الفصل الثالث

الأصوات في الكتب: الحكايات والرواة والمترجمون

«الحكاية الخرافية الحقيقية، أو الحكاية الخرافية بمعناها اللغوي، هي حكايةٌ تُروى على جماعة من المستمعين.»

كارل تشابِك

تتنقل الحكاية الخرافية باستمرار بين النسخ المدونة والشفهية، وبين الطباعة والتمثيل، وبين الصفحة والشاشة منذ ظهور وسائل الإعلام الجماهيرية؛ وتؤكد هذه الطبيعة المتنقلة الفكرة التي تقول إن الحكاية الخرافية ليست فنًّا أدبيًّا محدد القالب مثل روايات جين أوستن، بل تتدفق عبر العصور مثل محادثة تجري عبر قرون. ولا يُشترط اجتماع المستمعين في مكان واحد وزمان معين، بل تمتد الدائرة عبر المكان والزمان، وتشكِّل مجتمعًا يتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية. تخيل الحكاية الخرافية جنسًا من النباتات، كالزهور أو الفطر أو الحشائش، تبذر وتضرب بجذورها في الأرض وتزهر في أي مكان، بأنواع وألوان وأحجام وأشكال مختلفة. أو تخيلها لحنًا موسيقيًّا، يمكنه أن ينتقل من صوت إلى سمفونية إلى صفارة صغيرة، فالحكاية الخرافية لا توجد في قالب أو وسيط معين. لا تتضاءل أهمية القصص من كثرة تكرارها أو إعادة صياغتها أو سردها، بل إن متعتها تزداد من التعديلات اللانهائية التي تطرأ على جوهرها أو حمضها النووي إن جاز التعبير. أشار كليف ستيبلز لويس إلى أن الحكايات الخرافية لا تحتاج إلى كتابتها بأسلوب جيد حتى تعلق بالذاكرة. فكثير من الحكايات الخرافية الشهيرة الشديدة القِصر لدرجة خلوها من التفاصيل، مليئة بالتناقضات، ومبنية على نحو يفتقر تمامًا إلى المنطق السليم (فلماذا يقرر أب أن يقتل أولاده الذكور الاثني عشر من أجل ابنته؟ ولماذا يقرر آخر أن يقطع يدَي ابنته؟). أشاد الشاعر كولريدج ﺑ «الشر الخالص الذي يفتقر إلى الدافع» في السرد؛ فهو بلا شك يسبب قشعريرة في الجسد، ويبعث في النفس مزيجًا من الخوف الشديد والإثارة الممتعة، وهو السمة المميزة للحكايات الخرافية.

الأسلوب الباريسي: «حكايات الإوزة الأم» و«ألف ليلة وليلة»

في سنة ١٦٩٧، عندما نشر شارل بيرو «حكايات من أزمنة ماضية» — وهو كتاب كلاسيكي يضم سبع حكايات خرافية — لم يستخدم اسمه، بل نسب الكتاب إلى ابنه، ووصف كيف دوَّن بيير القصص التي سمعها من المربيات والعجائز. ويعكس العنوان الفرعي للكتاب «حكايات الإوزة الأم»، تعبيرًا مأثورًا عن «حكايات العجائز»، وهو تعبير مُلتبِس وقديم (إذ استخدمه أفلاطون) يشير إلى الحكمة الشعبية التقليدية المتوارثة عن طريق الجدات والمربيات. وتظهر عبارة «حكايات الإوزة الأم» بالفرنسية في صدارة الكتاب، في النسخة الأولى من كتاب شارل بيرو، مكتوبة على لوحة تذكارية معلقة على الجدار الذي تجلس أمامه عجوز شمطاء عند المدفأة وحولها أطفال، مما يشير للقارئ إلى أن الجدة العجوز هي النموذج النمطي لراوي القصص، أو مستودع الموروثات القبَلية.

وسرعان ما تُرجمت حكايات بيرو إلى الإنجليزية، وانتشرت في كتيبات قصصية متواضعة، وزُينت بالرسومات البسيطة المنقوشة. واختُتمت المجموعة بحكاية «جلد الحمار»، وهي نسخة نثرية (كان بيرو قد صاغها في البداية في صورة أبيات شعرية خفيفة ساخرة عفوية فكاهية). وتنتهي الحكاية ﺑ «هذه القصة … ليست من النوع الذي تقرؤه كل يوم في الصحف الصباحية. ولكن ما دام يوجد أطفال وأمهات وجدات والإوزة الأم، فستبدو القصة دومًا جديدة.»

صُنفت هذه الحكاية الخرافية، بالرغم من تمحورها حول موضوع قاتم متمثل في زنا المحارم، على أنها من وسائل الترفيه العائلي، مع التركيز على الاستمرارية من خلال أصوات النساء.

أصبح بيرو بلا شكٍّ أشهر رواد الحكاية الخرافية الأدبية، في ظل النظام القديم، لكنه كان كاتبًا من ضمن كثيرين في هذا المجال. كانت الحكايات الخرافية قد حازت اهتمام المدافعين عن تيار «الحداثيين» (الداعمين لكل ما هو فرنسي ومحلي وباللغة الدارجة الشعبية) في مواجهة أنصار تيار «القديم» (الداعمين لكل ما هو لاتيني وكلاسيكي وعالمي)، وكانت غالبية المجموعة الأخيرة من السيدات اللاتي يتمتعن باستقلالية الرأي في المجتمع الراقي والنخبوي، وصاحبات الصالونات الأدبية، والمثقفات اللواتي قمن بتطريز وتوسيع الحبكات والشخصيات النمطية، مضيفات عليها زخارف الروكوكو إلى جانب نقد لاذع حول القسوة المنزلية والطغيان السياسي. كانت ماري-كاثرين دالنوي كاتبة غزيرة الإنتاج ذات أسلوب فخم، وسرعان ما تعرضت أعمالها للقرصنة في الترجمات الإنجليزية؛ وكانت هي أوَّل من استخدم عبارة «حكايات الجنيات» في ١٦٩٨. وفي إنجلترا، عُرفت باسم «ماذر بانش»، الذي يذكرنا باسم «الإوزة الأم»، مما قد يعطي انطباعًا خاطئًا أن المواضيع التي تتناولها الحكايات مرحة ومُبهِجة، غير أن أسلوب دالنوي كان ذكيًّا، متعمقًا، ولاذعًا. كانت الكاتبات في أدب الحكايات الخرافية مسهبات في السرد، بينما يميل بيرو إلى الإيجاز؛ وكنَّ مناضلات ضد الظلم الاجتماعي، في حين بدا بيرو كأنه يتعامل مع مآسي شخصيات الحكايات الخرافية بنوع من اللامبالاة الفرنسية. اتبعت كاتبات مثل ماري-جان ليريتييه، وهنرييت-جولي دي مورا، وشارلوت-روز دي لا فورس، ومارجريت دي لوبير أساليب الحكاية الخرافية ليصورن من خلالها فضائل المرأة ومعاناتها، وأحلامها؛ واستخدمن السرد لمهاجمة الزواج القسري والمعايير المزدوجة، التي سمحت للرجال بإقامة العلاقات العاطفية بينما عاقبت النساء على الزنا، وأعطت الرجال الحق في التعليم، وحجبت عن النساء الحرية التي تأتي مع المعرفة؛ كما كانت شطحاتهن الخيالية الساخرة، عن الثروة والرفاهية، تشير إلى بذخ بلاط الطبقة الملكية والأمراء. في «القطة البيضاء» لدالنوي، هناك وصف لاذع وحاد لإحدى الحروب المدمرة التي خاضها لويس الرابع عشر. عانت سيدات كثيرة من عقوبات قانونية، مثل السجن والإقامة المنزلية الجبرية والنفي، بسبب تعبيرهن عن آرائهن مع أنهن أخفين رسائلهن في زخارف تبدو تافهة.

في الفترة نفسها، بدأت «ألف ليلة وليلة» (شكل رقم ٣-١) في الظهور لأول مرة مطبوعة. خفف المستشرق أنطوان جالان من فورة النسخة الأصلية الصاخبة، وحوَّلها إلى نص فرنسي رفيع المستوى، من خلال ترجمته البارعة والبليغة (١٧٠٤–١٧١٧)؛ في حين أن نظيرتها الإنجليزية — النص المجهول المعروف باسم «جراب ستريت» — ظهرت بُعَيد ذلك. وقد نُشرت على هيئة سلسلة في الصحف والمجلات وحقَّقت نجاحًا ساحقًا، بل أصبحت هوسًا ثقافيًّا. تبنَّى الكُتاب بحماسٍ النمط الشرقي للحكايات الخرافية سواء في الكتب أو على خشبة المسرح. على سبيل المثال، تمتزج أفكار الحكاية الخرافية الرئيسية، وفانتازيا الترحال، والأعمال الساخرة التي تتناول الطموح السياسي، والاستبداد المفرط، وأحلام الثراء الفاحش، وهزل الكوميديا المرتجلة في مسرحية «هارلكين، ملك الغيلان أو حذاء الفراسخ السبعة» (١٧٢٠) للكاتب المسرحي الفرنسي آلان رينيه لوساج، وفيها تنشد جوقة من الغيلان أناشيد فارغة «بلغتها الألجونكينية الأصلية».
fig6
شكل ٣-١: عندما يصبح سرد القصص وسيلة للنجاة: حيلة شهرزاد الليلية التي نجحت في النهاية. شهرزاد وشقيقتها دينارزاد، حكايات ألف ليلة وليلة، بغداد، العراق، القرن السادس.

وهكذا، لعب التقاء الحكاية الخرافية الأوروبية بالحكاية الشرقية دورًا محوريًّا. وبهذه الطريقة، امتزجت الحكاية الخرافية الشعبية، بجذورها الضاربة فيما عُرف بالتُّراث الشعبي، بالحكايات الشرقية التي كانت قد خضعت للتحسينات بمعالجات أنطوان جالان. وعلى سبيل المثال، تستحضر مدام دالنوي «جاريةً عربيةً عجوزًا» لتكون راوية للحكايات في قصصها، سواء أكانت كذلك أم لا. في الكتب الشعبية، يظهر ذو اللحية الزرقاء في الرسوم مسلمًا عربيًّا (يضع عمامة أو يُشهِر سيفًا محدبًا)، وتحمل عروسه الأخيرة اسم فاطمة. أدى الأسلوب الشرقي في رواية القصص إلى ظهور الترف والبذج، والانتقام والعواطف الجياشة، والتحولات الحيوانية والبنية المتداخلة، ويمكن رؤية هذا التأثير، على سبيل المثال، في الحكاية الهزلية «الكبش» للكاتب الأيرلندي أنتوني هاميلتون، وحكاية «ذو اللحية الزرقاء» لمدام دالنوي. لكن هذين المثالين غيض من فيض من العديد من الأعمال التي تأثرت بهذا المزج الثقافي الغني.

تُمَثِّل أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر بداية ظهور الحكاية الخرافية المعاصرة بمعناها المعروف الآن، ويُعتبر بيرو وجالان من أبرز الشخصيات التي أرست، في تاريخ القرَّاء والمتلقين، ما أصبح يُعرف ﺑ «الأسلوب الخرافي في الكتابة» باعتباره فنًّا من فنون الأدب. وشكَّل جامعو الحكايات والكُتَّاب مثل بيرو، ومن بعده الأخوان جريم، مجموعة مختارة بل مرجعًا معتمدًا من الحكايات الخرافية، وساهمت الطبعات المطبوعة لهذه الحكايات في ترسيخ عناصرها الأساسية. وعندما جاء رواةٌ جُدُد وعالجوا «هانسل وجريتل» فيما بعد، أحسوا بوجود قالب أو نمط، وهو أمر ربما لم يكن متاحًا لرواة العصور الوسطى.

الحرية في عصر الباروك: باسيلي في نابولي مثالًا

كان التوجُّه نحو الكتابة الخرافية أمرًا جديدًا وشديد الرواج، لكن طريقة الكتابة نفسها كانت قديمةً قدم الزمان، كما تبيَّن، ومن هذا المنطلق، تنتمي أعمال سيدات الصالونات ورواة الحكايات الشرقية، الذين شرعوا يملئون مجلدات تلو الأخرى بالحكايات الخرافية إلى تراث أدبي أقدم. وكما يُظهِر الكاتب بورخيس بشكل واضح في مقاله «كافكا وأسلافه»، فإن نجاح طريقتهم في الرواية تكشف، عند النظر إليها بأثر رجعي، عن محطات رئيسية في هذا التقليد الأدبي، وعن رواد لهذا النوع الأدبي تعرضوا نوعًا ما للتجاهل. فالعديد من العناصر السحرية والشخصيات والخطوط السردية في حكايات بيرو ومدام دالنوي وغيرهما، ظهرت مطبوعة لأول مرة في مجموعتين من الحكايات الإيطالية النابضة بالحياة، للكاتب الفينيسي سترابارولا، الذي لا نعرف عنه سوى القليل، والكاتب النابولي جيامباتيستا باسيلي، الذي كان رجل بلاط ملكي وعسكريًّا. وليس من قبيل المصادفة أن هذين المؤلفين ابتكرا مجموعتيهما السرديتين في ميناءَين كبيرَين، كانا ملتقى الثقافات واللغات والأفكار، والمسافرين فوق كل شيء.

بسخريةٍ طريفة، يضع كلا الكاتبَين في قالَب درامي أكثرَ مشاهد السحر والتحول غرابة، ويمزجانها بدراما واقعية زاخرة بالصراعات العائلية والرغبات العاطفية، غالبًا في أجواء خيالية غريبة مترفة؛ وتخلق الصور الخيالية، والتعابير الساخرة السفسطائية، والنكات والمزاح، نصًّا هجينًا تتلاقى فيه المتعة الفاحشة مع النقد اللاذع للبشرية. وفي هذا السياق، لا يختلف باسيلي عن شكسبير (فكلاهما كاتب معاصر في أوروبا الإنسانوية).

لا تنتهي كل هذه القصص الخرافية بنهاية سعيدة؛ على سبيل المثال، في النسخة القديمة ﻟ «الهر ذو الحذاء»، التي كتبها سترابارولا، ينسى البطل تمامًا مساعدة الهرة له فور أن يصبح أميرًا؛ وتدبِّر سندريلا في حكاية باسيلي مكيدة لقتل زوجة أبيها، حتى يتسنى لمربيتها العزيزة الزواج من أبيها بدلًا منها، لكن المربية تنجب سبعة أطفال، فتفضلهم على سندريلا.

إطار رقم ٣: «سندريلا الهرة»، بقلم جيامباتيستا باسيلي

… قال الملك وهو يتناوله (النعل): «إذا كان السرداب نفسه بهذا البهاء، فما بالك بالمبنى؟ أيها الشمعدان الجميل، أين الشمعة التي تحرقني؟ يا حامل المرجل البرَّاق الذي تُطهى الحياة فيه على نارٍ هادئة؛ أيتها الفلينة البديعة المعقودة في صنارة الحب التي اصطادَ بها روحي؛ انظر، ها أنا أحضنك وأضمك إلى قلبي ضمًّا؛ إذا عجزت عن لمس الزهرة فحسبي الجذور؛ وإن لم أتمكن من امتلاك تاج العمود، فحسبي أن أُقبِّل قاعدته. كنتَ (النعل) سجن قدم بيضاء، والآن صرتَ قيدًا لقلب تعيس.»

وعلى الفور استدعى وزيره، وأمر بالنفخ في البوق — «توووت، توووت!» — وإذاعة أن كل نساء المملكة يجب أن يحضروا إلى الحفل والمأدبة التي قرَّر أن يعقدها فجأة.

يحاكي أسلوب باسيلي السردي، بحماسة مفرطة، طرائق الرواية الشفهية من التكرار والقافية والمحسنات البديعية، حيث تتدفق كلماته في دوامات لغوية متشابكة؛ كما يتلذذ بوصف وظائف الجسم بجرأة تضاهي جرأة الكاتب الفرنسي فرانسوا رابليه، ويحب الحكايات الماجنة، ففي هذه القصص، قد يُحتفى بضرطة عابرة بنفس الزخرف اللفظي الذي خُصِّص لوصف ملابس الجنيات وأزيائهن البراقة في الأعمال الأدبية اللاحقة. وهكذا، يقدم باسيلي رؤية خيالية مفعمة بالحيوية، تتداخل فيها ألوان متباينة، وتسري بخفة، بينما يمزج مشاعر الرعب والمزاح والغضب، والتلطف والسخرية، والعنف والقسوة. وكما كتب كالفينو عن باسيلي في مقاله «خريطة الاستعارات» (١٩٧٤): «في «البنتاميروني»، هناك صفحات تعج بإثارة حسية مدمرة …»

وفي عنوان باسيلي «البنتاميروني» إشارة إلى «الديكاميرون» (عشرة أيام) للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو، كما أن باسيلي هو الآخر يعتمد على بنية السرد التأطيري؛ فعلى مدار خمسة أيام، تتقدم عشر عجائز، طاعنات في السن دميمات، واحدة تلو الأخرى، وتحكي خمسين حكاية. تمثل هذه البنية الإطارية، التي تربط المحتوى المتشعب داخل حبكة رئيسية، عنصرًا أساسيًّا في بنية «ألف ليلة وليلة»، وقد قلَّدها الكثيرون. وبحسب الباحثة في الأدب، روز بالاستير، فإن تعريف الحكاية الخرافية الشرقية يعتمد بشكل كبير على هذه البنية التأطيرية. والأهم من ذلك، أنها ترسم لنا — نحن القرَّاء — مشهدًا يُفترَض أنه يمثل لحظةً من السرد الشفوي القديم. وهذه هي النقطة الأساسية؛ أن الحكايات الخرافية المدونة على الورق تستحضر أصواتًا حية، تروي القصص جهرًا. تبقى ذكرى راوي القصص الحي حاضرةً بقوة في ذلك النوع الأدبي، وحتى عندما تكون القصة نصًّا أدبيًا بليغًا بشكل واضح لا خفاء فيه، يتقمص المؤلفون، مثل سترابارولا وباسيلي ومدام دالنوي، دور شهرزاد أو الإوزة الأم؛ لأن أحد الأمور الأساسية التي تعد بها الحكاية الخرافية دوام الصلة بالماضي فلا تنقطع أبدًا.

العديد من قصص باسيلي تعاود الظهور، بتعديلات، في المجموعة الشهيرة للأخوين جريم. تصور افتتاحية حكايات باسيلي، على سبيل المثال، حمارًا وطاولة وهراوة سحرية، يعطيها غول عاشق للبطل الأحمق. أشارت الباحثة الإيطالية نانسي كانيبا إلى أن الحكاية تعكس نهج باسيلي الفريد في كتابة القصص؛ وهو إضافة أدوات من أسلوب السرد القروي لحكايته كي ينفذ بها أعماله السحرية.

من الصعب رسم خط فاصل واضح بين الحكايات الشعبية الأصلية والحكايات الخرافية الأدبية، بالنظر إلى التحولات التي خضعت لها قصة واحدة مثل «الجميلة النائمة» أو «علي بابا». ونفس الباحثين الذين يرفضون فكرة أن العوام غير المتعلمين لعبوا دورًا في تشكيل الحكايات، يعتمدون اعتمادًا مفرطًا على السجلات الأدبية؛ إذ تمتزج السجلات الأدبية بالقصة، مخطوطة كانت أو مطبوعة، وتساعد في تثبيت ملامح الحكاية، لكن مسألة أن يخترع كاتب واحد قصة كاملة من الصفر هي بالدليل القاطع غير واردة؛ يذكر أفلاطون، على سبيل المثال، أن عجائز كن يذهبن إلى الميناء ليسردن الحكايات على الضحايا المرسلين إلى مذبحة المينوتور كوسيلة للتخفيف عنهم؛ وفي القرن الثاني الميلادي، يضع أبوليوس «حكاية كيوبيد وسايكي»، (حكاية إله الحب وإله الروح) على شفتَي عجوز سيئة السمعة. تتعلق مسألة الحكايات الخرافية الشفهية جزئيًّا بالتاريخ الاجتماعي؛ إذ كان عامة الناس يتداولون القصص شفاهةً قبل انتشار القراءة والكتابة، كما أنها تتعلق أيضًا بالرغبة الإنسانية؛ فما يحبه الناس في القصص هو، في كثير من الأحيان، الشعور بأنها تمتد عبر تاريخ طويل، حيٍّ ومتصل.

الأحلام الألمانية: الأخوان جريم

عرضت مقتطفات الأخوين جريم مواجهة حاسمة بين «العامة» والنخبة الفكرية؛ وتكشف طرائقهما في جمع الحكايات وتحريرها بشكل واضح عن التشابك المعقد للمصادر الذي أسهم في تشكيل الحكايات الخرافية الكلاسيكية الحديثة. وفي تلك الفترة الزمنية المضطربة لحملات نابوليون العسكرية، كان الكاتب كليمنيس برينتانو، وشقيقته بيتينا، وزوجها أخيم فون آرنيم، يتوقون إلى أدب محلي أصيل، يعكس روح الأمة الألمانية. كانوا، مثل أتباع الحركة الرومانسية في أماكن أخرى، غارقين في الأصوات الحاضرة والماضية؛ إذ لم يكونوا مخترعين منفردين، بل أعضاء حركة وطنية وثقافية لإعادة اكتشاف «ذلك الاهتمام الجميل بالحكايات الجامحة، التي بها يصير الطفل رجلًا»، بحسب كلمات الشاعر وكاتب المقالات الإنجليزي تشارلز لامب. وانصبَّ اهتمامهم المشترك على المواد التي انصرف عنها الآخرون باعتبارها متدنية وسوقية، مثل الاعتقادات والخيالات الشعبية، من القصائد الروائية إلى النكات الساخرة، ومن حكايات الحيوانات الرمزية إلى القصص الدامية عن الانتقام والعدالة. وامتلأت مختارات آرنيم وبرينتانو، من الأغاني والقصائد الروائية، المكونة من ثلاثة مجلدات، وتحمل اسم «بوق الصبي العجيب»، بقصص مرعبة ورغبات يائسة، وظهرت لأول مرة في ١٨٠٥؛ وعلى غرار «القصائد الغنائية» لوردزورث وكولريدج، لاح بريقٌ غامض سحري في القصائد، حيث أدت قسوة القدر إلى تأثيرات درامية مذهلة. ولحَّن الموسيقي النمساوي فرانز شوبرت مقطوعة موسيقية لقصيدة «ملك العفاريت» التي كتب كلماتها الشاعر الألماني جوته، حيث تتسارع إيقاعات البيانو مثل إله رياح شيطاني مزغب، أو شبح الموت، أو غولًا يختطف الفتى الراكب في السرج الجانبي على فرس أبيه:

«أحبك وجمال قدِّك يستهويني،
وإن لم تكن راغبًا، فسأرغمك بالقوة.»
«أبي، أبي، إنه يختطفني!
لقد أصابني ملك العفاريت بالأذى!»

عندما علم برينتانو ورفاقه أن الأخوين جريم يشاركانهم نفس الاهتمام، دعوهما إلى أن يشرعا في جمع الحكايات وأن يرسلا إليهم ما يعثران عليه من مواد. وكانت النتيجة أن أصبح هذا العمل محدِّدًا لمفهوم الحكاية الخرافية في سائر أنحاء العالم.

في عام ١٨١٢، صدرت الطبعة الأولى من مختارات الأخوين، المكونة من ٨٦ قصة، في ٦٠٠ نسخة، مع ملاحظات امتدت مئاتِ الصفحات. ولم يكن الهدف من هذا العمل في الحقيقة أن يقرأه الأطفال والعائلات للتسلية والمتعة كما يشير عنوانه، بل كان عملًا بحثيًّا بحتًا الغرض منه إعادة تشكيل التاريخ الثقافي الألماني، على نحوٍ يحرِّره من هيمنة الأدب الكلاسيكي والفرنسي. لكن هذه المجموعة — بعد أن وصل إجمالي عدد الحكايات بها إلى ٢١٠ حكايات في الإصدار الأخير القياسي عام ١٨٥٧ — أصبحت من أكثر الأعمال المترجمة على مستوى العالم، بعد الإنجيل والقرآن، وتُرجِمَت إلى أكثر من ١٦٠ لغة من بينها اللغة الكوسية والتاجالوجية، وما زال العدد في ازدياد.

هنا الغابات الشاهقة ذات المسالك الوعرة، والقلاع المسحورة، والملكات الغادرات، والأمهات القاتلات، والآباء المهمِلون، والطائر السحري الذي ينذر الأشرار بالهلاك، ورأس الحصان المقطوع الذي ينطق بالحقيقة، والأقزام وأرواح الماء، وكائن غريب مثل رامبيل ستيلتسكين، والضفدع الذي يريد النوم على وسادة الأميرة، والأوعية الفارغة التي تمتلئ بشكل عجيب، والبئر التي في أعماقها توجد السماء، والأشقاء الشجعان، ومفرش المائدة الاحتفالي الذي ينفرش من تلقاء نفسه، والمخلوقات البارعة الودودة والوحوش المفترسة، والحبكات القاسية التي لا تعرف الرحمة، والنغمة المُوحِشة القاحلة، وحتمية القدر، والتغير المبهج المفاجئ للأحداث عندما يسود العدل العالم بعدما ساد الرعب. هنا الأعمال الكلاسيكية التي جابت العالم: «الفتى الذي أراد أن يتعلم كيف يرتعد»، و«بياض الثلج»، و«الطائر اللقيط»، و«هانسل وجريتل»، و«ذات الرداء الأحمر»، و«الفتاة التي بلا يدين»، و«العندليب الوثَّاب المغرد»، و«سندريلا»، و«طائر فيتشر»، و«شجرة العرعر».

لم تكن ألمانيا كيانًا موحدًا بعد. كانت تجمعًا من عشرات الإمارات والأرشيدوقيات والمواني الحرة التابعة للرابطة الهانزية والإبراشيات. والتاريخ يشهد بأن الدولة القومية الحديثة تتشكل بعد وقت طويل من تطور الثقافة القومية ولغتها: قارن بين إيطاليا ودانتي الذي كتب أعماله قبل الاتحاد الإيطالي بخمسمائة سنة. لقرون عديدة، كانت غالبية شبه الجزيرة الإيطالية تحت حكم ألمانيا أو النمسا أو إسبانيا، في حين كانت النهضة، التي كانت إيطالية بلا نزاع، تبسط سيطرتها على العالم أجمع. كان الأخوان جريم يعيشان في زمن هرج ومرج وسفك للدماء. فقد حفَّزت الثورة الفرنسية تأججًا مماثلًا وسط بعض رفاقهم الرومانسيين، ثم استحوذ نابليون، الذي كان يقود جيوشه المنهكة والمتفانية لغزو الأقاليم الأوروبية واحدًا تلو الآخر، على مدينة كاسل الألمانية، حيث كان الأخوان يعملان في المكتبة وعيَّن جيروم أخيه ملكًا على مقاطعة وستفاليا.

وللتغلب على إحساس الخزي، شعر الألمان بضرورة التأكيد على ثرائهم الثقافي وتفردهم وحتى تفوقهم على غيرهم. وأصبح الأخوان جريم جزءًا من الحركة، التي كانت تحظى بقدر كبير من الزخم آنذاك، لاستعادة الروح الألمانية، عَبر تأسيس سجل موسوعي عن اللغة الألمانية والأساطير والتاريخ والأعراف والمعتقدات والمعارف. أسمياه «شعر الشعب»، واعتبراه جزءًا من الطبيعة؛ فطريًّا بدائيًّا جامحًا مثل الغابات والجبال. في «الكتاب الدوري» الذي أرسله جاكوب جريم سنة ١٨١٥، استهله بأن طلب من المراسلين أغاني وقصائد، لكن سرعان ما توسَّع نطاق طلبه ليشمل:

الأساطير المحلية المكتوبة بأسلوب غير شعري، لا سيما القصص التي ترويها المربيات للأطفال عن العمالقة والأقزام، والوحوش، وأبناء وبنات الملوك الواقعين تحت تأثير التعاويذ السحرية وتحررهم منها، والشياطين، والكنوز، والأغراض السحرية التي تحقق الأمنيات … مع التركيز على حكايات الحيوانات الرمزية …

واشترط الأخوان جريم أن تكون مصادر «شعر الشعب» (شكل رقم ٣-٢) نقية خالصة: كتب جاكوب:

«فوق كل شيء، من المهم أن تكون الموضوعات مجموعة بكل صدق وإخلاص، بلا أي تحسينات أو إضافات، وبأقصى قدرٍ ممكن من الدقة والتفصيل، من أفواه رواة القصص، وبكلماتهم إن أمكن ذلك …»

وجابا طول البلاد وعرضها يجمعان الحكايات بأنفسهما، مثل أبطال الحكايات الخرافية، الذين يخرجون لجمع عش الغراب والحطب في أعماق الغابات. في مدينة ماربورج، على سبيل المثال، المدينة الجامعية التي كانا يدرسان فيها، زارا المستشفى، حيث قبعت عجوز اشتهرت بمعرفتها الواسعة بالأساطير والخرافات، لكنهما وجدا أنها لم تكن ترغب في مشاركة حكاياتها مع الباحثين الشباب المثقفين. لذلك أقنع الأخوان الابنة الصغيرة لمدير المستشفى بأن تطلب منها أن تحكي لها حكاية ثم تنقلها لهما، وكانت النتيجة أن حصلا على النسخة الألمانية من قصة «سندريلا»، حيث تقطع الشقيقتان كعبيهما وأصابعهما قبل أن تنطفئ أعينهما واحدة تلو الأخرى بواسطة الحمامات التي أسرعت لنجدة سندريلا بالنيابة عن أمها المتوفاة.

fig7
شكل ٣-٢: المصادر والشائعات: النساء والأطفال (وغيرهم) ينقلون حكمة الجماعة. «الأسرار والقصص» بريشة الرسامة البرتغالية البريطانية باولا ريجو، سنة ١٩٨٩.

تُعتبر هذه النسخة من القصة المشهورة هي الأشد قسوة، وربما لم تشأ العجوز أن يطَّلع الشباب المثقفون على الأفكار السرية لتلك الأجيال من النساء وأحلامها الانتقامية.

لكن سرعان ما دارت الشكوك حول موثوقية كون المواد ألمانية خالصة، فكثُر اعتماد الأخوين على المتعلمين وحتى المتحدثين بالفرنسية وذوي المعارف الواسعة والرحَّالة الكثيري الأسفار، وشعرا بالاضطراب مما رأيا من التشابهات والموضوعات الرئيسية المتكررة. فراحا يحذفان قصة تلو الأخرى من الطبعة الأولى، ونحَّيا ما يزيد على ثلاثين حكاية لأنها لا تتلاءم مع المقياس الألماني، من بينها «الهر ذو الحذاء» و«الجميلة النائمة». وهكذا هاجرت الحكايات وطافت وعبرت الحدود وشقت طريقها عبْر الأنفاق، من فرنسا وإيطاليا ودول أخرى بعيدة، حيث جرى تداول قصص قديمة ومشابهة باللغة العربية والفارسية والصينية والسنسكريتية.

كان مسعى الأصالة يُمثل تحديًا كبيرًا، وتغلبت وحلَّت محل مفهوم الثقافة الوطنية، مجموعة متنافرة من الأصوات، أو مزيجٌ سردي من الماضي يتنافس فيما بينه كي يتحدث عن الحاضر. إن قراءة حكايات الأخوين جريم تجعلكَ تشعر بأنك في حُلم، حيث تختلط وجوه من مختلف الأزمنة، فتجتمع وتتفرق، وتتبلور وتذوب، وتدنو دنوًّا تغيب فيه التفاصيل ثم تتبخر، وتتدافع الحبكات والأفكار الرئيسية والوحوش والأميرات والأقزام الجميلة والأرواح من «ألف ليلة وليلة»، ومن حكايات باسيلي النابولية، ومن أعمال بوكاتشيو، كما في حلم نيك بوتوم.

ومما زاد من تعقيد مشكلة الأصالة، أن العديد من مصادر الأخوين جريم، من النساء المتعلمات الكثيرات الأسفار (وبعض الرجال)، كنَّ يقتبسن معارفهن من الخِلطة بالآخرين، ومن التعرض لثقافات الآخرين المتنوعة، ومن الهجرات. جمع الأخوان حكايات كثيرة من ابنة عمهما، التي عُرِفَت بالعجوز ماري، وكانت ترمز لصوت «الشعب». وأصبحت أرملة الخياط، دوروثيا فيمان، من أشهر رواة القصص عندهما، واحتلت صورتها صدارة كتابهما.

حكت لهما هذه المرأة القصة الغريبة جدًّا ﻟ «هانز، قنفذي»، التي تظهر إمكانات الأداء السردي في تكرار الأفكار الرئيسية وإعادتها، وفي المشاهد المخيفة والمرحة، حيث يتظاهر الراوي كما لو كان يخدش الطفل بأشواك الحيوان.

لم يكتفِ فِلهِم جريم بتنقية التقليد الألماني، وبدأ يعدِّل القصص الأخرى غير المناسبة، بحسب المعايير الأخلاقية المعاصرة (في النسخ الأصلية كانت رابونزل قد ضاجعت رجلًا وحملت بطفل خارج إطار الزواج!). لكن أصعب التحديات التي واجهته هي كيفية تدوين التقاليد الشفهية دون المساس بأصالتها. ادَّعى الأخوان أنهما يعيدان إنتاج الصوت الأصيل للتقاليد الخالدة، لكن فِلهِم كان يصوغ ويصقل، ويضيف الزخارف، لكثير من الحكايات المشهورة على مدار خمسين عامًا تقريبًا؛ والأهم من ذلك، أنه كان يعدل الكلام الصريح عن الجنس في القصص، لكنه ترك محاولات الأخذ بالثأر العنيفة كما هي. في النهاية، ابتكر الأخوان الحكايات الخالدة في الذاكرة بالصيغة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم.

عند مقارنة نسخ عام ١٨١٢، بالنسخة المُحكمة النسق الكاملة الأخيرة، عام ١٨٥٧، التي صارت مَعلمًا على الحكايات الخرافية، تتضح مهارة فِلهِم الاستثنائية في استخدام ديناميكيات السرد، واستفادت الحكايات غاية الاستفادة من تدخلاته الكثيرة. في السابق، كانت حكاية «الأمير الضفدع» أول حكاية في كتاب الأخوين، تشغل فقرة واحدة موجزة. والآن، أصبحت تبدأ ﺑ: «في قديم الزمان، عندما كانت الأمنيات لا تزال تتحقق، عاش ملك لديه بنات كلهن جميلات، لكن الصغرى كانت فاتنة، حتى إن الشمس … تعجَّبت من جمالها …» هذه العبارات التي تبدو كعلامة مميزة للحكاية الخرافية، هي في الواقع من إبداع فِلهِم نفسه، وأضافت التفاصيل الضرورية والعناصر الخيالية، للافتتاحية الموجزة للنسخة الأصلية: «كانت هناك ابنة ملك …» (١٨١٢). بدت هذه العبارة رتيبة خالية من الحياة، مثل كتاب المطالعة لجاك وجِل: «ذهبت ابنة الملك إلى الغابة …».

وعلى نفس المنوال، دوَّن أنطوان جالان ملاحظات مُختصرة في دفتر ملاحظاته، بعدما سمع مصدره حنَّا دياب يروي حكاية «علاء الدين» أو «علي بابا»؛ لكنه لاحقًا، من خلال عملية أدبية مشابهة من وضع الملاحظات في قالب درامي رحب، وإثرائها بالتفاصيل والإسهاب في السرد، ألَّف النسخ المدونة القديمة الطويلة، التي خضعت هي نفسها منذ ذلك الحين لكثير من التعديلات والقوالب عبر مختلف التقاليد الثقافية.

هل الحكايات تتنقل أم أنها تجليات اللاوعي الجمعي؟

لا يزال الجدل قائمًا بين أصحاب النظرية الانتشارية، الذين يعتقدون أن الحكايات تنتقل عبر الثقافات؛ وأصحاب النظرية الكلية الذين يقترحون أنها تجليات اللاوعي الجمعي. وفي هذا الصدد، قدَّم الباحث الروسي الداعم لنظرية الشكلية فلاديمير بروب، ومن بعده العالم الأنثروبولوجي الداعم لنظرية البنيوية كلود ليفي ستروس، طرحًا قويًّا بشأن وجود عدد محدود من القصص أو الحبكات. ومن المسلمات الشائعة أنه توجد سبع قصص فحسب، وأن كل الحكايات الأخرى ليست سوى تنويعات عليها (أول أرشيف في بريطانيا، الذي خُصِّص لأدب الأطفال، وتأسس في مدينة نيوكاسل في ٢٠٠٥، يُسمى ﺑ «القصص السبعة»). ويمكن التدليل على هذا الطرح، في رأيي، باستخدام منهجية تبسيطية، لكن الاختلافات بين نسخ الحكايات والسياق الذي يشكل القصة تستحوذ على اهتمام نقدي أكبر بكثير من مجرد أوجه التشابه الأساسية: على سبيل المثال، تستعرض دراسات معاصرة كثيرة، بطريقة مثمرة للغاية، التحولات التي طرأت على حكاية «ذو اللحية الزرقاء». وكتاب مصور للقارئين الصغار أو أوبرا «قلعة ذي اللحية الزرقاء» للموسيقي بيلا بارتوك أكثر إبهارًا بسبب تبايناتهما وليس بسبب هويتهما البنائية. لقد أدت ظروف الصراع والتغيرات المستمرة في العالم المعاصر، إلى جانب الهجرة الاقتصادية والتنقل في عالم الأعمال العالمي، إلى إبراز التغيير المتواصل للتعبيرات الثقافية بوضوح. وتؤكد النظريات المتعلقة بالأدب العالمي، الذي تُشكل الحكاية الخرافية جزءًا لا يتجزأ منه، أن الحدود الجغرافية واللغوية ليست مُصمَتة؛ فلا يوجد حاجز يمكنه منع قصة جيدة من التجوال. ستطوف هذه القصة، وتذهب إلى أقاصي الأرض ثم تعود في حُلَّة مختلفة، وبروحٍ مختلفة، والأهم من ذلك أنها ستعود بمعنًى جديد.

ومع ذلك، فمن ناحية أخرى، يمكننا أن نقول إن الأخوين جريم أعادا تشكيل ما سعيا إلى اكتشافه. إذ أسهمت اكتشافاتهما في عالم الحكايات الخرافية في تشكيل هوية ثقافية لبلدهما، وهو ما يتعرف عليه القراء والجمهور والمترجمون على خشبة المسرح والشاشة وفي النصوص المسموعة والبصرية ويربطونه بألمانيا، ولكن ليس دائمًا بما يصب في مصلحة الأمة أو مكانتها في المخيلة الثقافية. فمشاهد العنف العديمة الرحمة والقسوة والغرابة والحلول الغريبة والمتطرفة، تثير قشعريرة في النفس ولو سمعها القارئ أو قرأها مرات كثيرة. وحتى عندما تتبع الحكايات حبكة موجودة في عدة لغات أخرى، فإن تنويعات الأخوين جريم تحمل طابعًا خاصًّا ونغمة مميزة، مما يجذب الانتباه ويثير في النفس مشاعر مختلطة؛ نوعًا من الإثارة المشوبة بالذنب، بل بشيء من اللامبالاة تجاه النهايات القاسية التي تتسم بالبرود. إنها نبرة أدبية قلدها الكثير من الكتاب اللاحقين؛ فنجدها تتردد في معالجات مارجريت أتوود للأسطورة والحكاية الخرافية. ويستحضر فيليب بولمان حنين الشاعر الأمريكي جيمس ميريل، الذي كان يتوق إلى «ذلك النوع من السرد الفطري غير المتكلف — الموجود في الأساطير والحكايات الخرافية، ذلك الصوت الذي صُقِل عبر القرون — بألسنة الجدات الطيبة، المجهولة الهوية، المطمئنة.» أراد بولمان تحقيق ذلك الأمر في النثر، وأعلن عن رغبته تلك في مقدمة ترجمته لحكايات الأخوين جريم التي نُشرت عام ٢٠١٢. ومع ذلك، فعلى عكس ما قد يتبادر إلى ذهن البعض، كان الأخوان جريم شخصَين طيبَين، متحفظين ومسالمَين بطبيعتهما. وعندما حضر الموت، أولًا لفِلهِم سنة ١٨٥٩، تملَّك الحزن من قلب جاكوب فلحق بأخيه بعد ذلك بأربع سنوات، سنة ١٨٦٣. كان جاكوب لا يزال منكبًّا على قاموسهما الهائل، وعندما داهمه الموت لم يكن قد وصل إلا إلى حرف فاء وكلمة «فاكهة». من نواحٍ كثيرة، كان الأخوان يسعيان عن طريق الحكايات الخرافية إلى إيجاد إرث مشترك جامع، بحثًا عن السلوى والنور والتناغم؛ لكنهما وجدا شيئًا آخر، ومع ذلك فإن الرعب الغريب الذي تحمله حكاياتهما قد جلب بهجة عارمة لعددٍ لا يُحصى من القرَّاء والسامعين.

إن حُلم وجود منبعٍ صافٍ للروايات الخرافية، الذي تجسده راوية عجوز هرمة تنقل حكمة الجماعة إلى الأجيال التالية، من مُسلَّمات القومية الثقافية، فضلًا عن كونه أحد أشكال الأدب الرعوي الرومانسي، الذي لا يزال يسري في الكتابات المعاصرة عن المكان والذاكرة. لكن الحكايات الخرافية، كما اكتشف الأخوان جريم، لا صلة لها بالأمة أو باللغة الأصلية، مِثلها في ذلك مِثل طيور السنونو أو الفراشات، بل أثبت الزمن أنها كائنات مهاجرة عنيدة أوَّابة دائمة التسلل (والعودة) عبر الحدود.

وحتى قبل انتشار محو الأمية الجماهيرية بفترة طويلة، كان السرد الشعبي موجودًا في علاقة تكافلية مع التنويعات المكتوبة، وأعطى الانتقال من الرواية الشفهية إلى التدوين النسَّاخ رغبةً لا تقاوم في التعديل. وساعد الإيقاع والوزن واللازمة والقافية النصوص في أن تأخذ قالبًا معينًا، لكن كما تكشف التنويعات الكثيرة لقصيدة روائية واحدة، لا يزال الرواة والمغنون يستمرون في إضافة لمساتهم الخاصة. يعبِّر بولمان عن هذا الأمر بقوة، عندما يصر على الارتباط بالصوت يجب ألا يُفقد، فيقول: «الحكاية الخرافية ليست نصًّا مكتوبًا.»

في كتاب «اختراع الأدب» (١٩٩٩)، تُذَكرنا باحثة الأدب الكلاسيكي فلورنس دوبونت بأن العديد من الأعمال العظيمة أنتجها الخيال البشري لكي تؤدى أمامَ جمهور وتُلقى على الأسماع. وحتى من قبل اختراع آلة الطباعة وانتشار محو الأمية الجماهيرية، كانت النسخ المدونة تؤدي دور برامج الأعمال أو السجلات، للعروض والإنشاد والخطب والأغاني وغيرها من أشكال التواصل الشفهي. كان الأداء الصوتي فنًّا يبدعه مؤلفون أحياء، وانطوى صوت راوي القصة على طبقات متعددة؛ إذ إن القصص المبتكرة كانت مختلفة ومتطابقة في آنٍ واحد، كانت الحكاية الخرافية من تلك الناحية تشبه اللحن الموسيقي الذي يختلف باختلاف أداء المغنين والعازفين. وكل سامع هو راوٍ جديد محتمل. ولم تتألف الأعمال الأدبية القديمة من نصوص جامدة، وإنما من نصوص مسرحية، ومخطوطات إرشادية لرواة القصص، وكتب تحتوي على إطارات أدبية مُعدَّة مسبقًا. ولا شك في أن هذا ينطبق على «ألف ليلة وليلة» ومجموعة الحكايات الخرافية المشهورة؛ إذ يتذكر الرواة الحكايات من خلال معايشتهم لها — سواء بالاستماع أو القراءة — ثم يعيدون صياغتها بأساليبهم الخاصة. لكن كانت السجلات قابلة للتعديل وإعادة الصياغة كلما انتقل إلى راوٍ جديد. بالطريقة نفسها التي نسمع بها نسخة من «سقوط طروادة» من الشاعر ديمودوكوس في «الأوديسة»، ونسخة أخرى من إينياس يلقيها على آذان الملكة عليسة في «إنيادة» فرجيل، فإن حكاية «الجميلة النائمة» للكاتب شارل بيرو، التي تحمل طابعًا دمويًّا مفاجئًا، ما هي إلا تعديل من التعديلات التي طرأت على موضوع دائم التكرار.

كان الأدب فعلًا شفهيًّا يُؤدَّى بأصوات حيَّة أمام الجمهور، كما يحدث في عصرنا الحاضر في الكثير من المناسبات العامة، حيث تمارس المهرجانات الأدبية ضغطًا زائدًا على الكتاب ليؤدوا أعمالهم أمام الجمهور. وكانت عملية تدوين الأدب محاولة للتعبير عن هذه الأصوات الحية في العمل الأدبي. فكل قصة هي فعل تذكُّر ينقل الحضور الحي لشخصياتها. وهذا يجعل من الكتب، كما تقترح دوبونت، أقنعةً جنائزية تحتفظ بالكائنات، التي كانت يومًا تنطق بهذه الكلمات، في قبر من الورق والحبر. وفي ظل غياب هذه الأجساد، يقع على عاتق الكتابة جذب الانتباه دائمًا وأبدًا إلى ذلك الغياب. ويُمثِّل الحضور المُتخيَّل للإوزة الأم، أو أي راوٍ آخر، محاولة قوية للحفاظ على الصلة بالماضي حينما كانت الحكاية كلامًا منطوقًا وكان راويها على قيد الحياة. وتتظاهر كل مجموعة من الحكايات الخرافية تقريبًا بأنها رُويت على لسان شخص، أخذها عن شخص آخر، وهذا الشخص الآخر سمعها مباشرةً «في سالف العصر والأوان».

وفي لحظة فارقة من التاريخ الأدبي، أدى الأخوان جريم، بروحهما الجادة ونهجهما الأكاديمي، دورَ حرَّاس السجلات، كالنسَّاخ الذين أمرهم الخليفة هارون الرشيد في «ألف ليلة وليلة» بكتابة حكايات شهرزاد بحروف من ذهب ووضعها في مكتبة القصر. سعى جامعو الحكايات في القرن التاسع عشر إلى توثيق المخيلة القومية لبلدانهم، لكن الزمن كشف أنهم كانوا، بغير وعي، من أنصار النزعة الأممية. حفز مثال الأخوين جريم سلسلة من المحاولات المماثلة؛ وراح الكتَّاب يجمعون الحكايات الخرافية التي تعبر عن روح القومية أو الجماعة، بوتيرة متباينة، ومن أماكن مختلفة من العالم. وبما يتماشى مع المثالية السياسية التي ميزت الحقبة الأولى من الرومانسية، أصبح هذا الأدب الذي استمد مادته من أفواه الأميين حجر الأساس لنظرية التميز الثقافي. قدمت القصص مستودعًا ثريًّا للذاكرة الثقافية، على أمل أنه لم تُلوثها التأثيرات الأجنبية الوافدة. ومن الأمثلة على ذلك، جُوسيبي بِتر، طبيب من باليرمو عاصمة إقليم صقلية الإيطالي، الذي جهز عربته بمكتب خاص ومعدات للكتابة ومنطقة للجلوس، حتى يستطيع جمع القصص من مرضاه في أثناء جولاته الطبية. وكانت أجاتوزا ميسيا، مربيته السابقة، والتي كانت تصنع أغطية الفراش وتغسل الملابس، المصدر الرئيسي الذي يستقي منه الحكايات، فيقول:

إنها بعيدة كل البعد عن الجمال، لكنها ذات طلاقة في اللسان وبلاغة في الحديث، ولها طريقة خلابة في الكلام، تجعل المرء يدرك ذاكرتها الاستثنائية وموهبتها الفذة. ميسيا — التي في العقد الثامن من عمرها — أمٌّ، وجدة، وجدة كبرى؛ عندما كانت فتاة صغيرة، سمعت قصصًا من جدتها، التي سمعتها بدورها من أمها … (وهي) لا تعرف القراءة، لكنها تعرف أشياء كثيرة، لا يعرفها آخرون.

آنذاك، في مدينة مسِّينة القريبة، دوَّنت لورا جونزنباخ — ابنة تاجر الأقمشة الغني الذي شغل لاحقًا منصب القنصل السويسري — قصصًا من أصدقائها وجيرانها، وترجمتها من لغتهم الصقلية إلى الألمانية الفصحى، ونشرتها في عام ١٨٧٠. وعَبر صياغة جونزنباخ، تدفقت النغمة الاستشراقية الصقلية إلى الشمال مرة أخرى، والتقت بروافد الحكاية الخرافية المنتشرة في أنحاء أوروبا، نتيجةً لنجاح الحركة الرومانسية في ألمانيا. تكتب جونزنباخ:

لم أستطع نقل السحر الأصيل لهذه الحكايات، الذي يكمن في الأسلوب والطريقة التي تروي بها هؤلاء النساء الصقليات الحكايات. فغالبيتهن … يُمثِّلن الحبكة كلها بأيديهن … بل يقفن ويتجولن في أنحاء الغرفة عندما يستلزم الأمر ذلك. ولا يستخدمن أبدًا «يقول فلان»؛ لأنهن يُعبِّرن دائمًا عن الشخصيات باستخدام طبقات مختلفة من أصواتهن.

في روسيا، استرشد كثير من جامعي القصص بالأخوين جريم، في رسْمهم للإرث القومي لروسيا عَبر الحكايات الخرافية. ونشر ألكسندر أفاناسيف، الكاتب الشهير في عصرنا الحالي، مختاراته المذهلة، التي تقرب من ٦٠٠ حكاية خرافية بين عامَي ١٨٥٥ و١٨٦٧. ولا يشير التأريخ إلى ترتيب الحكايات زمنيًّا؛ لأن كثيرًا من الحكايات الخرافية الروسية فريدة من نوعها، لكن النغمات المتعددة تبدأ في الانتشار من جديد؛ إذ تتشابه الحكايات مع غيرها القادمة من المناطق القطبية الشمالية، ومع الثقافات الممتدة على طريق الحرير، وتتشابك مع حكايات خرافية من الهند وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، وأيضًا مع حكايات شعوب اللاب والتونجوس.

في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، كان مقلدو الأخوين جريم أبطأ في الاستجابة، لكن ما إن انطلقوا، حتى استحوذ الفلكلور — علم الخرائط وأنثروبولوجيا الخيال — على اهتمام المجتمع الفيكتوري، إلى جانب مغامرات رسم الخرائط الإمبريالية والعلمية في ذلك العصر. جمع جوزيف جاكوبس مجلدين عظيمين: «الحكايات الخرافية الإنجليزية» (١٨٩٠)، و«المزيد من الحكايات الخرافية الإنجليزية» (١٨٩٤)؛ حيث أعاد سرد النسخة الاسكتلندية ﻟ «سندريلا»، التي فيها لا تستر البطلة نفسها بالرماد، وإنما بمعطف من الأسل. وتطعمها أمها وتعتني بها، في هيئة بقرة، يتدفق الغذاء، في عمل إعجازي، من أذنيها؛ وتذهب سندريلا إلى الكنيسة، وليس إلى الحفلة الراقصة، وهناك تلتقي باللورد المحلي وتأسر قلبه.

كتاب الجنية الزرقاء والنهاية السعيدة

تم تجاوز الهدف الرومانسي المتمثل في إنشاء إرث قومي، عندما انكبَّ أندرو لانج على تأليف «كتب الجنيات» الملونة (وهي سلسلة من اثني عشر مجلدًا نُشرَت بين عامَي ١٨٨٩ و١٩١٢). باشر لانج ضمَّ الحكايات معًا، بغض النظر عن مصدرها، ثم أدخلها في مرحلة تحرير، كانت تشرف عليها زوجته ليونورا أَلِين وفريق غالبيته من الكاتبات والمترجمات، اللاتي عالجن النص النثري حتى لا يخل بالآداب العامة. لا تزال هناك ومضات من الإبداع في الأسلوب المهذب الذي ميز العصر الإدواردي: على سبيل المثال، في معالجة ميني رايت البليغة لحكاية «الأميرة روزيت»، لمدام دالنوي، تستعيض عن النقد الساخر المسهَب (الموجه في الأصل للويس الرابع عشر «ملك الشمس»)، بسعادة كلب الأميرة، فريسك (اسمه في النسخة الفرنسية «فريتو» ويعني: «يهز ذيله»)، الذي «لم يقلَّ غداؤه عن جناح طائر الحجل لبقية حياته».

كان لانج كاتبًا غزير الإنتاج ومفكرًا عميقًا فيما يخص الحكايات الخرافية، ومع أنه رأى ضرورة التمييز بين الحكايات الشعبية الشفهية المجهولة المصدر، والإنتاج الأدبي، فإنه نقَّب في السجلات الإثنوجرافية بحثًا عن قصص رويت شفهيًّا في الماضي، مثل «ألف ليلة وليلة»، كما ضمَّ قصصًا ذات أصول أدبية. لقد ساهمت مجموعاته في إحياء شخصيات العالم الخرافي من العمالقة، والكائنات نصف البشرية ونصف البحرية، والأقزام المنزلية الطيبة المنسوبة إلى الثقافة الإنجليزية، ووحوش الكراكن والغيلان وعمالقة الكهوف من الثقافة الاسكندنافية، وكوشي الخالد وبابا ياجا من الغابات الروسية، بالإضافة إلى العفاريت والتنانين بمختلف أنواعها. وهكذا، كان لدى لانج تصور شامل رحب متعدد عن الأمم، وبسَّطه في قالب ماضٍ أبديٍّ متماسك، كان فيه اختراع الحكايات الخرافية جزءًا جوهريًّا من التجربة الإنسانية، وربطت فيه القصص بيننا عَبْر الزمن، والمجتمع الحديث بالقديم، والمعاصر بالبدائي. أعلن لانج:

لقد أمدنا العامة، أو الشعب، بأسلوبهم العفوي، بالمادة اللازمة لشعرنا، وقانوننا، وطقوسنا؛ ثم جاء العباقرة وانتقوا من هذا المخزون، فحوَّلوا العادات إلى قوانين، وحكايات الطفولة إلى قصص رومانسية، والأسطورة إلى علم … والأغنية الشعبية إلى ملحمة …

كانت سلسلة «كتب الجنيات» الملونة عظيمة الأثر؛ فمن خلال نقوشها البسيطة الساحرة ذات الطابَع ما قبل الرافائيلي التي أبدعها إتش جي فورد، لم تكن هذه الكتب مجرد مجموعات من قصص شائقة، بل أعادت تعريف نطاق الحكاية الخرافية وطابَعها بوصفها نوعًا أدبيًّا من فنون الأدب، للفيكتوريين ومن جاء بعدهم. كما أكَّدت الفرضية التي تقول إن الخيال البشري، بصفته ظاهرة عالمية، أنتج سرديات تشابهت أكثر مما اختلفت؛ وبدأت، على إثر ذلك، تظهر كتب قصص الجنيات في جميع أنحاء العالم؛ من الثقافة الصينية واليابانية والغجرية والماورية والأفريقية والأُسترالاسية والهندية والكاريبية ومن كل التقسيمات الفرعية داخل الحدود الوطنية. وتستمر الأصداء في التردد، حيث يمكن أن نجد تشابهات بين حكاية فلسطينية وأخرى من الإنويت (الإسكيمو)، على الرغم من السياقات الاجتماعية دائمًا ما تُشكَّل المادة القصصية، وتنشأ هذه التشابهات من التبادل الثقافي الذي حملته قوًى متعددة، من مبشرين وإثنوجرافيين، وبناة للإمبراطوريات.

كما وفَّرت «كتب الجنيات» مادة خامًا غنية لأجيال متعاقبة من الكتاب والملحنين والفنانين. تقدِّم الكاتبة الإنجليزية جانيت وينترسون، في روايتيها «العاطفة» (١٩٨٧) و«تجنيس الكرز» (١٩٨٩)، العديد من العناصر المستمدة من الحكايات الخرافية، من بينها الأحذية العجيبة التي كانت تُستهلك بطريقة غامضة كل صباح (من حكاية الأميرات الراقصات الاثنتي عشرة من «كتاب الجنيات الأحمر»).

يقول بنجامين: «التجربة التي تنتقل شفهيًّا، من فم إلى فم، هي المصدر الذي استقى منه جميع رواة القصص حكاياتهم. وأعظم كتَّاب الحكايات الذين تشبه نسخهم المدونة الحكايات الشفهية لرواة القصص المجهولين، إلى حدٍّ كبير». غير أن هذا القول ينبغي تعديله ليصبح: «الذين تبدو نسخهم المدونة قريبة الشبه بالحكايات الشفهية …»

ولعل من أكبر العقبات، التي تواجه كل كاتب مغامر جديد يخوض غمار الحكاية الخرافية، جعل صوت الحكاية مباشرًا نابضًا بالحياة. تنتقل أنجيلا كارتر في كتابها «الغرفة الدموية» (١٩٧٩) إلى ضمير المتكلم؛ مما يخلق جوًّا شيقًا دراميًّا آسرًا: «خسرني أبي لصالح الوحش في لعبة ورق»، هي بداية إحدى معالجاتها لحكاية «الجميلة والوحش»، التي تظهر في مختارات الأخوين جريم، بالعنوان الجذاب المُلغِز «العندليب الوثَّاب المغرد». وفي حكاية أخرى للأخوين جريم — «فتاة الإوز عند الينبوع» — يتوقف السرد فجأة قرب نهاية الحكاية، ويقول الراوي: «الإشكالية هي أن جدتي التي حكتها لي بدأت تفقد ذاكرتها، ولم تَعُد تذكر بقية ما حدث.» هذه اللحظة الحميمية البليغة، قد تكون صادقة أو قد لا تكون كذلك، لكن على أي حال لم يفكر أيٌّ من المصادر — إذ وُجدت الحكاية مطبوعة لأول مرة باللغة النمساوية في سنة ١٨٣٣؛ وللمرة الثانية باللغة الألمانية الرسمية في سنة ١٨٤٠ — في طمس هذه اللمسة الصادقة ومحاولة إضافة خاتمة للحبكة الدرامية. وتنتهي بعض القصص بتدخل راوي القصة في السرد: تنتهي حكاية «هانسل وجريتل»، على سبيل المثال، بالكلام المسجوع الطريف الآتي:

الفأر جرى
والحكاية انتهت …
وإذا أفلحت في الإمساك به، فستصنع لنفسك قبعة ضخمة من الفراء.

هذه السطور عبارة عن وعد ونبوءة، كأنها تقول: الراوي موجود، ولن يستطيع أحد الإمساك بالحكاية، بل ستواصل الركض للأبد.

لقد بالغ المنشغلون بالحكاية الشعبية في التأكيد على الروح القومية، التي عبَّرت عنها القصص المكتوبة بلغات قومها، وكان نموذجهم القائم على التقابلات الحادة بين النقل بالكتابة والرواية الشفهية، وبين الشعبي والنخبوي، وبين الكُتَّاب المتعلمين والرواة الأميين؛ نموذجًا صارمًا ومبسَّطًا استُعيض عنه فيما بعد بمنهجيات أكثر مرونة. وظل التفاعل المستمر بين الرواية الشفهية والنص المكتوب قائمًا في تاريخ الأدب الخرافي، في حين ظل الأداء — من الخطب القديمة إلى ألعاب الفيديو الحديثة — دائمًا وسيلة لنقل هذه الحكايات من النصوص الجامدة إلى سرديات مرنة ومتغيرة بأشكال مختلفة. عندما يكون للحكاية الخرافية مؤلفون — مثل هانز كريستيان أندرسن، أو ليونورا كارنتون، أو ألان جارنر، أو مارجريت أتوود أو أنجيلا كارتر — وسواء أكانت من نتاج خيالهم أم من نتاج خيال راوٍ آخر، فكثيرًا ما يستحضرون أسلافهم، ويصورون أنفسهم مثل ثرثارين هَرِمين، بسطاء، مجهولين، وحلقات وصل أصيلة بعالم قديم كانت فيه الحكايات الخرافية أدبًا حيًّا يعرفه الجميع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥