على الأريكة: تدريب الهوية
في عام ١٩٧٦، نشر المحلل النفسي برونو بيتلهايم، الذي نجا في أثناء صباه من الاعتقال في معسكرَي النازية «داخاو» و«بوخنفالد»، دراسة بحثية مهمة حول الحكايات الخرافية بعنوان «استخدامات السحر». وظهرت الدراسة لأول مرة في مجلة «نيويوركر»، وحظيَت باحتفاء كبير لا تحظى به دراسات التحليل النفسي الأكاديمية عادةً، حتى في جزيرة مانهاتن، واتسمت مناقشاتها بقوتها في التعبير والإقناع. ولا تزال الدراسة تحتفظ بشهرتها الواسعة في مجال الحكاية الخرافية، رغم إثارتها للخلاف واشتمالها على أخطاء.
أصبحت الحكايات الخرافية، حين تصاغ بلغة علم النفس، رموزًا موحية عميقة؛ إذ لم تعد الغابة والقصر والثلج والزجاج والتفاح مجرد عناصر في حبكة خيالية، بل أصبحت إشارات إلى حقائق دفينة في أعماق النفس، وقد لقي هذا التفسير النفسي قبولًا واسعًا، كونه يتيح للقارئ مفاتيح لفهم المعاني الخفية، تمامًا كالمفتاح السحري القادر على فتح كل الأبواب المغلقة، بما في ذلك الأبواب التي تقود إلى الغرف المحظورة، والزوايا المظلمة في النفس البشرية بشكل عام، بل فضح أسرار أفراد بعينهم. فالحكايات الخرافية لا تقتصر على حبكات درامية تتكشف تدريجيًّا؛ بل تماثل الأحلام في غرابتها، قابلة للتأويل كما تحل الألغاز. وقد علقت الباحثة ماريا تاتر على ذلك فقالت:
لا تزال الحكايات الخرافية، بحسب البعض، من أكثر الحكايات التي ساهمت في تشكيل شخصية الأطفال، كما أنها تبث في وسائل الإعلام التي تستهدف الأطفال والبالغين على حدٍّ سواء … ويُعزى انتشارها وشهرتها المتواصلة إلى قدرتها على معالجة قضايا مجتمعية جوهرية، سواء عبر خطاب نقدي، أو محافظ، أو حتى تعزيزي وعلاجي. … وهي، في جوهرها، تمثل مجهودًا مشتركًا بين النساء والرجال، لوضع خرائط رمزية ترشد المرء إلى كيفية التعايش مع مخاوفه الشخصية وصراعاته العائلية وخرافاته الاجتماعية، فضلًا عن الإحباطات اليومية التي لا تنتهي.
في هذا الصدد، بثَّ شارل بيرو قيمًا أخلاقية في حكاياته، حتى يكون هدفها الأخلاقي واضحًا جليًّا، فنجده، يختم حكاية «ذات الرداء الأحمر» بتحذير مشوب بالدعابة، مفاده أن عصيان أوامر الأم يُفضي إلى الندم، وأن الذئاب — رغم مظهرها الناعم وكلماتها العذبة — لا تزال مفترسة، وأنها تستدرج الفتيات إلى غرف النوم لتفترس براءتهن. وقد لخص ذلك بقوله: «والشباب هم أشرس أنواع الذئاب على الإطلاق …»

كان المحلل النفسي بيتلهايم يحذو حذو سيجموند فرويد في استخدام الحكايات الخرافية كأدوات لفهم النفس البشرية؛ إذ بينما ركَّز فرويد — المؤسس لعلم النفس التحليلي — اهتمامه على الخرافات باعتبارها مفاتيح لفهم البنى العميقة للعقل اللاواعي، رأى في الحكايات الخرافية تجليات درامية للرغبات الكامنة، ومسرحًا لثنائية الحب والموت. لكن اهتمام فرويد بالحكايات الخرافية يبدو متناقضًا بعض الشيء؛ لأن الحكايات الخرافية نادرًا ما تُعنى برسم معالم الشخصية أو تحليل دوافعها، ولا تفسح المجال لولوج عوالمها الداخلية، بل تمضي الشخصيات فيها في أفعالها دون أن تسأل نفسها أو نسألها نحن عن دوافعها.
وفي هذا السياق، تقول الروائية أنطونيا سوزان بيات، التي أعادت صياغة حكايات الحوريات بالإضافة إلى القصص البطولية الاسكندنافية: «إن عالم الحكايات الخرافية زاخر بالطاقة السردية، لكنه يفتقر إلى شيء أساسي. إنه لا يحلل المشاعر.» ويذهب فيليب بولمان إلى أبعد من ذلك فيقول:
لا تنطوي الحكاية الخرافية على بُعدٍ نفسي. ولا تمتلك الشخصيات حياة داخلية تقريبًا؛ ودوافعها واضحة لا تستعصي على الفهم. إذا كانت الشخصية صالحة، فهي صالحة، وإذا كانت طالحة، فهي طالحة، دون مواربة … أما اختلاجات الوعي الإنساني وأسراره الغامضة، وهمسات الذاكرة، ووساوس الندم أو الشك أو الرغبة المفهومة جزئيًّا، التي تشكل جزءًا كبيرًا من موضوع الرواية الحديثة، فإنها تغيب عن المشهد تمامًا.
ويسع المرء أن يقول إن الشخصيات في الحكايات الخرافية تفتقر حقيقةً إلى الوعي بالذات.
لكن سرديات الحكايات الخرافية مِثل الأحلام، غير مترابطة ومليئة بالشطحات الخيالية، وتتجاهل المقدمات والنتائج المنطقية، وتعرض مشاهد جنسية وعنيفة شاذة، وتنتقل من حدث لآخر بشكل مفاجئ يفتقر إلى النظْم أو المنطق. وتحتوي السرديات على أحداث متكررة ورموز متواترة ذات أهمية. ومن وجهة نظر فرويد، تخفي الأحلام
ملمحًا سريًّا وعميقًا لهوية الفرد، يصعب تفسيره … لكنه في الواقع لا يمكن أن يكون خفيًّا؛ لأن الشخص هو نفسه دائمًا، سواء في حالة اليقظة أو الحلم.
وينطبق هذا القول على الحكايات الخرافية التي تعكس على مدى العصور العقل الجمعي للبشر. ويعتبر فرويد الحكايات الخرافية بقايا مبعوثة من المرحلة البدائية للبشرية، تستمر في الظهور خلال الطفولة المبكرة؛ وهذا ما يعرف بمبدأ أن تطور السلالات يتكرر في نمو الفرد من الطفولة إلى البلوغ. وتشترك الحكايات الخرافية، مع الأحلام، في اعتمادها على أفكارًا رئيسيةً دارجة تكشف عن مشاغل القلب ورغباته الدفينة وغير المُلاحَظة حتى الآن. ويضرب لنا فرويد مثلًا بحكاية أندرسون التحذيرية: «ملابس الإمبراطور الجديدة». فنهاية الحكاية، عندما يسير الإمبراطور في موكب عاريًا أمام البلدة بأكملها، تشبه حُلمًا شائعًا. ويكتب في عام ١٩١٣: «هذا المحتوى الإنساني هو ما يحوز على اهتمامنا»، وبعد مرور خمس سنوات، في تحليله الذائع الصيت ﻟ «الرجل الذئب» (١٩١٨)، يدرك أن مصدر هلع مريضه هو الحيوان المفترس في «الذئب والأطفال السبعة» و«ذات الرداء الأحمر».
كما يبحث فرويد — بشكل أكثر تفصيلًا — في إحدى الخصائص البارزة للحكايات الخرافية وأجوائها الشبيهة بالحلم. وأطلق عليها ذلك المصطلح الألماني «أونهايمليش» (ومعناه الحرفي الشيء غير العادي)، وسادت ترجمته في الإنجليزية ﺑ «الغريب». والحقيقة أن اللفظ الألماني أكثر دقة؛ إذ يعبِّر بشكل أفضل عن طريقة تحوُّل الطبيعة إلى شيء غريب في القصص، فتكون مثل المرآة التي تعكس العلاقات العائلية أو مقومات العيش الأساسية بشكل شاذ.
إطار رقم ٤: التنافس بين الأشقاء مقابل المحبة بين الأشقاء
في «موضوع الصناديق الثلاثة»، يُحلل سيجموند فرويد اختبار اللغز — الذي يختبره والد بورشيا للخُطَّاب الذين يتقدمون لطلب يد ابنته — في مسرحية «تاجر البندقية»، ويسلط الضوء على الأخت الصغرى، التي تُفضل الغير على نفسها، وتتعرض للاستغلال لفرط طيبتها، لكن تنال جزاءها موفورًا في النهاية. ويقول إنها تُمثل الموت، ثالث ثلاثة أوجه للأم، أو أكثر «الأقدار حتمية»، ثم يُفصِّل في موضوعه، من خلال الإحالة إلى حكاية «الإخوة الاثنا عشر» للأخوين جريم.
يُولد لملك وملكةٍ اثنا عشر ابنًا. يُقسِم الملك أنه إذا وُلدت له ابنة، فسيقتل أبناءه الاثنَي عشر. لذا، تخفي الملكة في أعماق غابة أبناءَها، الذين يقسمون على قتل أي فتاة يعثرون عليها.
في نفس الوقت، تكبر أختهم بنجمة ذهبية على جبينها، لا تعرف أي شيء عن وجود إخوة لها، حتى ترى أمها ذات مرَّة تُعلق اثني عشر قميصًا على حبل الغسيل. وعندما تسألها عن أصحاب القمصان، تُريها أمها التوابيت الاثنَي عشر المجهَّزة للأولاد.
هذه البطلة مثال آخر على البطلات الباسلات في الحكاية الخرافية؛ إذ تتحلى بالإيثار ودماثة الخلق. تُظهر البطلة استعدادها للموت من أجل إنقاذ إخوتها، وتنطلق للبحث عنهم وهي تحمل القمصان.
تأخذ القصة منعطفًا دراميًّا آخر، حين تعثر على إخوتها في أعماق الغابة، وتقطف بعض الزنابق لتهديها لهم، فيتحولون إلى غربان على الفور. ومن ثَمَّ، يقع على عاتقها إنقاذهم؛ شريطةَ أن تبقى صامتة. يجب ألا تتحدث لمدة سبع سنين.
وتلت الحادثة مِحنٌ صعبةٌ … تُتَّهَم (الفتاة) بأنها ساحرة، وتُقيَّد في عمود، وتُوقَد النيران … لكن تحضر الغربان وتنقذها في اللحظة الأخيرة.
في تفسير فرويد، يُمثل صمت الفتاة الموت، أو إلهة الموت. ويعلق: «مِثل هذا الإحلال لن يدهشنا كثيرًا، في علاقته بإلهة الموت؛ إذ في الترجمات والتمثيلات الحديثة — التي تستبقها هذه القصص بفترة طويلة — الموت ليس إلا رجلًا ميتًا.»
عندما كنت فتاة صغيرة، كانت هذه من ضمن حكاياتي المفضلة، ولم أرَ البطلة رمزًا للموت، بل برهانًا على قوة الحب الذي يُمكن أن يوجد بين الأشقاء، فلا يقتصر على العشاق فحسب.
ويبحث مقال «الغرابة» (١٩١٩)، في كائن البعبع المرعب، الذي يظهر في التراث الشعبي الألماني:
وهو (رجل الرمل) رجل شرير، يأتي للأطفال الذين يرفضون الخلود إلى النوم، فيُلقي بحفنة من الرمال في عيونهم، فيقفزون على إثرها من الفراش والدماء تسيل من رءوسهم. بعد ذلك، يضع عيونهم في كيس، ويحملها إلى الهلال، ليطعمها لأطفاله. يجلس أطفاله في العش، بمناقير معقوفة تشبه البوم، يستخدمونها لنقر أعين الفتيان والفتيات المشاغبين.
كان فرويد يقرأ «رجل الرمل»، وهي حكاية مرعبة (قوطية) عنيفة، كتبها إرنست هوفمان، وهو كاتب وملحن — يعاني من الاضطراب النفسي والرغبة في تدمير الذات — كان يستقي من التراث الشعبي المشهور، المخاوف والخرافات والقصص، ويؤلف منه أدبًا قصصيًّا خياليًّا أصيلًا. وحين كان فرويد يقرأ قصة هوفمان الأصلية، بعناية بالغة وتركيز شديد، أعطى درسًا مُحكمًا في التفسير الرمزي للحكايات الخرافية. فكما يحدث في الأحلام، تُكثِّف القصة المخاوف والرغبات المكبوتة، ومن أجل فكِّ شفرتها (تفسيرها)، لا بد من نقض التبديلات والإحلالات في القصة. ولا ينبع مفهوم الغرابة عند فرويد من الوحوش أو الساحرات المتربصة بالأبطال أو التهديدات الخيالية الأخرى، في الحكاية الخرافية، بل بشكل أساسي من قلق عميق من شيء مألوف أو «عادي»، يوقظ ذكرى مكبوتة لرغبة محرمة أو صدمة نفسية قديمة: بمعنًى آخر، «أمر كان لا بد من بقائه مخفيًّا لكنه خرج إلى النور». تبدو الغابة، المشرقة بأشعة الشمس الراقصة والزهور النضرة، عادية، لكنها تثير في النفس شعورًا غريبًا بالخوف، عندما تغوي الفتاة الصغيرة للانحراف عن طريق السلامة. ويعلِّق جاك زيبس أن عالم الحكاية الخرافية الثانوي غريبٌ بطبيعته لأنه «ينطوي على فصل القارئ / القارئة من إطاره / إطارها المألوف، ثم التوحد مع البطل المنفصل هو أيضًا، للبدء في رحلة البحث عن العادي الحقيقي.»
ومن بين الشخصيات الرمزية، التي يعتمد عليها فرويد في تحليله رجلَ الرمل، الذي يرمز إلى شخصية الأب المستبد، ويعكس نسله المخيف تهديدَ حصول طفل آخر، الأخ الشقيق، على قدر أكبر من المحبة؛ في حين يشير نقر عيون الفراخ الصغيرة إلى عملية الإخصاء، وما تنطوي عليه من رعب.
ويناقش فرويد أن الغرابة تتولد أيضًا عندما يعود الموتى إلى الحياة، أو يظهر على شيء ساكن بوادر الحياة بشكل مفاجئ — كأن يرقص هيكل عظمي أو تنهض دمية من مكانها وتسير نحوك وهي تغني، كما فعل الآلي أوليمبيا في قصة هوفمان — وتنشأ بالإحياء غير المتوقع، الذي هو سمة جوهرية للسحر، أو الباعث على الشعور بالرعدة الناجمة عن كثير من الرسومات والقصص أيضًا. لكن التفسير المبني على تحليل السلوك النفسي لا يَقْنَع بإيعاز تأثير أجزاء الجسم المفصولة — مثل الجماجم ورأس الفرس والإصبع المقطوعة — إلى الاستجابات البيولوجية البسيطة للتهديدات. بل إن فرويد يقول إن الرعدة النابعة عن الغرابة تنجم عن الرغبات الأوديبية والقلق من الإخصاء.
ويناقش فرويد مفاهيم مثل إيروس وثاناتوس، والتثبيت الفموي، والصراعات الأوديبية وآثارها مثل القلق من الإخصاء والتنافس بين الأشقاء وحسد العضو الذكري والكبت. لاحقًا تخضع كل هذه المفاهيم الفرويدية لمزيد من البحث، من بيتلهايم وآخرين.
وفي الحقيقة، لم يُكثِر فرويد من الكتابة عن الحكايات الخرافية، لكن يتجلى تأثيره في كتاب بيتلهايم الشهير، حين يُعلن صراحةً دفاعه عن الحكايات الخرافية كوسائل تعليمة وعاطفية وأخلاقية مفيدة، تساعد الطفل على أن يتغلب على مخاوفه والشعور بالذنب والارتباك في مرحلتَي الطفولة والمراهقة. يتجاهل بيتلهايم السياقات والتغيُّرات التاريخية، ومن بينها مرجعيته وافتراضاته، ويعامل حكاياته المختارة (حكايات الأخوين جريم بشكل أساسي) مثل كتاب حياة، مكتوب برموز مُشفَّرة، ويحكي حكاية كل رجل وامرأة وطفل.
انتهاكات السحر
اتَّخذ بيتلهايم ثلاث خطوات حاسمة؛ أولًا: أعلن أن الحكايات الخرافية تنشأ في منطقة اللاوعي، وتحوِّل الخبرات الإنسانية العالمية إلى رموز، لا سيما عند الانتقال من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، وتُقدِّم للبالغين وكذلك الأطفال دليلًا يفهمون به المشاعر المصاحبة لمرحلة النضج ومشكلاتها. وتتغلغل الرموز الجنسية في القصص، في قالَب يُعبِّر عن مراحل النضج، ويساعد في التكيُّف معها. ثانيًا: أكَّد على أن تحليل الحكايات كما لو كانت أحلام فرد، يُمكن أن يكشف المعنى الدفين المستور وراء السرد، والذي يُسلط الضوء على تطور الشخص من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، في إطار علاقته بأفراد عائلته ورغباته.
على سبيل المثال، يُعلِّق بيتلهايم على حكاية «ذات الرداء الأحمر»، فيقول:
يرمز اللون الأحمر إلى المشاعر العنيفة، خاصةً الرغبات الجنسية. ويُمكن تفسير الرداء المخملي الأحمر، الذي منحته الجدة لذات الرداء الأحمر، على أنه رمز للانتقال المبكر للجاذبية الجنسية، خاصة أن الجدة كانت عجوزًا ومريضة، وضعيفة جدًّا لدرجة أنها لا تستطيع فتح الباب … ويكمن الخطر، بالنسبة لذات الرداء الأحمر، في غريزتها الجنسية التي لا تزال في مهدها، وأنها لم تنضج عاطفيًّا بعْدُ لاستيعابها.
ويقول عن حذاء سندريلا أيضًا:
مهما كان شعور سندريلا بشأن تجولها بين الرماد، كانت تعلم أن الشخص، الذي يعيش على هذا النحو، يبدو للآخرين قذرًا فظًّا. وبعض الفتيات يراودهن نفس الشعور بشأن رغبتهن الجنسية، وتخشى أخريات من أن ينظر الذكور إليهن بنفس الطريقة. لهذا تأكدت سندريلا من أن يراها الأمير في تلك الحالة قبل أن يختارها طواعيةً. وعندما يعطيها الأمير الحذاء لتضعه في قدمها، فإنه يرمز إلى قَبوله لها على ما هي عليه، بوسخها وتدني قدرها.
الأمر الثالث والأهم، أكَّد بيتلهايم أن القسوة المخيفة والانتقام المتعطش للدماء في حكايات الأخوين جريم مفيدان للأطفال في نهاية المطاف. يُمكن أن يُدخِل الأطفال أنفسهم في حبكات القصص، فينفسوا عن مشاعر العدوانية والغضب، التي يشعرون بها تجاه آبائهم أو أشقائهم، ومن ثَم يمكن استخدام التعاويذ للتغلب على تحديات عقدة أوديب.
وتُعرَف نظرية التحليل النفسي التي طبَّقها بيتلهايم على حكايات الأخوين جريم — بشكل أحدث صدًى كبيرًا — ﺑ «الانقسام». تفترض نظرية فرويد، التي سمَّاها ﺑ «الرومانسية العائلية»، أن الأطفال يتخيَّلون في كثير من الأحيان أن آباءهم ليسوا بآبائهم في الحقيقة، وأنهم خطفوهم من عائلة أفضل شأنًا وأكثر رأفةً وثراءً ورفعة.
يرى بيتلهايم أن الحكايات الخرافية تعبر عن
توقُّع الطفل ورجائه أن يومًا ما، بالصدفة أو بالتخطيط، سيظهر أبوه الحقيقي، وسيرتقي إلى المرتبة العظيمة التي يستحقها ويعيش في سعادة إلى الأبد.
وهذه الخيالات مهمة لأنها تسمح للطفل بأن يشعر بالغضب حقًّا من … الأب المزيف دون أن يشعر بالذنب.
بصرف النظر عن افتراضات بيتلهايم الشمولية حول المجتمع والعائلة والعلاقات بين الإناث والذكور، أدَّى تسامحه مع القسوة، بل ولعه بها، إلى أن تعرَّض كتابه للهجوم.
ويزعم نقَّاده أن العذابات التي ذاقها في «داخاو» و«بوخنفالد»، جعلته مولعًا بالقسوة. وأضافوا أن مهنته كطبيب تضمَّنت معاملته لمرضاه بقسوة، وأن آراءه حول أهمية العنف في التصور الخيالي ضربت بالظروف الاجتماعية عرض الحائط. على سبيل المثال، توجد زوجات أب في الواقع، وليس من المفيد في شيء — لا لهن ولا لأطفال أزواجهن — أن تتغلغل رموزهن الشريرة في الأفلام والكتب الخرافية، بل تُعتبر أداة طبيعية ومفيدة لنضج الأطفال.
إن دراسة «استخدامات السحر» طويلة وثريَّة ومفصَّلة، لا يوفيها هذا الموجز حقَّها. ساهمت أفكار الدراسة نفسها في تشكيل الإطار الاجتماعي الذي تنتشر فيه حاليًّا الحكايات الخرافية، مما يؤثر في قرارات القائمين على صناعة الترفيه وأسواق الناشرين، ويجعل الحكايات الخرافية قنوات المعرفة الأساسية للصغار والمراهقين وآبائهم (أطلقت أنجيلا كارتر على هذه المنهجية مصطلحًا لاذعًا وهو «التدريب المنزلي للهُوَ»). ولقد استفدتُ — مثلما استفاد كثير من القراء والطلاب — استفادةً جمَّةً من بيتلهايم مع أنه يثير غضبي أنا وغيري من عشاق الحكايات الخرافية، لا سيما النسويات اللاتي يعارضن افتراضات التحليل السلوكي بشأن الطبيعة الأنثوية والقدر والهوية الجنسية. تختم كارتر في تحدٍّ حكايتها «في صحبة الذئاب» — التي تردُّ فيها على حكاية «ذات الرداء الأحمر» — بفتاة صغيرة تستلقي بجوار الذئب بسعادة: «انظروا إليها! تنام في فراش الجدة نومًا عميقًا هانئًا في أحضان الذئب الرقيق.» وابتكر الفنَّان الأمريكي كيكي سميث، تمثالًا ساحرًا غريبًا اسمه «الابنة»، يُجسِّد طفل ذئب حالمًا مُشعرَ الوجه، ذرية ذات الرداء الأحمر والذئب.
في الحقيقة، يتداخل التحليل النفسي والحكايات الخرافية تداخلًا عميقًا، ولا يزال يُعتمد على القصص في فهم النفس البشرية، بصرف النظر عن السياقات التاريخية والاجتماعية. في هذا الصدد، انحرف كارل يونج، مساعد فرويد السابق المقرَّب، لينشئ مدرسته الخاصة في التحليل النفسي، التي تنظر إلى الحكايات الخرافية على أنها تعبير عن العقل اللاوعي الإنساني الجمعي. ولقد ازدادت شعبية نظرياته بشأن النماذج التي نجدها في القصص — العذراء والشمطاء والشباب الدائم وغيرها — وشكَّلت ثقتنا بالحكايات الخرافية كونها تحتوي على حكم رمزية حول كيفية النضج والتنقل بأمان عبر مراحل الحياة وما يصاحبها من محن واختيارات. ولا يزال سائدًا اعتقاد أن القصص لديها القدرة على ضرب المَثَل وتشكيل الشخصية، لا سيما نوع الجنس، لإرشاد المواطنين لما فيه صلاح المجتمع، وغرس القيم والأيديولوجيات بداخلهم. ولو سلَّمنا (كما أفعل أنا) بأن الحكايات الخرافية هي توثيق «حقيقي» للماضي إلى حدٍّ ما، فلا فائدة من معرفة أي شيء عن زراعة الغابة السوداء أو ترتيبات الزواج في العصور الوسطى، حتى نشعر بالصِّلة مع الحكايات. في الحقيقة، تؤثر المحن التي يواجهها الأبطال في الحكايات الخرافية في أعماق النفس، حتى مع استبعاد وقوع حوادث التجويع أو الإكراه على الزواج أو هجر الأطفال في مشفًى للقطاء حاليًّا (رغم علمي بوجود حوادث مشابهة كثيرة في العصر الحاضر).
تربية رَجُل
يُظهِر كثير من التفكير النقدي، بداية من «استخدامات السحر» وحتى التأملات النفسية للمحلِّلة اليونجية، ماري لويز فون فرانز، أن الاهتمام بحكايات الإناث يفوق الاهتمام بحكايات الأبطال الذكور الخرافية. كما أن جميع الحكايات الخرافية المفضَّلة والمشهورة، في عصرنا الحاضر، هي قصص فتيات: أي قصص رومانسية وليس «دموية»، كما كانت تُعرَف قصص المغامرات للفتيان بين بائعي الكتب. وفي حين أن الآراء حول الأنوثة والأنثوية تعرَّضت لكثير من المراجعة، لم يُنظر في الافتراضات المتعلقة بالذكورة بنفس القدر من الجرأة — هناك تردُّد في معالجة المسألة، وانسحاب عام من التفكير في الفتيان والحكايات الخرافية، وقد يكون ذلك لأن النقاش سيُفضي إلى أسئلة أكثر تعقيدًا حول توقعات المجتمع من الشباب، التي لا تزال تشكِّل تحديًا كبيرًا أمام محاولات نقدها.
على سبيل المثال، تحكي «الفتى الذي أراد أن يتعلم كيف يرتعد»، حكاية تربية رجل، كما تسلط الضوء على مدى تعقيد مشكلة الذكورة والذكورية في الحكاية الخرافية. ولقد تُرجم عنوان الحكاية الأصلي بطرق مختلفة، أشهرها هو «الفتى الذي خرج في رحلة كي يتعلم الخوف»، لكن مِثل هذه الترجمة تفشل في التعبير عن الجانب الفكاهي الملموس لاكتشافه النهائي، وبهذا يكون للقصة معنيان، أحدهما ظاهري والآخر باطني. وفي الحقيقة، تعكس القصة انتقال فتًى من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، وتشبه في ذلك حكاية «ذات الرداء الأحمر» للفتيات، لكنها مختلفة في صميمها تمامًا؛ إذ يُصوِّر الفتيان الاختلاف بين الجنسَين بوضوحٍ شديد في الحكايات الخرافية. ويهزم البطل، الذي يكون ساذجًا أو أحمقَ في كثير من الأحيان، أبرعَ الخصوم وأقوى الأعداء، فيفوز بالمال والسلطة والأميرة، دون استحقاق أو جهد؛ لذا يُصنف كثير من الحكايات الخرافية للفتيان بالفانتازيا المُعزيَّة عن الواقع المُر.
وتبدأ حكاية «الفتى الذي …» بالحديث عن بطل لا يشعر بالخوف مطلقًا. ويمرُّ بعدد من الاختبارات الوحشية والمرعبة دون أن يقع له ضرر أو ينكص فزعًا، مثل الرجال المشنوقين في المشانق والقلعة المسكونة ولعبة الجماجم والعظام. ولا يصيبه شيء من ذلك بالذعر. ويظل على ذلك الحال، حتى تقوم الأميرة — التي فاز بها ببسالته — بسكبِ وعاء من سمك المنوة الصغير عليه وهو في فراشه: «أخذَ السمك الصغير يتلوَّى فوق كل موضع في جسده. فاستيقظ جفلًا صائحًا: «أوه، لقد اقشعرَّ جسدي. لقد اقشعرَّ جسدي يا زوجتي العزيزة!»
هكذا يتعلم الشاب الخوف، في فراشه مع زوجته لا في قتال مع غول. هذه سخرية ذكورية تقليدية (يشوبها مزاح فظ)، تعكس أن معنى الحكاية، يتوقف على تفسير الجمهور.
عندما اعتبر الرايخ الثالث (ألمانيا النازية) حكايات الأخوين جريم إرثًا قوميًّا، أصبحت هذه الحكاية القوطية الكوميدية دليلًا إرشاديًّا لكيفية اكتساب الصلابة؛ وأدرَجَت النازية قصصها المفضلة في المناهج المدرسية، وشجَّعت على تحويلها إلى أفلام. ونجم عن ذلك ما لا يقل عن ٢٣ فيلمًا تمثيليًّا، يحتوي على مشاهد مرعبة مخيفة: على سبيل المثال، ينقذ ضابط إس إس (فرقة النخبة)، ذات الرداء الأحمر من ذئب كاريكاتوري معادٍ للسامية. في المقابل، في فترة اجتثاث النازية، حُظِرَت حكايات الأخوين من المدارس والمكتبات؛ إذ كانت جزءًا من الآلة الدعائية لتشكيل الفاشيين، فاعتبرها الحلفاء ملوَّثة ولا أمل في تطهيرها.
تتسم غالبية حكايات الأخوين جريم بأن بطلها شاب. وهذا الشاب يهزم الغيلان، ويغلب أصحاب العمل البخلاء، ويفوز بالأميرة المتعالية بجرأته وذكائه وحيلته. لكنه ليس ترمينيتور (آلة قتل لا تُقهر). وفي كثير من الأحيان، ينجح بلا سبب — يبدأ البطل، كما في «الفتى الذي …»، فتًى كسولًا عديم المسئولية. كان الكُتاب الفيكتوريون والإدوارديون، يركنون إلى المبالغة في الكوميديا التي تكون غريبةً في بعض الأحيان، مما يضفي لمسةً من التمني الساذَج على القصة، كالتي يسحق فيها خياط سبعَ ذبابات بضربة واحدة. وفي حين تتجاهل الحكاية الخرافية فضيلة الصبر بشكل عام، تولي اهتمامًا للمضطهدين والذين يتعرضون لسوء المعاملة، وتنبع تعزيتها من تصاريف القدر بشكل أساسي. يواجه الجميع الصعاب نفسها تقريبًا، ويُمكن أن يتغير كل شيء، فجأة، بلا داعٍ أو منطق. وتُعَد سمة القهر المصاحبة للقدر، وعجز البشر في مواجهته، من بين الرسائل اللاذعة التي تنقلها الحكاية الخرافية، وتستعصي على الأدوات التفسيرية، للتحليل النفسي أو غيره، الكشف عن غموضها.
ولا تزال مشكلة البطل مثارًا للخلاف؛ ففي عام ١٩٩٠، تناول الشاعر الأمريكي روبرت بلاي المسألة بجرأة، وأحدث ضجة كبيرة بكتابه «جون الحديدي: كتابٌ عن الرجال»، الذي يطرح فيه منظورًا جديدًا للذكورة. ووقع اختياره على حكاية غير مشهورة للأخوين، «هانز الحديدي» أو «جون الحديدي»، التي تحكي عن مواجهة غامضة بين شاب وعملاق أشعث يعيش في أعماق حوض غابة يخبئ فيها ثرواته التي لا حصر لها. يقرأ بلاي الحكاية قراءة رمزية (مجازية) تؤكد على ضرورة التحلي بالفضائل الذكورية (الشجاعة والحِلم والرفقة)، واستعانة الشباب بالناصحين الأكبر سنًّا. وازدهرت حركة الذكورية في أمريكا بعض الوقت، واتخذت جون الحديدي قدوةً لها. وبينما تلقى الكثيرون هذه المحاولة بالتهكم والسخرية، انضم إليها آخرون: ابتكر آرثر فرانك، من خلال استحضاره للعلاقات الذكورية من الخرافات والحكايات الخرافية، نموذجًا مثاليًّا للترابط والرفقة الذكورية قائمًا على الرأفة والدعم المتبادل؛ وعلى نفس المنوال، يعتمد المعالج اليونجي كريج ستيفنسون، في دراسة رائعة عن الجنون، على نموذج آخر من الأبطال من الخرافات والحكايات الشعبية مثل سويني المتحوِّل المسحور أو الأنا الثانية لشيموس هيني من التراث السلتي. يعرف كلا الكاتبين جيدًا إعجاب الذكور بالعنف والتشجيع عليه في المجال العام، وكانا يكافحان — برجولة، إن جاز التعبير — لتعزيز أشكال أخرى من الذكورية تكون أكثر ودًّا وجاذبية، من الأمراء التقليدين وقتلة العمالقة والكسالى. وفي «القراءة من منظور الفتيان»، وهي دراسة في غاية الإبداع والجرأة لمؤرخة الفن كارول ميفور، يُسلَّط الضوء على الجانب الرقيق الحسَّاس للشاب المراهق، بل يُعاد تقييم شخصية «المخنث» التي ينظر إليها الكثيرون نظرة ازدراء. ترى ميفور أن الحكايات الخرافية للفتيان، مع غيرها من المنتجات الثقافية، تساهم حقيقةً في تنشئة الفتيان على الرجولة من خلال اكتساب الصلابة؛ كما أنها بنفس الطريقة النظرية تشجع الفتيات على التحلي بالفضائل الأنثوية.
تتسم لغة الرموز بأنها أكثر تقلبًا وتعسفًا من اللغة التي يستخدمها الأشخاص في حياتهم اليومية، كما أن معاني كلماتها ومصطلحاتها سيَّالة تتغير بصفة مستمرة. ومع أن التحليل النفسي لفرويد يفترض أن القصص ذات معنًى عالمي، فإن غالبية المحاولات لفك شفرتها (التفسير) تظل غير موضوعية؛ ومن ثَمَّ تتأثر بشبكة من الظروف (الشخصية والاجتماعية)، التي هي متناقضة ومتعددة مثل أصحابها، بالإضافة إلى تباينها فيما بينها. ولعلَّ من طرق معالجة إشكالية الفتيان والحكايات الخرافية النظرَ إلى سياق الحكاية الخاص — وحتى التحليل النفسي صيغت مفاتيحه التفسيرية تبعًا للفرضيات المتعلقة بنوع الجنس والقيمة، وهي الآن تخضع لإعادة صياغة تماشيًا مع الظروف المتغيرة. وهناك طريقة محورية أخرى وهي النظر إلى تاريخ اختيار القصص. أي مختارات قصصية ستحتوي على قصص مغمورة، ستُعطي تصورًا مختلفًا للذكورة، مثلما تكشف عن بطلات باسلات ذكيات محتالات. لكن، على مدار تاريخ الأعمال الثقافية الطويل، لا تزال الشخصيات الشجاعة الملكية العاشقة لا تحظى بالقدر الكافي من الأهمية.
تنال القراءات النفسية شعبيةً كبيرة مقارنةً بالتحليلات الاجتماعية التاريخية، كما أنها قد تسببت في ظهور أدب ثانوي ضخم للعلاج النفسي، وكتب للمساعدة الذاتية وأدلة إرشادية، وصناعة النمو الشخصي، والنقد الأدبي الأكاديمي. وأي واحد منَّا يستطيع ذكر عناوين كُتب — حقَّقت أعلى مبيعات — تحلِّل الحكايات الخرافية تحليلًا نفسيًّا، مثل «نساء تركضن مع الذئاب» لعالمة النفس والكاتبة، كلاريسا بنكولا إستيس، الذي حقق نجاحًا ساحقًا عند إصداره في عام ١٩٩٢، ويعتبر الحكايات الخرافية إكسيرًا فعَّالًا لإعادة التواصل مع الذات الأنثوية.
تشكل القصص سببًا في استثارة المشاعر وإلهابها، كما أنها سبب في الإلهام والوعي والتسلية. نحن من يحدِّد القصص الصالحة للنقل، والمعاني التي سنستخلصها منها، والوسيلة المناسبة لروايتها. فلا يتفق الجميع مع ذات الرداء الأحمر عندما تُحدِّث نفسها قائلةً: «لن تنحرفي عن الطريق وتتجولي في الغابة بمفردكِ مرةً أخرى، طيلة حياتك؛ إذ حذرتْكِ أمكِ ألا تفعلي ذلك.»
أدت النساء دورًا جوهريًّا في تحدي السرديات التقليدية. فأمسكَت بالحكايات الخرافية وهزتها هزًّا عنيفًا، حتى لفظَتْ ما بها من أفكار مغلوطة ورحَّبت بالتفسيرات الجديدة.