الفصل الخامس

إِسلامُه

يجوز أن نبحث عن سببٍ واحدٍ للعمل الذي يعمله الرجل اليوم وينساه غدًا، أو يكرره كل يوم ولا يلتفت إلى عقباه، أو يلتفت إلى عقباه ولا يتوقع لها أثرًا يغير في مجرى حياته؛ فسببٌ واحدٌ لعمل من هذه الأعمال كافٍ، ولا حاجةَ بعده إلى استقصاء.

لكنَّ العملَ الذي تتحول به حياة الإنسان تحولًا حاسمًا لن يرجع إلى سبب واحد، ولن نستغني في تفسيره عن عدة أسباب، بعضها حديث وبعضها قديم، ومنها الظاهر الطيع والخفي المستعصي، وقد يجهل صاحبها بعض هذه الأسباب، وينسى المهم منها، ويتعلق بالهين القريب.

فالرجل الذي يغير موطنه أو معيشته أو زيه لا يفعل ذلك عفو الساعة، ولا تلبيةً لاقتراح يوحى إليه في مجلس فراغ، وقد يتوهم هو أنه سمع الاقتراح فلبَّاه، وأنه لم يكن ليلبيه لولا ما سمع في تلك اللحظة العارضة، فهجر أهله، وترك موطنه، وغيَّر صناعته من أجل كلمة، وإنك سائله ساعتئذ: «إنك قد هجرت أهلك، وتركت موطنك، وغيَّرت معيشتك لأنك لبيت اقتراحًا، فهل تعلم لم لبيت الاقتراح؟» فإذا سألته ذلك السؤال رددته إلى نفسه، فعلم أنَّ الأسباب الصحيحة وراء ذلك، وأنه لم يتحول لأنه سمع الاقتراح المزعوم، بل سمع الاقتراح ولباه لأنه كان قبل ذلك مستعدًّا للتحول، ماضيًا في طريقه. ولو سمعه مائة معه لم يكونوا مستعدين مثله، لما عملوا به، ولا التفتوا إليه.

وأين تغيير المعيشة والموطن والزي من تغيير العقيدة الدينية؟ إننا إذا استصغرنا السبب الواحد في تفسير تلك التغييرات، فهو لا مراء أصغر من ذلك جدًّا في تفسير التحول الحاسم إلى دين جديد.

لأن الإنسانَ إذا غيَّر معيشته فإنما يُغيِّر صناعة، وإذا غيَّر موطنه فإنما يغيِّر بلدًا، وإذا غيَّر زيه، فإنما يغيِّر سمتًا١ يقوم على كساء، ولكنه إذا غيَّر عقيدته الدينية فقد غيَّر كونه، واستبدل به كونًا آخر، وقد غيَّر ماضيه وماضي أهله، وغيَّر حاضره وحاضر أهله، وغيَّر مصيره في الدنيا ومصيره بعد الموت، وغيَّر آراءه ومقاييسه فيما يأخذ، وفيما يدع من أمور الحياة، وعلاقات الناس، ومنها مآلف وأواصر ومحابُّ ومكاره متوشجات الأصول إلى ما وراء الآباء والأجداد.

فسبب واحد لا يغيِّر هذا كله دفعة واحدة.

ولا بدَّ لتمام هذا التغيير من أسباب سابقة مهيئة، وأسباب موقوتة هي أظهر تلك الأسباب، وقد تكون أضعفها وأقلها تفسيرًا لذلك الحدث العظيم في العالم، وهل يتغير الإنسان هكذا إلا وقد أحاط بالعالم — في نظره — حدث عظيم؟

ونحن قد أشرنا — فيما تقدم — إلى ندمِ عمر لشكاية المرأتين اللتين عارضهما في الإسلام، وإلى ما كان لندمه من كسر حِدَّته، واستلال ضغنه، وترويض عناده، والتقريب بينه وبين الخشوع الديني، والهداية الإسلامية، فهل نقف عند هذا الندم وكفى؟ وهل انتهينا به إلى حيث يستقر الوقوف؟

ومما لا شك فيه أنَّ عمر كان مقتربًا من الإسلام يوم رثى لأم عبد الله بنت حنتمة، وتركها تنطلق إلى الهجرة وهو يدعو لها بالسلامة، وكانت هي على صواب حين طمعت في إسلامه ورجالها يائسون منه، فقد سألها عامر بن ربيعة مستغربًا مستبعدًا: كأنك قد طمعت في إسلام عمر؟ قالت: نعم. قال: إنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب!

ولكن الرجل أخطأ، وصدقت المرأة، إذ ليس أسرع من المرأة أن تلمح جانب الرقة وجانب الغضب من قلب الرجل في خطفة عين، أليست حياتها كلها من قديم الزمن منوطة بذلك الغضب، كيف تتلطف في تحويله؟ وبتلك الرقة كيف تتلطف في ابتعاثها من مكمنها، وهل تحجبها عنها القوة وهي ما نفذت إلى نفس الرجل قط إلا من وراء القوة؟

فعمر كان مقتربًا من الإسلام يوم رثى للمرأة المهاجرة، ودعا لها بصحبة الله، وكان على تمام الإسلام يوم رأى الدم على وجه أخته، ورأى زوجها منطرحًا لا يقوى على دفاع.

ولكنه — كما قلنا — سبب من أسباب، أو أنه هو السبب العارض الذي يومئ٢ إلى السبب العميق: سبب عارض هو الأسف لشكاية الضعيف، وسبب عميق هو الرحمة التي تجمل بذي نخوة كريم. وليس الإنسان كله ندمًا ورحمة، وإن طال ندمه وطالت رحمته، فليس كل ما احتوى رحمته بمحتويه إلى زمن طويل.

وقد تعددت الروايات في إسلام عمر، واختلف بعض هذه الروايات في اللفظ، واتفق في المغزى، وجعل أناس ينظرون فيها كأنما الصحيح منها لا يكون إلا رواية واحدة وسائرها باطل لا يشتمل على حقيقة، فلمَ لا تكون صحاحًا كلها؟ ولم لا تكون أسبابًا متعددات في أوقات مختلفات؟ فمن المستطاع المعقول أن نسقط منها قليلًا من الحشو هنا، ثم نخلص منها إلى جملة أسباب لا تعارض بينها في الجواهر، وقد يعزز بعضها بعضًا في نسق السيرة وفي لباب النتيجة.

رُوِيَ عن عمر — رضي الله عنه — أنه قال: «كنتُ للإسلام مباعدًا، وكنت صاحبَ خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلسٌ يجتمعُ فيه رجالٌ من قريشٍ، فخرجتُ أريدُ جُلسائي أولئك، فلم أجدْ منهم أحدًا، فَقُلْت: لو أنني جئتُ فلانًا الخمار! وخرجت فجئت فلم أجدْهُ، قلت: لو أنني جئت الكعبة، فطفت بها سبعًا أو سبعين! فجئت المسجدَ أريد أن أطوفَ بالكعبة فإذا رسول الله قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، واتخذ مكانه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني. فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعتُ لمحمد الليلة حين أسمع ما يقول! وقام بنفسي أنني لو دنوت أسمع منه لأُرَوِّعَنه،٣ فجئت من قِبَل الحِجر،٤ فدخلت تحت ثيابها ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعتُ القرآنَ رَقَّ له قلبي؛ فبكيت ودخلني الإسلام.»
وروى ابنُ إسحاق في سببِ إسلامه كما نقلنا عنه في كتابنا «عبقرية محمد»: أنَّ عمرَ خرج يومًا متوشحًا سيفه يريد رسول الله ورهطًا من أصحابه، قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدًا هذا الصابئ٥ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله. فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمرُ! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك٦ وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما.
قال: فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمةُ بنتُ الخطَّاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمرُ حين دَنَا إلى البيت قراءة خباب عليهما. فلما دخل قال: ما هذه الهينمة٧ التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئًا! قال: بلى والله، لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته: نعم، قد أسلمنا، وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد … وقرأ سورة طه، فلما قرأ منها صدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب، خرج إليه فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر! فقال له عند ذلك عمر: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه. فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه، فضرب عليهم الباب، وقام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل٨ الباب، فرآه متوشحًا بالسيف، فرجع إلى رسول الله وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحًا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: نأذن له، فإن كان يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله: ائذن له. ونهض إليه حتى لقيه بالحجرة فأخذ بحُجزَته٩ أو بمجمع ردائه، ثم جبذه جبذةً١٠ شديدة، وقال: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة!١١ فقال عمرُ: يا رسولُ الله، جئتك لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.

هاتان الروايتان هما أجمع الروايات للأسباب «المباشرة» التي قربت بين عمر والإسلام، وتتفرع منهما روايات منوعة يزيد بعضها تارةً أنَّ عمرَ قد أُوفد لقتل النبي من قبل قريش، ويزيد بعضها تارةً أخرى آيات من القرآن الكريم قرأها عمرُ في بيت أخته غير الآيات التي تقدمت الإشارة إليها في سورة طه، وأشبهها بالتصديق أنه لما اطلع على الصحيفة قرأ فيها اسم «الرحمن الرحيم» فذُعِر وألقاها، ثم رجع إلى نفسه فتناولها، وجعل كلما مر باسم من أسماء الله ذُعِر، فلما بلغ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قال: أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله.

وهذه على اختلافها رواياتٌ متقاربةٌ يبدو لنا أنها قصة واحدة شطرت شطرين وزيدت عليها الحواشي والأطراف، فاختلفت في ألفاظها ومواعيدها، واتفقت في جوهرها ومدلولها؛ لأنها تمس نفس عمر من الناحية التي هي أشبه أن تهديه إلى طريق جديد.

وهي — كما أسلفنا — تجمع لنا الأسباب «المباشرة» التي اقترنت بإسلام عمر، ولا تغنينا عن الأسباب الأخرى التي هي أساس هذه الأسباب ومرجعها، ولأجلها كان خليقًا أن تأخذه بلاغة القرآن، وأن تميل به الرحمة إلى الإيمان.

فقد كان مهيأ للإسلام لا محالة، وكانت مجافاته للإسلام خليقة أن تنتهي بعد قليل، وألا تطول إلا ريثما تعن المناسبة للشهادة باللسان بعد التهيؤ بالفطرة والضمير.

فلم يكن بين عمر والإسلام في بداية الأمر إلا باب واحد للعداء.

وكل ما عدا ذلك من الأبواب فقد كان مفتوحًا بينه وبين هذا الدين الجديد، ما هو إلا أنْ يراه بالعين حتى يندفع فيه.

كان باب العداء بينه وبين الإسلام أنه رجلٌ قوِيٌّ غيورٌ عزيزٌ في قومه، فإذا رجلٌ يخرج عليهم فيفرق — كما قال — أمر قريش، ويسفه أحلامها، ويعيب دينها ويسب آلهتها، فلا جرمَ يثور ويغضب وينقم، ولا عجبَ أن يذود عن ذماره، ويرحض١٢ المعابة عن شرف آبائه، ويرى أنه غير عادٍ ولا باغٍ، وأنَّ البغي والعدوان إنما يجيئان من قبل ذلك الرجل الخارج على قومه، حتى يتبين له بالحق الذي يصدع له أنَّ الذي هو فيه هو البغي والعدوان.

ذلك باب العداء الوحيد الذي كان بين عمرَ والإسلام، وهو بابٌ لا يطول مدخله في نفسٍ طُبِعَتْ على العدل والإنصاف.

فما من سببٍ يصل بين الجاهلي الشريف وهذا الدِّين الجديد إلا كان موصولًا بنفس عمرَ أوثق صلة، وما علمنا من سبب للإسلام إلا كانت له عقدة في نفس عمر وثيقة القرار.

فربما أسلم أناس لأنهم أخذوا ببلاغة القرآن، وأسلم أناس كرهوا المنكر الذي كان يشيع في الجاهلية، أو لأنهم ورثوا النزعة الدينية والخلائق المستقيمة، أو لأنهم جبلوا على روحانية تصل بينهم وبين عالم الغيب وحظيرة الأسرار، أو لأنهم قد عرضت لهم عارضة موقوتة، حركت ما فيهم من كوامن تلك الأسباب.

وكل أولئك كان عمر على استعداد له عظيم.

وكل أولئك لم يكن عمر فيه بالوسط المكرر، بل كان فيه العَلَم المترفع المضيء بين الأعلام.

كان عمر بليغًا حسن النقد للبلاغة، هواه منها الصدق والطبع وجمال التفصيل، فكان يطرب لقول زهير:

فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء١٣
ويقول كلما أنشده معجبًا: ما أحسن ما قسم! وسماه شاعر الشعراء؛ لأنه لا يعاظل١٤ بين القوافي ولا يتبع حُوشِيَّ الكلام.

وربما قضى الليلة ينشد شعره حتى يبرق الفجر، فيقول لجليسه: «الآن اقرأ يا عبد الله.»

وجاءه يومًا بعضُ آل هرم بن سنان ممدوح زهير، فقال عمرُ: أما وإنَّ زهيرًا كان يقول فيكم فيحسن. فقيل له: كذلك كنَّا نعطيه فنجزل. فعاد عمرُ يقول: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم.

وجاءه وفد من غطفان فسألهم من الذي يقول:

حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبة
وليس وراءَ الله للمرءِ مذهب

قالوا: نابغة بني ذبيان. فسألهم: ومن الذي يقول:

أتيتُكَ عاريًا خَلِقًا ثيابي
على وَجَلٍ تُظنُّ بي الظنونُ١٥
فألفيت الأمانة لم تَخُنْهَا
كذلك كان نوحٌ لا يخونُ

قالوا: هو النابغة. فقال: هو أشعر شعرائكم.

وطالما أعجب بقول عبدة بن الطبيب:

والمرء ساعٍ لأمر ليس يدركه
والعيش شح وإشفاق وتأميل

وينشده فيقول: على هذا بنيت الدنيا.

وندر بين أئمة الدين من غاص في أدب قومه غوصَهُ، ووعى من أشعارهم وطُرَفهم مثل ما وعاه. قال الأصمعي: «ما قطع عمر أمرًا إلا تمثل فيه ببيت من الشعر.» ونحن نرجعُ إلى الشعر الذي تمثل به فنراه في أحسن موقع وأصدق شاهد، ونَلْمح من قليلِ أخبارِهِ في خلوته أنَّ الأدبَ كان جانبًا من جوانبه التي ترق فيها حاشيته، ويأنس فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى فطرته. جاء عبد الرحمن بن عوف إلى بابه، فوجده مستلقيًا على مزحفة له، وإحدى رجليه على الأخرى وهو ينشد بصوت عالٍ:

وكيف ثَوَائي١٦ بالمدينة بعدما
قضى وطرًا منها جميلُ بن معمر؟!

فلما دخل عبد الرحمن وجلس قال له: يا أبا محمد، إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس.

ولم يقصر إعجابه بالشعراء على الذين وافقوا المواعظ والسنن الدينية، بل نظر في فنهم وفاضل بينهم في بلاغتهم، ففضَّل امرأ القيس لأنه «سابقهم، خسف لهم عين الشعر، فافتقر عن معانٍ عور أصح بصر.»١٧

ونوادره مع الشعراء والرواة كثيرة، تدل على شغفه بالبلاغة الصادقة، وحفظه لأجمل ما يحفظ بين أهل عصره، كما تدل على ذلك خطبه ورسائله وشواهده وأمثاله.

وقد يصح أنه نظم الشعر أو لا يصح، فقد نسبت إليه أبيات وأنكر هو أنه شاعر؛ حيث يقول: لو نظمت الشعر لقلته في رثاء أخي. ولكن الصحيح أنه كان يحب الشعر البليغ، ويرويه، ويوصي بروايته، وأنه نشأ في قوم يحبون مثل ما أحب، ويعجبون بمثل ما أعجبه، ومنهم أبوه الذي نظم الشعر في أكثر من مناسبة، وروى عنه أنه قال لما توعده أبو عمرو بن أمية:

أيوعدني أبو عمرو ودوني
رجالٌ لا ينهنهها الوعيدُ١٨
ربيع المعدمين وكل جارٍ
إذا نزلت بهم سنةٌ كئودُ١٩
هم الرأس المُقدَّم من قريش
وعند بيوتهم تُلقَى الوفودُ
فكيف أخافُ أو أخشى عدوًّا
ونصرهُمُ إذا أَدعُو عتيدُ
فلست بعادلٍ عنهم سواهم
طوالَ الدهرِ ما اختلف الجديدُ٢٠

إلى آخر ما نسب إليه.

فأقرب شيء إلى الواقع — وإلى المتوقع — أن يؤخذ ببلاغة القرآن رجل نشأ هذه النشأة، وأحب الكلام البليغ هذا الحب، وأن يخشع لآياته، ويعجب لتفصيله، فيفتح من قلبه مسالك الإصغاء.

وكان عمر مستقيم الطبع مفطورًا على الإنصاف، فلم يكن رجل مثله ليستريح إلى فساد الجاهلية، أو يخفى عليه فسادها، إذا نبه إليه وهُدِي إلى ما هو خير منه.

وكانت النزعة الدينية وراثة في أسرته على ما يظهر من مبادرة أخته فاطمة وابن عمه سعيد بن زيد إلى الإسلام، وكان له قبل الإسلام رجل من عمومته يقدح في الوثنية، ويبحث عن الحق في النصرانية واليهودية، ويبتلي أهله بالخلاف، ويبتلونه بالإيذاء والحبس والإرهاق، ونعني به زيد بن عمرو بن نفيل.

وعمر نفسه، ألم يقل لنا إنه يئس ليلة من السمر ومن الخمر، فذهب يطوف بالبيت، كأن طواف البيت شهوة من شهوات قلبه، تنوب عنه مناب المحبوب من الشهوات؟ ألم يكن في الجاهلية ينذر أن يعتكف ليلة من كل أسبوع؟ بل لعل صلابة الخطاب أبيه لم تكن في صميمها شيئًا مناقضًا لعنصر الدين والإيمان، فإذا هؤلاء الصلاب الشداد في المحافظة على العرف هم أولئك المؤمنون المتزمتون٢١ الذين لا يطيقون المساس بعقائدهم إذا آمنوا بدين.
وزاد عمر على الوراثة الدينية أنه كان صاحب فراسة وزكانة،٢٢ وكان يستطلع الرؤى والمنامات، ويتصل بالغيب، ويبصر على البعد كما سلف في حديث سارية حين ناداه: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! وبينهما مسيرة أيام.

وكانت العوارض تمر به فتعطفه إلى الإسلام تارةً من طريق الرحمة، وتارةً من طريق العدل والنخوة، فيخشع ويندم، ويراجع عناده وكبرياءه؛ إذ ليس أبغض إلى الرجل الأبي المنصف من أن يحارب أناسًا لا يحاربونه، ويلج في إيذاء قوم لا يقدرون على أذاه.

فإذا تفتحت هذه الأبواب جميعًا بين عمر والإسلام، فبابٌ واحدٌ موصدٌ لن يحجبه طويلًا عن هذا الدين، ولن يحجب هذا الدين طويلًا عنه.

وقد تفتحت في يوم من الأيام.

تفتحت كلها فدخلها دخول العاصفة من جميع الأبواب، وأسلم الجاهلي الشريف، كما كان ينبغي أن يسلم، وكما كان يقينًا سيسلم في مناسبة من المناسبات.

فإذا العالم الإنساني قد تفتحت فيه صفحة جديدة: صفحةٌ يقرأ فيها القارئ قبل كل شيء ماذا يصنع الإسلام بالنفوس، ويعلم منها قبل كل علم أنَّ هذا الدين كان قدرة بانية منشئة من لَدُن المقادير التي تسيطر على هذا الوجود، كان قدرة تلابس الضعيف فيقوى، وتلابس القوي فتنمي قوته، وتجري به في وجهته، وكان يدًا خالقة حاذقة تأخذ الحجارة المبعثرة في التيه، فإذا هي صرح له أساس وأركان، وفيه مأوى للضمائر والأذهان. جاهلي كسبه الإسلام فكسبه العالم الإنساني كله إلى آخر الزمان … ونفس ضائعة ردت إلى صاحبها فعرف منها ما كان ينكر، واطلع منها على ما كان يجهل، ونفع بها أمته، وأممًا لا تحصى، وصنع بها الإسلام أعظم وأفخم ما تصنعه قدرة بناء وإنشاء، حيثما كانت قدرة بناء وإنشاء.

ونظرت الأمم فرأت كيف تعلو النفس الإنسانية حتى يحار فيها الإنسان وهو ريشة في مهب النوازع والأشجان.٢٣

رأت كيف يصبح العدل والحق طبيعة حياة، وكيف يصبح مخلوق من اللحم والدم، وكأنه لا يأكل طعامه ولا يروي ظمأه إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يصحو ولا ينام إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يتنفس الهواء إلا ليمتنع الظلم عن الناس وتدول دولة الباطل بين الناس، وكأنما العدل والحق دَين عليه يطالبه به ألف غريم، وهو وحده أقوى في المطالبة بهما من ألف غريم.

لقد كان هذا الرجل المجيد يبغض أن يظلم غيره أشد من بغضه أن يظلمه غيره، وهذه منزلة في الأنفة لا تطاولها المنازل؛ لأنها منزلة الأبطال الذين يسمون على أنفسهم، ولهم أنفس أسمى من عامة الأبطال.

وإننا لنعلم كم حز في قلبه الكريم أن يضرب بريئًا على دين الحق كلما رجعنا إلى أيامه الأولى بعد الإسلام، وهي أيام لا تنسى في تاريخ البطولة والأبطال.

فما شغله أمر بعد إعلان الدين إلا أن يخرج ليضربه أناس كما كان يضرب أناسًا في سبيل ذلك الدين.

ثار إلى الناس يضربونه ويضربهم، فقال خاله يسأل: ما هذه الجماعة؟ قيل له: إنَّ ابن الخطاب قد صبأ، فقام على الحجر فنادى: ألا إنني قد أجرت٢٤ ابن أختي. فانكشف الناس عنه. فكان لا يزال يرى مسلمًا يضرب ولا يضربه أحد، وثقل عليه ألا يصيبه ما يصيب المسلمين، فذهب إلى خاله، وقد اجتمع الناس في الحجر وناداه: اسمع! جوارك مردود عليك.٢٥ قال خاله وهو به وبما يستهدف له أدرى: لا تفعل يا بن أختي. فأصر على رد جواره، وطاب له بعد ذلك أنه اقتص من نفسه للأبرياء الذين ضربهم وهو يجهل دينهم، فلا تمضي تلك الضربات بغير قصاص، وإن كفر عنها بالتوبة وإعزاز الدين الذي آذاهم من أجله.
وأبى من اللحظة الأولى إلا أنْ يواجه الخطر الأكبر في سبيل دينه، وإلا أن يقبض على الثور من قرنيه، كما يقول الغربيون في أمثالهم، وأن يتحدى قريشًا بحقه مذ آمن بأنهم على باطل، فسأل أناسًا: أيُّ أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، فذهب إليه فصرَّح له بإسلامه، ولم يكذب الرجل الظن به، فما هو إلا أن سمعها حتى خرج وعمر وراءه إلى أندية قريش حول الكعبة، يصرخ بأعلى صوته على باب المسجد: يا معشرَ قريش، ألا إنَّ عمرَ بنَ الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب! ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، ثم تنشب المعركة بين هذا الرجل المفرد وبينهم، فيثب على أدناهم منه وأجرئهم عليه عتبة بن ربيعة فيصرعه، ويبرك عليه يضربه، ويدخل أصبعيه في عينيه لأنهما عمياوان عن الحقِّ لا يبصران النور، ويتكاثرون عليه فلا يدنو منهم أحد «إلا أخذ شريف من دنا منه» حتى أحجموا عنه، وركدت الشمس، وفتر من طول الصراع، فجلس وهم قائمون على رأسه يثلبونه،٢٦ وهو يقول لهم: «افعلوا ما بدا لكم، فوالله لو كنا ثلاثمائة رجل لتركتموها لنا أو تركناها لكم.» افعلوا ما بدا لكم! وهذا ما أراد؛ فما يستريح وجدانه الحي أن يضرب مسلمًا لإسلامه، ولم يضرب كافرًا لكفره، وما يشعر أنه وفَّى لله دينه وقد ضرب ولم يُضرَب، وآذى أناسًا ولم يُؤذِه أحد، وما تهدأ حاسة العدل فيه، وقد كانت كأنها من حواس بدنه، إلا أن يحس القصاص في نفسه، كما أحس المضروبون بالأمس عدوانه في أنفسهم.

وراح يسأل النبي: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن مِتْنا أو حيينا؟ فقال عليه السلام: بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم. قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن!

فما لبث النبي أن خرجَ في صفين، أحدهما فيه عمر والآخر فيه حمزة، ولهما كديد كأنه كديد٢٧ الطحين، فدخلوا المسجد وقريش تنظر وتعلوها كآبة، فلا يجرؤ سليط٢٨ منها ولا حكيم أن يقترب من صفين فيهما هذان، وسمَّاه النبي يومئذٍ الفاروق.
قال علي بن أبي طالب — رضي الله عنه: «ما علمت أنَّ أحدًا من المهاجرين هاجر إلا مختفيًا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همَّ بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهمًا، واختصر عنزته٢٩ ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف في البيت سبعًا متمكنًا، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الحِلَق٣٠ واحدة واحدة يقول لهم: شاهت الوجوه!٣١ لا يرغم الله إلا هذه المعاطس!٣٢ من أراد أن يثكِّل أمه، أو يُوتِم ولده، أو يرمِّل زوجته؛٣٣ فليلقني وراء هذا الوادي.»

لقد كان له في تحديه هذا لقريش عدتان: شجاعته وعدله، فما كانت شجاعته في هذا التحدي بأظهر من عدله، ولا كان عدله فيه بأظهر من شجاعته؛ إذ الشجاع الحقُّ مطبوعٌ على الأنفةِ من الظلم؛ لأنه شديد الإحساس بذله، ومن كان شديد الإحساس بذل الظلم، فهو شديدُ الإحساس بعزَّة العدل من طريق واحد، وقلَّما أغضب العادل الشجاع شيء كاستطالة الظالم وظنه أنَّ المظلوم لا يستطيل عليه، فذلك هو التحدي الذي يثير الشجاعة، ويثير النقمة على الظلم، أو يثير حب العدل في وقت واحد، وإنَّ الموت لأهون من الصبر على هذا التحدي المرذول، وهذا الصلف القبيح. وما الشجاعة إن لم تكن هي الجرأة على الموت كلما وجب الاجتراء عليه؟ وأي امرئ أولى بالجرأة من الشجاع الذي يعلم أنَّ الحق بين يديه؟ ألسنا على الحقِّ إن حيينا وإن متنا؟ فعلى الحق إذن فلنمت، ولا نعيش على الباطن، فالباطل كريه والجبن كريه، وذانك ملتقى العدل والشجاعة في قلب العادل الشجاع.

ونهج عمر طريقه في الإسلام كما نهج طريقه إلى الإسلام، كلاهما طريق صراحة وقوة لا يطيق اللف والتنطع، ولا يحفل بغير الجد الذي لا عبث فيه، فلا وهن ولا رياء، ولا حذلقة ولا ادعاء، وما شئت بعد ذلك من إسلام صريح قويم فهو إسلام عمر بن الخطاب.

قال في بعض عظاته: «لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدَّث صدق، وإذا ائتمن أدى، وإذا أشفى — أي همَّ بالمعصية — ورع.»

وقال في هذا المعنى: «لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكن، من أدى الأمانة إلى من ائتمنه، وسلم الناس من يده ولسانه.»

وقال في عمل الدنيا والآخرة: «ليس خيركم من عمل للآخرة وترك الدنيا، أو عمل للدنيا وترك الآخرة، ولكن خيركم من أخذ من هذه ومن هذه، وإنما الحرج في الرغبة فيما تجاوز قدر الحاجة، وزاد على حد الكفاية.»

ولم يكن أبغض إليه ممن يتوانى ليقال إنه متوكل على الله، أو يتراءى بالضعف ليقال إنه ناسك، أو يفرط٣٤ في العبادة ليقال إنه زاهد في الدنيا.

فكان يقول: «إنَّ المتوكل الذي يلقي حبة في الأرض ويتوكل على الله.» و«لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني. وقد علمتم أنَّ السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأنَّ الله تعالى يرزق الناس بعضهم من بعض.»

وكان يضرب من يتماوت ويستكين ليظهر التخشع في الدين، فنظر إلى رجل مُظهِر للنسك متماوت، فخفقه بالدرة وقال: «لا تمت علينا ديننا أماتك الله.» وأشاروا له إلى رجل يصوم الدهر، فضربه وهو يقول له: «كل يا دهر! كل يا دهر!» ينهاه عن الصوم الذي يعوقه عن معاشه، ولا يوجبه عليه الدين.

وكان كلما رأى شابًا منكسًا رأسه صاح به: «ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنما أظهر للناس نفاقًا إلى نفاق.»

وإنما كان يعجبه «الشباب الناسك نظيف الثوب طيب الرائحة»، ويرى المسلمين بخيرٍ ما علَّموا أبناءَهم الرَّمْيَ والعومَ والفروسيَّة، «فأنتم بخيرٍ — كما قال — ما نزوتم٣٥ على ظهور الخيل.»

دينُ الرجل القوي الشجاع الذي ينتصر بدينه في ميدان الحياة، وليس بدين الواهن المهزوم الذي تركته الدنيا، فأوهم نفسه أنه هو تاركها ليقبل على الآخرة.

وكانت شجاعته في دينه أندر الشجاعات في النفوس الآدمية؛ لأنها الشجاعة التي يواجه بها تهمة الجبن، وهو أرذل من الموت عند الرجل الشجاع. فإنَّ كثيرًا من الناس ليعدلون عن الصواب الذي يظهرهم بمظهر الخوف ليقال إنهم شجعان، وإنهم في عدولهم عنه لمن الجبناء المستعبدين للثناء، ولم يكن عمرُ يعدل عن صواب فهمه، ولو قيل في شجاعته ما قيل، وتلك أشجع الشجاعات.

فشا طاعون عمواس وعمر في طريقه إلى الشام، فلقيه أبو عبيدة وأصحابه عند تبوك، وأخبروه خبر الطاعون، فاستشار المهاجرين والأنصار، فاختلفوا بين ناصح بالمضي وناصح بالقفول: ناصح بالمضي في طريقه يقول إنه خرج لأمر، ولا يرى له أن يرجع عنه، وناصح بالقفول يقول إنه اصطحب «بقية الناس وأصحاب رسول الله، ولا يرى أن يقدمهم على وباء.» ثم دعا مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فلم يختلف عليه رجلان، وأشاروا جميعًا بالرجوع. فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله؟ قال عمر: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان٣٦ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟! وما رام٣٧ مكانه حتى جاءه عبد الرحمن بن عوف، فحسم الخلاف برأي النبي في الخروج من أرض الطاعون والقدوم إليها؛ حيث قال عليه السلام: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها.»
فكان إيمانه بصيرًا لا يهجم به على عمياء، ولا يستسلم فيه استسلام العَجَزة، وهو قادر على الحيطة والأخذ بالأسباب، وكانت نصيحته العامة للمسلمين في أمر الطاعون كرأيهِ الخاص في أمر نفسِه وصحبه، فأمرهم بالاستنقاذ ما وجدوا له سبيلًا، وكتب إلى أبي عبيدة: «إنك قد أنزلت الناس أرضًا غمقة — أي وخيمة — فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.»٣٨ وهو أحوط ما يحتاط به أمير عالم في هذه الأيام.

•••

كذلك لم يكن يؤمن بشيء ينفع أو يضر غير ما عرفت أسباب نفعه وضرره، فكان ينظر إلى الحجر الأسود فيقول كلما استلمه:٣٩ «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك.»
وسمع أنَّ الناس يأتون الشجرة التي بايع رسول الله تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها ويتبركون بها، فأوعدهم٤٠ وأمر بها أن تقطع، مخافة أن تسري إلى الإسلام من هذه المناسك وأشباهها لوثة٤١ من الوثنية والتوكل على الجماد.

•••

وربما التبس الأمر من نوادر عمر في التقشف واجتناب المتع والمناعم، فحسبت فرائض يوجبها، ويجري فيها على طريقة أولئك النساك المتخشعين الذين كان ينهاهم أن يميتوا الدين، ويهزأ بهم كلما تنطعوا وأوجبوا ما لا يجب على المؤمنين.

فلا يلتبسن الأمر هذا الملتبس، فهو واضح بيِّن التفرقة من سيرته ومن الأحاديث التي صحبت تلك النوادر، ففسرتها ودلت على الغرض منها. فعمرُ كان مسلمًا، وكانُ خليفة للمسلمين، وفرَّق بين محاسبة المسلم نفسه وهو مسئول عنها دون غيرها، وبين محاسبة الخليفة نفسه حتى يقع الشك في عمله، وينزه يده وأيدي أهله عما ليس لهم بحق من سلطان الحكم أو المال، ثم يفي لذكرى صاحبه الذي خلفه على المسلمين، فلا يعيش في مكانه خيرًا من عيشته، ولا يمنح نفسه وذويه ما لم يمنحه النبي لآله وذويه.

وعمر الذي كان يقنع بالخشن الغليظ من المأكل والملبس، ويأبى أن يذوق في المجاعة مطعمًا، لا يسع جميع المسلمين، إنما هو الخليفة الذي يحاسب نفسه قبل أن تحاسبه الرعية، وقد وجد منهم من لامه لأنه طرح كساءه وفيه فضل ملبس. فاتقاء هذا الحساب وما وراءه من حساب الله، هو الذي توخاه خليفة النبي في معيشته ومعيشة أهله، مما يشبه تقشف النساك.

وعلى هذا كله كان أعلم الناس أنَّ الطيبات حلال، وأنَّ النهي عن الحلال تنطع في الدين يأباه الإسلام.

كتب إليه أبو عبيدة أنه لا يريد الإقامة بأنطاكية لطيب هوائها ووفرة خيراتها مخافة أن يخلد الجند إلى الراحة، فلا ينتفع بهم بعدها في قتال، فأنكر عليه ذلك وأجابه: «إنَّ الله — عز وجل — لم يُحرِّم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات، فقال تعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

وكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم، وتدعهم يرغدون في مطعمهم، ويريحون الأبدان النَّصِبة٤٢ في قتال من كفر بالله.»

وحدث حذيفة بن اليمان أنه أقبل على الناس وبين أيديهم القصاع، فدعاه عمر إلى الطعام وعنده خبز غليظ وزيت! فقال حذيفة: أمنعتني أن آكل الخبر واللحم ودعوتني على هذا؟ قال: إنما دعوتك على طعامي، فأما ذاك فطعام المسلمين.

فللمسلمين حل ما شاءوا من الطعام، أما الرجل الذي ينفق من بيت المال فله ما يكفيه. والحرج كل الحرج عليه — وهو في عدل عمر وحزمه وجلده — أن يأخذَ منه ما لا حاجة به إليه، وإنه ليزداد حرجًا على ما فيه من قناعة أن يكون من أصحاب رسول الله، ويعلم كيف كان رسول الله يأكل في بيته، وماذا كان يجد من الملبس له ولأهله، ثم يصيب من هذا أو ذاك خيرًا مما أصاب الرسول.

وللولاة عنده مثل ما للمسلمين عامة من حق المتعة السائغة، والنعمة التي ترضاها الرجولة، لا يأخذهم بمحاكاته؛ لأنهم يتولون الأمر كما تولاه، بل ربما لامهم على التقتير كما كان يلومهم على الإسراف.

أنكر على عامله في اليمن حللًا مشهرة، ودهونًا معطرة، فعاد إليه العام الذي يليه أشعث مغبرًا عليه أطلاس،٤٣ فقال: لا، ولا كل هذا، إنَّ عاملنا ليس بالشعث٤٤ ولا العافي،٤٥ كلوا واشربوا وادَّهنوا، إنكم ستعلمون الذي أكره من أمركم.

ومن تمام العلم بإسلام عمر، أن نعلم فضل إسلامه مع من لم يكن من أهل الإسلام، فإن الحقَّ الذي يتبعه الرجل مع أهل دينه وحدهم لحق محدود يدخل في باب السياسة القومية أكثر من دخوله في باب الفضيلة الإنسانية، وإنما يصبح حقًّا جديرًا باسم الحق حين يتبعه الرجل مع أهل دينه ومع الخارجين عليه.

وعمر كان — ولا ريب — أشد المسلمين في إسلامه.

فلو كان الإسلام ظالمًا بطبيعته لمن لم يدخلوا فيه، لكان عمر أشد المسلمين ظلمًا لهم وقسوة عليهم، لكنه كان في الواقع أشد المسلمين رعاية لعهدهم مُذ كان أشد المسلمين غيرة على دينه وعملًا بأدبه.

فكان شأنه مع من حاربوه شأن المحارب الشريف، ولن ينتظر محارب من محارب إلى آخر الزمان معاملة أقوم ولا أصدق من معاملة عمر لمحاربيه.

وكان شأنه مع من صالحوه وعاهدوه أن يفي بعهدهم، ويخلص في الوفاء به إخلاص من يطالب نفسه به قبل أن يطالبوه، ومن يراقب نفسه فيه قبل أن يراقبوه.

كتب للنصارى في بيت المقدس أمانًا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم؛ لا تهدم ولا تسكن. وحان وقتُ الصلاة وهو جالسٌ في صحنِ كنيسة القيامة، فخرج وصلَّى خارجَ الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده، وقال للبطرك: لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي، وقالوا: هنا صلى عمر! ثم كتب كتابًا يوصي به المسلمين ألا يصلي أحد منهم على الدرجة إلا واحدًا واحدًا غير مجتمعين للصلاة فيها ولا مؤذنين عليها.

وكذلك كان يفعل في كل موضعٍ صلَّى فيه من الكنائسِ التي عاهد النصارى على تركها وتحريم هدمها وسكناها.

أما عهده لهم فقد كان مثالًا من السماحة والمروءة، لا يطمع فيه طامع من أهل حضارة من حضارات التاريخ كائنة ما كانت.

فكتب لهم العهد الذي قال فيه: «… هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها: إنه لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا ينتقض منها، ولا من خيرها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وأن يخرجوا منها الروم واللُّصُوت،٤٦ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بِيَعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم٤٧ حتى يبلغوا مأمنهم.»

وليس لذي عهد من ظافر أن يطمع في أمان أكرم من هذا الأمان.

وإنه قد كان يعطيهم عليه وعلى قومه هذه العهود، ثم لا يقنع بها حتى يشفعها بالوصاة للولاة أن يمنعوا المسلمين من ظلم أهل الذمة، وأن يوفي لهم بعهدهم، وينضح٤٨ عنهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم. كتب بذلك إلى أبي عبيدة، كما كتب إلى غيره من الولاة، وأوصى به في وصيته قبل أن يموت.
وما شكا إليه مظلوم — من أهل الذمة — واليًا كبر أو صغر إلا أنصفه منه. بعث زياد بن حدير الأسدي على عشور٤٩ العراق والشام، فمرَّ عليه تغلبي نصراني معه فرس قوَّموها بعشرين ألفًا، فخيَّره أن ينزل عن الفرس ويأخذ تسعة عشر ألفًا، أو يمسكها ويعطي الألف ضريبة، فأعطاه التغلبي ألفًا وأمسك فرسه. ثم مر عليه راجعًا في سنته فطالبه بضريبة أخرى، فأبى وشكاه إلى عمر وقص عليه قصته، فما زاد على أن قال له: كفيت! ثم رجع التغلبي إلى زياد وقد وطن نفسه على أنه يعطيه ألفًا أخرى، فوجد عمر قد كتب إليه: من مر عليك فأخذت منه صدقة فلا تأخذ منه شيئًا إلى مثل ذلك اليوم من قابل.٥٠

وسمع أنَّ بني تغلب لا يزالون ينازعون واليهم الوليد بن عقبة وينازعهم، وأنهم أوغروا صدره، فقال فيهم يتوعدهم:

إذا ما عصبت الرأس مني بمشوذ٥١
فغيك مني تغلب ابنة وائل

فخشي أن يضيق بهم صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمَّر غيره.

ولعل حاكمًا من الحكام لا يرام منه أن يبلغ في البر بمخالفيه في الدين مبلغًا أكرم وأرفق من إجراء الصدقة على فقرائهم، ولا سيما الحاكم الذي يدعو إلى دين جديد.

وقد تقدم أنَّ عمرَ أجرى الصدقة على شيخ يهودي مكفوف البصر، وقال: ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته، ثم نخذله عند الهرم.

وقد جعل ذلك سنة فيمن يبلغه أمرهم من الذميين والمعوزين، فمر في أرض دمشق بقوم مجذمين٥٢ من النصارى، فأمر أن يُعطَوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت.

وإذا أحصيت له في سيرته الطويلة أوامر وخُطًا تحرم الذميين بعض الحريات، أو بعض الحقوق، فكن على يقين أنه قد صدر في ذلك جميعه عن حكمة توجبها سياسة الدولة، ويقرها العقل والعرف، كما يقرها الدين والكتاب، ولم يصدر فيه قط عن حيف مقصود، أو عن رغبة في حرمان الذميين حرية يستحقونها، أو حقًّا هم أحرار فيه.

ولعل الذي يُحصَى له من هذه الأوامر والخطط، لا يعدو النهي عن استخدام بعض الذميين، ومنعم أن يتشبهوا في الأزياء والمظاهر بالمسلمين، وإجلاء بعضهم عن الجزيرة العربية في إبان الفتوح، والحذر من الكيد والتجسس والانتقاض.

فأما نهيه عن استخدام بعض الذميين فارجع إلى ما قاله في ذلك تعلم أنه منع استخدامهم لمصلحة العدل، وكراهة الظلم والمحاباة، فقال: «إني نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا.»٥٣

وطلب يومًا من أبي موسى رجلًا ينظر في حساب الحكومة، فأتاه بنصراني، فقال: إني سألتك رجلًا أشركه في أمانتي فأتيت بمن يخالف دينه ديني. وقلما نهى عن استعمال اليهود والنصارى إلا ذكر بعدها: إنهم أهل رشا، ولا تحل في دين الله الرشا.

وكان له عبد من أهل الكتاب يقال له أسبق، فعرض عليه أن يسلم حتى يستعين به على بعض أمور المسلمين فأبى، فأعتقه وأطلقه وقال له: اذهب حيث شئت! فلم يكن نهيه عن استخدام أهل الكتاب في مهام الدولة إلا إيثارًا للعدل وكراهة للرشوة والزيغ في الحكومة، وما نظن أحدًا ينكر أنَّ استخدامَ الغرباءِ عن الدولة خليق أن يحاط بمثل هذا الحذر، وأن يُجتَنب فيه مثل هذه الآفة؛ إذ يكثر بين المرتزقة الذين يخدمون دولة من الدول، وهم غرباء عنها، كارهون لمجدها وسلطانها، أن ينظروا إلى منفعتهم قبل أن ينظروا إلى منفعتها، وأن يساوموا على نفوذهم قبل أن يستحضروا الغيرة على سمعتها، والرغبة في خيرها وخير أهلها، ولا سيما في زمن كانت الدولة تميز بالعقائد قبل أن تميز بالأوطان.

وما من أمة في عهدنا هذا تبيح الوظائف العامة إلا بقيود وفروق متفق عليها: أولها تحريمها على الأجانب، ما لم تكن في استخدامهم منفعة عامة.

وهذه هي سياسة عمر في مسألة الوظائف القومية، بغير إعنات للدولة ولا إعنات للرعية، وكفى باتقاء الإعنات أنَّ العبد المملوك يخير في الوظيفة والإسلام فيأبى، فلا يصيبه من ذلك ضيم، ويطلق له زمامه يفعل ما يشاء.

أما نهيه عن تشبُّه الذميين بالمسلمين، وكراهته أن يبدلوا أزياءهم التي ولدوا عليها، فلا يُلام عليه حتى نعلم لمَ كان أناس من الذميين يودون التشبه بالمسلمين في الزي والشارة! أكانوا يتشبهون بهم حبًّا لدينهم، فهم إذن مسلمون لا يمنعهم مانع أن يجهروا بالإسلام، أم يتشبهون بهم كيدًا لهم ورغبة في التسلل بينهم والإفلات من عهودهم والتزاماتهم، وما توجبه الدولة عليهم في تلك العهود والالتزامات؟

إن كانوا يفعلونه لهذا، فلا لوم على عمرَ أن يأباه، وبخاصةٍ في الزمن الذي كان المسلمون فيه جميعًا في حكم الجنود، وما من دولة ترضى أن تبيح أزياء جنودها لمن يشاء.

وأما إخراج بعض الذميين من الجزيرة، فما خرج منهم أحد إلا وقد غدر بذمته، وكرَّر الغدر مرة بعد مرة، كما صنع أهل خيبر.

ومنهم من أُجلي عن الجزيرة لأنه طلب الجلاء فضلًا عن نقضه العهد، كما فعل أهل نجران.

فقد صالحهم النبي على أن يبقوا في مساكنهم، ولا يأكلوا الربا، ولا يتعاملوا به، وجاء أبو بكر فجدد الصلح على ذلك، ثم استخلف عمر، فرجعوا إلى الربا وأفرطوا فيه، وكانوا قد بلغوا أربعين ألفًا فتحاسدوا بينهم، وأتوا عمر يسألونه إجلاءهم، فاستحب هذا الجلاء.

على أنه لم يكن يأبى على التجار المأمونين أن يدخلوا الجزيرة، ويؤدوا العشور. فلما كتب إليه المشركون من أهل منبج أن «دعنا ندخل أرضك تجارًا وتعشرنا»،٥٤ شاور أصحاب النبي فأشاروا عليه بقبولهم، فدعاهم إليه.

ولا يفوتنا في هذا الصدد أمران مقترنان بخطة الإجلاء التي لجأ إليها عمر، وأيقن بصوابها وضرورتها؛ فأول الأمرين: أنَّ الجزيرةَ حرم الإسلام الذي كان يحيط به أعداؤه، ويتربصون به الدوائر، ويثيرون الفتنة على أطرافه، كما صنع الفرس بالعراق، والروم بالشام، ولا أمان على حرم يسكنه أناس فيهم من يغدر بأهله، بل فيهم من هؤلاء كثيرون.

وثاني الأمرين: أنَّ عمرَ قد سوى بين الإسلام والنصرانية في هذه الخطة، فحفظ حرم النصرانية ببيت المقدس للمسيحيين، لا يسكنه معهم من لا يقبلونه، كما حفظ حرم الإسلام بالجزيرة العربية للمسلمين، لا يسكنه معهم من يحذرون غدره.

وقد أجمل العوض حين ألجأته ضرورة الدولة إلى اتخاذ هذه الخطة، فاشترى بيوت أهل نجران وعقاراتهم، وأقطعهم النجرانية عند الكوفة، وكتب لهم وصاة قال فيها: «… هذا ما كتب به عمرُ أميرُ المؤمنين لأهل نجران: من سار منهم آمن بأمان الله لا يضره أحد من المسلمين، ومن مروا به من أمراء الشام وأمراء العراق، فليوسعهم من حرث الأرض، فما اعتملوا٥٥ من ذلك فهو لهم صدقة لوجه الله، ومن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم، فإنهم أقوام لهم الذمة وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرًا بعد أن يقدموا، ولا يكلفوا — إلا من صنعهم — البر، غير مظلومين ولا معتدى عليهم.»
ولم يفارق عمرُ الدنيا حتى أوصى الخليفة الذي يختار بعده بالذميين كافة «أن يوفي بعهدهم، ولا يُكلَّفوا فوق طاقتهم، وأن يقاتل من ورائهم.»٥٦ ودون هذا بالمراحل الشاسعة يقف عدل الدول القدامى والمحدثات، في كل ما اتخذت من حيطة حربية، أو حماية قومية، أو معاهدة بينها وبين أمة أجنبية، وإنَّ عذرها لدون عذر عمر في خططه، وإنَّ أسبابها لدون أسبابه في الإقناع.

•••

كان مسلمًا شديدًا في إسلامه، فلم تكن شدته في إسلامه خطرًا على الناس، بل كانت ضمانًا لهم ألا يخافه مسلم ولا ذمي ولا مشرك في غير حدود الكتاب والسنة.

وكان جاهليًّا فأسلم، فأصبح إسلامه طورًا من أطوار التاريخ. ولو لم يكن الإسلام قدرة بانية منشئة في التاريخ الإنساني، لما كان إسلام رجل طورًا من أطواره الكبار.

•••

وكان هذا الرجل يحب ويكره، كما يحب الناس ويكرهون، ولكن لا ينفعك عنده أن يحبك، ولا يضيرك عنده أن يكرهك إذا وجب الحق ووضح القضاء، قال يومًا لأبي مريم السلولي قاتل أخيه: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح! فقال له أبو مريم: أتمنعني لذلك حقًّا؟ قال: لا. قال: لا ضير! إنما يأسى على الحب النساء.

وحسبك من إسلام يحمي الرجل من خليفة يبغضه وهو قادر عليه، فذلك المسلم الشديد في دينه، والذي يشتد فيأمنه العدو والصديق.

١  السمت: الهيئة.
٢  يومئ: يشير.
٣  لأروِّعنه: لأفزعنه.
٤  الحِجر بكسر الحاء: حطيم مكة، مدار البيت من جهة الشمال.
٥  الصابئ: الخارج من دين إلى دين.
٦  ختنك: الختن: الصهر، زوج البنت أو الأخت.
٧  الهينمة: الكلام الخفي غير الواضح.
٨  الخلل: الفرجة بين الشيئين.
٩  بحُجزته: الحُجْزة: موضع شد الإزار من الوسط.
١٠  جبذ: جذب.
١١  القارعة: الداهية.
١٢  رحض الثوب: غسله، ويرحض المعابة عن شرف آبائه: يزيلها.
١٣  يريد الشاعر أن مقاطع الحقوق ثلاثة: يمين أو حكومة أو بيِّنة.
١٤  يعاظل: عاظل بالكلام عقَّده وصعَّبه، واستخدم حُوشِيَّه وغريبه.
١٥  الثوب الخَلِق: البالي.
١٦  ثوائي: إقامتي.
١٧  خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معانٍ عور أصح بصر: استنبط عين الشعر، وشق طريق المعالي، وأتى بالشوارد الحسان. راجع باب «ثقافته».
١٨  لا ينهنهها الوعيد: لا يهابون التهديد.
١٩  سنة كئود: شديدة مُظلمة.
٢٠  يعني أنه لا يعدل بهم قومًا آخرين مهما تعاقب الزمان.
٢١  المتزمت: الوقور المتشدد في دينه.
٢٢  الزكانة: الفطنة والفراسة.
٢٣  الأشجان: جمع شجن، والشجن: الهم والحزن والحاجة الشاغلة.
٢٤  أجاره: أي أدخله في حماه ورعايته وجواره.
٢٥  أي: أعفني من حمايتك.
٢٦  يثلبونه: يشتمونه ويعيرونه.
٢٧  الكديد: التراب الناعم.
٢٨  السليط: البذيء اللسان.
٢٩  العنزة: عصا لها زج كالرمح الصغير، واختصرها: وضعها في خصره.
٣٠  الحِلَق: جمع حلقة، والحلقة: القوم يجتمعون مستديرين.
٣١  شاهت الوجوه: قبُحت.
٣٢  المعاطس: جمع المعطس، والمعطس: الأنف.
٣٣  أي يجعل أمه ثكلى، أو ولده يتيمًا، أو زوجته أرملة، يعني «أن أقتله».
٣٤  أفرط إفراطًا: أسرف وتجاوز الحد، بعكس التفريط.
٣٥  النزو: الوثوب.
٣٦  العدوة: المكان المرتفع.
٣٧  رام: برح وترك.
٣٨  النزهة: المرتفعة.
٣٩  استلم الحجر الأسود: لمسه إما بالتقبيل أو باليد.
٤٠  أوعد: تستخدم في الشر، أما وعد فتكون في الخير.
٤١  اللوثة: الحماقة.
٤٢  النَّصِبَة: التي أصابها النَّصَب، وهو التعب.
٤٣  أطلاس: جمع أطلس، وهو الثوب الوسخ.
٤٤  الشعث: الوسخ الجسد، والمتلبد شعر رأسه.
٤٥  العافي: طالب المعروف.
٤٦  اللصوت: اللصوص، مفردها لصت.
٤٧  البِيَع: جمع بيعة، وهي معبد النصارى، والصُّلُب: جمع صليب.
٤٨  ينضح عنهم: يدافع عنهم.
٤٩  العشور: ضرب من الزكاة.
٥٠  من قابل: أي بعد عام.
٥١  المشوذ: العمامة.
٥٢  مجذمين: مصابين بالجذام، وهو مرض قد ينتهي بصاحبه إلى تآكل الأعضاء وسقوطها.
٥٣  الرشا: جمع رشوة.
٥٤  تعشرنا: أي تدعنا نؤدي العشور.
٥٥  اعتمل فلان: عمل لنفسه، وتصرف في العمل.
٥٦  يقاتل من ورائهم: يحميهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤