الرموز في الأحلام

منذ شرع الناس يؤلون الأحلام عرفوا أن في الحلم رموزًا.

ومنذ شرع الإنسان يؤلِّف اللغات اعتمد على الرموز في تأليف اللفظة فعرف المجاز والاستعارة، وهما من الرموز، وهما قوام اللغات كلها.

ولذلك فإننا يمكننا أن نفسر الرموز التي نجدها في الأحلام برموز اللغات؛ أي بمجازاتها واستعاراتها، وقد استطاع فرويد أن يطابق بين رموز الأحلام وبين لغة المصريين القدماء.

وفي هذا الفصل وفيما يليه سنعالج عدة أحلام وسنكثر منها؛ لكي يألف القارئ طريقة النظر للحلم، وهي تنحصر في أن العقل الباطن ينظر للدنيا بواسطة الحلم نظر القدماء ويسير على ثقافتهم، وأحيانًا يرد إلى ما قبل ذلك من ثقافة الغابة، ويجري في كل ذلك على أسلوبٍ طفليٍّ.

ومما يجب التنبيه إليه أن الحلم لا ينبئ بالمستقبل، وإنما يعبِّر عن هموم صاحبه، وقد يجهل صاحبه نفسه هذه الهموم، فقد تقوم في نفوسنا عواطف بشأن الخوف أو الجوع أو الحب أو الغلبة فنكبت هذه العواطف ونحن في وعينا، وقد ننساها تمامًا، ولكنها قد اندسَّت في العقل الباطن، فهي تظهر في الأحلام بأشكال مختلفة بعد مضي السنوات على قيام العاطفة في النفس.

ومما يلاحظ في الأحلام أن العقل الباطن يعبِّر فيها عن المعاني المجردة بأشياء مجسمة، فنحن لا نرى في الحلم الطول أو الجمال، ولكننا نرى رجلًا طويلًا أو امرأة جميلة، نعني أن العقل الباطن يرمز إلى المعني المجرد بالشيء المجسم، وهذا يتَّسق وما نقوله من أن العقل الباطن يجري على أساليب التفكير القديمة أو أساليب الطفولة.

•••

«ح» شاب في نحو الثلاثين، مضى عليه نحو سبع سنوات وهو يحلم هذا الحلم: يرى أنه يذهب إلى المحطة ويشتري تذكرة القطار ثم يقصد إلى القطار ويحاول أن يدركه فلا يمكنه؛ لأنه يقوم ويسافر قبل إدراكه.

وهذا الحلم يتكرَّر، وأنا أعرف ظروفه فيسهل عليَّ الحل بدون أن أسأله كثيرًا، فهو يتطلع إلى الرقيِّ ولكنه لا يثق بنفسه، وقد رسخت في عقله الباطن فكرة العجز حتى صار لا يؤمِّل بأنه سيحقق أغراضه في النجاح، وعقله الباطن يرمز له عن فشله بأن القطار يفوته على الدوام.

ومثل «ح» يحتاج لكي تُشفى نفسه من هذا الوهم إلى استهواء، وإلى أن يلقِّن نفسه قبيل النوم بأنه ناجح في الحياة، وهذا ما قلته له.

•••

«ر» شاب في العشرين تتغلب خواطره على وعيه وقت اليقظة، وهو يحلم حلمًا يتكرَّر منذ سنوات. وهو أن يرى نفسه يطير فوق النيل.

ولكي أقف على كُنْه هذا الحلم وأعرف نيته المكبوتة في نفسه استعنت بخواطره وأحلامه الأخرى. فسألته أن يذكر لي ما خطر بباله عندما أسأله عن مكان الطيران في النيل فذكر لي مكان مولد لأحد الأولياء وفيه قصف وأفراح ولعب ولهو.

ثم سألته أن يذكر لي حلمًا آخر، فذكر حلمًا حديثًا وهو أنه كان مع الملك يدفع عنه زحام الناس.

فالطيران عنده رمز إلى رغبته في الرقيِّ فإنه لا يفكر في أقل من الوزارة وما يتبعها من لذة وسرور وسعادة.

•••

«ج» يحلم أنه يسير على طريق واضح مُعبَّد، ثم يرى خاله قاعدًا إلى جنب الطريق، وبعد ذلك يرى طريقًا ضيقًا متعرجًا فيسير فيه في تعب وخوف حين يبلغ جدارًا عاليًا فيقف عنده حائرًا ويستيقظ.

وأنا أعرف «ج»، فلا أسأله كثيرًا عن حياته، ولكنِّي أسأله عن خاله؛ لأني لا أعرفه، فيقول لي: إنه رجل عاطل لا يربح قرشًا، وإنه يكرهه.

و«ج» هذا كما أعرفه رجل كان موظفًا في الحكومة يعيش آمنًا، له مرتب يتقاضاه آخر الشهر. ثم لأمرٍ ما فُصل عن وظيفته، فاشتغل بالسمسرة ولكنه لم ينجح فيها، وهو أبدًا في قلق عن المستقبل وما يخبئه له.

فالطريق الواضح يمثل له توظفه في الحكومة وأنه لا يخشى شيئًا، ثم يرى خاله وهو رمز للخيبة في الحياة، ثم تتعوج أمامه الطريق وتضيق، وهذا رمز لأعمال السمسرة التي لا يربح منها، ثم يرى الحائط يسدُّ الطريق لأنه قد دبَّ الخوف في قلبه منذ زمنٍ بأن السمسرة ستُقفل في وجهه.

فهذا هو طريق «الحياة» كما يتوهَّمه عقله الباطن، والحلم صراع: يريد هو أن ينجح فيقف عقله الباطن ويبين له أن الطريق ضيق وأنه قد ينتهي بجدار يسدُّه.

فهنا يدرك القارئ جملة أشياء:
  • (١)

    أن الحلم يعبِّر عن همومه، والعقل الباطن يحاول أن يحلَّ الموضوع ولكنه لا يقدر.

  • (٢)

    أن العقل الباطن عبَّر عن الخيبة بشخصٍ، وهذا يتَّسق مع طرق القدماء في التفكير، حين كانوا يعبِّرون عن الأفكار المجردة بأشخاص، فللشرِّ شخص إبليس، وللخير شخص الإله، وهلمَّ جرًّا.

•••

«ح» فتاة في الثامنة عشرة تحلم أن المصور جاء لكي يصورها وكانت في أحسن ملابسها.

فالحلم في ظاهره بريء، ولكن الفتاة تُتَّهم بالنسبة لسنِّها، ولما كان الموضوع دقيقًا فأنا أسألها أسئلة أحاول أن أظفر منها بكلمة تفلت منها، والكلمة إنما تفلت على غير وعيها إذا كانت خاطرًا لا سلطان للعقل الواعي عليه.

فأسألها: يأخذ صورتك بكل جسمك؟

فتقول وهي لا تعي ما تقول: يأخذ وجهي.

فالمصور هو رمز للزوج.

•••

هذا الحلم لي بشأن أحد أصدقائي يُدعى «س».

حلمت أني رأيته قد طرد زوجته، وكانت طويلة، وتزوج أخرى قصيرة، فقصدت إليه ألومه وأبيِّن له خطأه، فنحَّاني بيده وقال لي إن هذا ليس شغلي.

هذا هو الحلم، وطريقتي أنا في تفسير أحلامي هي الطريقة التي ينصح بها رفرز، وهو أني عند اليقظة أو بَوادي اليقظة أفكر في الحلم وأقيِّد الخواطر الواردة بشأنه، وبهذه الطريقة تمكنت من التفسير الآتي: في النهار؛ أي قبل المساء الذي حدث فيه الحلم، كنت عند صديقي «س»، فرأيته يُخرج كاتبه، وهو رجل طويل كنت آنَس بحديثه، ويجيء بكاتب قصير بدلًا منه، ولم يرُقني هذا العمل، وأخبرته بذلك. ولكن لماذا رمز العقل الباطن بالزوجة إلى الكاتب؟

لأنه يجري على الطريقة القديمة في اعتبار الزوجة خادمًا في البيت يمكن طردها كما يمكن طرد الكاتب المستخدم.

•••

هذا الحلم التالي لي: رأيتني في طيارة عمومية تسوقها امرأة، وفيها امرأة أخرى تقتضي من الركاب ثمن التذاكر وتعطيها إياهم، والطيارة مستطيلة وفيها مقاعد على الجانبين، فلما قعدت لاحظت أن أحد الداخلين يحمل مجلة «…» في يده، ثم طارت الطيارة، وكانت في طيرانها ترتفع كأنها في خط عمودي، فدبَّ في قلبي الخوف وأمسكت بمسند المقعد الذي أمامي، ووضعت رأسي بين يدي وأنا خائف، ثم صحت بصوت مرتعش وأنا لا أرفع رأسي من الخوف: انزلوا بقى.

وكان الذي في خلفي وهو الذي يحمل مجلة «…» يضحك مني ضحكًا خافتًا، وسمعتني السيدة التي تجمع التذاكر فقالت للسيدة التي تسوق الطيارة: بيقول انزلوا بقى!

وهذا الحلم يحتاج إلى شرح طويل، ويحتاج إلى أن أكاشف القارئ عن نفسي، فإنني أحرِّر مجلة «…» وأُعنى بعض العناية بالمقالة الافتتاحية، فأحاول أن أسمو فيها إلى الأفكار والخواطر العالية، وكثيرًا ما ذكرت فيها التقدم مقرونًا إلى فكرة تقدم المرأة وسياقتها للطيارات وإدارتها للأعمال الكبيرة، وكثيرًا أيضًا ما ذكرت فيها الطيران وأنه رمز للحضارة الراقية، فاقترنت فكرة الرقيِّ والتقدم في عقلي الباطن بفكرة الطيران وتقدم المرأة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى قام في نفسي صراع بشأن تحرير المجلة، فنفسي تسمو إلى أن أجعلها مجلة علمية جدِّيَّة، وهذا في نظري معنى الرقيِّ، ولكنِّي في اليوم الذي حلمت في مسائه هذا الحلم كنت أجادل أحد الصحفيين بشأن المجلات وما يجب أن تكون لكي تَرُوج، فاضطررت إلى الإذعان لرأيه وهو أن المجلة الجدِّيَّة العلمية لا تَرُوج، وأن الجمهور يحتاج إلى مادة خفيفة.

ومع إذعاني فقد كان في نفسي صراع بين شيئين:
  • (١)

    أن تكون المجلة علميةً جدِّيَّةً راقيةً ولكن قليلة الربح.

  • (٢)

    أن تكون خفيفة المادة على قدر الجمهور ولكن كثيرة الربح، فجاء عقلي الباطن يمثل لي هذا الصراع في تلك الليلة، فجعل الطيارة والمرأة التي تسوقها رمزًا للرقي، ثم جعلني لا أطيق هذا الرقيَّ، وجاء بواحد من خلفي يحمل مجلة «…» ويضحك مني، والرقيُّ المعنوي الذي أقصده جعله عقلي الباطن رقيًّا محسوسًا بارتفاع الطيارة كما يفهم الطفل معنى الرقيِّ.

•••

«ي» يرى هذا الحلم خاصًّا بصديقه «ح».

يرى أن قريبًا لصديقه «ح» يركب أتوسيكلًا ويجري به في سرعة فائقة، ثم يلتقي بصديقه «ح» فيحمله على الأتوسيكل ويجري به.

هذا هو الحلم، وهاك تفسيره:

«ي» و«ح» معلمان لا يربحان كثيرًا، وكلٌّ منهما ينظر إلى قريب «ح» باعتباره رجلًا ناجحًا في الحياة، وكان «ح» يؤمِّل أن يساعده قريبه هذا، ويعتقد «ي» أنه يجب عليه أن يساعده.

فالنجاح رمز عنه العقل الباطن بالسرعة؛ لأنها في نظره تدل على النشاط والحياة، والأتوسيكل رمز للسرعة، فقريب «ح» يجري بالأتوسيكل ويحمل معه «ح»؛ أي إنه يعبِّر عن رغبة صديقه في أن يساعده.

فأما أن السرعة تدل على الحياة فهذا واضح في جملة لغات؛ ففي الإغريقية القديمة تشتق اللفظتان من أصل واحد.

•••

«أ» طفل في الثامنة من عمره يحلم ما يأتي: يحلم أن في يده قرشًا يوشك أن يضيع منه فهو يقبض عليه بشدة، ولكنه يستيقظ فلا يجده.

ويحلم مرة أخرى أنه يتردَّى من مكان شاهق فلا يزال يُهوي حتى يكاد يصطدم ويموت، ولكنه يستيقظ قبل ذلك.

ويحلم أن البيت ينخسف به أرضًا وسقفًا وبناء ويهوي نحو الأرض. فهذه أحلام كنا كلنا نحلمها ونحن صغار، وليس فيها رموز فإنها صريحة، والأول منها يدلُّ على أكبر هموم الطفل وهو القرش الذي سيشتري به الحلوى، وكثيرًا ما يطلبه في اليقظة فلا يجده، وكما يجد الجائع الخبز في النوم كذلك يجد الطفل هذا القرش في يده وهو نائم.

ولكنه في الحلمين الآخرين يعود بنا إلى الثقافة القديمة، إلى أيام الغابة حين كنا نفرُّ من الحيوان إلى أعلى الغصون في الأشجار ونتعلق بها فيكون همُّنا في ذلك الوقت ألَّا نسقط منها. وتنشأ فينا عاطفة الخوف من السقوط فتتمثل لنا سقوطًا حقيقيًّا في أحلامنا، ثم هذا البيت الذي يوشك أن ينخسف هو أيضًا عاطفة الخوف قد تمثلت في سقوط الشجرة التي كنا نتعلق بها من ريح أو عاصفة.

والطفل أذكَر لثقافة الغابة من الشاب؛ ولذلك فلست تجد شابًّا أو رجلًا يحلم هذين الحلمين؛ لأن الطفل أقرب وأكثر تمثيلًا للطور الحيواني من الشاب، بل هو يمثله في السنتين الأوليين في يقظته حين يمشي على أربع.

•••

«ص» يحلم هذا الحلم: يرى صديقين أخوين له أحدَهما ميت أو يشبه الميت على جنازة محمولة ووراءه أخوه يبكيه، ويقول هذا الأخ ﻟ «ص» إن أخاه لم يمُت ولكن نسرًا فقأ عينه.

فجيب «ص» إجابة قبيحة إذ يقول: يا ليته قتله وأجهز عليه.

هذا هو الحلم وهاك تفسيره: إن هذين الأخوين صديقان ﻟ «ص» والكل طلبة في كلية الطب، ولكن هذا الميت يوشك أن يتقدم للامتحان النهائي. أما أخوه الذي يبكيه فطالب بعيد عن الامتحان النهائي.

ولكن هذين الأخوين غير مقصودين بالذات في الحلم، وإنما هما يقومان مقام اثنين آخرين طالبين من أولاد عم «ص»، فهما في الحقيقة رمز لهما، والمشابهة بينهما تكاد تكون تامَّة؛ فإن أحدهما يوشك أن يتقدم للامتحان النهائي والآخر ما يزال بعيدًا عن هذا الامتحان في الفرقة الأولى.

والذي ابتعث هذا الحلم أن «ص» دخله شك في أن ابن عمه سينجح في الامتحان، فرمز إلى السقوط بالموت.

ولكن أخاه لا يرى أن السقوط في الامتحان النهائي على خطورته وفداحته موتًا تامًّا بل هو فقء عين فقط.

فيرد «ص» ويقول: إن الموت أحسن؛ أي أحسن من السقوط في الامتحان النهائي.

ولكن لماذا دخل النسر في هذا الموت؟

لما كان «ص» صغيرًا كانت أمه تحكي له قصة عن قريبٍ له قصد إلى بيروت والتحق بكلية الطب فمات هناك، وشاع وقتئذٍ أن نسرًا قتله على قمة جبل لبنان، والإشاعة سخيفة بالطبع، ولكنها للجهل الفاشي في عائلاتنا كانت تُحكى بهذا الأسلوب للأطفال وتُحكى ﻟ «ص».

وكون النسر يقتل إنسانًا من الأشياء التي يفهمها العقل الباطن وتتفق وطريقته؛ ولذلك ﻓ «ص» يرى النسر الذي سمع في طفولته أنه قتل قريبًا له كان يطلب الطب في الحلم، ويرمز بالموت إلى السقوط. حتى إن ابن عمه الآخر عندما ينبِّهه إلى أن السقوط فقء عين فقط يردُّ عليه هذا غاضبًا بأنه لو كان قد مات لكان هذا أحسن؛ وذلك لأنه كان يحب أن يرى ابن عمه ناجحًا.

ففي الحلم جملة أشياء:
  • (١)

    رمز للسقوط في الامتحان بالموت أو بفقء العين.

  • (٢)

    جرى على أسلوب الطفولة في أن النسور تقتل الناس، وربما كان هذا يتفق والثقافة القديمة للإنسان.

ولكن في الحلم شيئًا آخر وهو «النقل»؛ وذلك أن «ص» لم يرَ موضوع حلمه بالذات، بل نقل الموضوع إلى أخوين آخرين، وهذا كثير في الأحلام، وهو ضرب من الرمز أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤