تمهيد

المنظور العام

تخيَّلْ تاريخَ الحكاية الخرافية خريطةً، مثل «خريطة الحب» Carte du Tendre، التي رسمها كتَّاب القصص الرومانسية الباريسيون لتتبع عواطف القلب في ذروتها وانحسارها؛ بعد ذلك، ابسط تلك الرقعة المتخيَّلة في عقلك، وسترى مَعلمَين بارزَين في تاريخ الحكاية الخرافية، وهما: «حكايات وأخبار من أزمنة ماضية» (١٦٩٧) للكاتب الفرنسي شارل بيرو، و«حكايات الأطفال والبيوت» (١٨١٢–١٨٥٧) للأخوين جريم. تطغى هاتان المجموعتان القصصيتان على المشهد بقوة؛ مما يجعل من الصعب تمييز غيرهما من المعالم، قريبة كانت أم بعيدة.

ومع ذلك، ما إن تعتاد عيناك على المشهد البرَّاق، حتى ينجلي أمامك مزيد من معالمه رويدًا رويدًا، فتتبيَّن موقعك بوضوح: ستجد أن «حكايات ألف ليلة وليلة» تشكِّل، على طول شبكة متكاملة من الطرق الممتدة من أقصى الشرق، مستودعات جوفية من القصص، تأخذ في السيلان تحت هذه المساحة الشاسعة، وتنبثق من حين لآخر في صورة شلالات وأنهار متدفقة تنتشر عَبر سهول فيضانية واسعة. وتصبح المواني ومراكز التسوق والمزارات المهمة — مثل البندقية ونابولي وجنوة وصقلية في إيطاليا وحدها — مراكز ذات أهمية للمجتمعات التي تكثر من الكلام ورواية القصص.

ومن جهة الشمال، تتقد الدنمارك، مسقط رأس الكاتب الألماني هانز كريستيان أندرسن، مثل الشعلة المتوهجة، فتضيء ما حولها من مناطق تمتد إلى الدائرة القطبية الشمالية؛ وإذا تتبعت بعينيك مجال تأثير أندرسن الشاسع، فستبدأ في ملاحظة المشاعل المتوهجة في الظلام، المستمدة من أعمال الكاتب والتر سكوت في اسكتلندا، وألكسندر أفاناسيف في روسيا، وغيرهما ممن يهتمون بجمع التراث الشعبي في بلادهم. كما تزخر المناطق المحيطة بالقطبين، بالإضافة إلى سُهوب وغابات روسيا وآسيا الوسطى، بالحكايات الخرافية الثمينة كالتِّبْر، مثل حكاية الغولة بابا ياجا التي تعيش في أعماق الغابة، في كوخ يدور على أرجل الدجاج، وتحب التهام الأطفال (لكن فاسيليسا الجميلة الجسورة تُحبِط مخططات تلك الساحرة، انظر شكل رقم ١-١). والمرأة الوحش التي تلتهم البشر — مثل نظرائها في أقصى الجنوب — لا تتسم بالشر الخالص؛ إذ نراها تغدق النِّعَم والهدايا على ضحاياها.

إذا جعلت هذا الأطلس المتحرِّك مثل تقويم العد التنازلي لعيد الميلاد، وفتحت نوافذ على المشهد، فسترى حينها اجتماع عشرات من رواة القصص والمبتكرين لترجمة وإعادة تصوُّر المواد التي يعالجونها، مثل «سبيرانزا» وايلد وابنها أوسكار اللذين كانا يعملان بجد بعيدًا عن الأضواء في أيرلندا، والشاعر ويليام بتلر ييتس وداعمته أوجاستا، الليدي جريجوري؛ وستقابل تشارلوت جيست، في ويلز، التي عكفت على ترجمة أول «مابينوجون»، وهي مجموعة قصصية من التراث الويلزي، إلى اللغة الإنجليزية لأول مرة؛ وستلاحظ بزوغ نجم الروائية الكندية مارجريت آتوود والإنجليزية أنجيلا كارتر في زيوريخ وفيينا وتورنتو وطوكيو وجنوب لندن. وإذا نظرت إلى المشهد نظرة شاملة وبعدسة مكبرة، فسترى تلألؤ النوافذ، التي ليست نوافذ في الحقيقة، وإنما أفلام سينمائية، بأعمال شعراء السينما والرسَّامين الملهمين (من أمثال جون كوكتو، ووالت ديزني). كما ستجد العاملين في الأفلام المُقتبسة والمنتجين ومخرجي المسرحيات والمصممين، عاكفين على إعادة صياغة الحكايات الخرافية لتناسب أعمار الجماهير المختلفة، فيبتدعون مشاهد مسرحية تجمع بين أساليب السيرك والأقنعة والأغاني والرقص في إطار مثير للشجون صاخب تمتد جذوره إلى البانتومايم (مسرحية إيمائية للأطفال). وستشهد المعالجين والممثلين الفنيين ومصممي الأزياء والمصورين في المواكب الاحتفالية، يخوضون غمار أدغال الحكايات الخرافية، بحثًا عن قيمة جمالية نادرة.

هذا ليس كل شيء؛ إذ توجد نوافذ كثيرة لا تزال تنتظر مَن يفتحها؛ سترى، على سبيل المثال، الحكايات التي أثرت في الأدب على نطاق واسع، والتي كانت معالم بارزة على امتداد الزمن، في «عالم القصة الرحب»، الذي يصل بين ثقافات العالم منذ بداية عصر التدوين، تمامًا كما يصل النهر الكوني أجزاء العالم القديم. كما ستلاحظ بزوغ حكايات وموضوعات في أزمنة محددة، واندثارها وظهور غيرها في أزمنة أخرى.

ما إن ظهرت هذه الحكايات، حتى حلَّقت متجاوزةً قيود الثقافة واللغة، بحُرية كما تُحلق الطيور في السماء؛ تهاجر الحكايات الخرافية بخفة مثل الفراشة — لأن الحدود عندها غير مرئية — ولا تأبه بمراقبة المثقفين المحافظين الشرسة.

و«عالم القصة الرحب» هو عنوان إحدى أقدم المجموعات القصصية الخرافية. نسبح ونطفو ونبحر في ذلك المسطح المائي الانسيابي والمذهل دون عناء؛ إذ تغوص فيه وسائل الإعلام والتلفزيون وبرامج المسابقات وألعاب الفيديو، وكل أشكال الترفيه الشائعة، يوميًّا، بحثًا عن الحبكات والشخصيات والحيوانات والأفكار الرئيسية.

ولا تزال خريطة الحكايات الخرافية تحتوي على زوايا غامضة وأراضٍ مجهولة، وتزداد يومًا بعد يوم حماسةُ الجماهير العريضة المختلفة لاكتشاف أسرارها. صُنفت الحكايات الخرافية على أنها أدب أطفال لفترة طويلة من تاريخها، إلا أنها اكتسبت مكانة جديدة وأصبحت مصدرًا للإلهام، لا في مجال الأدب وحده، وإنما في مجال الترفيه الجماعي الربحي. وتواصل أوجه التشابه — في الأفكار والبنية — في الربط بين الأدب القصصي الخيالي المعاصر والأساطير والخرافات القديمة. وتُعَد الحكايات الخرافية من أبرز وسائل التعبير التي تربط بين الماضي الزاخر بالخرافات والواقع الحالي، تمامًا كما يربط النسيج الضام بين أعضاء الجسم المختلفة.

الأسئلة الشائكة: إشكاليات التعريف

ما الخصائص المميِّزة للحكاية الخرافية؟ الخاصية الأولى هي السرد القصير، فالحكاية الخرافية غالبًا لا تتجاوز أحيانًا صفحة واحدة، وأحيانًا تطول قليلًا، ومع ذلك، لم تعد هذه الخاصية تنطبق بدقة على بعض الأعمال الحديثة التي تتخذ شكل الحكاية الخرافية، ولكنها تقارب الرواية في طولها، خلافًا لما كان شائعًا في الماضي. والخاصية الثانية هي أن الحكايات الخرافية قصصٌ مألوفة، إما بسبب قدمها وانتقالها عبر الأجيال بالتواتر، وإما لتشابهها مع قصة أخرى يعرفها المستمع أو القارئ، فتبدو كأنها رُكبت ورُقِّعت من عناصر متفرقة، مثل صورة تقريبية للمجرمين تركب من ملامح مختلفة. وينتمي هذا النوع من الفن إلى مجال التقاليد الشفهية الواسع، وتُوصف حكايات خرافية كثيرة بأنها «حكايات شعبية»، لتناقلها شفهيًّا ولأنها تُعتبر مجهولة المصدر وشعبية، نظرًا لظهورها لا بين طبقة الأعيان المثقفين، وإنما بين غير المتعلمين، أو عامة الشعب. وقد أُودعت فيها حكمة الأجيال المتراكمة؛ على الأقل هذا هو الانطباع الذي تعطيه الحكايات الخرافية، أو الزعم الذي تقدمه منذ تأليف أُولَى المجموعات القصصية. ويميز الباحثون في مجال الحكايات الخرافية بين الحكايات الشعبية الأصلية وبين الحكايات الخرافية ذات الحس الأدبي أو «الفني»: فالأولى تتسم بجهالة مصدرها وعدم قابليتها للتأريخ عادةً، والثانية معروفة المصدر قابلة للتأريخ، لكن تاريخ تداول هذه القصص يعكس تداخلها بشكل غير قابل للفصل لكنه بنَّاء في الوقت نفسه.

ومع كل محاولات الفصل بين هذين النوعين، استحالت الحكايات الخرافية إلى فن أدبي. ستسمع، على خشبة المسرح، أصداء التقاليد الشفهية القديمة في نص كلمات الأوبرا أو الحبكة: تدَّعي «بحيرة البجع» للموسيقي الروسي تشايكوفسكي، وأوبرا «روسالكا» للموسيقي الروسي دفوراك، والإنتاج الفني «طائر النار» لباليه روس، أنها تضرب بجذورها في التقاليد الشفهية المجهولة المصدر، مع أنها أعمال فريدة وأصلية. على نفس المنوال، تعلن السينما قربها من الحكايات الخرافية التقليدية، وتزعم في أحيان كثيرة بشكل ضمني أنها تستكمل الحكاية الخرافية بأكثر طريقة فعَّالة مُرضية، لتخلق تجربة سينمائية شاملة تجذب قطاعًا عريضًا من الجماهير. خُذ على سبيل المثال المسلسل التلفزيوني «الحكواتي» (١٩٨٨). كتب هذا المسلسل وأخرجه أنطوني مينجيلا، وقام بدور محرِّك العرائس جيم هينسون، وتبدأ كل حلقة من حلقاته عند المدفأة، حيث يخلق الحكواتي — الذي يؤدي دوره جون هيرت — جوًّا دراميًّا للحكاية الخرافية التي سنشاهدها، ويقدمها كجزء من تقليد حي توارثته الأجيال عبر العصور. في الحقيقة، هذه المعالجات للحكاية الخرافية، من أكثر المعالجات جرأة وإبداعًا، التي أُنتجت للتلفزيون على الإطلاق.

ويختلف سرد الدرجة الثانية من هذا النوع، الذي لا يجد حرجًا في ادعاء وفائه للماضي، في جوهره عن المُثل الثقافية، في الأدب القصصي الخيالي وغيره من أشكال الإبداع، في مسألة التفرد والتجديد. أراد الأخَوان جريم نقل الصوت الحقيقي للشعب الألماني، من خلال تدوين الحكايات الخرافية من مصادرها الشفهية؛ وتظاهرا بالانسحاب وراء الستار في أعمالهما الأدبية. أما الروائية الإنجليزية أنجيلا كارتر (١٩٤١-١٩٩٢)، فكان لها رأي آخر. أعلنت عن رغبتها في نسج حكايات جديدة من قماش الحكايات القديمة حتى تصل بها إلى عنان السماء؛ فقد كان القماش القديم ضروريًّا للوصول بإبداعها إلى ذروته.

تنبع الخاصية الثالثة للحكايات الخرافية بشكل طبيعي من الطبيعة الشفهية والشعبية الضمنية للحكايات الخرافية؛ فصوت الماضي، الذي لا يمكن الاستغناء عنه، يُعرب عن نفسه من خلال تركيب وإعادة تركيب الحبكات والشخصيات والأدوات البلاغية والصور المألوفة؛ وقد تكون هذه العناصر ذات صلة بقصص معروفة للغاية مثل «الهر ذو الحذاء» أو «سندريلا»، لكن روح الحكايات الخرافية يُمكن تمييزها إجمالًا، وإن كانت تفاصيلها المحددة غير واضحة. يوفر عالم الحكايات الخرافية الإطار الذي يحيط بالأحداث الواقعة ضمن حدوده التي تكون صغيرة مثل البراعم، ثم تتفتح وتتحول إلى حكايات خرافية على النحو الذي نعرفه، منفصلة من ناحية السرد، ومترابطة من ناحية الإطار. وتُستخدم عبارة «الحكاية الخرافية» كثيرًا كمجاز أو صفة في الأدب؛ فنقول: إطار خيالي يشبه الحكايات الخرافية أو نهاية على غرار نهايات الحكاية الخرافية، لوصف أعمال أدبية لا تنتمي لهذا النوع مباشرة، ولكنها تستعير رموزه ولغته. ويستخدم تعبير «الحكاية الخرافية» كما في بحث جوزيف أديسون الذي كتبه عام ١٧١٢ بعنوان «الكتابة بطريقة الحكايات الخرافية»، لاستحضار مشهد أو شخصية معينة، تتجاوز حدود الحكاية الخرافية كسرد فني مستقل. وتمتاز عناصر الكثير من قصص الأطفال العبقرية، التي تعود للعصر الفيكتوري أو الإدواردي، باقتباسها شيئًا من روح الحكايات الخرافية: فلم يكتب تشارلز ديكنز وتشارلز كينجسلي وجورج إليوت وإديث نيسبت وجون رونالد تولكين حكايات خرافية بالمعنى الحرفي، لكنهم اقتبسوا عناصرها الشائعة وعالجوها — مثل البُسُط السحرية والخواتم السحرية والحيوانات الناطقة — من تقاليد الحكاية الخرافية، مما يزيد من استمتاع القرَّاء بالإحالة المباشرة، لتلك المعرفة المشتركة لشفرة الفانتازيا.

الخاصية الرابعة للحكاية الخرافية هي لغتها الرمزية؛ فهي تتألف، بادئَ ذي بَدء، من أحداثٍ مُتخيَّلة، تُنقل عَبر لغة رمزية عالمية مشتركة؛ وتشتمل لبناتها على شخصيات ذات أوصاف خاصة (مثل زوجات الآباء والأميرات والأقزام والعمالقة)، وأفكار رئيسية مُحددة متكررة (مثل المفاتيح والتفاحات والمرايا والخواتم والعلجوم)؛ وتستمد الرمزية حيويتها ومعناها من التباين الحاد في الصور والأحاسيس، مما يستحضر في الذهن تجارب حسية مباشرة، مثل البصر واللمس والحركة (الزجاج والغابات؛ الذهب والفضة؛ الألماس والياقوت؛ الشوك والسكاكين؛ الآبار والأنفاق). تصف الروائية والناقدة أنطونيا سوزان بيات ذلك ﺑ «قواعد السرد»؛ وتقول — وهي المبدعة في مزج القصص من مخزون الحكايات الخرافية — عن الأخوين جريم:

الحكايات … أقدم وأبسط وأعمق من أن تكون نتاج خيال فرد واحد.

وإن المرء ليشعر بالغرابة عندما يتأمل حقيقة أن كل هؤلاء البشر، على اختلاف مجتمعاتهم القديمة والحديثة، كانوا بحاجة إلى قصص غير حقيقية … ويبدو أن سبب وجود هذه القصص «السطحية»، أنها سمة بشرية شائعة ودائمة، متجذرة في الطبيعة البشرية مثل اللغة واللعب.

وتتسم الحكايات الخرافية بأنها أحادية البعد غير عميقة ولا معقدة أو مفصَّلة؛ تُسرد أحداثها مثلما تُسرد الحقائق البسيطة: فلا يثير وصف ذئب يلتهم فتاة، أو أمر طاهي القصر بطهي امرأة شابة أو تقطيع طفل لإعداد بودينج من الدماء، أيَّ احتجاج أو رعب في نفس الراوي. هذا حقيقة ما حدث؛ وهذه هي الحكاية دون زيادة أو نقصان.

ولقد شجعت هذه السمة التقليدية لمستودع الحكايات الخرافية، الباحثين لإعداد أنظمة من شأنها تحديدها ووصفها. وانهمك أتباع المدرسة البنيوية الروس في جمع القصص وتصنيفها؛ فزعم فلاديمير بروب أن هناك عددًا معيَّنًا من الشخصيات والأدوار والحبكات، وكثيرًا من المصطلحات البنيوية التي استخدمها، مثل «المعاون الحيواني»، أصبحت شائعة في تلك الأوساط (مع أنه تَبيَّن أن الأعداد التي حددها قابلة للزيادة). وأنشأ المنشغلون بالحكايات الشعبية في اسكندنافيا، وكثير من أتباعهم في ألمانيا، فهارس لأنواع الحكايات الخرافية وأفكارها الرئيسية. وأثمرت هذه الجهود عن قواعد بيانات عظيمة النفع، لا سيما في مسألة المقارنة بين الثقافات المختلفة وتمييز الأنماط. ومع ذلك، لا تزال رؤية أصحاب هذه المدرسة، بشأن السمات المميزة للحكايات الخرافية، محدودة؛ لأن المنهجية الكلية التي تبحث عن أوجه التشابه لا أوجه التفرد، تتجاهل السياقات التاريخية والاجتماعية؛ فلا تفسح المقارنات والتصنيفات المجال للاستجابات المختلفة، ولا تساهم في تفسير المتعة، التي تجلبها الحكايات الخرافية، أو أسباب تلك المتعة.

وفي مقال حسن الصياغة، بعنوان «عن القصص الخرافية» عام ١٩٣٩، استعان تولكين بصورة المطبخ وقال:

«لطالما كان قِدر الحساء أو «وعاء القصة» في حالة غليان، وتُضاف إليه مكونات جديدة (من الطعام) باستمرار، شهية كانت أم غير شهية … وإذا تحدثنا عن الوعاء، فيجب ألا نتجاهل أبدًا دور الطهاة. توجد مكونات مختلفة في الوعاء، لكن الطهاة لا يضيفون المكونات عشوائيًّا.»

استخدمت أنجيلا كارتر هذا التشبيه التمثيلي بأسلوب موجز بليغ فقالت: «مَن اخترع كرات اللحم؟ وفي أي بلد؟ وهل هناك وصفة محددة لحساء البطاطس؟ لنتأمل المسألة من منظور الفنون المنزلية. هكذا أصنع «أنا» حساء البطاطس.» وفي المقابل، قارن الشاعر التشيكي ميروسلاف هولوب بين الكتابة والمعجزة في «العهد الجديد» عندما يعيد المسيح ابنة يَايِرُس إلى الحياة. فهولوب يرى أن الأدب مثل الجسد الذي يُبعث للحياة مرارًا وتكرارًا، ويتوقف بقاؤه على قيد الحياة على التغيرات التي تطرأ عليه.

يستخدم النقاد مصطلحًا بديلًا، وهو «الحكاية العجائبية»، الذي يسلط الضوء على إحدى سمات ذلك النوع من الأدب بصورة بليغة مقارنةً ﺑ «الحكاية الخرافية» أو «الحكاية الشعبية». ومع أن المصطلح لا يحظى برواج «الحكاية الخرافية» نفسه، فإنه يُسلِّم بانتشار السحر في هذه القصص. إن تعطيل قوانين الفيزياء الطبيعية، يخلق واقعًا سحريًّا في هذا النوع من السرد، مما يثير في النفس مشاعر الذهول أو الدهشة أو «العجب»، بحسب مفاهيم الأدب العربي حول الحكاية الخرافية. وهكذا، يتداخل عنصر القوة الخارقة والطرب الناشئ عن التعجب في نسيج الحكايات الخرافية، وتمثل هذه العلاقة المتبادلة الخاصية الخامسة للحكاية الخرافية.

تشكِّل العجائب حبكات واعدة بكل أنواع الثراء؛ إذ إنها «حكايات رمزية مُعزِّية» — مصطلح يستخدمه الروائي الإيطالي العظيم ومحرر الحكايات الخرافية إيتالو كالفينو (١٩٣٦–١٩٨٥) — تثير في النفس بطبيعتها أملَ التحرر من الفقر وسوء المعاملة والاستعباد. وتُعَد النهاية السعيدة من السمات المميزة للحكايات الخرافية. يربط الناقد الأدبي الأمريكي هارولد بلوم بين الصور البلاغية والعوالم الخرافية والوعود التي تقدمها، فكتب: «نرحب بالاستعارات الأدبية لأنها تُمكِّن الأدب القصصي الخيالي من إقناعنا بأشياء جميلة مزيفة … وأميل إلى تعريف الاستعارة بالأداة المعبرة عن الرغائب لا الحقائق.» تأتي الحكايات الخرافية إلينا من أرض خيالية، واقع سحري من الإمكانات الواعدة؛ ويواجه البطل أو البطلة أو كلاهما في بعض الأحيان، مِحنًا وأهوالًا وكوارث، في عالم يشبه إلى حدٍّ ما ظروفنا الحياتية العادية، لكنه ينحرف عنها في معظم الأحوال، ويصطحب الأبطال — والقرَّاء أو المستمعين للحكاية — إلى مكانٍ آخر، الأعاجيب فيه مألوفة، والرغبات تتحقق. وفي هذا الصدد، يعلق الكاتب والناقد الألماني أندريه يوجاس تعليقًا ثاقبًا فيقول: «المعجزة هي الضمان الوحيد على أن انحطاط العالم الواقعي قد توقف.»

فوجود المكان والزمان الخياليَّين، اللذين يشكلهما السحر والأعاجيب بيد مخلوقات تتمتع بقوًى سحرية، هما عنصران أساسيان في هذا الإسقاط الرمزي؛ ومن ثَم يمكننا أن نضع الخاصية السادسة للحكايات الخرافية تحت عنوان «النهاية السعيدة»؛ أي إن الحكايات الخرافية تعبر عن الآمال. وتختلف العوامل التي تحقق المعجزات الباعثة على الأمل في القصص باختلاف المكان؛ إذ إنها تتفرع من أنظمة عقائدية محلية متجذرة في التقاليد. وقد تحتوي الحكايات التراثية على عناصر خيالية بالإضافة إلى أصداء تاريخية؛ مثل الجنيات والعفاريت الشريرة من ناحية، والمرأة الحيزبون وزوجة الأب الخبيثتين من ناحية أخرى. والتاريخ هُنا، في حد ذاته، تاريخ خيالي في معظم الحالات: كان الملك آرثر، على سبيل المثال، ملهِمًا لحكايات أسطورية تطورت بدورها إلى أفكار رئيسية وأدوات سردية في الحكايات الخرافية، مثل الأغراض المسحورة (السيوف والمرايا والأكواب)، والاختبارات والأحاجي، وأخطار الوحوش والغابات، ورحلات الأحلام، والشعور بأن هناك عالمًا آخَر على بُعد رمية حجر منا. وتُثري حكايات الماضي البعيد خبراتنا المتراكمة عن واقعنا الحالي؛ إذ يسلط هذا العالم الآخر الضوء، من بعيد، على ظروف العالم الذي نعرفه. وهكذا، تستحضر الحكايات الخيالية كل أنواع العنف والظلم وسوء الحظ، ولكن بهدف إعلان أنه من الضروري ألا تستمر.

أطلقت أنجيلا كارتر على روح الحكاية الخرافية اسم «التفاؤل البطولي». ويعرِّفها آخرون بالأمل الأعمى أو التفكير القائم على التمني؛ المبدأ الحيوي الذي يدفع الحياة إلى الأمام. تحمل روح الحكاية الخرافية الحكايات التي تزخر بأفعال مظلمة رهيبة نحو خاتمة غير متوقعة. ومن حين لآخر، هناك بعض الحكايات الخرافية الشهيرة التي تنتهي نهاية سيئة، مثل حكاية «ذات الرداء الأحمر»، وفقًا لسرد شارل بيرو. لكن هذه النسخة استثناء، كما يتضح من عدد لا يُحصى من النسخ الشعبية التي تخدع الفتاة فيها الذئب وتسرق منه فريسته أو حتى تقتله بنفسها. أما النسخة الأكثر تداولًا، فتقدم بطلًا: إما صيادًا وإما حتى والد ذات الرداء الأحمر، الذي يأتي لإنقاذها ويشق بطن الذئب ليحررها هي وجدتها.

ها أنتَ، لديك خريطة أولية ودليل مبدئي، وأمامك تتلألأ أضواء المصابيح في نوافذ المنزل القابع في أعماق الغابة المظلمة الكثيفة. انطلق، بأذن مرهفة وعين مفتوحة، وتلمس طريقك إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥