كيف تتكون الآراء والعقائد

جوستاف لوبون كاتب فرنسي قد درس النفسلوجية الحديثة، وعرف قيمة العقل الباطن في الآراء والعقائد السياسية والدينية، ودرس الوسائل التي تتكون بها، وسننقل فيما يلي بضع فقرات منه في هذا الموضوع كما نقلها الأستاذ زعيتر في كتاب «الآراء والمعتقدات» مع تنقيح بسيط؛ حتى يجري الكلام وفق التعابير المتبعة في هذا الكتاب.

ويمكن القارئ أن يتذكر حوادث سنة ١٩١٩ في مصر وأيضًا نفوذ سعد باشا زغلول في الحركة الوطنية فيرى فيها كلها مصداق أقوال جوستاف لوبون، فهو يقول: «إن الآراء تنتشر بالتوكيد والتكرار والمثال والنفوذ والعدوى.»

فإذا تأمل القارئ هذا الكلام وجد أن المعنى ينحصر في أن الإيحاء يُحدث العقيدة أو الرأي أو التغرُّض، وأن طرق هذا الإيحاء عديدة، تحدث أحيانًا بالتوكيد والتكرار؛ أي بالتلقين، وبالمثال؛ أي بالقدوة، وبالنفوذ «كذلك النفوذ الذي كان لسعد باشا زغلول من اسمه وتاريخه وجهاده»، وأخيرًا بالعدوى؛ يعني المحاكاة.

فالآراء والعقائد تنتشر في الأمة ولا سلطان للعقل الواعي عليها؛ لأن هذا العقل يطلب التجربة والبرهان، وقليل من الناس من يعتمد عليها.

يقول جوستاف لوبون: أن التوكيد والتكرار عاملان قويان في تكوين الآراء وانتشارها وإليهما تستند التربية في كثير من المسائل، وبهما يستعين رجال السياسة والزعماء كل يوم في خطبهم، ولا يحتاج التوكيد إلى دليلٍ عقلي يدعمه، وإنما يقتضي أن يكون وجيزًا حماسيًّا ذا وقع في النفس.

والتوكيد لا يلبث بعد أن يكرَّر تكرارًا كافيًا أن يُحدث رأيًا ثم معتقدًا، والتكرار هو تتمَّة التوكيد الضرورية، ومن كرَّر لفظًا أو فكرًا أو صيغةً تكريرًا متتابعًا فقد حوَّل هذا اللفظ أو الفكر أو الصيغة إلى معتقد، وإذا نظرنا إلى سلسلة الرجال التي تبتدئ بمؤسس الديانة وتنتهي بالتاجر رأينا أنها تستعين على إقناع الناس بمبدأ التكرار.

والتكرار من القوة بحيث يجعل الرجل يؤمن هو نفسه بالكلمات التي يكرِّرها ويسلم بالأفكار التي يعرب عنها عادةً، والتاريخ السياسي حافل بالعقائد التي نشأت عن التكرار على الوجه المذكور، فقد كان قادتنا وأولو الأمر منَّا قبل سنة ١٨٧٠ يقولون مكرِّرين إن الجيوش الألمانية هي دون جيوشنا قوةً، وبفعل هذا التكرار اعتقدوا صحة ذلك اعتقادًا جازمًا، وكلٌّ منَّا يعلم ماذا كانت عاقبة هذا الاعتقاد، ولا يلبث الرجل السياسي بعد إقباله على آراء مفيدة له أن يعتنقها بتأثير نضاله عنها حتى يصبح غير قادر على تبديلها عندما تقتضي منفعته هذا التبديل.

والقدوة هي أحد وجوه التلقين الفعالة، ولكن يجب أن تكون ذا وقع في النفوس لكي تؤثِّر أثرها؛ ففي عالم التربية نرى أن المثال البارز خير من مئات الأمثلة الضعيفة التي لا تنفذ إلى القلوب.

وللنفوذ أثر كبير في انتشار الآراء، ففي المدارس يتعلم الطلبة أن التجربة والاختبار قد حلَّ كلٌّ منهما الآن محلَّ النفوذ، ولكن من السهل إثبات خطأ هذا الزعم؛ فلو نظرنا إلى الآراء العلمية — دون أن نلتفت إلى الآراء الدينية والسياسية والأخلاقية حيث لا شأن للدليل فيها — لرأينا أنها في الغالب لا تملك سوى نفوذ قائلها وأنها تنتشر بالعدوى، ولا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك؛ إذ لما كان أكثر التجارب والاختبارات العلمية من التعقيد بحيث يصعب تكرارها، فإنه يسلم بكلام العالم الذي يشرحها؛ ولذلك يحق لنا أن نقول: إن نفوذ الأستاذ في الوقت الحاضر هو كما كان في زمن أرسطوطاليس، بل يزداد هذا النفوذ كما أصبح الاختصاص العلمي أعظم منه في الماضي.

ويتوقف مصير أقطاب السياسة وأرباب الأعمال والأدباء والكتَّاب والعلماء على ما فيهم من نفوذ خاص وقدرة على تلقين الناس على غير وعيٍ منهم، وقد ينجح الأبله أحيانًا في نشر رأيه لأنه لما كان غير شاعر ببلاهته فإنه لا يتردد في توكيد رأيه ويصبح بذلك ذا نفوذ.

وقد كان شأن النفوذ في شوكة الملوك عظيمًا إلى الغاية، حتى إن بسكال قال: «يجب على المرء أن يكون ذا عقلٍ نقيٍّ خالصٍ لكي ينظر إلى ملكه وهو في قصره الذي يحرسه ٤٠٠٠٠ جندي كما ينظر إلى بقية الناس.» وفي الجيل الحاضر الذي هو جيل المساواة نرى نفوذ الملوك ما يزال محافظًا على شأنه، فيجمل بالملوك أن يحافظوا عليه بحكمة، وقد كتب المسيو نوزيار مراسل إحدى الصحف المهمة يقول: «إن جميع من حضروا جنازة ملك إنجلترا قد عجبوا من تأثير إمبراطور ألمانيا في الجمع حينما كان يمشي في وسط الملوك. حقًّا أن غليوم يكتسب باعتقاده أنه ظل الله في الأرض عظمة غريبة تدهش الناس.»

والجماعات نظرًا لاحتياجها إلى العبادة لا تلبت أن تعبد أشخاصًا يؤثِّرون فيها بنفوذهم.

ويمكننا أن نلخص تأثير الأسباب في انتشار الآراء والمعتقدات في هذه الكلمات الآتية: لا رأي أو لا عقيدة تظهر بلا نفوذ أو تسيطر بلا توكيد أو تعيش بلا مثال أو تكرار.

والعدوى النفسية هي أمر روحي ينشأ عنه التسليم ببعض الآراء والمعتقدات تسليمًا غير إراديٍّ، ومصدرها العقل الباطن؛ ولذلك لا يؤثِّر فيها البرهان أو التأمل، وهي تشاهَد في الحيوان كما تشاهَد في البشر ولا سيما وقت الاحتشاد.

حقًّا إن العدوى النفسية هي العنصر الأساسي في انتشاء الآراء والمعتقدات، وقد تبلغ بقوَّتها مبلغًا يجعل الإنسان يضحِّي بأكثر منافعه الشخصية وضوحًا.

ولا تسري العدوى بتماسِّ الأفراد تماسًّا مباشرًا، بل قد تنتشر بالكتب والجرائد والحوادث، حتى بالإشاعات البسيطة، وكلما زادت وسائل النشر والإذاعة تداخلت العزائم وأثَّر بعضها في بعض، وعلى هذا الوجه نرتبط كل يوم بمن يحيطون بنا أكثر من قبل.

والخوف أشد العواطف سريانًا بالعدوى، وليس شأنه الكبير في حياة الأفراد والشعوب بالأمر المجهول.

والعدوى النفسية أمر عامٌّ يشاهَد في الحيوان كما في الإنسان؛ ولذلك لا تلبث الرعشة التي تستحوذ على الجواد في الإصطبل أن تسري إلى الجياد الأخرى، ولا تلبث الكلاب أن تنبح بعد أن ينبح أحدها، وعندما يهرب خروف تتبعه سائر الخراف.

وقد تشتد قوة العدوى النفسية فتتغلب على غريزة البقاء وتدفع الإنسان إلى التضحية بنفسه. وهاك ما يقوله الدكتور ناص: «وقتما تنشر الصحف خبر انتحار وتفصِّل طريقة حدوثه ينتحر بعض مختلِّي الشعور حسب تلك الطريقة الموصوفة، ومن هذا النوع ما وقع في اليوم التالي لحادثة سيفتون؛ حيث خنق كثير من المختلين أنفسهم بالغاز، وتُعدُّ روسيا أكثر البلاد انتحارًا؛ فقد كان الرسل في روسيا أيام الاضطهادات الدينية يأمرون أشياعهم بإحراق أنفسهم، وقد حدث أن ألقى ٦٠٠ شخص أنفسهم في النار دفعة واحدة، ويقول أحد المؤرخين إن عدد الذين أحرقوا أنفسهم في روسيا منذ سنة ١٦٧٥ حتى سنة ١٦٩١ يبلغ ٢٠٠٠٠ نفس، ومما ذكره المسيو مستوكين أن ٢٥٠٠ روسيٍّ طرحوا أنفسهم في موقد واحد طامعين في الآخرة.»

وقد ينشأ عن العدوى النفسية وهمٌ خياليٌّ لا يلبث أن يتحوَّل إلى حقيقة، فقد جاء في تقرير حديث للدكتور بيكيه أحد علماء الجراحة أنه على أثر موت ضابط بالزائدة الدودية لزم الفراش ١٥ ضابطًا من بين ضباط إحدى الكتائب البالغ عددهم ٢٥؛ لظهور علامات المرض المذكور فيهم، وما عوفي هؤلاء إلا بالإيحاء فقط.

ومعنى ذلك أن الطبيب أوحى إليهم بالتلقين بما فيه من نفوذ شخصه مع تكرار القول وتوكيده أنهم أبرياء من المرض، فزالت العقيدة التي أحدثوها هم لأنفسهم بالمحاكاة على غير وعيٍ منهم.

ونحن نستدلُّ على شأن العدوى النفسية في انتشار الآراء والمعتقدات من الملاحظات السابقة. فالمعتقدات سياسيةً كانت أم دينية تسري بين الجماعات بالعدوى (بالمحاكاة) على الخصوص، وعلى نسبة أفراد الجماعة يكون تأثير العدوى شديدًا، ولا تلبث العقيدة الضعيفة أن تصبح قوية بعد أن يكتسب الأفراد الذين يعتنقونها صفة الجماعة.

والمعتقَد بعد أن ينتشر بالعدوى لا يُلتفت إلى قيمته العقلية؛ إذ لما كانت العدوى تؤثِّر في العقل الباطن فإنه لا شأن للعقل الواعي فيها.

وبالعدوى النفسية يعاني أرباب المال والقلم والعلم آراء الجماعات، ومن أجل ذلك نرى أن العدوى قادرة على استعباد الذكاء، وقد نشأت حوادث الدين التاريخية عن العدوى النفسية، ومع ذلك لم يكن تأثيرها في أحد الأزمنة الماضية كما هو في الوقت الحاضر؛ وسببه:
  • أولًا: إن السلطة أخذت تنتقل بالتدريج إلى الجماعات بفعل المبادئ الديمقراطية.
  • وثانيًا: إن تعميم وسائل النشر يؤدي إلى سرعة ذيوع الحركات الشعبية، وما من أحد يجهل كيفية انتشار اعتصابات موظفي البريد والثورات التي اشتعلت في روسيا وتركيا وبرتغال.

والآراء التي انتشرت بتأثير العدوى لا تزول إلا بآراء مخالفة تنتشر بالعدوى أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤