النوم

من يتأمل النوم لأول وهلة يظن أنه عمل فسيولوجي محض أولى أن يكون البحث فيه من اختصاص الطبيب، وأنه يكاد لا يكون له أدنى علاقة بالنفسلوجية.

ولكن إذا نحن تعمَّقنا في بحثه ألفينا فيه من الصفات الذهنية ما هو أحرى بأن يتعلق بالنفسلوجية منه بالطب؛ ففيه الأحلام، وفيه الكابوس، وفيه المشي والحركة، ثم فيه الاستعداد للإيحاء.

وليس النوم نتيجة الإعياء فقط، فإنه نتيجة الإيحاء أيضًا؛ فنحن لكي ننام نحتاج عادة إلى جملة أشياء توحي إلينا النوم، مثل الظلام ونزع الملابس العادية والسكون والانطراح على الفراش، وقد ننام أحيانًا ونحن لا نشعر بأي تعب، كما أننا قد نشعر بالتعب ثم مع ذلك لا ننام. ومما يقوم دليلًا على أن في النوم عنصرًا كبيرًا من الإيحاء أننا نميز وقت النوم بين الأصوات، فصوت الترام بل صخبه لا يوقظنا ولكن نقرة ضعيفة من الخادم على الباب تنبَّهنا، وقد يكون نوم الأم ثقيلًا ومع ذلك إذا بكى طفلها بكاء ضعيفًا استيقظت له، ثم هناك أيضًا مشابهة بين نوم الاستهواء والنوم الطبيعي، فقد نستهوي شخصًا فينام ونطلب منه أن يستيقظ في ساعة نعيِّنها له فيستيقظ، وكذلك النائم يمكنه قبل النوم أن يوحي إلى نفسه الاستيقاظ في ساعة معينة فيستيقظ. على أن النائم بالاستهواء أطوع للإيحاء في هذه الحالة من النائم نومًا طبيعيًّا، ولكن الفرق بين الاثنين هو فرق في الدرجة وليس في النوع، ومما يزيد المشابهة بين النومين أن الشك في الحالتين يمنع النوم، فإننا إذا أصابنا سهاد ثم شككنا في أننا سننام زال عنَّا النوم الطبيعي. وكذلك إذا شككنا في قوة الرجل الذي يستهوينا لم يستطع إنامتنا ولو تكلفنا نحن هذا النوم واجتهدنا في جلبه، بل الاجتهاد في جلب النوم هو باختبار كل واحد منَّا أضمن طريقة لمنعه.

وهذه الملاحظة الأخيرة تبصرنا بمعنى النوم؛ إذ هو في الواقع طريقة يستجمُّ بها العقل الواعي قوته؛ لأنه لما كان أحدث عقولنا فهو أقلُّها استقرارًا وتأصُّلًا في نفوسنا وأسرعها تعبًا وإعياء من العمل، فهو يحتاج إلى الاستجمام والراحة أكثر من غيره؛ أي أكثر من عقولنا القديمة؛ ولذلك فإننا إذا جعلنا الوعي طريقة لجلب النوم فإننا بهذا الوعي نفسه نمنع النوم؛ لأن النوم هو إزالة الوعي، فإذا اجتهدنا في جلب النوم أيقظنا وعينا؛ ولذلك لا ننام.

فما هي المهمة التي يؤديها لنا النوم؟

هي إراحة الكفايات الجديدة في الإنسان، وأجدُّ هذه الكفايات هو العقل الواعي؛ لأنها لما كانت جديدة فإن التعب يسرع إليها؛ ولذلك فإن كفاياتنا القديمة كلها لا تنام أو لا يصيبها النوم إلا بإغفاء بسيط، أو هو في الواقع تراخٍ، فنحن نهضم الطعام في نومنا، وقد تستيقظ غريزتنا الجنسية وقت النوم، وأيضًا عقلنا الباطن لا ينام؛ بدليل الأحلام التي نراها، وهذا الدليل يتَّسق وما نراه في الطبيعة من أن الحيوانات القديمة التي مضت عليها مدَّة طويلة جدًّا وهي لا تتطور لا تنام. مثال ذلك النملة والأرضة؛ فإنهما لا تنامان مثلما ننام نحن ثماني ساعات كل يوم، بل هي تقنع بمدة صغيرة جدًّا، بل بعضهم يعتقد أنها لا تنام البتَّة.

وهنا يمكننا أن نقف ونتساءل: هل يستمرُّ الناس على النوم في المستقبل البعيد حين يكون العقل الواعي قد تأصَّل في النفس وصارت له فروع وجذور؟ والجواب عن ذلك أننا إذا لم تنشأ لنا كفايات جديدة غير هذا العقل الواعي، فالأرجح أننا نستغني عن النوم. أما إذا تطورنا ونشأت لنا كفايات جديدة فإنها تحتاج إلى النوم، وهذا الفرض الأخير هو الأرجح.

ومما ذكرناه نستنتج جملة استنتاجات:

فمن ذلك أن الأرق يمكن معالجته بأن نستسلم لخواطر لذيذة غير منبِّهة؛ لأن اللذة نفسها إذا اشتدَّت نبَّهت فأيقظت، ولكن نختار من الخواطر تلك التي تخطر في بالنا على غير وعيٍ منَّا في النهار ولا تكون مؤلمة أو منبِّهة؛ لأن هذه الخواطر هي من العقل الباطن، فإذا استسلمنا لها كان ذلك منَّا بمثابة إنامة العقل الواعي وإيقاظ العقل الباطن: عقل الأحلام، فيطغى على وعينا وننام.

وأحلامنا كلها وقت النوم هي من نشاط العقل الباطن؛ وهي لذلك غير واعية، لا نعي بها عند اليقظة إلا إذا حدث حادث أذكرنا في النهار ببعض تفاصيلها فنذكرها، كما أننا نستطيع تذكرها وقت الاستيقاظ عندما يكون العقل الباطن متنبِّهًا بعض التنبُّه، ولكننا نذكر الكابوس للألم المنبِّه الذي يحدث في نفوسنا.

وأحيانًا يحدث أن النائم يمشي ويؤدِّي أعمالًا إذا استيقظ نسيها كلها أو تذكرها كما يتذكر الإنسان الحلم، فما تجب ملاحظته هنا أن المشي في النوم هو تمثيل للحلم؛ أي إنه تأكيد للحلم بالفعل، فأنا أحلم مثلًا أني انتقلت من غرفة إلى غرفة ولا أتحرك، ولكن آخر غيري يمثل هذا الحلم فيقوم وهو نائم وينتقل من غرفة إلى غرفة، ومن الناس من يحلم أنه يتكلم وهو لا يتكلم بالفعل، ولكن غيره يحلم أنه يتكلم ثم يتكلم بالفعل.

فالمشي والحركة في النوم يمثلان الحلم الذي يحلمه صاحبهما، وهما دليل على قوة الحلم وأن العقل الباطن يسيطر على أعضاء الحركة ويُحدث في النفس من العواطف ما يبعث النشاط في أعضاء الجسم مع نوم العقل الواعي.

وتمثيل الحلم بالحركة والمشي أكثر في الأطفال والصبيان منه في الرجال، وهذا يتَّسق مع ما ذكرناه من أن العقل الباطن أقوى في الطفل والصبي منه في الرجل؛ ولذلك فالحلم الذي يراه الرجل وهو نائمٌ وادعٌ يراه الطفل قويًّا يدفعه إلى الحركة والمشي.

ولكن المشي في النوم يتَّسم بصفة أخرى غريبة، وهي أن النائم أحيانًا يمشي على حافَّة مستدقَّة فلا يقع، مع أنه لا يستطيع أن يمشي عليها وقت اليقظة، وعلَّة ذلك أنه يمشي بعقلٍ واحد هو العقل الباطن، فلا يتردد ولا يدخله الشك أو الخوف بأنه سيقع؛ لأن العقل الواعي الذي يبصِّره بالخطر نائم، فالعقل الباطن يسيطر على أعضاء الحركة سيطرة تامة ولا يشك فيما يفعل.

وقبل أن أختم هذا الفصل أرى أن ألمِّح للقارئ بأن الجنون النفسي يحدث إذا طغى العقل الباطن طغيانًا عظيمًا بحيث:
  • (١)

    يصير الكابوس الذي يحدث في النوم يحدث في اليقظة، فلا يستطيع «المجنون» أن يتكلم أو يتحرك، أو تتوهَّم الفتاة أن رجلًا قد انتهك عرضها في اليقظة.

  • (٢)

    ينسى الشخص نفسه فيسير في الدنيا كالماشي في الحلم، ويؤدي أعمالًا يستغربها منه أصدقاؤه، وينساها هو إذا شُفي من ذهوله؛ وذلك لأن العقل الباطن قد طغى على عقله الواعي وصار يسيطر على أعضاء الجسم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤