اللبيد والطاقة المكبوتة

كيف نفكر؟

للتفكير ثلاث درجات:
  • (١)

    فنحن أولًا «نعرف» الشيء بحواسنا أو بذهننا.

  • (٢)

    ثم تتكون عنه «عاطفة» ضعيفة أو قوية.

  • (٣)

    ثم بعد ذلك تتكون الرغبة التي تتجسَّم في الإرادة. فأنا أرى الطعام أو يخطر في بالي أولًا، ثم تحدث عاطفة الجوع ثانيًا، ثم أرغب في الأكل أو أنزع إليه ثالثًا. فأهمُّ به، وهذه هي الإرادة.

أو أري ثورًا ناطحًا فهذه هي المعرفة، ثم أشعر بعاطفة الخوف، ثم تقوم في نفسي رغبة الهرب فأجري.

ولكن يحدث أحيانًا كثيرة أن ظروفنا تمنعنا من إشباع الرغبة، فأين تذهب هذه الرغبة؟

إن هذه الرغبة قوة من قوى نفسنا، إذا لم تنصرف إلى إرادة اندسَّت في العقل الباطن فتبقى عندئذٍ طاقة مكبوتة؛ أي قوة كامنة تتحين الفرص للخروج والعمل.

مثال ذلك أني أكون مريضًا قد منع عنِّي الطبيب الطعام، فأنا بالطبع أجوع وتقوم في نفسي عاطفة الجوع، وتنشأ منها الرغبة في الطعام، ولكنِّي لا أحقق هذه الرغبة، فهي عندئذٍ تندسُّ في عقلي الباطن، فما دمت أنا يقظًا فإن عقلي الواعي يُفهمني ضرورة الجوع بغية الشفاء، ولكنِّي إذا نمت حلمت بالطعام الشهي يُبسط أمامي؛ وذلك لأن هذه الرغبة قوة اندسَّت في عقلي وتحينت فرصة النوم الذي طرأ على عقلي الواعي فجعلت عقلي الباطن يتخيل ألوان الطعام.

فهذه القوة المكبوتة التي يكبتها العقل الواعي وقت اليقظة تندسُّ وتكمن في العقل الباطن وتحاول تحقيق أغراضها وقت النوم بالأحلام أو وقت الغفوة الطارئة بالخواطر، فإني قد أكون صاحيًا أو شبه الصاحي فأفكر في ألوان الطعام تفكيرًا سائبًا هو الخواطر الطارئة علينا، والتي أحيانًا لا نستطيع ضبطها إذا كانت العاطفة شديدة، حتى تدعونا إلى أن نكلم أنفسنا بصوت مسموع.

وهذه القوة المكبوتة هي قوة اللبيد، فاللبيد هو الطاقة الإنسانية التي تجد منفرجًا من حبسها في الخواطر أو الأحلام، ولهذا السبب يحلم الجوعان بالخبز، ويحلم الفقير بالثروة، ويحلم الشاب المراهق بالزواج، وكل خواطره تقريبًا تكون في تلك السن خاصَّة بالعاطفة الجنسية.

وإذا كانت العاطفة قوية جدًّا زادت قوة اللبيد فيحدث عندئذٍ الجنون.

وكلٌّ منَّا يصاب أحيانًا بشيء من هذا الجنون كما إذا اغتظنا من أحد الناس فالغيظ عندنا يسلك هذه المسالك الآتية:
  • (١)

    قد تستحيل عاطفة الغيظ إلى الرغبة ثم الإرادة فنضربه فنستريح بذلك، ولا نحتاج بعد ذلك إلى التفكير فيه، فلا نحلم به ولا يخطر ذكره ببالنا.

  • (٢)

    قد لا نستطيع أن نضربه، فتستحيل عاطفة الغيظ إلى خواطر نتخيل فيها أننا نضربه أو نقتله.

  • (٣)

    نراه في الحلم مهانًا أو مقتولًا أو قد جاء ليتذلل إلينا، وفي هذه الحالات الثلاث يريد عقلنا الباطن أن ينفِّس عن هذه العاطفة المكبوتة في نفوسنا، فهو صامت ما دام العقل الواعي مستيقظًا، ولكنه يختلس منه فترات فيبدو لنا خواطر تمثِّل لنا خصمنا وهو مقهور أمامنا، أو ينتهز فرصة النوم فيمثله لنا في الأحلام مقهورًا.

ولكن إذا كانت عاطفة الغيظ شديدة جدًّا فإننا نجد أنفسنا نتكلم حتى ونحن مع الناس ولا نستطيع السكوت، وكم من رجل رأيناه يفعل ذلك وهو لا يعي بمن حوله! فإذا زادت قوة اللبيد المحتبس صار هذا الذي يكلم نفسه بصوت منخفض يتكلم بصوت عالٍ، وصارت خواطره التي تطرأ على عقله فيرى فيها خصمه مقهورًا مضروبًا مهانًا حقائق يؤمن بها، وهذا هو الجنون.

فهناك من يُجن للإفلاس أو للإهانة العظمى أو للحرمان الشديد، وخاصَّة ذلك الحرمان الناتج من كبت الغريزة الجنسية، فهذا الذي يفلس تقوم في نفسه عقيدة أنه غنيٌّ كبيرٌ جدًّا، وهذه العقيدة تشبه الحلم، فكما أن الجائع يرى الخبز في نومه كذلك المفلس يرى أنه غنيٌّ في حلمه، فإذا جن أشبه جنونه حلمه؛ وذلك لأن كليهما من عمل العقل الباطن، فالمفلس الذي يُجن يتغلب عقله الباطن على عقله الواعي؛ لأن اللبيد المحتبس قوي جدًّا؛ أي إن العاطفة المكبوتة تريد أن تنفجر، فهو يسير بين الناس أشبه بالنائم، يرى في يقظته ما يراه في حلمه؛ أي إنه غني جدًّا، وهذا الرجل الذي أُهين إهانة كبرى يحلم أنه ملكٌ ولكنه قد يزداد عنده احتباس اللبيد؛ أي القوة المكبوتة، فيعتقد وهو يقظان أنه ملكٌ؛ لأن عقله الواعي قد هُزم أمام عقله الباطن.

ولكن هناك حلًّا آخر غير الجنون، نعني به التسامي.

فقد سبق أن قلنا: إن طبيعة النفس البشرية هي الرقيُّ، وهذا المفلس الذي يحسب نفسه غنيًّا وهذا المهان الذي يحسب نفسه ملكًا إنما يريد أن يرقى كما يفهم عقله الباطن معنى الرقيِّ وعلى مقدار ما يفهم، وقد سبق أن قلنا: إن هذا العقل الباطن قديم يجري على طرق الثقافة القديمة، فهو لا يفهم الرقيَّ إلا في معنى الغنى أو الملوكية مثلًا.

ولكن العقل الواعي أحيانًا يدخل في موضوع النزاع بينه وبين العقل الباطن ويحلُّه كلاهما بالتسامي (من السمو)؛ كأن يحاول المحروم من إشباع الغريزة الجنسية أن يصير راهبًا يخدم الله، أو عالمًا ناسكًا يرصد نفسه للعلم أو الفنون الجميلة، أو نحو ذلك مما سنشرحه بعد.

•••

وقبل أن أترك هذا الفصل يجب أن أُثبت هنا اختلاف ثلاثة من أساطين النفسلوجية الحديثة في معنى اللبيد، فهو في رأي فرويد تلك الغريزة الجنسية التي تنشُد لذتها ولا تبالي بالعرف والعادة، فإذا احتبست فهي إما أن تتسامى وإما أن تنكفئ إلى طرق الأطفال، وفي هذه الحالة الثانية تُحدث الانحرافات والأمراض.

ولكن أدلر يقول: إن اللبيد هو النزوع إلى القوة على طريقة نيتشه، وأن هذا النزوع إذا احتبس أحدث الأمراض النفسية المألوفة، أو هو قد يُحدث عكس ذلك من الجهة المقابلة بأن يجعل صاحبه نابغة.

ولكن يونج يجمع بين الرأيين فيقول بأن اللبيد هو تلك الغريزة الجنسية قد امتزجت بالنزوع إلى الرقيِّ.

والثلاثة يقولون بإمكان التسامي باللبيد، أو بإمكان عكس ذلك؛ أي المرض والانحراف.

وقد نظرت أنا إلى اللبيد فاعتبرته طاقة في النفس، ولم أكترث بعد ذلك لطبيعته هل هو النزوع إلى القوة أم الرقيِّ أم الحب وإن كنت أرى أن الرقيَّ هو طبيعة الإنسان، ونحن لا نشعر بقوته إلا إذا احتبس في النفس بعض الاحتباس؛ أي إذا كُبت بعض الكبت.

أما إذا كان يجد منصرَفًا طبيعيًّا له في اليقظة تتكون منه تلك المادة التي تعمل للرقي أو الانحطاط، وقد بلغ من غموض هذه اللفظة وكثرة الاختلاف فيها أن رفرز رفض بتاتًا استعمالها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤