التغرُّضات

آراؤنا ومعتقداتنا تنشأ في أنفسنا عن سبيل العقل الباطن، وقد نتعصب لها تعصبًا يراه غيرنا حمقًا، وقد نراه نحن كذلك أيضًا إذا حلَّلناه بعقلنا الواعي، ولكننا نجد للعقيدة التي نتعصب لها سلطانًا في نفسنا واشتباكًا بطائفة من عواطفنا تمنعنا من الإقرار بأننا مخطئون.

ومعظم ما نتعصَّب له تغرُّضات نشأنا عليها وتكرَّرت علينا حتى صار لها قوة الإيحاء للعقل الباطن، وقد بيَّنَّا في فصول سابقة قيمة التكرار في إيجاد عقيدة للنفس، وهذا التكرار نفسه يحدث لنا بجملة صور لا ننتبه لها، وقد تحدث العقيدة في النفس بحادثة حدثت لنا في الصبا فغرست تغرُّضًا في العقل الباطن لا يمكن نزعه بالعقل الواعي.

أعرف شخصًا يكره التدخين ويبلغ من تغرُّضه أنه لو اضطر إلى تناول سيجارة بيده عمد من فوره إلى الماء ليغسلها، فلو أنه كان ينظر بعقله الواعي إلى السيجارة لعلم أنها قطعة من الورق النظيف لا تحتوي إلا على كمية من ورق جافٍّ لأحد النباتات، ومُحال أن يشمئزَّ الإنسان من ورق الشجر الجاف، ولكنه هو لا ينظر بعين المنطق إلى هذا التغرُّض؛ فإن في نفسه عقيدة تجعله يشمئزُّ من السيجارة، ولما كنت أعرف هذا الشخص والبيئة التي نشأ فيها استطعت أن أقف على أصل هذه العقيدة، وهو أنه قد حدث له وهو صغير أنه كان يخدم في منزل والديه خادم سمين ضخم، ولم تكن علاقته بهذا الخادم مُرضية له؛ لأن هذا الخادم كان أحيانًا يحمله مرغمًا إلى المكتب، وكان للخادم طريقة قذرة في جمع أعقاب السجائر التي تتخلف من الضيوف ثم يدخِّنها فتكون منها رائحة شنيعة تؤذي هذا الصبي، فلما شبَّ رسخت في عقله الباطن عقيدة الكراهة للتدخين والسجائر.

وأحيانًا نرى أحد الأشخاص فنستسمج منظره ومسلكه وننظر إليه بعين الزراية والاحتقار والتغرُّض، والأرجح أن علَّة ذلك ترجع إلى أننا قد عرفنا شخصًا يشبهه ونحن صغار حدثت بيننا وبينه حادثة آلمتنا، كأن يكون قد أخافنا أو انتزع منَّا شيئًا أو نحو ذلك، فصورته قد انطبعت في العقل الباطن بحيث إذا رأينا شبيهًا له تحركت في نفسنا الكراهية له، وأحيانًا نرى شخصًا نستخفُّ ظله لعكس هذا السبب.

وإلى مثل هذا التغرُّض يرجع شعورنا نحو اليهود، فقد يسمع الصبي قصة من أم جاهلة عن اليهود الذين يأكلون الصبيان فتؤثِّر هذه القصة في عقله الباطن تأثيرًا كبيرًا، فإذا كبر نسي بالطبع هذه القصة أو تناساها لسخافتها، ولكن العقيدة قد اندسَّت في عقله الباطن فهو كلما رأى يهوديًّا أو ذكره شعر له بالكراهية، ثم يعمد عقله الواعي إلى أن يمسح مسحة من المنطق على هذه الكراهية، فيتهم اليهود بأنهم يشتغلون بالربا المكروه، أو أنهم يكرهون الأديان الأخرى، أو نحو ذلك مما يُقصد منه التبرير، ولكن السبب الحقيقي للكراهية هو هذه القصة السخيفة التي أحدثت عقيدة راسخة في العقل الباطن تشبه العقيدة عند كثيرين منَّا بأن في الظلام عفاريت.

ومن الناس من يكره القطط، فلا يُطيق أن يكون مع قط في بيت، وترجع هذه الكراهية إلى حادثة حدثت في الصغر حين أرادت الأم تخويف ابنها بالقط، أو حين ذكرت أن العفريت يظهر أحيانًا في هيئة قط أسود، والحادثة أو الخبر ينساه الطفل إذا شبَّ، ولكن العاطفة راسخة في العقل الباطن.

وقس على ذلك سائر تغرُّضاتنا، ففينا شبَّان يكرهون اللغة العربية لأنهم كانوا يكرهون وهم تلاميذ صغار ذلك الشيخ الذي كان يدرس هذه اللغة، وقد تجد طبيبًا يهوديًّا يعرف أن لحم الخنزير من اللحوم المغذية ولكنه مع ذلك لا يقْربه للعقيدة الراسخة في ذهنه منذ الطفولة بأنه حيوان نجس، وإذا هو أكل شيئًا من لحمه تكلَّف ذلك كمن يقاوم عاطفة كامنة في نفسه.

وهناك فرق بين العقائد والمعارف؛ فالمعرفة تخضع للعقل الواعي، وتتغيَّر أو تتطور وفقًا لما يراه من تعديل وتصحيح، ثم هي لا تُحدث في أنفسنا عاطفة من الحب أو الكراهية، فنحن «نعرف» أن الأرض أكبر من القمر، ولكن لو قام فلكي وأثبت عكس ذلك لما شعرنا بالحزن أو الأسف أو الغضب، وكل ما نطلبه أن نفهم كيفية تحقيق هذا القول، فإذا أثبت لنا التحقيق صحة هذا القول سكنَّا اليه، ولكن ربما يكون من المبالغة قولنا إن المعرفة لا تحدث عاطفة، فقد سبق أن قلنا: إن التفكير هو: معرفة ثم عاطفة ثم رغبة ثم إرادة.

ولكن يبدو لنا أن المعارف العلمية يكاد لا يكون فيها عاطفة، كأن التفكير يقف في طوره الأول وهو المعرفة، ولكن الواقع أن هناك عاطفة ضعيفة، هي في المثل السابق عاطفة الرغبة في الوقوف على الحقيقة، ولكنها من الضعف بحيث لا تُحدث لنا حزنًا أو غضبًا محسوسًا، وإن كنا أحيانًا نقف أو نمشي عندما يحطُّ ذهننا مدَّة التفكير على فكرة جليلة.

أما العقيدة فتخضع للعقل الباطن، وهي قوية العاطفة؛ ولذلك فإننا قد نرى الخطأ واضحًا فيها بعقلنا الواعي ولا نستطيع مع ذلك النزول عنها، كهذا الذي يكره أن يلمس السيجارة بيده ويشمئزُّ من ذلك حتى يحتاج إلى الاغتسال، فمعرفته تناقض عقيدته، ولكن الثانية تتغلب على الأولى وتكيِّف أخلاقه وتطبع ذوقه، ولهذا السبب يكره المؤمن أيًّا كان دينه أن يناقشه أحد في عقيدته، مع أن العالِم في الجغرافية أو الرياضة يحب المناقشة ولا يخشاها؛ وذلك لأن للأول عقيدة وللثاني معرفة.

والآن يجب أن نُلْمع جملة إلماعات في ضوء هذه الحقائق: وأول ذلك أن الرجل الذكي تتغلب معرفته على عقائده، فهو لذلك قليل التعصب قلَّما يتحمس لرأي، وهو أيضًا سريع التطور يسير مع الزمن، وللأمم المتمدينة في الطب والشرائع معارف، وللأمم المتأخرة عقائد؛ ولذلك فالأولى يمكنها تغيير شرائعها أو جُلِّها أما الثانية فيشقُّ عليها ذلك.

وإذا كان المستقبل للعقل الواعي الذي سيزداد قوة وإحاطة وسيطرة على حياتنا فإن المعارف ستفوز على العقائد، ولكن لما كانت المعارف ضعيفة العواطف بجانب العقائد فإن إنسان المستقبل سيكون بلا شك ضعيف العواطف جدًّا، لا يغضب ولا يحزن ولا يخاف.

ولكن يجب هنا أن نقول: إن التفكير العلمي في حالة الإنسان الراهنة من أشق الأعمال المضنية له؛ وذلك لسببين:
  • أولًا: إن عقل الإنسان لم ينشأ إلا بغية البحث عن الطعام والشراب والمرأة والمسكن، وأنه لهذا السبب عندما نقف على «المعرفة» نراها تتطور إلى عاطفة ثم رغبة ثم إرادة تحرِّك الجسم نحو الغرض المطلوب تحقيقه، ولكن لما كان التفكير العلمي مقصورًا على المعرفة مع إهمال سائر الأطوار التالية، فإنه لذلك عملٌ غير صحِّيٍّ للجسم، يُضنيه ويُتعبه؛ لأنه بمثابة من يرى الطعام ويمتنع عن الأكل.
  • وثانيًا: لما كان العقل الواعي هو أداة التفكير العلمي، وهو مع ذلك أحدث عقولنا، فهو أقلُّها قدرة على الجهد وأسرعها شعورًا بالتعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤