حلم الانتحار

هذا الحلم التالي سأنقله كما كتبه صاحبه بنفسه وقدَّمه للدكتور رفرز، وصاحب الحلم نفسه طبيب كان يعمل في الحرب وراء الخنادق، وحدث أن جاءه جندي جريح وكانت جروحه غاية في الفظاعة، ولم تمضِ عليه مدَّة طويلة حتى مات بين يديه وهو يصرخ ويئنُّ من الألم، ولم يطِق الطبيب المسكين هذا المنظر فصار يحلم أحلامًا مفزعة انتهت أولًا بأنه كره الطب وممارسته، وانتهت ثانيًا بأنه فكَّر في الانتحار. وكان متزوجًا بامرأة من كندا وله أولاد منها، فكان إذا خاطبهم في شأن تركه للطب منعوه؛ لأنهم يعرفون أنه يعيش من هذه الحرفة، وهم بالطبع لا يعرفون ما في سريرة نفسه؛ لأن من يفكِّر في الانتحار قلَّما يبوح بسرِّه.

والآن ننظر في الحلم كما كتبه هو للدكتور رفرز: أنا قاعد على مقعدٍ أماميٍّ في دارٍ للتمثيل، وكان عليَّ أن أُلقي خطبة عنوانها «الكفاح الحاضر» فشعرت أن أعصابي تتهيَّج؛ لأني لم أكن مستقرًّا على رأيٍ في هذا الموضوع؛ إذ كان لي رأيان متناقضان، وكنت أنت على المسرح حينما دُعيت أنا للخطابة، وصعدت إلى المسرح، وكنت أنظر في الجمع فأرى أن كلَّ من أعرفهم أو عرفتهم كانوا بين هذا الجمع، فتشجعت وقلت: «أيتها السيدات، أيها السادة، إني أريد أن أخطبكم بشأن الكفاح الحاضر.»

ولكنِّي ما كدت أبدأ خطبتي حتى رأيت أن مقعدي الذي تركته بين الجمع حين صعدت إلى المسرح قد قعد فيه رجل لم أرَه قبل ذلك، وشعرت بضرورة توجيه خطبتي إلى هذا الرجل بالذات، وكان يبدو لي غريبًا ولكن مع ذلك كان فيه شيء يُشعرني كأني أعرفه، وكان أحمر الوجه والشعر والعينين، ولكن كانت حدقة عينيه زرقاء قاسية في حين أن شعره كان يتوهج كالذهب.

وعُدت إلى خطبتي وقلت: «يجب أن نقاتل حتى آخر رجل منَّا، وخيرٌ لنا أن نموت من أن نفقد رجولتنا واستقلالنا ونصير عبيدًا لشعب أجنبي.»

ولما قلت هذا رأيت الرجل القاعد في مقعدي قد تولَّاه حزن عميق، ومع أنه كان موافقًا لأقوالي فإني سمعت حركة في الجمع تدل على المخالفة، ولاحظت عندئذٍ أن للدار بابين قد وقف على كلٍّ منهما رجل، وكان الباب الذي على يساري قد وقف عليه رجل من كندا يشبه والد زوجتي، والباب الذي على يميني قد وقف عليه رجل يشبه الدكتور «س» وعليه السترة الخاصَّة بفحص الجثث، ثم أخذت في خطبتي فأشرت إلى أن كل شيء يتوقف على استعمالنا قوانا.

وهنا رأيت الرجل الذي في مقعدي قد هتف لي وأبرقت عيناه.

وهنا صاح به الرجل الكندي الموكَّل بالباب الأيسر «اسكت أنت هناك. اسكت وإلَّا جئت لك.» ولوَّح في وجهه بالعصا، ولاحظت عندئذٍ أن حول هذه العصا ثعبانًا يزحف عليها ويهدد الرجل الذي في مقعدي، فامتلأت رعبًا ولاحظت أن الرجل الذي في مقعدي قد تغيَّر، فإنه عندما نظر إلى الرجل الكندي أظلمت عيناه واكتسى وجهه بملامح الألم حتى كاد يكون رجلًا آخر، وحتى إن شعره اسوَدَّ وزال من وجهه البياض، وتأثرت من منظره حتى نقصت ثقتي.

ثم قلت: «إني أعرف أننا قد تألمنا وأننا لا نزال نتألم ونقاسي.» وهنا رأيت الرجل الذي في مقعدي قد أظلم وجهه وأنَّ أنينًا عاليًا.

وعدت إلى خطبتي فقلت: «ما أعظم الراحة التي سيُعيدها إلينا السلام!» وهنا بدا على وجه الرجل الذي في مقعدي ألم فظيع حتى إني شعرت أنه من الرحمة أن أقتله، وكأن الدكتور «س» الذي بالباب الأيمن قد قرأ نيَّتي؛ فأنه ابتسم لي، ولكن الرجل الكندي الذي بالباب الأيسر وضع العصا وبها الثعبان على الأرض، ثم رفع كورسيه وقال: «هذا كورسيه أشد به وسطه.»

وعندئذٍ رأيتك أنت قد دخلت وصحت: «النظام، النظام، دع الرجل، استمر يا دكتور في خطبتك، الرجل مريض، مريض جدًّا.»

فعدت إلى كلامي وأخبرت الحضور بأنه على الرغم من آلامنا العظيمة يجب أن نستمر في الحرب، وقلت: «يجب ألَّا نسلِّم، يجب ألَّا نخضع» ورأيت الذي في مقعدي قد تغيَّر ثانيًا؛ فرأيته كأن قامته قد ازدادت، والتمعت عيناه كأن الشرر يقدح منهما، وعاد شعره ذهبيًّا، وصاح يهتف لي، ولكن هتافه غاظ الرجل الكندي الذي رفع العصا والثعبان يتلوَّى حولها وصاح به قائلًا: «سأذيقه طعم هذا.» وهنا تضاءل الرجل الذي في مقعدي ثانيًا وتكمَّش، ورأيته يتألم آلامًا فظيعة لم أستطع أن أتحمل رؤيتها، وبدت لي آلامه من عينيه حتى شعرت أني يجب أن أقتله، وهنا ابتسم لي الدكتور «س» موافقًا لي على قتله وقال: «هذه هي الطريق لملائكة السلام.» ثم تدخلت أنت وقلت: إن الرجل مريض جدًّا، فقلت أنا: «سأريحه من شقائه.» وتناولت مسدسًا كان على المنضدة وقلت: «إنه لن يحس بالموت، ولن يُراق منه دمٌ، وسيقف تنفُّسه للحظته.»

فقلت أنت لي: «لا تفعل؛ الرجل مريض جدًّا ولكنه سيُشفى.» ولكنِّي لم أقوَ على رؤية الرجل وصمَّمت على أن أطلق عليه المسدس، وبينما أنا أرفع المسدس سمعت صوت ابني وهو يقول: «لا تفعل يا أبي؛ لئلَّا تؤذيني أنا أيضًا.»

واستيقظت وأنا في غاية المرض والشقاء، وكان هذا الحلم أفظع ما مر بي في حياتي.

•••

انتهى ما كتبه هذا الطبيب إلى الدكتور رفزز، ونحن فيما يلي سنسير مع الدكتور رفرز في تفسيره الذي مهدنا له قبل أن ننقل هذا الحلم.

فهذا الطبيب كان يعمل في الخنادق مدَّة الحرب، وكان يرى جثث الجرحى والقتلى فيتألم، وأخيرًا رأى جثة رجل ممزقة وسمعه وهو يئنُّ أنينًا فظيعًا، فدبَّ الرعب في قلبه وقام في عقله الباطن كره شديد لهذه الصناعة التي تضطره إلى رؤية هذه المناظر كل يوم.

ولكنه يعرف أن له عائلة يجب أن تعيش وأنه يجهل أي صناعة أخرى، فهو في صراع بين أن يترك الطب مع أنه مأمون الدخل، وبين أن يبحث عن صناعة أخرى غير مأمونة الدخل.

وقد فاوض عائلة زوجته في هذا الموضوع، فأبدى أعضاء العائلة كلهم استنكارهم لتركه الطب. ولكن آلامه كانت شديدة ففكر في الخلاص من كل ذلك بالانتحار، ولم يكن يمنعه غير الخوف على مصير أولاده، فالحلم صراع بين جملة أشياء:
  • (١)

    كراهته للطب مع الثقة من الربح منه.

  • (٢)

    ميله إلى عمل آخر مع عدم الثقة من الربح منه.

  • (٣)

    تفكيره في الانتحار للخلاص من هذا التردُّد.

  • (٤)

    خوفه على مصير أولاده إذا انتحر.

  • (٥)

    رغبته في أن تنتهي الحرب حتى يعود السلام.

  • (٦)

    رغبته في أن تنتصر أمَّته ولو طال الحرب

فهذا كله اندمج في حلمه؛ فهو يخطب خطبة وطنية ولكنه يشعر بالتردُّد فيها، ويرى رجلًا يقعد في مقعده، وهذا الرجل الأحمر الوجه الذهبيُّ الشعر هو نفسه قد تمثل أمامه، وقد حدث ما سميناه في الفصل السابق بأنه «نقل»؛ أي إنه نقل شخصه إلى شخص آخر.

ولكن لماذا يكون الرجل أحمر الوجه ذهبيَّ الشعر؟

كان هذا الطبيب في صغره يحب أن ينشأ رجلًا بهذا الشكل.

فاندسَّت هذه الرغبة القديمة في عقله الباطن حتى رآها في الحلم ممثلة في الرجل الذي يقوم مقامه ويقعد في مقعده.

ورأى على الباب الأيسر رجلًا كنديًّا يشبه والد زوجته ويحمل عصًا يتلوَّى عليها ثعبان، وهذا الرجل يمثل عائلة زوجته؛ لأن زوجته كندية، والعصا والثعبان يمثلان شارة الطبيب التي توضع على الكُمِّ: وعائلته تطلب منه أن يلزم الطب ولا يتركه، ثم عاد هذا الرجل فهدده بالكورسيه الذي تلبسه زوجته، والكورسيه رمز للزوجة، وعلى الباب الأيمن الدكتور «س» وقد ستر جسمه بالسترة التي تُستعمل عند فحص الجثث، وكان الدكتور «س» قد انتحر منذ أشهر، فهو يقف على الباب الآخر لكي يحبِّب إليه الانتحار ويذكر ملائكة السلام؛ أي الموت الذي يختم هذا القلق والشقاء.

وبينما الخطيب يهمُّ بقتل الرجل؛ أي بقتل نفسه، يخرج ابنه ويمنعه ويقول: إن الانتحار يؤذيه أيضًا، فيكفُّ عن الانتحار.

والتفسير واضح، وقد اقتنع به الطبيب وعمل بمشورة الدكتور رفرز الذي نصح له بترك ميدان الحرب والانخراط في السلك الخاص بصحة المدن؛ حيث لا يرى جثةً ما في حياته، وحيث يقتصر عمله على ما يشبه الهندسة من نظام الماء والبالوعات ونحو ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤