الأحلام

لا بدَّ أن قارئ الفصول الماضية قد أدرك نظر النفسلوجية الحديثة للأحلام وللعقل الباطن ونشاطه مدَّة النوم أو الغفوة، ولكن قليلًا من الإعادة والتلخيص يهيئ ذهن القارئ لفهم الأحلام.

فالنفسلوجية هي علم النفس، وهي تقول إننا نفكر بنفسنا، وهذه النفس مؤلفة من عقلين هما:
  • (١)

    العقل القديم وهو ما ورثناه من أسلافنا، وهو عقل الشهوات والنزوات التي ترمي إلى اللذة والسرور، وهو غير واعٍ، ويجري في أساليبه على طرق الثقافة القديمة حين بدأ الإنسان يدخل في طور الإنسانية ويفهم السيادة والملوكية والامتلاك.

  • (٢)

    العقل الحديث الواعي الذي نعرف به الأمس والغد وندبر به ونفكر، وفيه بذور المنطق العلمي، وهو واعٍ؛ أي نعي بأعماله، أو قل: هو عقل اليقظة.

وقد اصطلحنا على أن نسمي الأول العقل الباطن؛ أي الذي يعمل أعماله على غير وعيٍ منَّا في الخواطر التي يمكن أن تُسمَّى أحلام اليقظة وفي الأحلام؛ أي وقت النوم.

والنوم يلحق بالعقل الواعي وحده؛ وذلك لأنه عقل حديث، ولحداثته في أجسامنا لم يتأصل فهو كالشجرة الحديثة العهد بالغرس إذا هبَّت الريح زعزعتها، في حين أن الأشجار القديمة لا تتزعزع بالعواصف، فالكلال يعتريه بسرعة؛ ولذلك فهو أول ما ينام وأول ما يُجن وأول ما تصيبه الخمر.

وليس معنى هذا أن العقل الباطن لا ينام البتَّة ولا يُجن ولا يسكر؛ فإننا نعرف أننا إذا كنا في حاجة شديدة إلى النوم وقد أخذ منَّا الكلال والإعياء فإننا ننام نومًا «عميقًا»؛ أي إننا لا نحلم؛ أي إن كلَا عقلينا قد نام لشدة الإعياء الذي شملهما كليهما، وهذا شبيه بالجنون حين يشتد فيأكل المجنون التراب أو الطين؛ لأن عقله الغريزي الذي كان يميز به الطعام قد جُن أيضًا. بل في تناول الخمر نشعر بدرجات الجنون تصيب طبقات عقولنا الواحدة بعد الأخرى حتى يختلَّ فينا العقل الغريزي، ولكنه مع ذلك آخر ما يسكر ويختل.

ولكن لا يتفق لنا ذلك إلا قليلًا، وأغلب حياتنا تُقضى في نوم عادي؛ أي إن الذي ينام فينا هو العقل الواعي فقط، بل أحيانًا يكون الإعياء منبِّهًا للعقل الباطن فنرى الأحلام تتوارد كثيرًا.

وقد قلنا: إن العقل الباطن يبقى مكبوتًا مدَّة اليقظة لأن العقل الواعي يكبته ويمنعه من الظهور، فإذا نشأت فينا وقت اليقظة عاطفة شوق أو جوع أو غضب أو كرامة أو طمع وكبَتها عقلنا الواعي؛ لأن الحضارة لا تواتينا على أن نترجم هذه العاطفة إلى رغبة ثم إرادة فعمل، أو أن ظروفنا الخصوصية لا تساعدنا على ذلك، فإن هذه العاطفة تندسُّ في العقل الباطن وتبقي قوة مضغوطة إذا نمنا أو غفونا ظهرت بمظهر الحلم أو الخاطر.

وما دام العقل الباطن هو الذي يُظهرها لنا فهو يظهرها على أسلوبه القديم، فنحن في النوم ننتقل من إنسان القرن العشرين المهذب المتحضر إلى إنسان الثقافة القديمة قبل ٥٠٠٠ سنة أو إلى حالتنا البهيمية السابقة قبل عشرات الألوف من السنين، ولما كان الطفل يمثل الإنسان، بل الحيوان القديم كما هو واضح من أنه يمشي على أربع ويغضب كثيرًا ويرعَب كثيرًا، فإن الأحلام تجري على أسلوب الطفولة؛ أي الأسلوب الذي كان يسلكه الإنسان في العصور القديمة.

وقد رأينا أن العاطفة المكبوتة؛ أي اللبيد المحتبس، إذا اندسَّت في العقل الباطن حاول هذا أن يفرِّج عنها بالخواطر، فالجائع الذي كبت عاطفة الجوع تخطر في باله ألوان الطعام وهو في غفوة اليقظة أو يرى الطعام ويأكله في الحلم.

فنرى من هذا المثال أن الحلم هو تحقيق رغبة قامت في النفس ولم تحقق في اليقظة، ولكن ليست كل الأحلام كذلك.

فمعظم الأحلام هي في الواقع صراع يحاول فيه الشخص أن يحقق رغبته، فإن نجح فذاك، وإلَّا فقد يستيقظ وهو ما يزال في صراع، وكل ذلك يجري بأسلوب النفس القديمة؛ أي بذلك العقل الباطن الذي لا يعرف الطرق الحديثة لحل المعضلات التي تعترضنا.

فالجائع الذي حرم من الطعام قد: (١) يرى الخبز ويأكله في الحلم فيحقق بذلك رغبته، وقد: (٢) يرى الخبز في الحلم ويحاول أن يأكله فلا يقدر، وهنا صراع بين الشهوة للطعام والامتناع منه.

وذلك لأن العقل الباطن كما اندسَّت فيه الشهوة للطعام كذلك اندسَّت فيه الرغبة في الامتناع عنه لمصلحة الشخص حتى يُشفى من المرض الذي يصوم من أجله، فالعقل الباطن يرغب في بلوغ مصلحتنا على أسلوب قديم، وقد يستطيع أحيانًا أن يبلغ حلًّا موافقًا.

وهذا هو علَّة خروجنا من الحلم بحيرة نقف عندها لا نعرف وجه الحل فيها للمعضلة التي حاول العقل الباطن أن يحلها، فهذا العقل يرغب في نجاحنا فهو يُخيِّل لنا النجاح بتحقيق الرغبة ثم يرى الصعوبة في التحقيق فيقف حائرًا.

وهنا يجب أن نلاحظ:
  • (١)

    أنه إذا كان النوم خفيفًا فإننا نشعر بالصراع في الحلم والحيرة وعدم تحقيق الرغبة.

  • (٢)

    وإذا كان النوم تامًّا (أي غير خفيف) شعرنا بتحقيق الرغبة.

وعلة ذلك أننا في حالة النوم الخفيف يتصل العقل الواعي بالعقل الباطن، فلا يشطح العقل الباطن في أسلوبه القديم ويحقق كل رغبة فيقتل الخصم ويركب البقرة، فإن العقل الواعي لخفة النوم ينبِّهه إلى سخافة ذلك، فتحدث الحيرة والصراع بين تحقيق الرغبة وعدم تحقيقها.

أما إذا كان النوم تامًّا فإن العقل الواعي يكون نائمًا، وعندئذٍ يحقق العقل الباطن رغبته كما يشاء على أي طرق قديمة شاء.

وهذا الصراع يبدو لنا على أوضحه في الكابوس، فإنه من الواضح أن الكابوس لا يحقق شهوة من شهواتنا، وهو نقيض للخبز الذي يراه الجائع ويأكله في النوم، فكيف نفسر الكابوس؟

قد يحدث أن تقع بي حادثة مفزعة جدًّا ولكنِّي أنجو منها، فبعقلي الواعي أعرف أني قد نجوت وأكبت عاطفة الرعب التي لحقتني والتي لا أذكرها حتى يخفق قلبي ويذهل عقلي، ولكنِّي أكبت هذه العاطفة، وكل عاطفة لم تترجم إلى عمل أنما هي قوة تندسُّ في العقل الباطن.

فهذا الرعب الذي يدركني في اليقظة من وقت لآخر فيخفق قلبي له ويذهل عقلي يدركني في النوم عن سبيل العقل الباطن كابوسًا؛ أي رعبًا قديمًا، كما كان يلحق آبائي منذ نحو مائة ألف سنة. فمعنى الخوف أتخيله في سقفٍ سينقضُّ عليَّ أو ترام سيدوسني أو وحش سيفترسني، فأحاول أن أجري فلا أقدر.

ولكن لماذا لا أقدر؟

لأن الإنسان القديم الذي يجري عقلي الباطن على طرقه كان يستجيب للخوف في الغابة بالسكون التام كما يفعل بعض الحيوان الآن كالثعلب؛ لأن هذا السكون كان طريقًا من طرق النجاة.

فإذا أغار وحش على جماعة من الناس وانزوى واحد منهم وسكنت جميع حركاته بحيث لا يقدر هو نفسه على الصراخ أو الحركة لاستطاع بذلك أن ينجو من الوحش الذي قد لا يلتفت إليه ولا يعرف مكانه. أما إذا تحرك أو صرخ فإنه يلتفت إليه فيدركه ويقتله.

فهذا الجمود الذي نجده في الكابوس هو طريقة العقل الباطن في الاستجابة للرعب؛ لأن طريقة العقل الباطن هي طريقة الأسلاف القدماء، ولكن عندما نقترب من اليقظة يحدث صراع بين العقل الواعي الذي يوشك أن يستيقظ والعقل الباطن؛ ولذلك نصرخ ثم نستيقظ تمامًا، فالصراخ يأتي في الآخر عندما تقترب اليقظة، وهذا ينساق مع كلامنا من أن الحلم يكون في النوم الخفيف صراع وفي النوم التامِّ تحقيق رغبة.

بقي أن نقول: إن الكابوس يدل على أن الخوف كان عند آبائنا أشد مما هو عندنا، وأنه كان رعبًا تجمد منه أعضاؤهم، ثم خف في أيامنا، ولعله صائرٌ إلى المحو التامِّ من طبائعنا بحيث إن الخلَف القادم سوف لا يخاف البتَّة من أي شيء، وذلك حين يسيطر العقل الواعي سيطرة تامة على الجسم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤