الفصل الأول

عوالم الجنيات: بعيدًا وفي الأعماق

على الجبال الباسقة،
وفي الأودية المعشوشبة الدنيا.
خشينا الصيد،
خوفًا من الجان؛
الجان، الطيبون،
يسيرون زمرًا.
في ثياب خُضْر، وقبعات حُمر،
ويعلو رءوسَهم ريشٌ من البوم الأبيض!

لا يؤمن الكثيرون بالجنيات في عصرنا الحاضر، مع أنها أدَّت دورًا كبيرًا في أنظمة الاعتقاد في الماضي وإن لم يكن صالحًا دائمًا. مثل الساحرات، كانت الجنيات تبث في القلوب مخاوف أفضت إلى أحداث مروِّعة لا في مجتمعات ما قبل الحداثة البعيدة فحسب، وإنما أيضًا في مجتمعات قريبة زمنيًّا منا: كان الملك جيمس الأول، على سبيل المثال، يؤمن بوجود الشياطين. وتتشابك الحكايات الخرافية مع هذا التاريخ؛ إذ تتطور القصص عبر شبكة معقدة من الخيالات والخرافات والحكايات المتعلقة بكائنات خارقة للطبيعة مثل الأقزام السحرية والجان، لكنها على مدار تطورها الطويل المتنوع، ترشد إلى طريق تهدئة المخاوف المتضمنة في ثناياها. أصبح من المفهوم ضمنيًّا الآن أن مصطلح «الحكاية الخرافية» يشير إلى أن القصة المرويَّة غير قابلة للتصديق، وأنها لا تطلب من القارئ أو المستمع ولاءً جادًّا أو إيمانًا حقيقيًّا. وهكذا، تقف الحكايات الخرافية بين طريقين: أحدهما يفضي إلى المعتقدات الماضية، والآخر إلى الحاضر المتشكك.

تمنح الحكايات الخرافية متعة الدخول التخيُّلي إلى عالم خالٍ من السيطرة الفكرية أو الدينية. يتذكر تولكين في كتابه «عن القصص الخرافية» كيف «كنت أتوق إلى التنانين بشدة». ويواصل تفسير هذه الرغبة قائلًا إن ذلك كان لأن «التنين يحمل العلامة المميزة لعالم الجنيات. وأينما حلَّ وُصِف العالم الذي فيه بالعالَم الآخر. وكانت الفانتازيا، سواء كانت خلقًا لهذا العالم أو لمحة عنه، هي لُبَّ التوق إلى عالم الجنيات.» تفتح العوالم الأخرى، التي تستكشفها الحكايات الخرافية، طريقًا للكتاب ورواة القصص للتحدث بمفردات أخرى، لا سيما إن كان سكان الأماكن المُتخيَّلة الأصليون لا ينتمون إلى معتقد حقيقي راسخ؛ ومن ثَم لا يطلبون إيمانًا ولا جحودًا. واللسان يتمتع بحرية كبيرة عندما يتحدث خارج سلطة الدين.

تركب الغولة بابا ياجا في هاون طائر ومدقة (انظر شكل رقم ١-١)، وتستخدم جماجم ضحاياها مصابيح تزين بها سياج عرينها في الغابة، في حين تُشيِّد نظيرتها الألمانية الضعيفة البصر منزلها من كعك الزنجبيل في «هانسل وجريتل»؛ وتتسم الجنيات في التراث الفرنسي وسيدات القَدَر في التراث الإيطالي بجمالهن وطولهن وجلالهن؛ أقرب إلى السيدات الأرستقراطيات والساحرات في القصص، وأبعد عن مجتمع الجان من العفاريت الشقية والأليفة والعابثة التي تسير جماعات وقتَ الشفق في التراث السلتي. تنتج الثقافات المختلفة سمات خيالية مختلفة لسكان الأماكن الجغرافية في الحكايات الخرافية؛ فعلى سبيل المثال، الجن في «ألف ليلة وليلة» عبارة عن مخلوقات دخانية، نارية، متقلبة، وتتشكل في أحجام مختلفة دون قيد أو شرط، وأحيانًا تكون شرسة ومخيفة، وأحيانًا أخرى رشيقة وجميلة جمالًا لا يضاهيه شيء، ولأن هذه المخلوقات مذكورة في القرآن وجزء من نظام الكون في الإسلام المحافظ، فإن القصص التي تتحدث عنهم تُقرأ بشكل مختلف في أوطانها الأصلية (انظر شكل رقم ٢-٢).

ظهور الجنيات ليس ضروريًّا لوسم الحكاية ﺑ «الخرافية»: فلا تظهر جنيات في الحكايات النمطية الشهيرة (مثل «ذات الرداء الأحمر» و«الهر ذو الحذاء» و«رابونزل»)، كما أن القصص المستحدثة التي اعتبرها مؤلفوها وجمهورها الأول حكايات خرافية، مثل «أليس في بلاد العجائب»، وسلسلة «نارنيا» لسي إس لويس، وحتى «علي بابا والأربعون لصًّا»، لا تشمل الجنيات كعوامل تحقق العجائب التي تحكي عنها. وعلى العكس من ذلك السحر؛ فلا بد من الإشارة إليه ضمنًا أو تصريحًا في الحكاية الخرافية؛ حينها يُستحضَر عالم آخر، كأن القصة لديها نوافذ تُفتَح على عالم الجنيات، «ممالك الجنيات». تبنَّى الشاعر ويستن هيو أودن، في مَعرِض حديثه عن المناطق الخيالية، مصطلح «العالم الثانوي»، الذي استخدمه تولكين وكليف ستيبلز لويس، وزعم:

ينشغل أي إنسان طبيعي بنوعين من العوالم: عالم الحياة اليومية الرئيسي الذي يتعرَّف عليه بحواسه، وعالم أو عوالم ثانوية، لا يبتكرها في خياله فحسب، بل أيضًا لا يستطيع منع خياله من تشكيلها … القصص عن العالم الأساسي يمكن أن تُسمى «تواريخ متخيَّلة»؛ أما القصص عن «عالم ثانوي» فهي أساطير أو حكايات خرافية.

fig1
شكل ١-١: تتجول الغولة بابا ياجا في الغابة بهاونٍ طائر ومدقة، وتبحث عن فريستها، في قصة «فاسيليسا الجميلة»، بريشة الرسام الروسي إيفان بيليبن عام ١٩٠٢.

قد تتجلى العوالم الثانوية في هيئة غابة مسحورة مليئة بالعبث والمرح، كما في «حلم ليلة صيف» لشكسبير، أو بساتين يقطنها عفاريت مغرية ومخيفة كما في حكايات كريستينا روسيتي، أو جزر فاخرة بعيدة يحكمها ملك الجن الأزرق، أو حتى عالَم سفلي يبعث على القشعريرة كما في قصائد الشاعرة هيلين آدم الروائية الاسكتلندية؛ لكن الحكايات الخرافية أيًّا كان طابعها، هي معامل للتجارب الفكرية، ورموز لعالم بديل للعالم الذي نعرفه. في قصة «ستارلايت»، تخيلت الكاتبة العبقرية والناقدة الاجتماعية أونريت جولي دي مورا عالمًا فوضويًّا، يهدهد فيه الرجال الأطفال وتقود النساء الأمة التي تعيش في سلام. كما تتضمن قصتا «أرض العجائب» للويس كارول و«ملك النهر الذهبي: أسطورة ستيريا» لجون راسكن، عوالم ثانوية تعكس عالمنا الحقيقي، وتزخر بالذات الأخرى والذات غير الواعية والشخصيات المُخلِّصة التي تكون في معظم الأحوال أطفالًا يخرجون في رحلات استكشافية ويخوضون محنًا ويواجهون أعداءً داخل ذواتهم وخارجها. وتحفل هذه الآفاق الخيالية بالمجهول أو بالإشارات الخفية — مثل عُنف الوحوش ونزوات العفاريت الشقية — أو بالدَّعة والمتعة اللذيذة (التي لا تخلو من التهديد، بطبيعة الحال)، لكنها بحسب طبيعتها تعمل بطرق غامضة، تنظمها مبادئ مختلفة عن تلك الموجودة في حياتنا العادية. إن عوالم الحكايات الخيالية هي مناطق سحرية؛ فمِثل المفتاح في قصة «ذو اللحية الزرقاء»، تحتوي هذه العوالم على قوًى سحرية ذات طبيعة حتمية قدرية، فهي عوالم «مُقدَّرة منذ الأزل».

المخاطر والمسرَّات: المتحولون والأشباه والعفاريت

لعب سكان العالم الآخر، أو البُعد المسحور، دورًا مهمًّا في أدب عصر النهضة الإنجليزية؛ إذ أعادوا إحياء مخزون خيالي محلي غني، تجاوز حدود التقاليد الكلاسيكية.

ومن أبرز هذه الكائنات الخيالية «الملكة ماب»، التي تعرف بأنها قابلة الجنيات، بحسب ما قال مركوشيو لروميو في مسرحية شكسبير «روميو وجوليت»، فهي تتجول في الأنحاء في عربة صغيرة مصنوعة من قشر بندقة فارغة، لجامها من خيط العنكبوت و«تجرها الذرات» اللامعة:

وهكذا في هذه الأبهة المنمقة
تخب في خواطر العشاق كل ليلة فيحلمون بالغرام!
(روميو وجوليت، الفصل الأول، المشهد الرابع، ٧٠-٧١) (ترجمة دكتور محمد عناني)

تُجسِّد الملكة ماب ثلاث سمات بارزة لعالم الجنيات تجعل من هذا العالم خلفية خصبة للحكاية الخرافية: أولًا، معرفتها الخفية بالعلاقات السرية، بحكم وظيفتها كقابلة؛ ثانيًا، قدرتها على التأثير في الأحلام، مما يُكثِّف من حدة تيارات الغرام والشبق الخفية في هذا النوع الأدبي؛ وثالثًا، عالمها المصغَّر الذي يجذب الانتباه إلى التباين غير المتوقع بين الأحجام في مشاهد الحكاية الخرافية (إذ يمكن أن تضم القصص عمالقة ضخامًا للغاية، إلى جانب الأقزام العابثة والعفاريت التي تقفز برشاقة في الأنحاء لنثر «هدايا الجنيات» وقطرات الندى على بتلات السوسن العطري).

كما يظهر باك في مسرحية «حلم ليلة صيف» بوصفه «جنيًّا» و«طوَّافًا ليليًّا مرحًا»، يتفاخر بقدرته على تغيير هيئته إلى «مُهرة صغيرة» أو «تفاحة مشوية»؛ أما آرييل في مسرحية «العاصفة» فيوصف بأنه «جني» أو «عفريت من الهواء» أو حتى «طائر صغير»، ويغيِّر هيئته كما يشاء؛ يصبح هاربي (الهَارْبي في الأساطير الإغريقية الرومانية، وحوش مجنَّحة خبيثة نصفها امرأة والنصف الآخر طائر) تارة، وحورية بحرية تارةً أخرى، ومخلوقًا متناهيًا في الصغر يغني:

ها أنا ذا أرشف مثل النحل رحيق الزهر
في تاج السوسن أرقد أنعم بالعطر …
(العاصفة، الفصل الخامس، المشهد الأول، ٨٨-٨٩) (ترجمة دكتور محمد عناني)
وهو / هي يستطيع أن «يربط حزامًا حول الأرض في أربعين دقيقة»، ويحلق مثل الجان، ويحرِّك العواصف، وينشد أغاني مخيفة غامضة عن أسرار تتجاوز الفهم البشري. (انظر شكل رقم ١-٢)
fig2
شكل ١-٢: ترقص الجنيات في حلقات دائرية مع هزيم الرياح. ويليام بليك؛ لوحة «أوبرون، وتيتانيا، وباك يرقصون مع الجنيات»، عام ١٧٨٦ تقريبًا.

لكن آرييل، الذي هو مخلوق سحري بيْن بيْن مثل باك، ليس خاضعًا للقوانين البشرية رغم خضوعه لتعويذات بروسبيرو، مما يضعنا أمام بُعْد جديد من التجارب. من الناحية البلاغية، يشكل آرييل وباك جسرًا بين عالم البشر وعالم الجنيات. ولا يجعل وجود آرييل مسرحية «العاصفة» حكاية خرافية، لكنه يكشف عن ارتباط هذا الشكل الأدبي بالشطحات الخيالية.

لعبت طبقة الأعيان المثقفة دورًا مهمًّا في جمْع الحكايات الشعبية المتعلقة بالجنيات حتى من قبل صكِّ مصطلح «الحكاية الشعبية» لأول مرة في اللغة الإنجليزية عام ١٨٤٦. في القرنين السابع عشر والثامن عشر في فرنسا، تداخل الهوس بالحكايات الخرافية — بعدما بدأت ماري جان ليهيتيير وشارل بيرو (قريبها الذي يفوقها سنًّا) في كتابتها في تسعينيات القرن السابع عشر — مع مشاعر رفض الخرافات الكلاسيكية والفضول الأنثروبولوجي حول الفرنسيين وهويتهم الحقيقية. وفي إنجلترا، حفَّز مزيج من الارتباك الديني والنهم بالتنوير علماء اللاهوت والباحثين للنظر في معتقدات العامة، وزوَّد أثريُّون مثل فرانسيس دوس وويليام ستوكلي المخزون الأدبي للقصص الشعبية عن الجنيات بالكثير والكثير؛ وفي اسكتلندا، كان هناك توجه مشابه نحو التنقيب عن تراث الدولة المحلي، مما ألهم الموقَّر روبرت كيرك لجمع أفكار أبناء رعيته عن الأطفال المستبدَلين والأشباه وعمليات الاختطاف التي تنفذها الجنيات وما أسماه ﺑ «البصيرة الثانية». وعندما نقَّح المنشغل بالحكايات الشعبية المثابر أندرو لانج، مخطوطة كيرك في عام ١٨٩٣، منحها عنوانًا جديدًا: «الرابطة السرية للجنيات وآلهة الغابة والأقزام الجميلة».

وفي عوالم الجنيات في أوائل العصر الحديث، نلتقي بالكثير من الأفكار الرئيسية السحرية في الحكايات الخرافية التي عاودت الظهور من جديد، مثل القدرات الغريبة على رؤية كل ما هو واقع وراء نطاق البصر، وعمليات الاختطاف، والنوم تحت تأثير التعويذات، والأشباه، واللعنات، والنبوءات، والأغراض السحرية القوية. ولقد زادت اللغة المباشرة شبه العلمية للباحث الأنثروبولوجي الميداني من غرابة كتاب كيرك. تغذي هذه المواد جوهر الحكايات الخرافية: على سبيل المثال، يتراوح الأطفال المستبدَلون من الصبي الهندي في «حلم ليلة صيف» إلى الرضيع الجليدي الشرير في القصة المصوَّرة المرعبة «في الخارج هناك» لموريس سينداك (١٩٨١)؛ كما تسيطر القوة المُلزِمة للتسمية على رامبيل ستيلتسكين حين نجحت الأميرة في الإفلات من قبضته وعدم الزواج به.

وعندما سار الرومانسيون على نهج الأثريين، أعادوا إحياء الجنيات اللاتي وجدوهن في الأغاني الشعبية، وأهازيج الأطفال، والأساطير المحلية والمعتقدات الخرافية.

وفي عام ١٧٩٨، نشر وردزورث وكولريدج المقتطفات المؤسِّسة للرومانسية الإنجليزية، وهي «القصائد الغنائية» التي أدرج فيها كولريدج قصائد غريبة كثيرة عن القوى الخارقة أصبحت علامات فارقة في الخيال الأدبي، مثل «أنشودة البحَّار العجوز» ورحلته الملعونة، وحكاية كريستابل العاشقة المسحورة. وفي عام ١٨٠١، كتب صديق لكولريدج، وهو الشاعر الثائر جون ثِيلوول، قصيدة روائية طويلة مُزينة بالأفكار المحورية الآرثرية، بعنوان «جنية البحيرة»، وتظهر فيها ساحرة وبطلة طيبة و«موكب(ها) من الجنيات» و«عمالقة الغابة» و«إنكوبوس، روح شريرة متجمدة». بعد مرور بضع سنوات (١٨١٣)، استلهم الشاعر الإنجليزي بيرسي بيش شيلي شخصية الملكة ماب من شكسبير — الجنية القابلة ومزجها بشخصية تيتانيا، ملكة الجنيات، لإضفاء طابع أثيري على قصيدته السياسية الطويلة «الملكة ماب». تُمثل الجنيات الرومانسية لهؤلاء الكتاب أصوات الخيال القوية، وبوسعها التحدث عن أشياء «غير مسموعة»، لولاها ما أمكن معرفتها. في قصيدة «كريستابل» يقدم كولريدج دراما مشحونة بعاطفة جيَّاشة بين امرأتين، ويقدم جون كيتس في قصيدته الشهوة الجنسية الغامضة في حلم «الفارس الشاحب الهائم وحيدًا».

إطار رقم ١: اللقاء بملكة الجنيات

في منتصف القرن الثالث عشر، أخذت الشاعر توماس من إرسلدون سِنةٌ من النوم على رابية منحدرة تفضي إلى نهر، عندما ظهرت له سيدة، حَسِبها مريم العذراء، رغم أنها كانت تمتطي فرسًا مزينًا بأجراس فضية وسِرج مزين بالذهب والعاج، وتحمل قوسًا وسهمًا، ويسير في أعقابها ثلاثة كلاب ضخمة من فصيلة الدَّمُوم، وثلاثة أخرى مقيدة من فصيلة السلوقية الرمادية اللون. عندما بدأ يثني على جمالها، وبَّخَته، لكنه واصل التودد إليها. حذرته من مرافقتها، وإلا فسيصير عبدها، وعندئذٍ تحولت إلى عجوزٍ بشعة، مرتعشة، مصابة بالجذام. لكن الأوان كان قد فات؛ فقد سلَّم نفسه إليها. وراحا يهبطان التل عَبر الظلام الذي بدأ يكتنف المكان، ومرَّا بالمحيط المتلاطم، وعبرا أنهارًا من الدماء؛ وما إن اجتازا الأهوال، حتى وصلا إلى بستان عذب تتقاطع عنده أربع طرق. كشفت المرأة عن هويتها الحقيقية، فقد كانت ملكة الجان، وأخبرت توماس إلى أين تؤدي هذه الطرق: السماء والمَطهَر والجحيم والأخير إلى أرض الأقزام. بقي توماس معها بعدما ألقت عليه تعويذة الصمت لمدة سبع سنوات.

وبعد انقضاء هذه المدة، أطلقت ملكة الجن سراحه. ظن توماس أنه لم يمر على غيابه سوى سبعة أيام، وأرسلته الملكة إلى وطنه مُحمَّلًا بهدية عظيمة: فبعدما كان عاجزًا عن الكلام بسبب السحر، أصبح الآن لا ينطق إلا بالحقيقة. حينها، أصبح «توماس الناظم»، أول شاعر باللغة الإنجليزية في الأدب، وأول كاتب يجمع بين دور راوي القصص الخيالية والعرَّاف. وبطبيعة الحال ستحكي إحدى قصصه عن إقامته المؤقتة في العالم الآخر، أحد العوالم السفلية الكثيرة التي تقبع على الجانب الآخر من الواقع.

عندما كتب جون كيتس «السيدة الحسناء التي لا تعرف الرحمة»، كان رأسه مليئًا بذكريات هذه المغامرات، فقال:

«صادفتُ سيدةً
تتهادى بين الرياض.
مكتملة الحسن
رائعة الجمال – ابنة الجان.
شعرها طويل، خطوها رقيق،
عيناها بَرية وحشية.
أخذتني إلى كهفها المسكون،
وهناك بكت بحرقة
وتنهدت بمرارة،
وهناك احتويتُ عينيها
الجامحتين
بقبلاتٍ أربع.»

تفوَّق الفيكتوريون على الرومانسيين في حماستهم لجمع الحكايات الشعبية عن الجنيات، لا سيما السير ولتر سكوت في اسكتلندا، الذي برع في استخراج القصص من المصادر، شفهية كانت أم مكتوبة، من مسقط رأسه في هايلاند أو مما هو أبعد منها. كان سكوت رجلًا وطنيًّا مثقفًا ذا قدرة فائقة على التأليف واستلهام المصادر المتنوعة مثل شكسبير تمامًا. كان هو مَن أخرج إلى العامة مقتطفات كيرك عن الجنيات، ونقل في كتابه «رسائل حول علم الشياطين والسحر» (١٨٣٠) الأسطورة الرائعة حول توماس الناظم.

إن رواية القصص مهنة خطرة؛ إذ تعاقب الجنيات الذين يعودون ويفشون أسرارهن. في قصيدته «الوداع، العطايا والجنيات»، يُحذر شاعر القرن السابع عشر ريتشارد كوربت من ذلك فيقول: «لا يمكنهن أبدًا تحمُّل وجود واشٍ بينهن!» وكما تُصوِّر كرستينا روسيتي بشكل درامي مثير في قصيدتها السردية الطويلة والغريبة «سوق العفاريت» (١٨٦٢)، يمكن لمخلوقات من عالم الجنيات أن تظهر لك وتأسرك بعطاياها الغريبة التي لا تُقاوَم:

«يجب ألا ننظر إلى رجال العفاريت،
وألا نشتري ثمارهم …»

والعفاريت في قصيدتها، أقرب إلى الجنيات الغامضة في مسرحية شكسبير — العثة والخردل والبازلاء — من آرييل «عفريت الهواء»؛ ولديها ملامح تشبه رسومات الرسَّام الهولندي بوش: وحشية ومتحولة ومكسوة بالفرو، وذات شوارب:

أحدهم كان له وجه قطٍّ،
وأحدهم كان يلوِّح بذيله،
وأحدهم كان يسير بخطى جُرَذ،
وأحدهم كان يزحف كالحلزون.

أعطت لورا خصلة من شعرها الذهبي في مقابل الفواكه التي يعرضها العفاريت؛ فتُضطر ليزي أختها إلى تعريض نفسها لخطر جسيم وتصارع «الرجال العفاريت الغريبي الأطوار» من أجل استنقاذها من الموت.

والقصيدة عبارة عن حكاية خرافية مُبتكَرة مضطربة عبقرية، كُتِبَت بأسلوب شعري، لكنها تنبع من مبادئ التقاليد الفلكلورية حول عالم آخر محتمل في الجوار.

عمِلت كرستينا روسيتي مع الأمهات العازبات في سجن هايجيت بالقرب من منزلها، وناضلت مناهضةً استغلال الأطفال مثل صديقها لويس كارول. كما كانت واحدة من الكتاب الفيكتوريين الذين اعتبروا الأطفال جمهورًا خاصًّا للحكايات الخرافية وما شابهها، وفي «الأغاني» (١٨٧٩ – ١٨٩٣)، انتهجت نمط إيقاعات أغاني الأطفال في أبيات لها مفعول السحر:

«كوكو كوكو!
يصيح الديك
قبل الفجر.
كوكو كوكو!
ينادي الديك،
فتشرق الشمس.»

التراث الشعبي والوطنيون والنزعة المحلية

ومع أن الجنيات كنَّ بالفعل في طريقهن إلى التحول إلى كائنات ساذجة ومجردة من المعنى العميق، فإنهن ظللن كائنات قوية في مُخيِّلة الشاعر الأيرلندي ويليام بتلر ييتس، الذي كتب سعيًا لإحياء التواصل مع التراث السلتي الضائع أو المنسي للحكايات الخرافية، وأصبح مع صديقتيه، «سبيرانزا» وايلد (والدة أوسكار وايلد)، وأقرب داعمة وشريكة له، أوجاستا، الليدي جريجوري، الباعثين على إعادة إحياء التراث الشعبي الأيرلندي بعد أفوله. وباشروا جميعًا جمع الحكايات للكشف عن «تفرُّد الأمة». وفيما يتعلق بالجنيات، تعاون ييتس مع الاسكتلنديين والأيرلنديين في مواجهة الإنجليز، مُعلنًا أن «العالم … مليء بالمعاني للفلاحين الأيرلنديين مقارنةً بنظرائهم الإنجليز. ولقد ساهم ساكنو التلال والبحيرات والغابات من الجنيات في بقائه على هذا الحال.» كانت أرض الجنيات، بالنسبة إلى ييتس، ضرورية لوجود الشعر.

بمَ كان كولريدج وكيتس وسكوت أو روسيتي يؤمنون حقًّا بشأن الجنيات اللاتي يستحضرونهن بكلماتهم وصورهم المجازية؟ قليلون سيقولون بأنهم كانوا يصدقون وجود الجنيات فعلًا، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا باستمرار ينسبون اعتقادهم إلى آخرين. هذا النقل للإيمان إلى آخرين هو سمة متكررة في تاريخ الفانتازيا، وانغمس بشغف كتَّابٌ كثيرون في أزمنة مختلفة في عالم الجنيات من خلاله. ومعظم الحكايات عن لقاءات في أرض الجنيات، تحكي عن حوادث ومغامرات وقعت لشخص آخر. هذه هي أرض النوادر ومُشاهدات الأشباح وحكايات العجائز، والتقاليد الشفهية والأقاويل والاعتقادات الخرافية والقصص الفكاهية؛ إنه عالم «كان يا ما كان» بعيدًا بين أشخاص آخرين …

يستحضر أعظم الكتاب الذين كتبوا عن العوالم الأخرى — من شكسبير إلى شيلي — الملكة ماب وروبن جودفيلو وباك بكل سماتهما الغريبة، ويغرون جمهورهم للخضوع «للحكايات العتيقة وألاعيب الجنيات». لكنهم يصوغون مادتهم من خلال أطر الأحلام التي تبعدها عن أن تكون رؤيا عين. ومِثلَ ملوك القرون الوسطى، الذين كانوا يحتفظون بنسَّاك شُعث مغبَّرين في بلاطهم ليصلوا للرب نيابةً عنهم، نحتاج — نحن المتشككين الماديين الخائضين غمار التصورات الثقافية الذهنية — إلى وسطاء يمنعون زوال غابات خيالنا التقليدي من قطع أشجارها وإفراغها من سكانها. استخدم الكاتب المسرحي جيمس ماثيو باري هذا الأسلوب الفني، في قصة «بيتر بان» في المشهد الشهير الذي تشرب فيه تِنْكَر بِل السُّم، حين ينظر بيتر إلى المشاهدين، ويطلب منهم أن يصفقوا بأيديهم لإنقاذها. وفي النص المطبوع للمسرحية، الذي نشره لاحقًا، كتب باري:

«لقد ماتت الآن معظم الجنيات … إذ صار الأطفال يعرفون الكثير. سرعان ما سيتوقفون عن الإيمان بوجود الجنيات، وفي كل مرة يقول طفل: «لا أومن بوجود الجنيات»، تموت جنيةٌ في مكان ما.»

هذا الابتزاز العاطفي — بمحاولته المكشوفة لإثارة المشاعر — يبقى مُفَتتًا بسبب تلك المفارقة التي مفادها أننا مهما صفقنا عاليًا لإظهار إيماننا، فلا باري ولا نحن صادقون في إيماننا حقًّا؛ وإذا اقتنع الأطفال الذين بيننا وصفقوا، فهُم مجرد ضحايا لحاجة الكبار إلى الإيمان، وليس العكس.

بحلول عام ١٩٠٦، عندما كتب روديارد كيبلينج «باك من تلال بوك» دفاعًا عن عالم الجنيات البريطاني القديم المفقود، كانت الجنيات قد تحوَّلن بالفعل إلى مخلوقات مزخرفة ومزيفة؛ فثار كيبلينج على «الذبابات الطنانة ذات الأجنحة التي كأجنحة الفراشات، والتنانير الرقيقة، والنجوم اللامعة في الشعر، والعصي السحرية … جنيات مزيفة مزيَّنة بألوان الطلاء، يلوحن بعصيهنَّ ويمثِّلن دور الحالمات الساذجات …»

لا تزال نقطة التقاء الفانتازيا، وحب القومية القديمة، والحنين الرومانسي لماضٍ بريء خيالي والصورة البدائية للجماعة، تجد في سكان عالم الجنيات نماذجها المثالية. وفي بريطانيا، قادت اهتمامات تولكين الأكاديمية البحثية إلى ابتكاره المذهل لعالم «شاير»، العالم الآخر الذي تعيش فيه كائنات الهوبيت — آخر المخلوقات الوافدة إلى عالم الجنيات وأيضًا نتاج معرفة البرفيسور الواسعة بالأساطير والروايات السلتية والأنجلوساكسونية؛ وفي رواية «سيد الخواتم» أعاد تولكين إحياء وتحويل شخصيات وكائنات وجدها في الملاحم والروايات الرومانسية ونشرها في أرجاء الأرض الوسطى. وتشغل عوالم خيالية أخرى؛ ممالك سحرية تحت البحر، أو حصونًا قابعة في أعماق الغابة المسحورة، أو تلالًا تسكنها الجنيات؛ ويُمكن العثور عليها في كتاب «الجزء الخلفي من ريح الشمال»، أو في أرض الأقزام، أو أرض العجائب، أو نيفرلاند، أو نارنيا، أو في «شرق الشمس وغرب القمر» بحسب عنوان الحكاية النرويجية التي تقص قصة فتاة تجوب طول البلاد وعرضها، وتواجه كل أنواع الصعاب من أجل دبها المحبوب الضائع.

وحفزت أنشطة باحثة التقاليد الشفهية كاثرين ماري بريجز التي ألفت التحفة الرائعة «قاموس الجنيات»، والكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي ابتكر كنزًا مسليًا مذهلًا، هو «كتاب الكائنات الخيالية» (ويشمل السباع والوحوش «الخيالية» من ابتكار كافكا وكليف ستيبلز لويس وآخرين)؛ خيال الأجيال اللاحقة لتعمير هذه العوالم الثانوية. وبدأت العفاريت والأشباح والأرواح النادرة التي كشف عنها الباحثون تستوطن روايات مشهورة جديدة؛ فزخرت لعبة الأدوار «الدهاليز والتنانين» وسلسة روايات هاري بوتر لجي كي رولينج بأنواع من الجنيات التي كانت مهددة بالانقراض. في الحقيقة، تُعاد تعبئة عالم الجنيات كما يُعاد خلْقه بصورة مستمرة. ويجذب عالم الجنيات باعتباره موطن الفانتازيا مستوطنين ووحوشًا وأعاجيب جديدة، كما ازدادت أنواعها بتوسيع دائرة الالتقاء مع الثقافات الأخرى خارج أوروبا من ناحية، وتحسين تقنيات التصوير الحاسوبي من ناحية أخرى (جاء جولوم — ذلك المخلوق المذهل الذي ابتكره تولكين — بهذا الشكل باستخدام أساليب جديدة في الأفلام المحوَّلة عن الروايات.)

هذه الألعاب والأدب القصصي الخيالي الناجح، ليست حكايات خرافية بمعناها الحرفي، لكنها تستمد مادتها منها. وعبارة «احذر التنانين!» قد توحي بأرض للعجائب، إلا أنها لا تجعل القصة التي تظهر فيها حكاية خرافية بطبيعة الحال. لكن الأراضي المسحورة وسكانها الخياليين يُعتبرون هبات القصص الخرافية، حتى ولو لم تكن خصائصها السردية المميزة حاضرة أو فعَّالة بشكل صريح. ويؤدي العالم الثانوي الذي يختلف عن عالمنا الحقيقي دور «البكتيريا النافعة» التي تحول اللبن إلى زبادي، أو «الأم» التي تحول النبيذ إلى خل.

تشمل الدوافع الكامنة لإنشاء هذه القصص غير الحقيقية الحاجة إلى تجاوز حدود الواقع. حينئذٍ، تُحصَد ثمار كثيرة، من أهمها المتعة التأملية. وكما قال باراسيلسوس: «المتعة التي يجدها المرء حين يصف الحوريات أكبر من تلك التي يجدها في وصف المداليات … والمتعة التي يجدها حين يصف ميلوزين (حورية الماء) أكبر من تلك التي يجدها في وصف سلاح الفرسان والمدفعية …»

أو يمكننا أن نستخدم عبارة تليق بمقام الحكايات الخرافية فنقول إن خلق عالم مختلف، تُحقق فيه الآمال والرغبات، له سِحر أكثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥