الفصل الثاني

عائلات التجار والبيوت التجارية العائلية

(١) الإطار الاجتماعي

تُعيننا دراسة النشاط التجاري الذي مارَسه إسماعيل أبو طاقية ونخبة التجار من أبناء جيله، على إيضاح عدد من الأمور المتصلة بالمجتمع في عصرهم؛ إذ يغلب الظن أن قواعد السلوك الاجتماعي الصارمة تكشف عن الكثير من مظاهر حياة الناس، أو عن غالبية تلك المظاهر؛ فقد كان الحراك الاجتماعي محدودًا، سواء أكان رأسيًّا نحو قمة السلَّم الاجتماعي، أم أفقيًّا من شريحة اجتماعية إلى أخرى. ولما كانت تلك الآراء قد تكوَّنت في الغالب على أساس نماذج نظرية أكثر من اعتمادها على أدلَّة وثائقية، فمن الأفضل أن نتساءل عن مدى استناد تلك المقولات إلى مادة وثائقية خالصة فيما يتعلَّق بمجتمع مُعيَّن، ويتفق الباحثون عامة على أن العائلات، والطوائف، والجماعات العرقية، والمؤسسات القانونية، وضعت ضوابط على سلوك الناس، وأن كل عمل يُقدِم عليه الفرد، لا بد أن يتوافَق مع القواعد التي وضعَتْها تلك المؤسسات الاجتماعية والقانونية. ولكنَّ الباحثين يختلفون حول درجة ومدى صرامة تلك القواعد والنُّظم في حِقَب زمنية بعينها.

لقد تنقَّل أبو طاقية بين عدد من مُختلف التجمُّعات شأنه في ذلك شأن معظم سكان القاهرة. وكان الأكثر أهمية بالنِّسبة له عائلته، ومجتمع التجار، ومجتمع الشوام بالقاهرة. ولعلَّ ذلك كان يتضمَّن — بالنسبة لغيره من القاهريين — عُضوية طريقة من الطرق الصوفية العديدة التي كان الناس يَلجئون إليها التماسًا للهداية الدينية، أو الانتماء إلى «حارة» وهو الحي الذي يربط السكان بمنطقة معينة، إضافة إلى روابط العائلة والحرفة؛ ومن ثم قد يرتبط الفرد طوال حياته بعدد من المؤسسات المختلفة المتصلة بحياته المهنية والدينية والعائلية.

وقد يُعطي هذا التعدُّد في الروابط انطباعًا أن حياة الفرد كانت تخضع تمامًا لسيطرة عدد من الجماعات المختلفة، فرضت كلٌّ منها عليه التزامات مُعيَّنة، تاركة له مساحة ضيقة للمبادرة الفردية. ويبدو من المنطقي تمامًا القول بأنَّ تلك الحدود والضوابط كانت أكثر ليونة في فترات الاضطراب — كتلك التي نحن بصدَدِها — منها في فترات الاستقرار.

وتُشير ترجمة إسماعيل أبو طاقية إلى أنه على الرغم من قيام كل جماعة من الجماعات التي ينتمي إليها الفرد، سواء أكانت العائلة أم الحرفة أم غيرها، بفرض ضوابط أو التزامات مُعيَّنة على سلوك الفرد، فإنَّ ثمة جوانب كثيرة من حياة الناس خرجت عن إطار تلك الضوابط، وكانت هناك القنوات التي استطاعت المبادرة الفردية أن تُعبِّر عن نفسها من خلالها وخاصة في أوقات التغير، وإلا كان من الصعب علينا أن نلاحظ الكيفية التي وقعت بها التحوُّلات التي رصدناها في مجال النشاط المِهَني لعائلة أبو طاقية؛ فقد استطاع إسماعيل أبو طاقية أن يَرتقيَ أعلى مراتب طائفة التجار استنادًا إلى عائلته والجالية الشامية التي انتمى إليها. والحقُّ أن عائلة أبو طاقية لم تمرَّ بتجربة الانتقال الجغرافي من حمص إلى القاهرة فحسب، بل ما لبثت ذريتها أن انتقلت من شريحة اجتماعية إلى أخرى، من التجار إلى النخبة الحاكمة.

أضف إلى ذلك أن دراسة حياة أبو طاقية تُبيِّن علاقاته — الحركية لا الثابتة — بمختلف الجماعات، وتُبرز طريقة تعامله معهم. وبعبارة أخرى، نستطيع أن نُلاحظ المناورات التي شق بها طريقه في مختلف مراحل حياته، من مرحلة إلى أخرى، مُعتمدًا على هذه الجماعة أو تلك، وفقًا للظروف والأحوال التي واجهَتْه في أوقاتٍ بعينها. ففي مرحلة معينة، كان إسماعيل أبو طاقية على صلة وثيقة بأفراد شريحة التجار الشوام، وفي مرحلة أخرى اتخذ لنفسه شركاء من المصريِّين. وحدث نفس الشيء على صعيد العائلة، فكانت صلاته وثيقة بأخيه في بداية الأمر، ثم توقَّفا بعد ذلك عن التعامل التجاري معًا. ونستطيع أن نُلاحظ نوعًا من المرونة في طريقة إقامته للعلاقات مع أعضاء مختلف الجماعات، يعمل على تقويتها أحيانًا، ويُضعفها أحيانًا أخرى.

ومن تلك الجماعات عائلته؛ إذ يمكن القول إنَّ إسماعيل أبو طاقية لم يَختَر مهنته اختيارًا حرًّا شأنه في ذلك شأن معظم الذكور في عائلته الذين مارسوا التجارة لثلاثة أجيال مُتعاقِبة على أقل تقدير. فلم يكن أحمد والد إسماعيل، وكذلك إسماعيل نفسه، وولده زكريا تجارًا فحسب، بل كان عمُّه عبد الرازق وابن عمه يَحترفان التجارة، وكذلك كان شقيقه ياسين تاجرًا. وبذلك كانت عائلة أبو طاقية تَحترف مهنة واحدة شأنها شأن غيرها من العائلات؛ حيث كان الأب يُلقِّن ولده أسرار مهنته، لينقلها بدوره إلى ابنه الذي ينقلها بدوره إلى ذريته. وكانت العائلة في تلك الحالة تقوم بعدد من الوظائف؛ فهي تُدرب الشباب مثلًا على امتلاك زمام الأمور في العائلة، وفي أوقات معيَّنة كان العمل التجاري يتم داخل العائلة إما في صورة مشاركة رسمية موثَّقة أو غير موثقة. وكان التاجر يقترض أموالًا من عائلته إذا دعت الحاجة لذلك، كما كانت تتم زيجات مُعيَّنة في محيط العائلة، ولا بدَّ أن تقوم العائلة بتقديم الدعم اللازم لأفرادها وقت الحاجة.

وهناك جماعة أخرى تَحرَّك داخلها آل أبو طاقية كأفراد أو كعائلة، هي جماعة الشوام بالقاهرة. ونحن نَعلم أن الكثير من الشوام كانوا يعيشون بالقاهرة كما يتَّضح من أسمائهم التي تدلُّ على موطنهم الأصلي؛ كالشامي والحلبي والصفدي والحموي والحمصي والبعلبكي والنابلسي والقدسي وغيرهم. وكان بعض الشوام تجارًا وبعضهم الآخر من الحرفيِّين وخاصة نسَّاجي الحرير الذين كان مُعظمهم من الشوام. كما جاء الكثير من الشوام إلى مصر للدراسة في الأزهر، وكان بالأزهر رواق للشوام منذ عهد السلطان المملوكي قايتباي (المتوفَّى عام ١٤٩٦م). ويبدو أن مجتمع الشوام بالقاهرة كان كبيرًا، غير أنه ليس لدينا دليل على وجود طائفة للشوام تُمثِّل إطارًا تنظيميًّا للجالية الشامية تحظى باعتراف الدولة، ولها شيخها الذي يَنوب عنها أمام السلطات الرسمية؛ فقد كان العثمانيون يتبنون سياسة تتجه إلى الاعتراف الرسمي بمثل تلك الطوائف في مختلف الولايات، أو تتَّخذها عند الضرورة كأداة للتحكم في أعضائها. وقد ساعدت تلك السياسة الرعية على الاحتفاظ بتقاليدهم وأنماط حياتهم، طالما كان ذلك لا يمسُّ المصالح العثمانية.

وكان من سكان المدن — كالقاهرة وحلب والقدس — جماعات من الأتراك والأرمن والمغاربة واليهود واليونانيين، حافظت كلٌّ منها على خصوصيتها الثقافية أو الدينية أو اللغوية. ولعلَّ عدم وجود طائفة يَنتظم فيها الشوام بالقاهرة يعود إلى اندماج الشوام في غالبية سكان المدينة بشكلٍ أكبر من أولئك الذين شكَّلوا طوائف خاصة بهم؛ وذلك لكثرتهم العددية وللروابط التاريخية العميقة الجذور التي ربطت الشوام بمصر. ولعله من الطريف أن نستطيع تتبع عائلة قاهرية من أصول شامية لنَقف على مدى اندماجها في المجتمع القاهري.

كانت صلات آل أبو طاقية بالشوام تتَّسم بالتعقيد؛ فقد استمرَّت صلاتهم حية بأصولهم الشامية لوقتٍ طويل بعد استقرارهم بالقاهرة واندماجهم في نسيجها الاجتماعي. وساعدهم الشوام على الاستقرار بينهم عشية قُدومهم إلى القاهرة، كذلك عندما أصبح إسماعيل أبو طاقية شاهبندر التجار توقَّع الشوامُ منه أن يمد لهم يد العون. وكثيرًا ما كان أبو طاقية يتَّخذ من بعض الشوام شركاء له في التجارة. كما كان التزاوُج بين الشوام كثير الحدوث، واختار الكثير من آل أبو طاقية أزواجهم من الشوام. ونستطيع أن نتتبع الصلات بين آل أبو طاقية وأفراد ينتمون إلى جماعة الشوام على مدى عقود عدة من الزمان، ونلاحظ — في نفس الوقت — كيف أصبحت العائلة أكثر اندماجًا في الشريحة العليا من المجتمع القاهري.

والجماعة الثالثة التي تحرَّك آل أبو طاقية داخلها هي جماعة التجار فكانت علاقتهم بها — مرةً أخرى — ذات وجوه عدة: حرفية واجتماعية وتنظيمية؛ حيث كان التجار ينتظمون في طوائف. فالتجار يَعملون معًا لإنجاز مهامهم، كشركاء أو وكلاء لتجار آخرين، أو غير ذلك مما تتطلَّبه الحرفة. وكلما كبر حجم التجارة، زاد عدد التجار المشتغلين بها، وكانت هناك فروق ملحوظة في المستوى بين جماعة التجار، فمارس بعضهم نشاطه في مجالٍ مُحدَّد، بينما اتسع نشاط البعض الآخر ليُغطِّي مجالًا أرحب تتسع فيه شبكة التجارة التي يسيطرون عليها. وتدلُّ الألقاب التي حملها التجار على الحراك الاجتماعي داخل إطار جماعتهم دلالة ذات مغزًى. فعندما ظهر أحمد أبو طاقية لأول مرة كان يُشار إليه بالخواجة أو التاجر الخواجة، وهو لقب حمَله التجار. وكان يُشار إليه أحيانًا من خلال نوع التجارة مثل التاجر في الحرير أو التاجر في الصابون. ومن بين الذين حملوا لقب التاجر الخواجة كان ثمة من لُقِّب بفخر التجار، أو من أعيان التجار أو حتى أعيان أعيان التجار. وبعض أولئك التجار كان شيخًا لسوق بعينه (شيخ سوق خان الخليلي مثلًا)، أو شيخًا لوكالة معيَّنة، مثل شيخ التجار بوكالة الصابون أو سوق الفحَّامين، وربما كان هؤلاء يُمثلون أعلى مراتب تلك الشريحة من التجار. وكان أحمد أبو طاقية في بداية أمره تاجرًا سفارًا، أي جوَّالًا — وهي أدنى المراتب في سلك التجار — يَشتري البضاعة من مكان ليبيعها في مكان آخر، وهو ما كان يفعله في تجارته بين مصر والشام. وكان أعلى مراتب التجار مَن يَحملون لقب «خواجكي» وهو لقب حمله أصحاب التجارة الواسعة الممتدة إلى أسواق خارجية، وشاع ‎استخدامه في القرن الخامس عشر. وكان عدد التجار الذين حملوا لقب خواجكي محدودًا، ولكن وزنهم الاقتصادي كان كبيرًا. وقد حمل إسماعيل أبو طاقية هذا اللقب في مطلع القرن السابع عشر عندما اتَّسعت شهرته، وعظم حجم تجارته، واتسع نطاق شبكته التجارية. وكان لقب الشاهبندر الذي حمله شيخ طائفة التجار أرفع تلك الألقاب، ويُمثل ذروة المكانة التي يصل إليها التاجر. وقد استخدم هذا اللقب (الفارسي الأصل) من حين لآخر في القرن الخامس عشر، ولكنه لم يُصبح شائعًا إلا في العصر العثماني.١ وكان الشاهبندر شيخ طائفة تجار القاهرة وهو المنصب الذي كان يشغله إسماعيل أبو طاقية منذ ١٠٢٢ﻫ/ ١٦١٣ م حتى وفاته (فيما عدا بضعة شهور من عام ١٠٣١ﻫ/١٦٢١م بسبب مرضه)، وكان الوصول إلى درجة الشاهبندر يعني اتساع الثروة والنفوذ الاجتماعي بين جماعة التجار، كما كان من أرفع الألقاب في البِنية الاجتماعية للمدينة، ولعلَّه كان أرقى المناصب غير السياسية التي قد يَصل إليها بعض أفراد الرعية وينال صاحبه الحظوة عند السلطات الحاكمة.

وكان تجار القاهرة يَنتظمون في طوائف عدة، تَتبع أحيانًا المكان الذي يُمارسون فيه أنشطتهم؛ فقد كان تجار سوق مرجوش — على سبيل المثال — يُشكلون طائفة خاصة بهم. وانتظمت بعض الطوائف تجارًا يشتغلون بأصناف معيَّنة. وكان شيخ طائفة تجار البحر الأحمر هو الذي يحمل لقب «الشاهبندر»، وكان من الجليِّ أن تلك الطائفة شملت أبرز تجار القاهرة. وكان الشاهبندر يُمثل طائفته أمام السلطات شأنه في ذلك شأن شيوخ الطوائف الأخرى، وكان عليه أن يفعل الكثير لخدمة مصالح زملائه التجار.

ولسوء الحظ، لا نَعرف من بين سائر الطوائف القاهرية إلا القليل عن طائفة التجار، فلم تَجد طائفة التجار — لسببٍ ما — أن ثمَّة ما يدعو إلى عرض أمورها على المحكمة الشرعية من حينٍ لآخر بنفس القدر الذي كانت تفعله الطوائف الأخرى. فبينما تحفل سجلات المحاكم الشرعية بالقضايا المتعلِّقة بطوائف الصناع والحرفيِّين مثل طائفة النقَّاشين وطائفة السقائين، وتُمدنا تلك القضايا بالمعلومات حول انتخاب شيوخ الطوائف والقواعد التي تحكم الطوائف وتُحدِّد سلوك أعضائها، ونوعية السلع التي يُنتجونها، والطريقة التي يحصلون بها على المواد الخام وكيفية توزيعها على الأعضاء، وغير ذلك من الأمور التي تهمُّ المنتمين إلى طوائف بعينها، لا يتوفر ذلك بالنسبة لطائفة التجار. ولذلك لا نعرف إلا القليل عن نوع الدعم الذي كانت تُقدمه طائفة التجار لأعضائها، أو الضوابط التي كانت تَفرضها عليهم. ويبدو أن المؤرخين يتَّفقون على أن المنازعات كانت أقل كثيرًا بين التجار منها في الطوائف الحرفية الأخرى. وفي الحقيقة، لم تُذكَر الطائفة في السجلات إلا عندما أصبح إسماعيل أبو طاقية شيخًا لها.

وإلى حدٍّ كبير، كان معظم نشاط التجار يتم في نطاق له خصوصية تامة، وكانت أهم الأعمال التجارية تُمارَس بشكل مستقل عن بنية الطائفة، وهو ما نتوقعه من طائفة تنتظم التجار المشتغلين بالتجارة الدولية؛ حيث لم تكن هناك مشاكل الحصول على المواد الخام، أو توزيعها على الصناع، أو التحكُّم في نوعية السلع المنتجة، مما كان يمثل بعض اختصاصات الطوائف الحرفية.

وبذلك أُطلقَت يد التجار في ارتياد ما شاءوا من الطرق في مجال التجارة الدولية الخارجية. وعلى سبيل المثال، كان شركاء إسماعيل أبو طاقية في نشاطه التجاري الدولي من بعض أفراد العائلة كأبيه وأخيه، أو تجارًا مثله لهم محالُّ بسوق الوراقين؛ حيث تتوثَّق الروابط بينهم. وأحيانًا كان من بين أولئك الشركاء بعض الشوام من حمص أو دمشق أو طرابلس أو صفد، الذين جمعهم به الانتماء إلى أصول واحدة. ولا زال الغموض يحيط بالطريقة التي عملت بها الطائفة بصورة فعالة لخدمة مصالح المنتمين إليها من التجار.

وأحيانًا كانت المعاملات اليومية التي يقوم بها التجار في السوق تؤدي — على الصعيد الفردي — إلى قيام روابط وثيقة بينهم قد تستمر لمدى الحياة، كعلاقة إسماعيل أبو طاقية بعبد القادر الدميري التاجر الذي الْتقاهُ شابًّا في سوق الحرير، وأدَّت تلك الروابط — أحيانًا أخرى — إلى قيام علاقة مُصاهَرة. ونرى مثالًا لذلك في علاقات إسماعيل نفسه وأخواته وبناته، وخاصة اللاتي تزوَّجن في حياته. وبعبارة أخرى، كانت تلك الروابط أقوى كثيرًا من العلاقات المهنية المحضة.

لعبَت تلك الجماعات الثلاث دورًا في حياة أبو طاقية المهنية والشخصية، وغالبًا ما تداخلت مع بعضها البعض، وأحيانًا كان دور إحداها بارزًا في فترة معينة، ثم برز بعد ذلك دور غيرها في فترة لاحقة، غير أن وجودها كان ماثلًا دائمًا. ونستطيع أن نُقسِّم العقود الزمنية التي تغطيها هذه الدراسة إلى ثلاث مراحل من تاريخ العائلة: تغطي الأولى منها انتقال العائلة من الشام إلى مصر والسنين الباكرة من حياة إسماعيل وأخيه ياسين، وتتناول المرحلة الثانية إسماعيل في رشده ومشاركته لوالده وأخيه في مشاريعهم التجارية. وتعالج المرحلة الثالثة نشاط إسماعيل خارج إطار مشاركة العائلة، وفي تلك المرحلة بلغ الذروة ووصل إلى مرتبة الشاهبندر. غير أن سنوات عمره الأخيرة كانت مخيِّبة للآمال على الصعيدين الشخصي والعائلي.

(٢) الهجرة من الشام إلى مصر

وتأخُذُنا المرحلة الأولى من أحمد أبو طاقية إلى مطلع حياة ولده «إسماعيل»؛ حيث لعبت ظروف تلك المرحلة دورًا في الصلات الحمصية التي احتفظ بها إسماعيل في تجارته وعلاقاته الاجتماعية والعائلية. كما تدلُّ دلالة كبيرة على نوع ومدى علاقات التبادُل التجاري والثقافي والاجتماعي بين مصر والشام، وتُعدُّ هذه المرحلة من تاريخ العائلة أقل المراحل توثيقًا، فليس لدينا ما يشير إلى تاريخ ميلاد إسماعيل أبو طاقية أو أي من أفراد عائلته. وهو أمر مُتوقَّع طالما لم تجر العادة على ذكر تواريخ الميلاد. ولا تقدم لنا الحوليات — مثلًا — مثل تلك المعلومات. كما لا نَعلم علم اليقين تاريخ انتقال العائلة من حمص إلى القاهرة، أو دوافع ذلك الانتقال، رغم أننا نعرف أن آل أبو طاقية كانوا يعيشون بالقاهرة في عقد الثمانينيات من القرن السادس عشر. وربما كان أحمد أبو طاقية والد إسماعيل أول من استقرَّ بالقاهرة، فنجده يَنفرد بين الأجيال الثلاثة من آل أبو طاقية الذين اقتفينا أثرهم في الوثائق بالاحتفاظ بلقب «الحمصي» في نهاية اسمه حتى وفاته عام ١٠٠٥ﻫ/ ١٥٩٦م، واستخدم كلٌّ من إسماعيل وياسين لقب الحمصي بانتظام حتى مطلع القرن السابع عشر، ثم أسقطاه من اسميهما. وعندما بلغ زكريا بن إسماعيل أبو طاقية سن الرشد لم يُستخدم ذلك اللقب. كذلك كان الخواجة أحمد أبو طاقية هو الذي حافظ على الروابط مع بلاد الشام وظلَّ ينتقل بين مصر والشام، وعندما بلغ ولداه الرشد في ثمانينيات القرن السادس عشر، واستطاعا الوقوف على أقدامهما، كانت العائلة قد استقرَّت تمامًا بالقاهرة.

ولنا أن نتساءل عن السبب الذي دعا أحمد أبو طاقية إلى الانتقال من حمص، المدينة ذات الحجم المُتواضِع، إلى القاهرة ثانية أكبر المدن في الدولة العثمانية بعد إستانبول، وخاصة أن حلب كمركز تجاري رئيسي كانت أقرب بالنسبة له. يُلاحظ بروس ماسترز Bruce Masters أن تجارة حلب كانت آخذةً في التحول التدريجي في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وأخذ الحرير الخام الفارسي يحلُّ محل الفلفل كسِلعة رئيسية في تجارة المدينة؛ حيث ازداد الطلب على الحرير الفارسي.٢ وأدَّى النمو السكاني بالمراكز الحضرية بالدولة العثمانية وأوروبا إلى خلق مستويات جديدة للطلب. ولا بد أن يكون ذلك قد جعل من القاهرة مكانًا جذابًا للتجار القادمِين من المراكز التجارية الأخرى خلال تلك السنوات؛ ومن ثم يمكننا تفسير انتقال أبو طاقية إلى القاهرة في سياق الجذب الاقتصادي للمدينة عندئذٍ.
ومن المؤكَّد أن الأمل في تحقيق أرباحٍ أوفر من تلك التي يُمكن تحقيقها في حمص، والرغبة في ارتقاء مكانة رفيعة بين التجار، كانت الدوافع وراء اتخاذ أحمد أبو طاقية قرار النزوح إلى مصر، لقد كان أحمد أبو طاقية تاجرًا ينتمي إلى عائلة تجارية، وحمل كل من والده وأخيه عبد الخالق لقب الخواجة الذي وضعهما في مرتبة اجتماعية معيَّنة بالمجتمع. وكانت التجارة دائمًا مهنة الميسورين الأحسن حالًا من غيرهم من أفراد المجتمع؛ كالصنَّاع والحرفيِّين سواء في مدن الشام أم مصر، ولعلَّ الأمل في كسبٍ أفضل في مدينة أكبر من حمص قد دفعته إلى النزوح من الشام إلى مصر. هذا فضلًا عن أنَّ القاهرة كانت مدينة تجارية كبرى، تتوسَّط عددًا من الطرق التجارية الدولية الرئيسية، وخاصة طريق البحر الأحمر، الذي مرت عبره البضائع الهندية والآسيوية الأخرى حتى السويس لتصل إلى القاهرة، ومنها تتَّجه إلى مُختلف الأسواق والبلاد. وكان الطلب كبيرًا على التوابل والمنسوجات التي تجلب عن هذا الطريق في بلاد الدولة العثمانية وأوروبا، وحقَّقت هذه التجارة أرباحًا طائلة للتجار المُشتغلين بها. وهناك طريق هام آخر ربط القاهرة بالمغرب، ذلك الإقليم الذي كانت تجارته واسعةً مع مصر. وهناك أيضًا الطريق الذي ربط القاهرة ببلاد السودان وبلاد التكرور (غرب أفريقيا) الذي نقل عبره الذهب والعبيد، وأخيرًا، ارتبطت القاهرة بموانئ البحر المتوسط في بلاد الدولة العثمانية وفي أوروبا، وخاصة البندقية، ونتيجة لذلك كانت التجارة غنية ومتنوعة. وكان أحمد أبو طاقية يعرف تمامًا بالاحتمالات التي تنتظر التاجر الذي يمارس نشاطه في القاهرة. غير أنه كانت هناك صعوبات مختلفة، عليه أن يَضع حدًّا لها؛ فالتجارة التي تتطلَّب النقل لمسافات بعيدة لها مخاطرها، حتى بالنسبة للتاجر المتمرِّس بالمتاعب التي يُواجهها على الطرق الطويلة التي ربطت المراكز التجارية ببعضها البعض. وكان باستطاعة أبو طاقية أن يَستخدم في أسفاره الطريق البحري أو الطريق البري. ولم يكن التجار يَميلون إلى استخدام طريق البر إلا إذا توفَّر عدد كبير من الراغبين في السفر معًا، كما كان السفر بالبحر يستغرق وقتًا أقل.٣ غير أن الكثير من المُسافرين كانوا يستخدمون الطريق البري الذي يربط القاهرة ببلاد الشام عبر سيناء رغم أخطاره ومَتاعبه.٤ فبالإضافة إلى النقص المحتمل للمياه والطعام والقيظ، كان المُسافرون على ذلك الطريق يتعرَّضون للسلب والنهب على يد عصابات البدو. غير أنَّ الأمن على الطريق الرئيسية كان مكفولًا نسبيًّا خلال تلك السنوات.
وكان الأمن على تلك الطرق يَعتمد إلى حد بعيد على مدى قوة الدولة وقدرتها على إثبات وجودها، وإذا كان أحمد أبو طاقية قد قطع تلك الرحلة في ستينيات أو سبعينيات القرن السادس عشر، فقد كانت الدولة العثمانية وقتئذٍ لا تزال في ذروة المركزية؛ حيث كان السلاطين بإستانبول يمدُّون سلطتهم إلى الولايات، ولا ريب أنهم كانوا يعتبرون إقرار الأمن على طرق التجارة من بين مسئولياتهم الأساسية؛ ومن ثم بذل العثمانيون جهدًا كبيرًا لتأمين تلك الطرق. وأصدر السلاطين في إستانبول الأوامر بإقامة القلاع الحصينة عند المحطات التجارية، فأقيم منها ما لا يقلُّ عن ثماني قلاع على طول الطريق بين مصر والشام، كما تم ترميم بعض القلاع القديمة٥ وذلك في النصف الثاني من القرن السادس عشر. وإضافة إلى ذلك قام السلطان سليمان المتوفَّى عام ١٥٦٦م بتشييد عدد من الخانات بالمدن الشامية الرئيسية. وحذا سنان باشا — والي مصر — حذوَه، فأقام الخانات لراحة المسافرين على الطرق الرئيسية.٦ ونتيجة لتلك السياسة، أصبحت الطرق أكثر أمنًا وأيسر ارتيادًا، سواء للحجاج أو التجار، ولا بدَّ أن يكون هذا العامل قد ساعد على توثيق العلاقات بين ولايات الدولة العثمانية عامة ومصر والشام خاصة.

ولا بد أن يكون أحمد أبو طاقية قد واجه صعوبات من نوع آخر عند وصوله إلى القاهرة. فقد كانت هناك بعض الاختلافات الثقافية بين المصريين والشوام، كما أن حمص مدينة صغيرة ذات أهمية ثانوية قياسًا بالقاهرة المدينة الكبيرة المُزدحمة بالسكان ذات الطبيعة العالمية، ولا بد أن تكون المنافسة في مثل هذه المدينة الكبيرة ثقيلة الوقع على الوافدين الجدد. أضف إلى ذلك بُعد الشُّقة بين القاهرة وحمص وصعوبة السفر التي باعدَت بينه وبين عائلته، إلى غير ذلك من مشاق ترتبط بالنزوح من الموطن الأصلي. وكان النازحون عادة يحرصون على اصطحاب بعض الأقربين من أفراد عائلاتهم، وكان من حسن حظ أحمد أبو طاقية قدوم أخيه عبد الرازق (وكان تاجرًا مثله) إلى القاهرة واستقراره بها. وقد تزوَّجت رومية بنت عبد الرازق من إسماعيل بن أحمد فيما بعد، كما تزوَّج أحمد بن عبد الرازق من ليلى بنت أحمد أبو طاقية أيضًا.

figure
شرق البحر الأبيض المتوسِّط.
غير أنَّ مظاهر ذلك النزوح إلى مصر لم تكن على درجة من الصعوبة؛ إذ كان من الممكن أن نتبين عند مستويات معينة سهولة تغيير محل الإقامة من حمص إلى القاهرة، بالنسبة للتجار والعلماء. وكان النزوح إلى القاهرة بالنسبة لأحمد أبو طاقية انقطاعًا للصلة بالموطن الأصلي، كما قد يكون الحال بالنِّسبة لغيره من النازحين؛ لأنه كان تاجرًا كثير الأسفار. ويبدو أنه كان يتردَّد على القاهرة بتجارته قبل استقراره بها لبيع البضائع الشامية التي كان يَجلبها معه ويعود بالبضائع المصرية التي تُروَّج بالشام.٧
ولم يكن أحمد أبو طاقية فريدًا في هذا المجال؛ إذ شاعت تلك الظاهرة بين المُعاصِرين من التجار الشوام الذين تردَّدوا على مصر بتجارتهم قبل أن يُقرروا الاستقرار بالقاهرة بصفة دائمة. وساعدت الظروف الجغرافية والروابط التاريخية بين مصر وبلاد الشام على تيسير النزوح من بلد إلى آخر، وفي بعض الفترات كانت هناك هجرات من الشوام قصدت مصر واستقرَّت بها. ويبدو أن ذلك ما حدث بالفعل في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر على الأقل بين صفوف التجار، قياسًا على ما تُوضِّحه الوثائق التاريخية. فكان من بين خلصاء أبو طاقية بضع عائلات ذات أصول حِمصية أو حلبية سارت على نفس النهج. وعلى سبيل المثال، كانت عائلة بن يغمور التي ينتسب إليها عثمان يغمور — الذي أصبح شاهبندر التجار — ذات أصول حلبية، جاءوا إلى مصر كتجار سفار (جوَّالين)؛ إذ يُشار إلى محمد بن يغمور في وثيقة يرجع تاريخها إلى ٩٩٣ﻫ/ ١٥٨٥م على أنه تاجر سفَّار. وما لبثت عائلة يغمور أن استقرَّت بمصر نهائيًّا. وكانت عائلة ابن عريقات (أو آل عريقات) تَنحدِر من أصول حمصية، وربطتها بعائلة أبو طاقية روابط صداقة متينة طوال حياة إسماعيل، وسارت أيضًا على نفس الدرب، فكانوا تجارًا جوَّالين بين الشام ومصر قبل استقرارهم بالقاهرة.٨ وكان لتلك الظاهرة مزايا واضحة؛ لأنه عندما يقرر التاجر الاستقرار بعائلته في القاهرة يكون قد أَلِف بالفعل البيئة الجديدة وأقام شبكة من العلاقات التجارية بالسوق، وأصبح يعرف — إلى حدٍّ ما — المكان الذي قرر الاستقرار فيه.
وثمَّة عامل آخر، سهَّل انتقال أبو طاقية من حمص إلى القاهرة؛ لأن المسافر من ولاية عثمانية إلى أخرى يتوقَّع أن يجد بعض أوجه التشابه بين الولايات الخاضعة للدولة العثمانية. ولعلَّ أحمد أبو طاقية توقع أن يجد عند قدومه إلى القاهرة بيئة اجتماعية لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تركها في حمص؛ إذ كان باستطاعته أن يُمارس التجارة على نحو ما كان يفعل بموطنه الأصلي دون حاجة إلى تغيير أساسي في مهنته أو مكانته الاجتماعية. وبعبارة أخرى، كان من اليسير عليه أن يَندمِج اجتماعيًّا في القاهرة عند مُستوًى مماثل لمستواه في حمص، فلا يُصبِح مهمشًا عند وصوله إلى القاهرة، بل يُمارس حياته في إطار اجتماعي مناظر لما اعتاد عليه. ويَنسحِب ذلك على التجار وغيرهم من أصحاب الحرف الأخرى. ويلاحظ أنَّ العلماء — مثلًا — كانوا كثيري الانتقال من مركزٍ عِلمي إلى آخر. وعلى سبيل المثال، تحفل تراجم الغزي٩ في القرن السادس عشر بنماذج للعلماء الذين كانوا يَتنقَّلون بين عدة مدن، ويَستقرُّون بصورة مؤقته أو دائمة في إحداها للعمل بالتدريس أو القضاء، وهم في ذلك يحتفظون بأوضاعهم الاجتماعية، بغضِّ النظر عن المكان الذي يُقيمون فيه؛ ومن ثم نلاحظ مرونة الحركة بين الولايات المختلفة للدولة العثمانية، على الرغم من مشاقِّ وخطورة السفر أحيانًا.

ويُشير ذلك إشارة واضحة إلى أن الأحداث السياسية لم تؤثر بالضرورة على ظاهرة الهجرة، أو التجارة. وتُوضِّح هجرة عائلات مثل أبو طاقية وابن عريقات من حمص ويغمور من حلب وغيرهم، استمرار التجارة والروابط الاقتصادية بين مصر والشام، رغم أنَّ الفتح العثماني للبلدين فرق بينهما، بعد أن كانتا تُمثلان دولة واحدة تحت حكم سلاطين المماليك. وعلى أية حال، كانت السهولة النِّسبية التي أحاطت بنزوح عائلة أبو طاقية وغيرهم من التجار الشوام إلى القاهرة واندماجهم في مجتمعها، وممارستهم لحرفتهم وتمتعهم بنفس المكانة الاقتصادية والاجتماعية أمرًا بالغ الدلالة على عمق العلاقة بين مصر والشام.

وحافَظَ أحمد أبو طاقية على علاقته ببلاد الشام بعد استقراره بالقاهرة، فكان ينتقل بين القطرَين، حاملًا السلع المصرية إلى الشام، ويعود بالبضائع الشامية إلى مصر ليبيعها في سوق القاهرة. ويبدو أنه انفرد بذلك بين عائلته، فلا نكاد نجد في الوثائق أثرًا لظاهرة الترحال بين البلدَين في الأجيال التالية، بل من المؤكد أن إسماعيل أبو طاقية لم يسافر أبدًا إلى بلاد الشام، وإن كان قد مارس التجارة مع كثير من الشركاء الشوام. ولم تكن بالقاهرة حارة للشوام مثل حارة المغاربة التي كانت تقع شمالي المدينة، أو حارة الإفرنج؛ حيث كان يعيش الأوروبيون، غير أنَّ بعض أماكن العمل كانت تضم نسبة عالية من الشوام مثل سوق الحرير ووكالة الصابون، وطبيعي أن يتعامَل آل أبو طاقية في سوق الحرير مع أبناء جلدتهم من الشوام. وعلى كلٍّ، حرص أفراد العائلة على اختيار أزواجهم من بين الشوام أو حتى الحمصيِّين المقيمين بالقاهرة. كما يُمكننا رصد التغيرات التي لحقت بالعائلة فيما بين نُزوحها إلى القاهرة واتساع ثروتها وتكوينها لعلاقات وثيقة مع الطبقة الحاكمة.

(٣) التنشئة في القاهرة

والمرحلة الثانية من تاريخ عائلة أبو طاقية تُغطي السنوات الأولى من عمر إسماعيل وأخيه ياسين أبو طاقية وتعليمهما ودخولهما عالم التجارة؛ ففي تلك المرحلة عمل الأب وولداه معًا، حيث اكتسب الولدان الخبرة من أبيهما، حتى إذا شبَّا عن الطوق، كوَّن الولدان مع أبيهما شركة واحدة. واتَّسمت تلك المرحلة من حياة إسماعيل وياسين بالنشاط داخل دائرة مُغلَقة تضم العائلة من ناحية، والتجار الشوام بالقاهرة من ناحية أخرى.

وليس لدينا وثائق تُعالج طفولة إسماعيل وأخيه وصباهما إذا ما تذكرنا طبيعة سجلات المحكمة الشرعية، فلا يُمكننا أن نقف على ملامح الطفولة إلا إذا درسنا مئات الوثائق التي تَحمل أسماء أطفال من تلك التي تَرِد بالسجلات. ولكنَّنا نفترض أن الولدَين — إسماعيل وياسين — سارا على المنوال الذي كان مُتبعًا في المجتمعات الحضرية في ذلك الزمان فيما يتَّصل بتعليم الأولاد من أبناء طبقتهما الاجتماعية، وكذلك ما اتصل بالتدريب على حرفة التجارة.

وكان تعليم الصِّبية من أبناء التجار يبدأ بالقراءة والكتابة، فمن المؤكَّد أن إسماعيل وياسين كانا مُتعلِّمَين، بدليل حرص إسماعيل الدائم على تسجيل كل شيء كتابة، واقتنائه لمجموعة من الكتب كوَّنت مكتبته الخاصة، وكان مستوى معرفة القراءة والكتابة عندئذٍ عاليًا نسبيًّا؛ إذ يُقدِّر شابرول نسبة مَن كانوا يقرءون ويكتبون عام ١٧٩٨م بما يتراوح بين ثلث وربع الذكور من السكان.١٠ ولم يكن الفقراء على كثرتهم من بين المستفيدين بالتعليم الأوَّلي، مما يعني أن تقديرات شابرول تتعلَّق بالشرائح الوسطى من السكان. وكان الأطفال يُحصِّلون تعليمهم الأولى بأحد طريقَين؛ إما من خلال الالتحاق بالمكاتب الخاصة بهذا اللون من التعليم، أو التعليم على يدِ مُعلمين خصوصيِّين، وهي الطريقة التي فضَّلتْها العائلات الميسورة الحال لتعليم أبنائها. وكان انتشار المكاتب (أو الكتاتيب) بالقاهرة يجعلها مُتاحة لعدد كبير من الأولاد الصغار؛ حيث كانوا يقصدونها لتعلُّم القراءة والكتابة والحساب (قُدر عدد الكتاتيب بما يَزيد على ثلاثمائة كُتَّاب زمن الحملة الفرنسية عام ١٧٩٨م). وكانت تلك الكتاتيب تغطي نفقاتها من الأوقاف الخاصة بها في أغلب الأحوال، وكان التعليم بها مجانيًّا. ولعل إسماعيل كان من بين أولئك التلاميذ، أو لعلَّه تعلم في منزله على يد فقيه شأنه في ذلك شأن أترابه من أبناء العائلات الثرية.١١
أما الشق الثاني من التعليم فكان يتمثَّل في التدريب على حرفة معيَّنة، وهو ما كان يقوم به الأب بالنسبة لأولاده منذ نعومة أظفارهم، حتى إذا بلغوا الحلم في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عُمرهم كان باستطاعتهم ممارسة العمل وحدهم، ولا تُزوِّدنا المادة الوثائقية بمعلومات عن ذلك، ولكن الوصف الذي تُقدمه الوثائق يعتمد على درجة النمو الطبيعي للفرد، فتُشير إلى الرضيع، والقاصر، والشاب البالغ، وهو الراشد الذي تُقبل شهادته أمام المحاكم، والذي يَستطيع التصرف في ماله، ولكنه لم يبلغ بعد مرحلة الرجولة. وعندما تنبت لحيته ويُصبح رجلًا كامل الرجولة، فالأمر مردُّه إلى حالة النمو البدني للفرد. وكان ياسين أبو طاقية شقيق إسماعيل — مثلًا — يُتاجر في مبلغ كبير من المال، ويَقترض أموالًا، ويبيع صفقة من البُنِّ بمبلغ ١٢٠٠ دينار ذهبي، وهو ما يَزال شابًّا بالغًا.١٢ ولعلَّ ذلك النشاط كان يتم تحت إشراف أبيه، غير أنَّ الصفقات تمَّت باسمه وبماله، وبذلك اكتسب خبرة بالسوق عندما كان لا يزال في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره. ولا بدَّ أن يكون إسماعيل — شقيقه الأكبر — قد سلك نفس السبيل لأنَّ أترابه كانوا يفعلون نفس الشيء. فعندما مات الخواجة أبو النصر الطرابلسي — زميل إسماعيل أبو طاقية — كان ولده حسام الدين قد وصل لتوِّه إلى مرحلة البلوغ، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يَخلُف والده في تجارته ومشاركته للتجار، ولُقِّب بالخواجة، وكان يُتاجر بمبالغ طائلة ويستكمل الصفقات التي مات والده دون أن يُنجزها.
وفي مطلع الثمانينيات من القرن السادس عشر، كان إسماعيل أبو طاقية قد أكمل التدريب على التجارة ووقَف على أسرارها. وقد كانت خبرته الأولى بالمجالات التي نشط فيها التجار الشوام والأسواق التي كانت تُباع فيها البضائع الشامية. ويبدو أن أحمد أبو طاقية وولديه إسماعيل وياسين كانوا يَرتبطون في تلك السنوات بسوق الحرير في الوراقين الذي ضمَّ عديدًا من تجار المنسوجات ومحالِّهم بالقرب من الغورية. وكان هناك عدد كبير من التجار الشوام بتلك السوق التي كانت تُتاجر في الحرير المجلوب من بلاد الشام، وهناك صفقة صغيرة قام بها إسماعيل عام ٩٩٥ﻫ/ ١٥٨٦م تُشير إلى تلك الظاهرة؛ فشريكه عبد القادر الدميري كان تاجرًا بسوق الحرير، وعميله نصر الدين إبراهيم عبد الرازق كان حمصيًّا، والبضاعة كانت حريرًا خامًا ومنسوجات حريرية.١٣ وخلال سنوات تدريبه على الحرفة، وقف إسماعيل على الدوائر التي سوف تُؤثر على مستقبله التجاري وتُحدِّد مساره.

(٤) مشاركة العائلة

ونستطيع تتبُّع آل أبو طاقية وهم يتحوَّلون من عائلة تجار إلى بيت تجاري عائلي. فقد كانوا عائلة تجار منذ أيام والد أحمد أبو طاقية وجدِّه، وربما لأجيال أبعد. فكان أفراد العائلة الذين اشتغلوا بالتجارة وحملوا لقب خواجة أو خواجكي هم أحمد والد إسماعيل وعمه عبد الرازق وجده يحيى، وفيما بعد حمل أخوه ياسين وولده زكريا نفس اللقب. ولكن ذلك لا يعني أنهم كانوا يُشكِّلون بيتًا تجاريًّا عائليًّا، بمعنى اشتراكهم معًا في نشاط واحد برأس مال واحد، وقيام أفراد العائلة بارتياد الأماكن التي تُجلب منها السلع أو تُباع فيها البضائع.

ولكنَّ تحوُّلًا حدث في علاقة آل أبو طاقية ببعضهم البعض، ربما في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن السادس عشر. فعندما بلغ إسماعيل وياسين الحلم، حاوَلا أن يُقيما بالاشتراك مع أبيهما بيتًا تجاريًّا كشركاء يَستثمِر كلٌّ منهم فيه جزءًا من رأس ماله، ويَقتسم ثلاثتهم الأرباح التي يتمُّ تحقيقها. وبذلك أصبح آل أبو طاقية في هذه المرحلة يُشكِّلون بيتًا تجاريًّا عائليًّا، وليسوا مجرَّد عائلة من التجار. وظاهرة البيوت التجارية العائلية المُشتغِلة بالتجارة الدولية كانت معروفة تمامًا، فمثلًا كان الكارمية الذين اشتغلوا بالتجارة في القاهرة المملوكية يَنتظمون في مؤسسات تجارية عائلية. فلم تنتقل حرفة التجارة من الأب إلى الابن فحسب، بل شكَّلوا شبكات تجارية امتدَّت إلى آسيا وسواحل البحر الأحمر وأفريقيا قامت على أساس علاقات عائلية، وعلى كلٍّ فإن البيوت التجارية وعائلات التجار لم يُمثِّلوا أشكالًا تبادلية لحِرفة التجارة؛ فالبيوت التجارية العائلية لم يَقتصِر على استخدام أفراد العائلة، ولا بد أن يكونوا قد استخدموا أفرادًا من خارج نطاق العائلة للقيام بالأعمال المتشعِّبة التي كانت ضرورية لإدارة مصالح تلك البيوت بصورة فعالة. كما أنه كان بالإمكان أن يقوم التجار الذين يتعامَلُون مع غيرهم من أبناء الحِرفة بمُشاركة أحد أفراد عائلتهم. ولكن هناك فروق تنظيمية معيَّنة وجدت بين النمطين تتصل بإدارة دفة العمل، فعلى سبيل المثال كان تسجيل وتوثيق الصفقات أو الاتِّفاقات التجارية أكثر أهمية بين التجار الذين لا يَرتبطون ببعضهم البعض بصلة القربى. ولعل السبب المباشر لهذا التحوُّل في النسق التجاري الذي مارسه آل أبو طاقية يعود إلى اشتغالهم بتجارة البحر الأحمر وهي التجارة التي انخرط فيها كبار التجار لما تُحقِّقه من أرباح طائلة. وينسحب وضع التجار الذي يَصفه أندريه ريمون عند حديثه عن تجار القرن الثامن عشر على العقود المتأخِّرة من القرن السادس عشر، من حيث قيام أثرياء تجار القاهرة بالاشتغال بتجارة البحر الأحمر. ومن ثم كان الانتقال من التجارة الشامية إلى تجارة البحر الأحمر يُمثِّل مرتبة أرقى في سلك التجار. وتدلُّنا حقيقة دخول آل أبو طاقية دائرة تجارة البحر الأحمر في ذلك الوقت بالذات — بعد قرن من استقرار البرتغاليين في الهند — على كثافة النشاط التجاري في ذلك المجال الذي كان لا يزال يتَّسع بدرجة تسمح بقبول الوافدين الجدد من الشام مثل آل أبو طاقية وآل ابن يغمور.

وكان الاشتغال بتجارة البحر الأحمر يعني السفر إلى مكة وجدة؛ حيث تتجمَّع البضائع القادمة من الهند، وهي رحلة كانت تتمُّ إما عن طريق البحر — وخاصة خلال موسم الحج — أو عن طريق البحر في موسم معيَّن؛ حيث كان ارتياد البحر الأحمر مرهونًا بشهور معينة من السنة تطيب فيها الملاحة في ذلك البحر. وتطلَّبت الرحلة حمل مبالغ مالية كثيرة والبقاء في مكة وجدة وقتًا طويلًا، وشبكة من الأفراد الذين يُرتِّبون الصفقات ويُباشرون شحن البضائع، وقد دفع ذلك آل أبو طاقية إلى حشد رءوس أموالهم وجهودهم معًا.

وشجَّعهم على ذلك أن عددًا من رفاقهم التجار نظَّموا أنفسهم في بيوت تجارية. وتُعد عائلة الرويعي — التي عرفها آل أبو طاقية — مثلًا جيدًا لعائلة تجارية وظَّفت أفرادها الذين مثَّلوا ثلاثة أجيال في إدارة تجارة العائلة، ولم يَقتصر الأمر على الإخوة والأبناء بل امتد إلى أبناء العمومة والخئولة. ومن الواضح أن المشتركين في التجارة من أفراد العائلة لم يَحصُلوا على حصص متساوية من الأرباح؛ إذ كان البعض شركاء في رأس المال والمخاطر والأرباح، بينما كان البعض الآخر يَتقاضُون رواتب ثابتة. وكان للبيت التجاري العائلي رئيس يتولَّى إدارته، وهي المهمَّة التي قام بها أحمد الرويعي في وقتٍ من الأوقات، وتولَّى ابن أخيه علي الرويعي إدارة تجارة العائلة فيما بعد، وأصبح شاهبندر التجار. وتولَّى علي الرويعي إدارة العمليات التجارية التي كانت تتمُّ في مدن وموانئ خارجية بعيدة، وفي الوقت الذي تولَّى فيه إدارة أعمال العائلة، كان أحد إخوته محمد الرويعي يُقيم بالحجاز، بينما كان أخوه الآخر عيسى يُقيم بمخا في اليمن، ومحمد الرشيدي ابن أخته فاطمة يتردَّد بين الحجاز ومخا لاستلام البضائع وتحصيل المتأخِّرات من قيمة ما تمَّ بيعه من سِلَع؛ وذلك مقابل راتب ثابت قدره ١٥٠ دينارًا في السنة.١٤ وكان بيت الرويعي التجاري يقوم على تجمُّع رءوس أموال أفراد العائلة — ربما بأنصبة مُتفاوتة القيمة — لممارسة النشاط التجاري. وأحيانًا كان كل فرد من أفراد العائلة يختصُّ بمهمَّة معيَّنة كالسفر أو تسليم البضائع في موانئ محدَّدة. أو غير ذلك من الأمور. وعلى نفس النسق مارَسَ آل أبو طاقية أعمال بيتَّهم التجاري، ولكن بأفراد أقل.

ولا بد أن يكون آل أبو طاقية قد مارَسُوا نشاطهم المشترك ردحًا من الزمان؛ فقد سافر أحمد أبو طاقية بصحبة ولده الصغير ياسين في شوال عام ١٠٠٤ﻫ/ ١٥٩٥م إلى الحجاز مع قافلة الحج. وكان الحج يُوفِّر للتجار فرصة عقد صفقات هامة، إضافة إلى أداء الفريضة الدينية، كما كان السفر ضمن قافلة الحج أكثر أمنًا؛ لأنَّ الدولة كانت تُوفر الحماية للقافلة، وتصحبها دائمًا فرقة عسكرية. وكانت مكة مُلتقى التجار من مختلف بلاد الإسلام خلال موسم الحج، الذين كانوا يَحملون معهم بضائعهم، ومن ثم أتاحت لهم مكة — كمركز تجاري — فرصة عقد الصفقات خلال موسم الحج، هذا فضلًا عن تمتعهم بالإعفاء من الرسوم الجمركية لقدومهم مع قافلة الحج.

وفي تلك السنة المصيرية التي ذهب فيها أحمد أبو طاقية للحج بقي إسماعيل في القاهرة لإدارة الأعمال الخاصة بالعائلة، وكان ياسين قد وكله في إدارة أمور مصالحه المالية أثناء غيابه بما في ذلك البيع والشراء وتحصيل الديون نيابة عنه.١٥ وكانت رحلة أحمد أبو طاقية إلى الحجاز خاتمة أسفاره، فلم يُقدر له أن يعود منها؛ إذ مات بعد قليل في مكة. وكان ذلك آخر عهد آل أبو طاقية بالعمل معًا كبَيت تجارة عائلي؛ فقد أدَّت وفاة الرجل إلى إنهاء ذلك البيت التجاري الذي أقامته العائلة قبل ذلك بسنوات محدودة.

(٥) أنماط تجارية جديدة

ونستطيع أن نُحدِّد بداية المرحلة الثالثة من تاريخ العائلة بوفاة أحمد أبو طاقية، فقد كانت وفاته نقطة تحول في الأنماط التجارية التي اتبعها إسماعيل؛ إذ تخلى عن البيت التجاري العائلي وتولى إدارة مشروعاته التجارية خارج إطار التجارة العائلية. وكانت هناك اعتبارات عملية برَّرت — إلى حدٍّ ما — اتخاذ ذلك القرار. فقد كان نموذج البيت التجاري العائلي الذي يجمع شركاء ثلاثة يُمثِّل الحد الأدنى الذي تتطلبه التجارة الدولية عندئذٍ، ولذلك كانت وفاة أحمد أبو طاقية تعني صعوبة استمرار النشاط. ولكن كانت هناك اعتبارات شخصية أيضًا وراء اتخاذ إسماعيل لذلك القرار؛ إذ كان باستطاعة إسماعيل أن يُبقي على شبكة البيت التجاري العائلي بمشاركة أبناء عمومته وأصهاره الذين كانوا مُتمرِّسين بالتجارة والأعمال التجارية؛ ومن ثم كان قراره بالعمل منفردًا محض اختيار متعمد اتخذه على حساب الولاء للعائلة إلى حدٍّ ما. وخلال تلك المرحلة بلغ إسماعيل ذروة حياته العمَلية في مجال الحرفة، فقام بتوسيع شبكة أعماله التجارية على نطاق كبير، وارتقى إلى مرتبة شاهبندر التجار. وتمَّ ذلك اعتمادًا على نشاطه الفردي، ومن خلال أنماط تجارية خارج نطاق العائلة. ولعلَّ من بين العوامل التي أدَّت إلى هذا التحول توتر العلاقة بينه وبين أخيه ياسين، فلا شك أن لجوء الأخوين إلى المحكمة لحلِّ خلافاتهما رغم انتمائهما إلى مجتمع تُحلُّ فيه المنازعات بين أفراد العائلة داخل إطار العائلة نفسها، يقوم دليلًا على حدة الخلافات بين الأخوَين، التي تكشف عن قدر مِن الغيرة من جانب ياسين وأخواته تجاه إسماعيل الذي تمتع بشخصية صارمة مُتفتِّحة؛ فقد لجأ شقيقه ياسين — وكذلك بعض شقيقاته فيما بعد — إلى المحكمة بدعاوى تتعلَّق بمُنازَعات مالية. وكان موضوع دعوى ياسين ضد أخيه مبلغًا من المال اقترضته زوجة إسماعيل (بدرة بنت عبد الرحمن بن عريقات، وكان إسماعيل قد تزوجها في عام ١٠٠٠ﻫ/ ١٥٩١م). كما أن ثلاثًا من شقيقات إسماعيل، هنَّ: ليلى، وبدور، وسيدة الكل؛ اعتقدن أنه قد خدعهنَّ فيما يتعلق بتركة والدهنَّ؛ إذ زعم أن البضائع التي كانت بمخازن القاهرة خاصة به، واستطاع أن يُقدِّم الوثائق الدالة على ملكيته الخالصة لتلك البضائع.١٦ ورغم إثباته لسلامة موقفِه، لم تقتنع بذلك شقيقاته — على ما يبدو — بدليل لجوئهن إلى المحكمة، مما يدلُّ على أن ثمة تصرفات ما حدثت بالفعل سواء أكان من الممكن إثباتها أم عدم إثباتها بالوسائل القانونية. وقد أنبتت تلك الخلافات تنافُرًا بين أفراد العائلة تفاقم من حين لآخَر، وخرج عن دائرة النسيان. ومن المحتمل أن تكون وفاة والده أحمد أبو طاقية وراء اتجاه إسماعيل لتغيير نمط تجارته واستقلاله عن شبكة البيت التجاري العائلي.

ولا شك أن علاقته بعبد القادر الدميري شجَّعته على أن يخطو تلك الخطوة. وربما كان لقاءهما نحو منتصف ثمانينيات القرن السادس عشر في سوق الورَّاقين وسوق الحرير؛ حيث كان الخواجة عبد القادر الدميري التاجر المصري يمارس تجارة الحرير في محلٍّ بتلك السوق. وقد تعامل إسماعيل أبو طاقية مع الدميري معاملات محدودة في بداية الأمر، ثم تطورت علاقتهما إلى مشاركة في التجارة الدولية. فقاما بعدد من الصفقات، مستقلين أحيانًا، أو بالمشاركة مع أبو بكر الدميري قريب عبد القادر أحيانًا، وبعض التجار الآخرين أحيانًا أخرى. وهي الصفقات التي قادَتْهما على طريق النجاح في العمل التجاري، ودعمته صداقة حميمة بين الرجلين.

ومن الطريف أن نُحلل العلاقة بين الرجلين، فرغم توفُّر بعض المادة التاريخية حول العلاقات داخل الخلايا الاجتماعية كالأسرة أو الطائفة أو الجالية، يندر أن نجد ما يُعينُنا على تحليل العلاقات التي تطورت بصورة مستقلة خارج إطار تلك المؤسسات الاجتماعية، على أسس نابعة من الاختيار الحر للطرفين.

بدأت العلاقة كصلة عمل من خلال التعامل التجاري، وتطوَّرت بمرور الزمن لتتخذ أبعادًا أخرى، ولعلَّها كانت أكثر علاقات أبو طاقية ثباتًا ومتانةً، فكوَّنت جانبًا من حياته العملية والعامة، والحق أن صداقة الرجلين دامت طوال حياتهما منذ بداية تعارُفهما في الثمانينيات من القرن السادس عشر، وتجاوَزت العواصِف والخصومات القضائية التي قد تُسبِّبها المشاركة في التجارة. وكانت علاقة الرجلين قريبة الشبه بصلة القربى، رغم أنهما لم يرتبطا ببعضهما البعض برباط المصاهرة. فكانت صلتهما تقوم على الاختيار الحر لا على الالتزام العائلي التقليدي. ولم يَشتركا معًا في التجارة فحسب، بل امتلَكا العقارات معًا، وأقاما وَقْفًا مُشتركًا، وتشاركا في امتلاك المحلات بسوق الوراقين. وكانت المشاركة في امتلاك العقارات بالمدن أمرًا شائعًا طالما كانت التركات ملكًا مشاعًا للورثة. وفي حالة الصديقين الدميري وأبو طاقية كانت المشاركة في امتلاك العقارات لونًا من ألوان استثمار الأموال عندهما بعيدًا عن الالتزامات الاجتماعية أو القانونية. وقرب نهاية حياة إسماعيل أبو طاقية اشترك الرجلان في بناء وكالتين كبيرتين، ما لبثا أن قاما بتحويلهما إلى وقف، ولا زالت آثارهما باقية بالشارع الذي يَحمل اسم شارع خان أبو طاقية.

وثمَّة مظهر آخر من مظاهر الارتباط بين الرجلَين نجده في نمط بيوتهما؛ فقد سكنا بجوار بعضهما بنفس الحي سنين طويلة؛ إذ استأجر عبد القادر الدميري بيتًا بخط الأمشاطيين بدرب الشبراوي قرب جامع الأقمر؛ حيث كان إسماعيل أبو طاقية يقيم بنفس الدرب، ومن ثم قامت صلة جوار وتزاوُر عائلي مُستقِر بين البيتين، وعندما بُنيت الوكالة الكبيرة عام ١٠٢٩ﻫ/ ١٦١٩م قام عبد القادر بتأجير بيته لإسماعيل وانتقل إلى بيتٍ بمكان مجاور للوكالة حتى يسهل له الانتقال بينهما.١٧ وهناك دعوى بسجلات المحكمة يعود تاريخها إلى الأسابيع التي تلَت وفاة إسماعيل في ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م تُشير إلى الوشائج التي ربطت عبد القادر الدميري بعائلة أبو طاقية وصِلاته بأفرادها؛ فبمجرَّد حدوث الوفاة هرع عبد القادر إلى الأسرة المفجوعة عارضًا خدماته على السيدة عطية الرحمن أرملة الفقيد وابنتَيه جميعة وأم الهنا، فقُمن بتوكيله نيابة عنهنَّ لحضور تقسيم التركة أمام المحكمة، ومتابعة غير ذلك من الأمور. ويبدو أن متانة العلاقة بين الدميري والعائلة جعلتُه يُشارك في كل شئون أسرة أبو طاقية على نحو ما نتبيَّن من معاملاته مع أرملة إسماعيل.

وعلى صعيد الحياة المهنية لإسماعيل أبو طاقية، حدَّدت علاقته بالدميري اللون الجديد من النمط التجاري الذي كان بصدد تكوينه، بعدما نحَّى جانبًا روابطه بالشوام وبتجارة العائلة. ولكن ذلك لا يعني أنه قد أوقف التعامل مع التجار الشوام، فنجده من حين لآخر يشارك تجارًا يَحملون أسماء الطرابلسي أو الصفدي أو الشامي أو الحمصي، إشارة إلى المدن الشامية التي جاءوا منها. وإذا كان أبو طاقية لم يَقطع صِلاته التجارية بالشوام، فإنهم لم يكونوا في مقدمة المتعامِلين معه. كذلك لم يتوقف عن الاتجار مع بلاد الشام، غير أن تلك التجارة لم تحتلَّ الأولوية عنده أو تختص بجانب كبير من استثماراته. ويَنسحِب نفس الشيء على معاملاته التجارية مع أسرته، فرغم عزوفه عن صيغة البيت التجاري العائلي، نجده يَعقِد صفقة من حين لآخر مع أخيه ياسين ومع أحمد عريقات صهره. ولذلك اتخذت صفقاته مع أفراد الأسرة الطابع الرسمي أكثر مما كان متبعًا في حالة البيت التجاري العائلي. ويتَّضح ذلك في عقود المشاركة المُبرمة بينه وبين من تعامل معهم من أفراد العائلة والمسجلة بالمحكمة؛ حيث يوجد بسجلات المحكمة ما يزيد على العشرين من تلك العقود التي أبرمها إسماعيل أبو طاقية فيما بين ٩٩٦ﻫ/ ١٥٨٧م، و١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٦م. وتتَّضح علاقته الخاصة بالدميري من تلك العقود؛ فقد كان عبد القادر الدميري طرفًا ثانيًا في خمسة عشر من تلك العقود.

واتخذت الحياة العملية لإسماعيل أبو طاقية في مجال التجارة الدولية أبعادًا كثيرة منذ مطلع التسعينيات من القرن السادس عشر؛ فعلى الصعيد الجغرافي ظل البحر الأحمر يمثل القطاع الأكبر لنشاطه التجاري، ولكنه ما لبث أن امتدَّ شرقًا إلى مخا باليمن، ثم إلى الهند. وكانت الشبكة التجارية التي أقامها تضمُّ شركاء ووكلاء يسافرون بين القاهرة والهند، أو إلى مكة وجدة؛ حيث يَنتدبون شريكًا من الشركاء هناك للسفر إلى الهند نيابة عنهم، وهو ما كان يفعله غيره من تجار ذلك الزمان. وكانت الهند عندئذٍ أقصى مركز تجاري في الشرق يتعامَل معه تجار القاهرة، كما أن عدد التجار القاهريِّين الذين اتصلوا مباشرة بالهند ظلَّ محدودًا، وكان تجار البحر الأحمر الآخرين يشترون بضائع الهند وغيرها من السِّلع الآسيوية من مخا باليمن أو مكة أو جدة. غير أن ذلك يشير إشارة واضحة إلى المدى الذي كانت لا تزال الشبكات التجارية تصل إليه في أوائل القرن السابع عشر، بعد استقرار البرتغاليِّين بالهند بقرن كامل من الزمان، وبعد تكوين الشركات التجارية الهولندية والإنجليزية بوقت قصير.

figure
الشبكة التجارية لإسماعيل أبو طاقية، الممتدَّة على ثلاث قارات.
وكانت المدن التجارية التي تقع على البحر الأحمر مثل مخا وجدة مراكز هامة لتلك التجارة. ونستنتج من وصف معاصر لمدينة مخا أن المتاجر التي وصلتها في موسم ١٦١٦م جاءت من ديو، وسورات، والمالبار، وقاليقوط، والديبل، وشاول، وأتشى، ومقديشيو وغيرها من البلاد،١٨ وهي أسواق غنية بمُختلف أنواع البضائع. غير أن أولئك الذين استطاعوا الوصول إلى أسواق الهند مباشرة — كأبو طاقية والقِلة النادرة من التجار — تمتَّعوا بمزايا لم تتوفر لزملائهم الذين كانوا يشترون السِّلع الهندية من أسواق مخا أو جدة، حصلوا على تلك البضائع بسعر أقل، ووفَّروا العمولات التي تقاضاها الوسطاء.
وإضافة إلى ذلك، أقام إسماعيل أبو طاقية شبكة تجارية أخرى ضمَّت بعض مدن البحر المتوسط وامتدت إلى إستانبول وسالونيك والبندقية. فكان يُصدِّر نسبة كبيرة من البضائع التي يَجلبها من الهند إلى بعض موانئ الدولة العثمانية وأوروبا عن طريق الإسكندرية ورشيد ودمياط. وكان له وكيل تجاري في أفريقيا — مصدر تجارة الذهب وريش النعام والعاج والعبيد — بلغ نشاطه مدينة كانو، وكان ذلك القطاع من التجارة الذي درسه ترنس وولز يتركَّز في أيدي تجار الصعيد وبلاد المغرب؛ لأنَّ الطرق المؤدية إلى بلاد السودان وبلاد التكرور كانت تمرُّ عبر الصعيد بطريق النيل إلى القاهرة، أو عبر الصحراء الكبرى إلى وادي النيل.١٩ ورغم أن التجارة الأفريقية مثَّلت نشاطًا ثانويًّا لأبو طاقية، إلا أنها كانت ذات قدر ملحوظ، مما يشير إلى أن الشرائح العليا من التجار كانوا أقل تخصصًا في نوع التجارة التي اشتغلوا بها، والأسواق التي تاجروا معها، من التجار الذين كانوا يَنتمون إلى الشرائح الوسطى من طائفة التجار.

وفوق كل ذلك، اهتمَّ إسماعيل أبو طاقية بالتجارة المحلية، وخاصة تجارة منطقة الدلتا، وتنوَّعت البضائع التي اتجر بها تنوعًا كبيرًا، كالأحجار الكريمة وخاصة ياقوت سرنديب والذهب الذي جلَبَه مَن كانوا ببلاد التكرور. وعند نهاية القرن السادس عشر كانت التوابل — على ما يبدو — وبصفة خاصة الفلفل تُمثِّل السلعة الغالبة في التجارة وليس الأحجار الكريمة، واحتلَّ البنُّ منزلة تقع بين النوعين. ويَنسحب نفس الشيء على السكر الذي كان إسماعيل أبو طاقية يُصدِّره بكميات مُتزايدة في مطلع القرن السابع عشر. كما اتجر بالمنسوجات على نطاق واسع. وكان التحوُّل من التوابل إلى البُنِّ في تجارة البحر الأحمر قد تم في حياته، ولعب دورًا فيه. وبعبارة أخرى، كان إسماعيل أبو طاقية ووكلاؤه وشركاؤه يَتجرون في بضائع متنوعة من السِّلع الفاخرة خفيفة الوزن غالية الثمن إلى السلع الثقيلة كبيرة الحجم كالأخشاب المستوردة والمعادن والمرجان، والمنتجات المحلية كالسكر والأرز والمنسوجات، والبضائع العابرة عن طريق القاهرة إلى المراكز التجارية التي يتوفَّر فيها الطلب عليها مثل التوابل والبن، والبضائع التي تُستهلك محليًّا مثل النيلة التي استخدمت في صباغة المنسوجات.

وبدأ إسماعيل أبو طاقية نحو العقد الأول من القرن السابع عشر يُقيم شبكة من النشاط التجاري داخل مصر ذاتها، امتدت إلى المناطق الريفية في الدلتا، خاصة إقليم المنوفية والغربية؛ حيث كان ينتج السكر، فاستثمر أموالًا في زراعة القصب وصناعة السكر. وكان استثماره في هذا المجال فرديًّا، فكان ذلك أحد المشروعات التي لم يشاركه فيها صديقه عبد القادر الدميري، رغم ما كان يتطلبه من أموال كثيرة. ولعل ذلك يرجع إلى وجود الدميري بعيدًا في مكة وجدة لوقت طويل لرعاية المصالح التجارية هناك. واستفاد إسماعيل أبو طاقية من وجوده بالقاهرة الذي ساعَدَه على إقامة نوع من الصلات الاجتماعية التي أتاحت له فرصة إقامة مشروع ناجح لإنتاج السكر. ولكن بغض النظر عن الأسباب التي دعَتْه إلى القيام بذلك المشروع منفردًا، فإن ذلك يُوضح لنا تعدُّد الأُطُر التي عمل من خلالها، فنجده يعمل أحيانًا في نطاق الأسرة، ويشارك البعض أحيانًا، ويعمل منفردًا أحيانًا أخرى. هذا التعدد في أطر العمل وفي إقامة شبكات النشاط التجاري كان عظيم الأثر بالنسبة له؛ إذ كان باستطاعته أن يُعدِّل من نمط نشاطه بشكل أسرع من غيره من التجار، وأن يتوافق مع أحوال السوق المتغيِّرة.

وتُوِّجت حياة إسماعيل أبو طاقية العملية عندما أصبح شاهبندر التجار عام ١٠٢٢ﻫ/ ١٦١٣م، فخلف في المنصب صديقه وزميله القديم الخواجة علي الرويعي في رئاسة طائفة التجار. وكانت تلك الطائفة تضم التجار المشتغلين بالتجارة الدولية الشرقية، وهم أوسع تجار القاهرة ثروةً. واحتفظ إسماعيل بالمنصب حتى وفاته عام ١٠٣٤ﻫ/ ١٦٢٤م (ماعدا فترة قصيرة من عام ١٦٢١ عندما أصابه المرض وتولَّى رئاسة الطائفة عثمان بن يغمور مؤقتًا)، وقد خلفه في الشاهبندرية جمال الدين الذهبي. ولا نَعلم إلا القليل عن الطريقة التي كان يُنتخب أو يُعيَّن بها شاهبندر تجار القاهرة. فقد تضمنت سجلات المحاكم مادة وثائقية عن شيوخ الطوائف الأخرى، سواء كانت طوائف تجار مثل تجار الصابون أم تجار سوق مرجوش مثلًا، أم طوائف صناع حرفيِّين بما في ذلك النساجون والمعماريون (كالحجَّارين والنقاشين) والحمارون وغيرهم من المشتغلين بالحرف التي لا تتطلَّب مهارة خاصة. ولكنَّنا لا نجد — حتى الآن — معلومات عن الطريقة التي كان يَصل بها التاجر إلى منصب الشاهبندر. وكل ما نعرفه أنه لم يكن وراثيًّا عند مطلع القرن السابع عشر، كما لم يكن حكرًا لعائلة بعينها، ولم يُشترط في الشاهبندر الانتماء إلى أصل معيَّن؛ فقد يكون مصريًّا أو شاميًّا أو مغربيًّا؛ فالخواجة عبد القوي العاصي كان تاجرًا مصريًّا من بولاق، والرويعي الذي خلفه أبو طاقية في الشاهبندرية كان من رشيد، وجمال الدين الذهبي كان قاهريًّا، وابن يغمور كان حلبيًّا. كذلك لم يكن الشاهبندر يتولى منصبه بالضرورة لمدى الحياة؛ فرغم استمرار أبو طاقية شاغلًا له حتى موته، تولى من سبقوه الشاهبندرية لسنوات قليلة ثم انتقلت إلى غيرهم، وبعبارة أخرى، كان المنصب مُتداولًا، متاحًا لأكثر التجار نجاحًا واستحقاقًا. وكانت تلك سمة المنصب في أوائل القرن السابع عشر، غير أنها تغيرت — على ما يبدو — في القرن الثامن عشر حيث يشير أندريه ريمون إلى أن المنصب كان في الغالب محصورًا في بعض العائلات مثل الشبراوي ثم المحروقي فيما بعد.٢٠ ويبدو أن الإجراءات التي كانت تُتَّبع لشغل الشاهبندرية اتفقت مع تلك التي كانت تُتَّبع عند تعيين أو انتخاب شيوخ الطوائف الأخرى؛ حيث كان الشخص يُختار بإجماع أعضاء الطائفة، وتُصدِّق المحكمة الشرعية على ذلك الاختيار. ونظرًا لأهمية الشاهبندرية لا بد أن يكون للسلطات دور في إقرار الاختيار.
وكانت تقع على عاتق الشاهبندر مسئوليات كثيرة، شأنه في ذلك شأن شيوخ الطوائف الأخرى، فكان يقوم بالتوسُّط في المنازعات التي تنشب بين التجار وبعضهم البعض، أو بينهم وبين السلطات. ورغم أن المنصب كان يتطلَّب اتصالًا وثيقًا بالسلطات فإن درجة ذلك الاتصال تفاوتت من حين لآخر؛ فكانت الصلات تقوى عندما تكون السلطة في عنفوان قوتها، وتضعف عندما لا يكون الأمر كذلك. وعلى سبيل المثال، لا بد أن تكون العلاقات التي قامت بين إسماعيل أبو طاقية والدولة مختلفة تمامًا عن تلك التي قامت بين السيد محمد المحروقي شاهبندر التجار والدولة في عهد محمد علي باشا؛ فقد تولى المحروقي أمر الصفقات التجارية الخاصة بالباشا وشركائه، وكُلف بنقل القوات والإمدادات الخاصة بحملة محمد علي على الحجاز، على نحو ما ورَد برواية الجبرتي لحوادث عام ١٢٣٢ﻫ/ ١٨١٦م. وبالإضافة إلى التوسط بين التجار، يبدو أن المحروقي تولى مسئولية فضِّ المنازعات بين الحرفيِّين والباعة في القاهرة، ومعاقبة المخطئين منهم. وليس لدينا دليل على وجود أي من تلك المسئوليات تجاه أرباب الحرف الأخرى ضمن اختصاصات الشاهبندر، في القرن السابع عشر.٢١ وعلى النقيض تمامًا، تُشير سجلات المحكمة الشرعية إلى أن شيوخ تلك الطوائف هم الذين تولَّوا التدخُّل لفض المنازعات بين أفراد طوائفهم. ورغم أن وضع أبو طاقية وفر له نفوذًا اجتماعيًّا عريضًا، لا نجد دليلًا على أنه تولى أي مسئوليات تجاه الطوائف الأخرى.
وقد مارس إسماعيل أبو طاقية مهامَّ الشاهبندر باهتمام كبير، فكان يتدخل في المسائل التي تُهم التجار، ويتوسَّط في المنازعات التي تنشب بينهم، ويشهد على معاملاتهم، فكان حاضرًا دائمًا عند الحاجة إليه. وكانوا يتوقَّعون مساعدته دائمًا وقت الأزمات، وتولى الشهادة في الدعاوى التي كان يرفعها التجار أمام المحاكم؛ ففي عام ١٠٢٨ﻫ/ ١٦١٨م حضر جلسة المحكمة التي نظرت في الدعوى المرفوعة ضد الخواجة كريم الدين البرديني — من تجار البحر الأحمر — واتُّهم فيها بعدم سداد قرض استدانة.٢٢ وأحيانًا كان بعض التجار يُودعون لديه شيئًا ثمينًا كأمانة لسبب أو لآخر، مثل سيف ذهبي مُطعَّم بالزمرد والياقوت والماس.٢٣ وكان إسماعيل أبو طاقية يَحضر جلسات توزيع تركات المتوفَّين من التجار إذا كانت الوفاة خارج البلاد. تلك كانت مسئولياته تجاه طائفة التجار؛ فقد كان لحضوره وزن كبير في المناسبات الهامة، حتى لو كانت تلك المناسبات شخصية أو عائلية مثل الشهادة على عقود الزواج أو الطلاق. وكانت الخدمات التي تستطيع تقديمها للتجار متنوعة، وتعتمد على الجهد والوقت الذي كان يرغب في بذلهما من أجل أعضاء الطائفة.

وكان الشوام المُقيمون بالقاهرة، وخاصة الحمصيِّين منهم، يُدركون أهمية المكانة التي بلغها أبو طاقية بتولِّيه الشاهبندرية بالنسبة لهم. ولم يُخيِّب إسماعيل أبو طاقية ظنهم، فحرص على حضور المناسبات التي كان لحضوره فيها وزن كبير. وزاد اتصال التجار الحمصيِّين والشوام به بعد وصوله إلى الشاهبندرية عن ذي قبل، للوقوف إلى جانبهم، أو التدخل بين زوجَين على وشك الطلاق، أو حضور قسمة التركات. ولعلَّ عدم وجود تنظيم للجالية الشامية بالقاهرة جعل الشوام يَعتبرون من يصل منهم إلى الشاهبندرية كبيرهم.

وعلى كلٍّ، امتدَّت مكانة الشاهبندرية إلى ما وراء تلك الدوائر المحدودة؛ ففي المجتمعات الحضرية الكبيرة كان الشاهبندر يتمتَّع بمكانة اجتماعية تردَّدَت أصداؤها في ألف ليلة وليلة؛ فقد تضمَّنت حكايات تدلُّ تفاصيلها على أنها تعود إلى العصر العثماني وإلى القاهرة تحديدًا. وقد وصَف التاجر شمس الدين في إحدى تلك الحكايات بأنه أحسن التجَّار وأكثرهم أمانة، وأنه كان له خدم وأتباع وعبيد وجوارٍ ومماليك، وكان واسع الثراء وشاهبندر تجار القاهرة. وفي حكاية أخرى قالت الأم لابنها أن أباه كان شاهبندر التجار في بلاد مصر وسلطان أبناء العرب؛ أي إنه حظي بمكانة رفيعة بين أبناء البلاد. ومِن الطريف أن نرى كيف كان الشاهبندر يُستقبل عند قدومه إلى السوق كل صباح لممارسة عمله؛ فقد جرَت العادة على أن يَطلب نقيب السوق من التجار قراءة الفاتحة عند وصول الشاهبندر من بيتِه، فيصحبه التجار إلى مقر الشاهبندر ويقرءون الفاتحة أمامه، ويتمنَّون عليه يومًا طيبًا، ثم ينصرف كلٌّ منهم إلى متجره.٢٤ وتدلُّ الحكاية على أنَّ الشاهبندر كان يتمتَّع بقدر كبير من التبجيل. ويبدو أن إسماعيل أبو طاقية كان يَلقى نفس الاستقبال يوميًّا عند قدومه إلى السوق، ولا بد أن نظام حياته في العقد الأخير من عمره كان مُشابهًا لذلك الوصف الذي ورَد بألف ليلة وليلة عن الشاهبندر.

خاتمة المطاف

وُفِّق إسماعيل أبو طاقية في إقامة مشروع تجاري ناجح، مع عائلته أولًا، ثم مُستقلًّا عن العائلة فيما بعد، واتبع في سبيل ذلك أنماطًا مُختلفة من العمل التجاري، وأقام عددًا من الشبكات التجارية المعقَّدة. ولكن الإبقاء على حرفة التجارة في العائلة التي مارست الحِرفة لعدة أجيال مُتعاقبة، تطلب وجود أبناء وأحفاد يَبدءون من حيث ينتهي دوره. ولكن إسماعيل لم يَنجح في تحقيق ذلك، رغم محاولاته المستميتة، فلم يُعمر مشروعه التجاري — الذي كونه على مر السنين — طويلًا بعد وفاته؛ وذلك لأسباب بعضها شخصي وبعضها الآخر عائلي، غير أننا نحتاج إلى البحث عن أسباب ثقافية وقانونية لتفسير ذلك الوضع؛ لأن من الثابت تاريخيًّا أن العائلات التجارية سواء عائلات الكارمية كعائلة الخروبي وعائلة القويق في القرن الرابع عشر والخامس عشر، أم مَن عاصروا أبو طاقية مثل عائلتَي الرويعي والشجاعي لم يبقَ لها وجود في التجارة بعد جيلَين أو ثلاثة أجيال متعاقبة.

وكان من بين الأسباب الشخصية التي أدَّت إلى انهيار تجارة أبو طاقية عدم وجود ورثة من الذكور البالغين؛ فقد أنجب أبو طاقية الكثير من الأطفال، ولكن من بقي منهم على قيد الحياة كانوا إناثًا فيما عدا ولدًا واحدًا هو زكريا، وحدث نفس الشيء لولده زكريا؛ فعندما قضى نحبه لم يخلف إلا ذرية من الإناث، ومات أولاده الذكور في طفولتهم. وبذلك كان زكريا آخر الذكور في عائلة أبو طاقية، وكان قاصرًا عند وفاة والده إسماعيل، فلم تُتح لأبيه فرصة نقل تجارته إلى ولده، شأنه في ذلك شأن غيره من التجار. ولا بد أن يكون زكريا قد واصَل نشاط أبيه في التجارة بعد بلوغه الحلم، مُستفيدًا من شركاء أبيه من التجار المُحنَّكين مثل الدميري وأحمد عريقات اللذَين كانا على معرفة تامَّة بنشاط أبيه، وقدَّما له العون حتى استطاع أن يقف على أقدامه. ولكن ما لبث أحمد عريقات أن تَنكَّر للثقة التي خصَّه بها إسماعيل أبو طاقية؛ فبدلًا من أن يلعب دور الأخ الكبير الذي يرعى مصالح أبناء عمومته، أحسَّ أفراد العائلة أنه يضع مصالحه الشخصية فوق كل اعتبار. وحدثت مواقف — فيما بعد — أدت تصرفاته حيالها إلى جعل ولائه وأمانته موضع الشك. مما خيب الآمال التي عقدوها عليه، وخاصة أن إسماعيل أبو طاقية كان يخصُّه بالرعاية في سالف الزمان.

وثمَّة سبب آخر يعود إلى الاستعداد الشخصي لزكريا بن إسماعيل نفسه؛ فقد بلغ الرشد بعد وفاة أبيه بوقتٍ قصير، غير أنه لم يَرِث عن أبيه كفاءته أو شخصيته. ويتَّضح ذلك من الدعاوى الخاصة به التي وردَت بسجلات المحكمة الشرعية في السنوات التي أعقبت موت إسماعيل. وتشير تلك الدعاوى إلى السبيل الذي سلَكه زكريا الذي كان يفتقر إلى قُدرة والده على جمع الناس من حوله، وتوثيق العلاقات مع الناس على اختلاف مَراتبهم، وكسب احترامهم. فقد استطاع إسماعيل أن يَحتفظ طوال حياته بعلاقات حميمة مع الشوام والحمصيِّين الذين عرفهم في شبابه، كما حافظ على الود مع زملائه التجار كالدميري وعائلته على مر السنين. وكان زكريا يفتقر إلى ذلك كله؛ فكثيرًا ما كان يختصم البعض أمام المحكمة من أجل إيجار دكان بالوكالة أو مسكن بها بدلًا من أن نراه يُكوِّن شركة أو يعقد صفقة. وعندما مات الدميري بعد وفاة إسماعيل بنحو سبع أو ثماني سنوات لم يهتمَّ زكريا بالإبقاء على العلاقات الودية مع أرملة الدميري، ودخل معها في نزاع قضائي حول إيراد الوقف المشترك بين أبو طاقية والدميري، وانتهى النزاع لصالح السيدة، وهو أمر لم يَحدث من قبل لوالده إسماعيل أبو طاقية الذي لم يكن يلجأ إلى القضاء، إلا إذا كان مُتأكدًا من سلامة موقفه. مما يدلُّ على أن قدرة إسماعيل على النجاح في أعماله التجارية لم تكن تعود إلى مهارته في التجارة وحدها، وإنما كانت ترتكز على مواهب أخرى لم يَرثْها عنه زكريا.

كذلك لعب نظام الإرث حسب الشريعة الإسلامية دورًا في تفكك ثروة إسماعيل أبو طاقية بعد موته؛ فقد ترك إسماعيل عددًا كبيرًا من الورثة: حصلت زوجاته الثلاث على ثُمن الثروة، ووزعت بقية التركة على عشر بنات وولد واحد هو زكريا، الذي لا بد أن يكون قد نال نصيبًا محدودًا من تلك التركة لم يَزِد عن ١٤٫٥٪ من التركة. ورغم ذلك النصيب المحدود، بقيَ زكريا يتمتَّع بالثراء، فإلى جانب نصيبه من التركة، كانت هناك حصته في الوقف، وثروة أمه الخاصة، وإن كان ذلك كله لا يُعادل ثروة والده. وهنا نجد أن زكريا لم ينجح في البحث عن مخرج من هذا المأزق، مثلما فعل أبناء جيله الذين انحدروا من عائلات تجارية عريقة؛ فأبناء عائلة يغمور — مثلًا — احتفظوا بأموالهم وأموال أخواتهم البنات بعد تقسيم تركة أبيهم، لتُكوِّن رأس المال الذي يوظفونه في تجارتهم؛ إذ نجد في سجلات المحكمة وثيقة تشير إلى مشاركة أختهم مُؤمنة لهم في صفقاتهم التجارية. غير أنَّ ورثة إسماعيل لم يَسيروا على دربهم.

وهناك عامل تنظيمي آخر يُفسِّر عدم استمرارية تجارة أسرة أبو طاقية بعد وفاة إسماعيل، فرغم ضخامة أعمال إسماعيل، لم تكن تجارته ذات شخصية قانونية مستقلَّة عن ذاته حتى يمكن استمرارها بعد وفاته؛ إذ اختلط رأس ماله برأس مال شُركائه في صفقات مُحدَّدة عُقدت بمبادرات فردية. ولعله كان من المُمكن أن تؤدِّي هذه العوامل التنظيمية إلى تيسير سبيل استمرار تجارة العائلة لمدى أبعد من جيلين أو ثلاثة أجيال، على نحو ما شاع بين عائلات التجار.

وفى نفس الوقت الذي كانت فيه عائلة أبو طاقية تَبتعِد عن التجارة اتجهت إلى الارتباط بالنخبة الحاكمة، فكان زكريا يشتغل بالتجارة من حين لآخر، وقد لُقب بالخواجة ثم الخواجكي فور ممارسته العمل بالتجارة بعد بُلوغه الرشد. ولكن ذلك لم يدم طويلًا، فاختفت الإشارات إلى نشاطه التجاري من سجلات المحكمة. وإذا كانت المصالح التجارية الخاصة بزكريا قد ضَعُفت، فإنه استطاع أن يُوثق صلته بالحكام. ولا شك أن النفوذ الاقتصادي والاجتماعي الذي اكتسبه إسماعيل أبو طاقية قد استُغلَّ من جانب أبنائه، فاستطاع زكريا أن يجدَ لنفسه مكانًا في طائفة المتفرِّقة العسكرية من خلال علاقاته بالنخبة العسكرية. ومن ثم تحرَّكت ثروة أبو طاقية في فترة الحراك الاجتماعي إلى آفاق غير تلك التي اتجه إليها إسماعيل.

وهكذا استطاع إسماعيل أبو طاقية أن يصل بأسرته التجارية إلى الذروة التي كان يتطلع إلى بلوغها أيُّ تاجر في زمانه. ولم يستطع أيٌّ من ذريته أن يبلغ ما بلغ من الشهرة على نحو ما تكشف عنه الوثائق التاريخية، فعاد الغموض النِّسبي يحيط بأسرته على نحو ما كانت عليه الحال أيام جده وأبيه. وسادت مظاهر النشاط التجاري الذي مارسه إسماعيل، والاتجار المتزايد في البضائع التي راجت في الأسواق على أيامه وخاصة البُن والسكر، لمدة قرن آخر من الزمان أو نحو ذلك. وذهبت أرباحها الطائلة إلى تجار آخرين لم يكن من بينهم أحد من ذريته.

١  Raymond, “Artisans et Commercants,” II, pp. 579–81.
وانظر حواشي تلك الصفحات.
٢  Masters, “The Origins of Western Dominance in the Middle East,” New York, 1988, p. 15.
٣  يروي كريستوفر هارانت أن الرحلة من غزة إلى دمياط استغرقت بالبحر أسبوعًا كاملًا (٢٢–٢٩ سبتمبر ١٥٩٨م)، انظر Le Voyage en Egypte de Cristopher Harant, Cairo, 1972, pp. 24–27.
٤  كان التجار الذين يسلكون تلك الطريق يدخلون القاهرة من باب النصر، الباب الشمالي للقاهرة؛ حيث يدفعون المكوس على ما يحملون من بضائع، انظر:
Nelly Hanna, “Habiter au Caire,” p. 20.
٥  نفس المرجع، ص١٠٢.
٦  Jean Sauvaget, “Les caravanserails syriens du hadjdj de Constantinoplea,” Ars Islamica, Vol IV, 1937, p. 98–121.
المحبي، خلاصة الأثر، القاهرة، ١٢٨٤ﻫ، ج٢، ص٢١٤–٢١٧.
٧  الباب العالي ٥٨، ٨٢٠ بتاريخ ١٠٠٠ﻫ/ ١٥٩١م، ص٣٣٤.
٨  الصالحية النجمية ٥٤٩، بتاريخ ٩٨٦ﻫ/ ١٥٧٨م، ص٥٦-٥٧.
٩  الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، بيروت ١٩٤٩م.
١٠  Chabrol, “Essai sur les Moeurs, Description de L’Egypte, Etae Moderne,” II, 2, p. 391.
وتَعتمد تقديرات شابرول لدرجة معرفة القراءة والكتابة على عدد الكتاتيب التي حصرها رجال الحملة، ولا تزال آثار بعضها باقية، وكانت تلك الكتاتيب تُقام فوق الأسبلة.
١١  جدير بالذكر أن إسماعيل وياسين قاما في مرحلة تالية من حياتهما بإقامة سبيل كتَّاب.
١٢  الدشت، ١٠٦، بتاريخ ١٠٠٠ﻫ/١٥٩١م، ص٦٤٢.
١٣  الباب العالي، ٥٤، ٩٨، بتاريخ ٩٩٥ﻫ/ ١٥٨٦م، ص٢٥.
١٤  الصالحية النجمية، ٤٧٠، ٩٦٨، بتاريخ ٩٩٥ﻫ/ ١٥٨٦م، ص٢٣٦.
١٥  الباب العالي، ٦٠٩٫٦٤ و٦١٨، بتاريخ ١٠٠٤ﻫ/ ١٥٩٥م، ص١٤٣ و١٤٥.
١٦  القسمة العسكرية، ١٢، ٢٧٥ بتاريخ ١٠٠٥ﻫ/ ١٥٩٦م، ص١٨٤.
١٧  الباب العالي، ١٠٢، ١٣١٨ بتاريخ ١٠٢٩ﻫ/ ١٦١٩م، ص٢٠٥.
١٨  C. G. Brouwer and A. Kaplanian, “Early Seventeenth Century Yemen,” Leiden, 1988, pp. 94–97.
١٩  ويُقدم هذا الكتاب مختارات من سجلات شركة الشرق الهولندية.
Terence Walz, “Trade Between Egypt and Bilad al–Sudan,” Cairo, 1978; “Trading into the Sudan in the Sixteenth Century”, Annales Islamologiques, vol. 15, 1979, pp. 211–233.
٢٠  Artisans, p. 580.
٢١  Thomas Phillip and Moshe Perlmann, “Al-Jabrti’s History of Egypt,” Stuttgart, 1994, vol. v, pp. 378-9. عجائب الآثار، طبعة بولاق، ج٤ ص٢٩٦.
٢٢  القسمة العسكرية، ٥١٥٫٣٣ بتاريخ ١٠٣٨ﻫ/ ١٦١٨م، ص٣٤٩.
٢٣  الباب العالي ٣٥٤٦٫٩٨ بتاريخ ١٠٢٥ﻫ/ ١٦١٥م، ص٤٧٨.
٢٤  Lane, vol. II, pp. 223, 228.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤