لاكمان عددًا من الكتب منها «رأس المال وبنيته» و«إرث ماكس ويبر» و«فكر الاقتصاد الكلي واقتصاد السوق» و«رأس المال والتوقعات وعملية السوق» و«السوق كعملية اقتصادية».

هذا المقال هو نسخة مختصرة قليلًا من النسخة الأصلية، التي نُشرت للمرة الأولى عام ١٩٥٦.

***

مَن يستطيع أن يشك الآن في أن كل تدخل من جانب سلطة سياسية يستتبع تدخلًا أكبر لمنع الآثار الاقتصادية الحتمية الناتجة عن الخطوة الأولى من الحدوث، وذلك كما أشار الأستاذ ميزس منذ ثلاثين عامًا؟ مَن ينكر أن الاقتصاد الموجه يتطلب مناخًا من التضخم الاقتصادي حتى يعمل من الأساس، ومَن ليس على دراية اليوم بالتأثيرات المهلكة ﻟ «التضخم المحكوم»؟ ورغم اختراع بعض الاقتصاديين في وقتنا الحالي للمصطلح الإطرائي «التضخم الممتد» لوصف التضخم الدائم الذي نعرفه جميعًا حق المعرفة، فمن غير المحتمل أن ينخدع أي شخص به. إننا لم نحتج في واقع الأمر للنموذج الألماني الحديث ليثبت لنا أن اقتصاد السوق سوف يخلق النظام من الفوضى «المُتحكَّم بها إداريًّا» حتى في أسوأ الظروف. ويعد شكل التنظيم الاقتصادي المعتمد على التعاون الاختياري والتبادل العالمي للمعرفة أرفع منزلة لا محالة من أي بنية هرمية، حتى وإن وُجد في الأخيرة محك عقلاني لمؤهلات مَن يملكون الأمر والنهي. لقد عرف القادرون على التعلم من العقل والخبرة بهذا الأمر من قبل، أما العاجزون عن التعلم فمن غير المرجح أن يتعلموه، حتى في وقتنا الحاضر.

في مواجهة هذا الوضع غَيَّرَ المعارضون لاقتصاد السوق موقفهم؛ إذ أصبحوا يعارضونه من منطلق «اجتماعي» لا اقتصادي. فهم يتهمونه بالظلم، لا بعدم الفعالية، ويركزون الآن على «التأثيرات المشوِّهة» لملكية الثروة ويجادلون بأن «الإجماع العام على السوق رجح بسبب التصويت الجماعي». وهم يوضحون أن توزيع الثروة يؤثر على الإنتاج وتوزيع الدخل لأن أصحاب الثروة لا يحصلون فقط على «حصة جائرة» من الدخل الاجتماعي، بل يؤثرون أيضًا على تركيبة المشكلات الاجتماعية؛ ازدياد الكماليات عن الحاجة وقلة الضروريات عن المطلوب. علاوة على ذلك، نظرًا لأن هؤلاء الملاك هم مَن يقومون بالجزء الأكبر من الادخار، فهم أيضًا مَن يحددون معدل تراكم رأس المال وبالتالي معدل النمو الاقتصادي.

لا ينكر بعض هؤلاء المعارضين تمامًا أنه من المنطقي أن يكون توزيع الثروة هو النتيجة التراكمية لعمل القوى الاقتصادية، لكنهم يتمسكون بفكرة أن هذا التراكم يعمل بأسلوب يجعل الحاضر عبدًا للماضي؛ فهو بمنزلة عامل قديم اعتباطي في الحاضر. فتوزيع الدخل اليوم يتشكل من واقع توزيع الثروة اليوم، ومع أن ثروة اليوم تراكمت جزئيًّا بالأمس، فإنها تراكمت بواسطة عمليات تعكس تأثير توزيع الثروة في وقت سابق على الأمس. وإجمالًا، تقوم حجة المعارضين لاقتصاد السوق على نظام «الوراثة»، الذي حصل بفضله أغلبية أصحاب الثروات، حتى في المجتمعات المتقدمة كما يقال لنا، على ثرواتهم.

يبدو أن هذه الحجة تلقى قبولًا واسعًا اليوم، حتى من جانب كثيرين ممن يؤيدون الحرية الاقتصادية بصدق. فقد آمن هؤلاء الأشخاص بأن «إعادة توزيع الثروة»، على سبيل المثال من خلال ضرائب التركات، قد تكون لها نتائج اقتصادية مرغوبة اجتماعيًّا، وإن كانت لا تخلو من النتائج السلبية. وعلى النقيض، بما أن مثل هذه الإجراءات ستساعد على تحرير الحاضر من «القبضة الحديدية» للماضي، فستساعد أيضًا على تعديل الدخول الحالية تبعًا للاحتياجات الحالية. يعد توزيع الثروة أحد معطيات السوق، وعن طريق تغيير المعطيات يمكننا تغيير النتائج دون التدخل في آلية السوق! ويستتبع هذا أن عملية السوق ستكون لها نتائج «مقبولة اجتماعيًّا» فقط حين تصاحبها سياسة مصممة على الدوام بهدف إعادة توزيع الثروة الحالية.

كما قلنا، يعتنق الكثيرون وجهة النظر هذه في الوقت الحاضر، ومن بينهم حتى بعض الاقتصاديين الذين يتفهمون سمو مكانة اقتصاد السوق على الاقتصاد الموجه وقدر الإحباط الذي تسببه سياسات التدخل، لكنهم يكرهون ما يعدونه عواقب اجتماعية لاقتصاد السوق. فهم مستعدون لقَبول اقتصاد السوق فقط عندما تصاحبه سياسة إعادة توزيع كتلك.

هذا المقال مكرس لنقد الأساس الذي يقوم عليه هذا الرأي.

في المقام الأول، تقوم هذه الحجة بأكملها منطقيًّا على الخلط اللفظي النابع من المعنى المبهم لمصطلح «مُعطى». فالمصطلح «مُعطى» يعني في الاستخدام الشائع، وكذلك في أغلبية العلوم كعلم الإحصاء، الشيء الذي «يُمنح» لنا، في لحظة من الوقت، بوصفنا مراقبين للموقف. وبهذا المعنى يكون من البديهي اعتبار أسلوب توزيع الثروة أحد المعطيات في أي لحظة بعينها، بمعنى أنه يتصادف وجوده عن سواه من الأساليب. لكن في نظريات التوازن التي باتت تعني الكثير للفكر الاقتصادي في الوقت الحاضر وشكلت محتواه بشكل كبير، حملت كلمة «مُعطى» معنى ثانيًا مختلفًا تمام الاختلاف عن المعني السابق؛ فالمُعطى هنا يعني حالة ضرورية من التوازن، أو متغيرًا مستقلًّا بذاته، وتعني صيغة الجمع «معطيات» إجمالي الحالات الضرورية والكافية التي من خلالها، بمجرد أن نعرفها كاملة، نستطيع دون الكثير من اللغط أن نستدل على سعر وكمية التوازن. ووفق هذا المعني الثاني يكون توزيع الثروة، إلى جانب المعطيات الأخرى، أحد «العوامل المُحدِّدة»، لكنه ليس العامل المُحدِّد الوحيد، لأسعار وكميات الخدمات والمنتجات المختلفة التي تُباع وتُشترى.

وستكون مهمتنا الأساسية في هذا المقال أن نُظهر أن توزيع الثروة ليس «مُعطى» بالمعنى الثاني. فتوزيع الثروة، على النقيض من كونه «متغيرًا مستقلًّا بذاته» عن عملية السوق، يخضع باستمرار للتعديل بفعل قوى السوق. بالطبع ليس في هذا إنكار لأنه في أي لحظة بعينها يعد التوزيع أحد القوى التي تشكل مسار عملية السوق في المستقبل القريب، لكننا ننكر أن أسلوب التوزيع نفسه يمكن أن يملك أي تأثير دائم. ومع أن الثروة توزَّع دائمًا بطريقة محددة، فإن أسلوب هذا التوزيع يتغير باستمرار.

فقط لو ظل أسلوب التوزيع على حاله لفترة بعد أخرى، بينما تنتقل أجزاء منفردة من الثروة من فرد لآخر عن طريق التوريث، يمكن أن يعد مثل هذا الأسلوب الثابت قوة اقتصادية دائمة. لكن في الواقع هو ليس كذلك؛ إذ إن توزيع الثروة يتشكل بواسطة قوى السوق بوصفه غرضًا، وليس عاملًا، وأيًّا كان أسلوبه في الوقت الحاضر فسوف يُصبح عن قريب عتيقًا وغير مناسب.

لذا لا يملك توزيع الثروة مكانًا بين معطيات التوازن. ومع هذا، فما يحظى باهتمام اقتصادي واجتماعي كبير ليس أسلوب توزيع الثروة في فترة زمنية بعينها، بل الأسلوب الذي يتغير به بمرور الزمن. هذا التغير، كما سنرى، يجد مكانه الحقيقي بين الأحداث التي تقع في هذا «المسار» الصعب الذي قد يؤدي، وإن كان نادرًا على أرض الواقع، إلى إحداث التوازن. إنها ظاهرة «ديناميكية» نموذجية. والحقيقة اللافتة للنظر هي أنه في الوقت الذي يُسمع فيه الكثير عن الحاجة للسعي وراء الدراسات الديناميكية وتدعيمها، لا يجذب الأمر إلا قدرًا قليلًا للغاية من الاهتمام.

إن الملكية مفهوم قانوني يشير إلى أشياء مادية ملموسة. أما الثروة فهي مفهوم اقتصادي يشير إلى الموارد الشحيحة. إن جميع الموارد القيمة هي إما أشياء مادية، أو انعكاس لها أو تجسيد لها، لكن ليست جميع الأشياء المادية موارد؛ المنازل المهجورة وأكوام النفايات أمثلة واضحة على ذلك، وبالمثل أي أغراض يتخلى عنها أصحابها عن طيب خاطر إذا وجدوا من يرغب في تخليصهم منها. علاوة على ذلك، فإن موارد اليوم قد تنضب غدًا، بينما الأشياء عديمة القيمة اليوم قد تصير قيمة غدًا. وعلى هذا عادة يكون تحديد حالة المواد المادية كموارد أمرًا صعبًا، ويعتمد إلى حد ما على بعد النظر. فالشيء يعد ثروة فقط إذا كان مصدرًا لتدفق الدخل. وقيمة الشيء في نظر مالكه، الفعلي أو المحتمل، تعكس في أي لحظة قدرته المتوقعة على إدرار الدخل. وهذا بدوره سيعتمد على الاستخدامات التي قد يوجه لها هذا الشيء. إن امتلاك الأشياء وحده ليس من شأنه بالضرورة أن يولد الثروة، بل استخدامها الصحيح هو ما يولد الثروة. ليست الملكية هي مصدر الدخل والثروة، بل استخدام الموارد. فقد يعني امتلاك مصنع للمثلجات في نيويورك ثروة كبيرة لمالكه، لكن إذا وجد المصنع ذاته في جرينلاند فلن يعد من الموارد.

في عالم مليء بالتغيرات غير المتوقعة يصبح الحفاظ على الثروة أمرًا صعبًا، وعلى المدى البعيد يمكن القول إنه مستحيل. فلكي تكون عائلة ما قادرة على الحفاظ على كمية بعينها من الثروة، التي يمكن نقلها بالوراثة من جيل للذي يليه، سيتعين عليها امتلاك الموارد التي ستدر فيضًا دائمًا من الدخل الصافي؛ بمعنى فيض من القيمة المُخرجة الزائدة عن تكلفة الخدمات المصاحبة للموارد المملوكة. يبدو أن هذا الأمر ممكن الحدوث إما في عالم مستقر؛ عالم يشبه فيه الحاضر الماضي والمستقبل، وبالتالي سيحصل ورثة الموارد على نفس العائد الذي حصل عليه ملاكها قبلهم يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، أو إذا كان جميع ملاك الموارد يملكون بعد نظر مثالي. ولأن كلتا الحالتين بعيدتان تمامًا عن الواقع فسيمكننا تجاهلهما دون قلق. ماذا إذن يحدث للثروة في عالم مليء بالتغيرات غير المتوقعة؟

تتكون جميع الثروات من أصول رأسمالية التي، بحال أو بآخر، تجسد أو تعكس على الأقل الموارد المادية للإنتاج؛ أي مصادر المُخرجات القيّمة. تُنتَج المُخرجات كلها بواسطة الأيدي العاملة البشرية بمساعدة مزيج من هذه الموارد. لهذا الغرض يجب استخدام الموارد بمزيج معين؛ إذ إن التكامل هو جوهر استخدام الموارد. لا «تُمنح» أساليب هذا التكامل بأي حال من الأحوال لرواد الأعمال كي يضعوا خطط الإنتاج ويبدءوها وينفذوها. فلا يوجد في الواقع شيء يُعرف بوظيفة الإنتاج. على النقيض، تقتصر مهمة رائد الأعمال تحديدًا على أن يجد، في ظل هذا العالم دائم التغير، مزيج الموارد الذي سينتج، في الظروف الحالية، أقصى فائض للمُخرجات على القيمة الداخلة، وأن يخمن ما سيفعل ذلك في الظروف المستقبلية المحتملة، عندما تكون قيم المُخرجات، وتكلفة المُدخلات التكميلية والتكنولوجيا قد تغيرت جميعها.

إذا كانت جميع موارد رأس المال متعددة الوظائف على نحو لانهائي، فستقتصر مشكلة ريادة الأعمال على متابعة تغيرات الظروف الخارجية عن طريق تحويل مجموعات الموارد إلى سلسلة متعاقبة من الاستخدامات التي تجعلها تلك التغيرات مربحة. في الوضع الحالي، تملك الموارد، كقاعدة، مجالًا محدودًا من تعدد الوظائف؛ إذ إن كل جانب منها مقتصر على عدد من الاستخدامات.1 وبالتالي ستستلزم الحاجة إلى التوافق مع التغيير دائمًا الحاجة إلى تغيير تركيبة مجموعة الموارد، بغرض «إعادة تنظيم رأس المال». لكن كل تغيير في أسلوب التكامل سيؤثر على قيمة الموارد المكونة عن طريق زيادة أرباح رأس المال وخسائره. سيقدم رواد الأعمال عروضًا أكبر للحصول على خدمات تلك الموارد التي وجدوا أن لها استخدامات مربحة أكثر، وعروضًا أقل للموارد التي يجب توجيهها إلى الاستخدامات الأقل ربحية. في الحالة المحدودة التي لا يمكن فيها إيجاد استخدام (حالي أو مستقبلي محتمل) لأحد الموارد — الذي شكل إلى الآن جزءًا من مزيج الموارد المربح — يفقد هذا المورد صفته كمورد تمامًا. لكن حتى في الحالات الأقل تطرفًا، تكون أرباح رأس المال وخسائره المتحققة على الأصول المعمرة مصاحبة على نحو حتمي للعالم المليء بالتغيرات غير المتوقعة.

بناءً على هذا يُنظر إلى عملية السوق على أنها عملية تسوية. ففي اقتصاد السوق تجري عملية إعادة توزيع الثروة طوال الوقت وتفقد العمليات المشابهة من الظاهر، التي يرسيها السياسيون المحدثون باستمرار، رونقها ويتضح مدى تفاهتها بالمقارنة، وإن كان ذلك لسبب وحيد هو أن السوق يمنح الثروة لمن يستطيعون المحافظة عليها، بينما يمنحها السياسيون للناخبين الذين، عادة، يعجزون عن ذلك.

إن عملية إعادة توزيع الثروة تلك لا تحفزها سلسلة من المخاطر. فالمشاركون فيها لا يلعبون لعبة حظ، بل لعبة مهارة. تعكس هذه العملية، مثل كل العمليات الديناميكية الحقيقية الأخرى، انتقال المعرفة من عقل لعقل. وهي ممكنة فقط لأن بعض الأشخاص يملكون معرفة لم يكتسبها آخرون بعد؛ لأن المعرفة بالتغيير وتداعياته تنتشر تدريجيًّا وعلى نحو غير متساوٍ في أرجاء المجتمع.

في هذه العملية، الناجح هو من يفهم قبل أي شخص آخر أن موردًا بعينه، يمكن إنتاجه اليوم عندما يكون جديدًا، أو شراؤه، عندما يكون موجودًا بالفعل، بسعر محدد قدره «أ'»، سيصبح في المستقبل جزءًا من مزيج منتِج، ونتيجة لهذا ستساوي قيمته «أس». تشكل أرباح رأس المال أو خسائره — التي حدثت بسبب تصادف، أو الحاجة إلى، تحويل الموارد من استخدام لآخر، أعلى أو أقل مرتبة من سابقه — الجوهر الاقتصادي لما تعنيه الثروة في عالم متغير، وهي تعتبر المحرك الرئيسي لعملية إعادة التوزيع.

في هذه العملية من غير المرجح أن يستمر الرجل نفسه في التخمين الصحيح بشأن الاستخدامات الجديدة المحتملة للموارد الحالية أو المحتملة مرة بعد أخرى، إلا إذا كان متفوقًا بحق. وفي الحالة الأخيرة من غير المرجح أن يحقق ورثته نفس النجاح، إلا إذا كانوا متفوقين أيضًا. في عالم مليء بالتغيرات غير المتوقعة تكون خسائر رأس المال حتمية مثل أرباحه. إن المنافسة المحتدمة بين أصحاب رأس المال والطبيعة الخاصة للموارد المعمرة تستلزم أن تُتبَع الأرباح بخسائر والخسائر بأرباح.

لهذه الحقائق الاقتصادية عواقب اجتماعية محددة. وكما يفضل منتقدو اقتصاد السوق اليوم أن يبنوا موقفهم استنادًا على الأرضية «الاجتماعية»، فلن يكون من غير الملائم هنا أن نوضح النتائج الاجتماعية الحقيقية لعملية السوق. لقد تحدثنا بالفعل عنها كعملية تسوية. ومن الملائم الآن أن نصف هذه النتائج كمثال على ما أطلق عليه باريتو «دوران النخب». فمن غير المرجح أن تستمر الثروة لفترة طويلة في حوزة المالك عينه؛ إذ إنها تنتقل من يد لأخرى بينما يضع التغير غير المتوقع القيمة لمورد معين، ثم مورد آخر لاحقًا، مسببًا حدوث أرباح وخسائر في رأس المال. إن ملاك الثروة، كما يمكننا أن نتفق مع شومبيتر، يشبهون نزلاء أحد الفنادق أو ركاب قطار؛ فهناك ركاب موجودون على الدوام، لكنهم ليسوا الأشخاص أنفسهم.

رأينا في اقتصاد السوق أن طبيعة جميع الثروات تتسم بالجدلية والصعوبة. فكلما زادت الأصول المعمرة وزادت خصوصيتها، وكلما صار نطاق الاستخدامات التي يمكن تحويلها إليها محدودًا، باتت المشكلة أكثر وضوحًا للعيان. لكن في مجتمع ذي رأس مال ثابت ضئيل أخذت فيه أغلب الثروة المتراكمة هيئة بضائع مخزنة، بضائع زراعية وقابلة للتلف في الأساس، ومخزنة لفترات متفاوتة، مجتمع ندر أن توجد فيه منتجات استهلاكية معمرة، ربما باستثناء المنازل والأثاث، لم تظهر المشكلة على نحو واضح. كان هذا، بشكل عام، المجتمع الذي عاش فيه الاقتصاديون الكلاسيكيون، ومنه استقوا الكثير من السمات. وبالتالي وفق ظروف زمنهم كان موقف الاقتصاديين الكلاسيكيين مبررًا، إلى حدٍّ ما، حين اعتبروا أن جميع رءوس الأموال متجانسة فعليًّا ومتعددة الوظائف تمامًا، وذلك بمقارنتها بالأرض؛ المورد الوحيد المحدد غير القابل لإعادة الإنتاج. لكن في الوقت الحاضر لا مبرر تقريبًا لمثل هذا الفصل. فكلما زاد رأس المال الثابت، وكلما زادت استمراريته، زاد احتمال استخدام موارد رأس المال هذا قبل أن تنضب، لأغراض تختلف عن الأغراض التي صُممت للقيام بها في المقام الأول. يعني هذا عمليًّا أنه في اقتصاد السوق الحديث، لا يوجد ما يسمى بمورد الدخل الثابت؛ لأن الاستمرارية وتعدد الوظائف المحدود يجعلان من هذا أمرًا مستحيلًا.

الحقيقة الرئيسية التي ركزنا عليها في هذا المقال هي أن عملية إعادة توزيع الثروة التي تتسبب فيها قوى السوق في عالم مليء بالتغيرات غير المتوقعة هي حقيقة ملحوظة شائعة في كل مكان. لماذا إذن يتم تجاهلها باستمرار؟ يمكننا تفهم سبب اختيار السياسيين تجاهلها؛ ففي نهاية المطاف من غير المرجح أن يتأثر السواد الأعظم من ناخبيهم بها على نحو مباشر، وكما يتضح كثيرًا في حالة التضخم، يمكنهم بالكاد تفهمها إذا تأثروا بها. لكن لماذا يختار الاقتصاديون تجاهلها؟ قد يظن المرء أن كون أسلوب توزيع الثروة ناتجًا عن عمل القوى الاقتصادية هو افتراض قد يروق لهم. لماذا إذن يستمر الكثير من الاقتصاديين في اعتبار توزيع الثروة «مُعطى»، بالمعنى الثاني المذكور سابقًا؟ إننا نسلم بأنه يجب البحث عن السبب بينما نحن منشغلون للغاية بمشاكل التوازن.

رأينا من قبل أن الأساليب المتتابعة لتوزيع الثروة تنتمي إلى عالم عدم التوازن. فمكاسب وخسائر رأس المال تحدث في أغلب الأحوال بسبب أن الموارد المعمرة يجب أن تُستخدم بطرق لم تُصمم من أجلها، وأن بعض الأشخاص يستوعبون أفضل وأسرع من غيرهم ما يتضمنه تغير الحاجات والموارد في عالم دائم الحركة. يعني التوازن اتساق الخطط، ولكن إعادة توزيع الثروة عن طريق السوق عادة ما يأتي كنتيجة لأفعال غير متسقة. ومن منظور مَن تدربوا على التفكير بأسلوب متوازن، قد يكون من الطبيعي ألا تبدو مثل تلك العمليات، كما شرحنا من قبل، «جديرة بالاحترام» تمامًا. فالقوى الاقتصادية «الحقيقية» من منظورهم هي تلك التي تميل إلى إنشاء التوازن والحفاظ عليه. أما القوى التي تعمل فقط في ظل عدم التوازن فلا تُعتبر مثيرة للاهتمام وبالتالي كثيرًا ما يتم تجاهلها.

بالطبع لا نقول إن عالم الاقتصاد المعاصر، الدارس بتعمق لقواعد التوازن، والجاهل للغاية بحقائق السوق، غير قادر أو غير مستعد لمسايرة التغير الاقتصادي، فهذا سيكون ضربًا من السخف. بل نقول إنه مستعد استعدادًا جيدًا فقط للتعامل مع أنواع التغيير التي يتصادف أنها تتوافق مع نماذج جامدة إلى حدٍّ بعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤