الفصل الثامن

الرؤية المزدوجة: حُلم العقلانية

… إن أكثر الأفكار القائمة على التمني خصوصيةً وجهالةً لهي أفضل من الانصياع الأحمق؛ إذ يستطيع التفكير القائم على التمني أن يوقظ وعيًا ثوريًّا، ويمكنه أن يدخل … التاريخ دون أن يتخلى بالضرورة، في هذا المسار، عن المحتوى الشائق للأحلام.

إرنست بلوخ

لقد ساهم تقليد الحكاية الخرافية، باسم العقلانية وفي سبيلها، في ظهور أعمال فكرية بلغَت الغاية في إبداعها. وانشغل الكتَّاب غاية الانشغال بموضوعات الحكاية الخرافية الموضوعية وأفكارها الرئيسية، لنقل فِكرهم السياسي والفلسفي، الذي يأتي في بعض الأحيان وَفق شروط الرقابة، وفي بعض الآخر على هوى جمهورهم بهدف تسليته؛ ومن ثَمَّ إقناعه بشكلٍ أكثر فاعلية. وعلى الرغم من التعارض الظاهر، استعارت أساليب الهجاء والكوميديا والجدل والنقد الجنسي سمات الحكاية الخرافية لإخفاء أهدافها العميقة؛ فازدهر أدب السحر منذ القرن الثامن عشر، جنبًا إلى جنب مع الأنماط المحاكية والواقعية، كمرآة مميزة وواضحة للأعراف والآداب.

لم تُستعمَل السمات العامة للحكاية الخرافية من باب الجدية، وإنما من باب الهزل والتقليد الساخر. تَسْخر قصص كثيرة عن قصد من تقاليد هذا الفن؛ وتبنَّى الكُتَّاب ذلك الشكل الفني، بأسلوب مازح بارع، على الرغم من أهمية الرسائل التي تحملها قصصهم. ومن خلال العمل على ذلك المستوى المزدوج الهزلي من اللغة، تدعو الحكاية الخرافية البالغين إلى التفاعل معها عن وعي، فتأتي استجابتهم متعارضة مع المتعة التي يُحصِّلها الأطفال من المادة نفسها. والنتيجة هي سحب السجَّادة من تحت القصة الخيالية، فتظل مُمتعة لكنها لا تعود قابلةً للتصديق. وبواسطة هذه المناورة المتكررة غير المتوقعة، تصبح الحكاية الخرافية أداة العقلانية الرئيسية. في الحكاية الخرافية لأنجيلا كارتر، تنظِّف أليس أنثى الذئب الوحش النتن، وتزيل عنه الوسخ بلسانها مثل القطة:

أضاء السَّنا المرآة المستندة إلى الحائط الأحمر؛ وبحياديةٍ تامةٍ أظهرت المرآة، المهيمنة على العالم المنظور، الفتاة التي تدندن.

ولم يكن للدوق انعكاس على المرآة مثل مصَّاص الدماء. لكن، من خلال الاستعارات المرحة والتلاعب بالألفاظ في الحكاية الخرافية، ستقدر الفتاة والوحش على رؤية انعكاسهما في المرآة عندما يصبح أحدهما مرئيًّا للآخر:

وإذ واصلت [الفتاة] جهودها الحثيثة، أذعنت هذه المرآة ببطء شديد، للقوة الانعكاسية لتكوين مادتها. ورويدًا رويدًا بدأت الصورة تظهر على سطحها، مثلما تظهر على ورق طباعة الصور، أولًا، كشبكةٍ لا شكل لها من الخيوط المتداخلة والفريسة واقعة في قبضتها، وثانيًا، كإطار ثابت لكن معتم، وثالثًا، كوجه الدوق الذي كان واضحًا وضوح الحياة نفسها، كأنه خرج إلى الوجود بواسطة لسانها الناعم الرطب الرقيق.

يتجسَّد العريس الوحش بحركات لسان البطلة، الذي هو لسان الكاتبة أيضًا، ولغتها التي تجعل أحداث القصة الخرافية مرئية. وهكذا تعمل الحكاية الخرافية عمل مرآة منطقية، ويجلب انعكاسها الحيادي («الواضح وضوح الحياة نفسها») العالم الثانوي إلى الأرض فيبث تجلياته عن إمكانات وجودنا.

الإلمام بالحكايات الخرافية التقليدية: الحكايات المضادة والمحاكاة الساخرة

قد يكون من السهل تصوُّر أن الأساليب الساخرة للروائيين العقلانيين قد ظهرت بمرور الوقت، نتيجةً لإلمامهم بموضوع الحكاية الخرافية الأصلية، وأنها تسلط الضوء على التشكك العقلاني المعاصر، والوعي المفرط، وحتى الكلبية أو كراهية البشر. ولا شك أن إعادة التصور المعاصر للحكايات الخرافية يفترض إلمامًا بالمصادر، كما تفعل كارتر، ويُشعِل من جديد جذوةَ القصص القديمة. وعلى هذا المنوال، تكون الرموز الحديثة أو المعاصرة لهذا الفن، «ما وراء الأدب الروائي»، وتنصهر في كثير من الأحيان في تعريفات أدب ما بعد الحداثة. فهي تقتبس وتسْخَر وتُقلِّد وتتنكر بالأقنعة المسحورة؛ على سبيل المثال، تصبح الشقيقة القبيحة بطلةً في حكاية «الأميرة الكبرى» (١٩٩٨) لأنطونيا سوزان بيات، وفي «الثلج والمرآة والتفاح»، وهي حكاية في غاية القسوة لنيل جايمان، تشرب مصَّاصة الدماء الطفلة، بياض الثلج، دماء الملكة الشريرة. لكن من الخطأ اعتبار ذلك شكلًا معاصرًا من أشكال التحوُّل. فكلما يعود المرء في الماضي سيرى أن السخرية من النفس والحكاية الخرافية متداخلان بشكل كبير. يُخفِّف أبوليوس نبرته الرومانسية في «كيوبيد وسايكي» تماشيًا مع روح أحد مصادره، «الحمار»، وهي حكاية رمزية بذيئة كتبها لوقيان السميساطي. كذلك كتب لوقيان «التاريخ الحقيقي»، وهي قصة مُبتكرة في غاية الكوميديا، تنظر بفِطنة منقطعة النظير في الطبيعة الفعَّالة للأدب؛ وهذا في القرن الثاني قبل الميلاد. يستوعب شكسبير وهو يردُّ على أبوليوس ازدواجية الرؤية الخرافية، عندما تصبح تيتانيا والعشاق غارقين في الأحلام، لكنهم يستيقظون لرؤية المنطق. وهكذا يمنحنا شكسبير مُتعة الدخول في السحر، وراحة الرجوع إلى أرض الإحباط العقلانية — لكن ليس تمامًا. يُصدر شكسبير بيانًا رسميًّا، للانتصار للوهم الذي تخلقه الحكاية الخرافية، عندما تنهض شخصية هيبوليتا للدفاع عن الخيال:

ولكن قصة ما حدث أثناء الليل بتفاصيلها الدقيقة
والتحول الذي أصاب الجميع في نفس الوقت
يشهد بأنه ليس صورًا من نسج الخيال،
بل يُشكل رواية متسقة لأحداث وقعت
مهما كانت عجيبة وغريبة!
(حلم ليلة صيف، الفصل الخامس: ٢٣) [ترجمة دكتور محمد عناني]

ولقد قسَّم الناقد الأدبي تزفيتان تودوروف الفانتازيا بشكل بارع إلى ثلاثة أقسام، وهي: القصة الخارقة للطبيعة، التي تستخدم التدخل الإلهي لتفسير العجائب (الأساطير بشكل عام)؛ والقصة العلمية التي تطرح أحداثًا مدهشة غير مُفسَّرة، ثم تستعين بها في تفسير وتعليل غموضها (قصص الخيال العلمي مثل أعمال الشاعر والكاتب الفرنسي جول فيرن، والكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز، والكاتبة الأمريكية أورسولا لي جوين)؛ والقصة الخيالية، أكثر طرق التعبير قربًا من القارئ، التي يُعرِّفها تودوروف بالأرض المثيرة للخلاف، أو شكل من أشكال الغرابة الفرويدية. والفانتازيا الغريبة المُبهمة، فهي تترك الأسباب بلا إيضاح، وتجعل القارئ في حَيرة من أمره (وحكاية هنري جيمس «دوران المسمار» إنجاز كبير في ذلك المضمار). يُمكن وضع الحكايات الخرافية، في تحولاتها الحديثة، في هذا التفسير للغرابة، مما يفتح الباب أمام إمكانات هائلة لتحقيق الواقعية السحرية بكل أبعادها. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فلا تأخذ هذه الأقسام الثلاثة في الحسبان أن الحكاية الخرافية متوازنة، لا بين معرفة أسباب العجائب والتعويذات السحرية وعدم معرفتها، وإنما بين قبولها (كما يفعل القارئ الصغير المثالي) وبين رفضها (كما يُتوقَّع من القارئ البالغ). تدعو الحكاية الخرافية البالغين لتبني موقف الأطفال؛ فلا تتحدانا دائمًا فيما نريد تصديقه، بل تدعونا للعودة إلى حالة خيالية تنطوي على الثقة بالأدب الروائي، مما يمدُّ القارئ البالغ بمتعة خاصة. وهكذا، تقبع الازدواجية في الحكاية نفسها جزئيًّا، وفي أنفسنا — كقرَّاء — بشكل أساسي.

وفي المقابل، يُركز كريس وارنيس، في دراسته الرائعة «الواقعية السحرية والرواية ما بعد الإمبريالية» (٢٠٠٩)، على التعارض بين الإيمان وعدم الإيمان. ويشير إلى أن كتَّاب الحكايات الخيالية من أمثال الأديب الجواتيمالي ميجيل أنخيل أستورياس، والكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، والتشيلية إيزابيل إليندي استعانوا بمعتقدات السكان الأصليين الحيوية، وحاولوا التواصل من خلالها مع الجماعة القومية بماضيها الأسطوري المميز في أمريكا اللاتينية. ويقارن وارنيس، بأسلوب غاية في الإقناع، بين هذا الاستخدام للعناصر السحرية، والنهج العقلاني، الذي يستبعد العناصر الأسطورية، والذي استعان به الكتاب العقلانيون التجريبيون من أمثال الأدباء روبرت كوفر، وسلمان رشدي، وأنجيلا كارتر، وألي سميث، وفرَّغوا أنظمة الاعتقاد من السحر، بمختلف أساليب السخرية والهجاء والمحاكاة الساخرة. وبشكل عام، لا ينسف كتَّاب الأمريكية اللاتينية نسيج السحر الذي يبتكرونه، في حين يتباهى كتاب الأمريكية الشمالية وأوروبا بمنهجيتهم المتشككة (أي تعاليهم على نفس الأعراف التي يستخدموها).

وجميع الروايات الواقعية السحرية، سواء كانت تصدِّق السحر أم تشكك في وجوده، تغوص في أنهار الحكاية الخرافية بحثًا عن مادتها: على سبيل المثال، يتناول رشدي في روايته الرائعة للأطفال، «هارون وبحر القصص»، موقفه الصعب، كمؤلف واقع تحت تهديد الرقابة الأدبية والموت، ويحوله إلى مغامرة سعي كلاسيكية على غرار «ألف ليلة وليلة»، حيث ينطلق البطل، الطفل هارون، في رحلة نبيلة لحفظ مناهل القصة من الدنس. وإذا نظرنا إلى الواقعية السحرية، على أنها توجه أدبي لا تطور للرواية نفسها مقيَّد بالزمان، فسنجد أن المؤلفين مثل سويفت وفولتير وكافكا قد استعاروا أعراف الحكاية الخرافية في أثناء ابتكارهم للأدب الروائي: العوالم الأخرى، والحيوانات الناطقة، والوحوش، والتحولات الجسدية، وتطورات الحبكة المليئة بالمبالغة والبعيدة عن الواقع، والتعارض الصارخ بين الخير والشر. في هذا الصدد، كتب فولتير «حكايات فلسفية»، وهي محاكاة ساخرة للسردية الشرقية. لكنه كان مأسورًا بكل ما هو مدهش، واستعان بالأدب العجائبي — من التقاليد الخرافية إلى حكايات الرحالة — في هجماته الجارحة على الأعراف والسلوكيات الخاطئة في عصره: تتشابه شخصياته الشريرة (مثل اليسوعيين) مع السحرة الأشرار، وطغاته ومستبديه مع الغيلان. هذه الأصول غير المنطقية الدينية وروائع الخيال، كان فولتير ينتقدها عند طلب الإيمان بها إيمانًا أعمى، ومع ذلك ساهمتْ في إثراء فلسفته المعارضة للقيم السائدة في المجتمع.

وقد زوَّد التراث الشعبي لأوروبا الوسطى والشرق الأدنى والتراث اليهودي وغيره، كافكا بالكثير من المواد الخام، فعمَّق رسائل حكاياته الرمزية الغامضة، عَبْر تحريف وعود الحكاية الخرافية: على سبيل المثال، تقرب نهاية حكايته القصيرة الشهيرة «التحوُّل» من نهاية الحكايات الخرافية السعيدة المليئة بالأمل، لكن على حساب جريجور سامسا، الذي كنسته الخادمة، حشرة ميتة، من على الأرض. كما قال كافكا: «يوجد أمل لكن ليس لأمثالنا.» وتستمد حكاياته، التي لا ينضب مَعينها، وقعها القوي من التفاعل مع معايير الحكاية الخرافية ثم خرقها. في هذه الحالة، وبطريقة تلمس القارئ، لا تُقدِّم القصة سببًا نفسيًّا أو علميًّا أو خارقًا لتغيير جريجور، بل تترك القارئ في حَيرة من أمره. ومع ذلك لا تتعامل القصة مع هذا الوضع على أنه غريب، وإنما كواقع مُسلَّم به، خلافًا لكل قوانين الممكن. تعلَّم كافكا الإيجاز الواقعي من حكمة الأمثال، وحس الفكاهة الحزين من تراث أوروبا الوسطى، والغموض القاسي من الأخوين جريم، وتنبض حكاياته بجوٍّ شبيه من الجبرية الساخرة الكئيبة، كما في «حكاية رمزية قصيرة» (تلتهم القطة الفأر) أو في «أغنية السيرانات» (لا يوجد أي غناء)، أو في الحكاية البربرية «بنات آوى والعرب»، التي تصف صراعًا داخليًّا أبديًّا في الصحراء. وهي عبارة عن موعظة دينية شخصياتها من الحيوانات، وفيها تتفاعل شخصية نقيض البطل الحيوانية مع البشر وحماقتهم. ولا تنجز الخاتمة وعد العفو، خائنة بذلك ثقة القارئ عن عمدٍ مرة أخرى:

قال: «أنتَ محق يا سيدي، سنتركهم وشأنهم؛ إلى جانب أنه حان وقت الرحيل. حسنًا، لقد رأيتَهم. مخلوقات رائعة، أليس كذلك؟ كما أنهم يكرهوننا!»

ولا يفسح كافكا المجال لحدوث الثأر أو الانتقام، ولذا نجد أنفسنا عالقين في عقدة الحكاية ومشاهد الكراهية والمجازر. وهكذا، أخذ كافكا الحكاية الرمزية لما هو أبعد من الغابة المسحورة، وأحالها إلى موعظة دينية وجودية ميتافيزيقية: علق بنجامين أن كافكا كتب «حكايات خرافية للمتمرسين في الجدل.»

يُحدد كافكا منهجية التعامل مع الأساطير والمواعظ الدينية والحكاية العجائبية، التي أثَّرت في الأجيال اللاحقة من الكتَّاب، الذين واصلوا تأليف حكايات خرافية جدلية. وفيما يتعلق بشروط الرقابة الأدبية، على سبيل المثال، لجأ الكتَّاب إلى الرواية الشعبية كتمويه للإفلات من الرقابة؛ تفتح الحكايات الخرافية بابًا أمام الحكايات السياسية، حيث يمكن الإطاحة بالطغاة والغيلان، وإرساء العدالة من جديد، وتحقيق المساواة. وألَّف الكتَّاب الروَّاد حكايات خرافية مثالية مُخلصة عبثية حيوية، بهدف تشكيل المواطنين الصغار — الذين يشبهون العجينة اللينة — للوصول إلى طبيعة بشرية جديدة أو للهجوم على الوضع الحالي. كان كارل تشابيك وأخوه جوزيف هما مَن صكا مصطلح «الروبوت» في عام ١٩٢٢، في هجائهما الكوميدي الأسود لمصير العمال في المصانع، في مسرحية «روبوتات روسوم العالمية». في أحلك أيام الركود الاقتصادي، عندما تحطمت آمال الاشتراكيين الأوائل، وجد المتمردون في الحكايات الخالية وسيلةً للتعبير عن آرائهم؛ وكانت تُفلح في بعض الأحيان في الإفلات من مقص الرقابة.

الحالمون المستحيلون: تجنُّب الجحيم

وفي تعليق فطِن، للباحثة جيسيكا تيفين، تقول إن الحكاية الخرافية، بوصفها فنًّا من الفنون الأدبية، تحمل في طياتها تعارضًا واضحًا بين الامتثال للأعراف والتمرد عليها:

إن المضامين الأيديولوجية لهذه الشهرة المستمرة (في وسائل الإعلام) معقدة ومُعضِلة في بعض الأحيان، بالنظر إلى مظهر الحكاية الخرافية المتماسك بشكل غريب، وإلى قدرتها على إضفاء بريق مثالي ومُرضٍ جدًّا لافتراضات، حول المجتمع والسلطة والجنس، تكون رجعية في كثير من الأحيان.

وحقيقةً، أن يترك النمط المحافظ للحكاية الخرافية أثره حتى في المعارضين، لهو أمر لافت للنظر. لكن اثنين من أعظم الروَّاد المعاصرين للحكاية الخرافية العقلانية، كالفينو وكارتر، قد صرَّحا بانتمائهما للحزب اليساري؛ كما تأثرت كارتر، التي كانت أصغر سنًّا من كالفينو، غاية التأثر بحلوله الخيالية. في نهاية المطاف، أثبتت الحكاية الخرافية أنها أصدق في التعبير عن الأدب من الواقعية؛ إذ هي صريحة بشأن طبيعتها كوهم. وهذا الإقرار جعلها أسلوبًا مُفضَّلًا للكتاب الذين يبحثون عن أخلاق يتعامل بها المجتمع والأفراد ويريدون تجنُّب الرواية الكاذبة للقصص.

فالأدب الذي لا يُقدِّم ادعاءات باطلة بشأن مصداقيته، بل يقرُّ بطبيعته التفاعلية، ينسجم مع أفكار كالفينو المثالية، على نحوٍ أفضل من الأدب الذي يحاول تقديم محاكاة أمينة للحياة. وفي روايته الشديدة الإبداع وذات اللغة الشاعرية «المدن غير المرئية» (١٩٧٢)، يتخيل كالفينو خمسًا وخمسين قلعة في الهواء إن جاز التعبير، وراح ببراعة صاقلِ الأحجار الكريمة يختلق حوارًا بليغًا بين ماركو بولو و«الخان العظيم» حول صنوف الناس والأعراف هناك. وتبرز الخاتمة حساسيته لوعود الحكاية الخرافية الزائفة عندما يقول بولو:

هناك طريقتان لتجنُّب عذابه (الجحيم). الطريقة الأولى سهلة للكثيرين، وهي أن تتصالح مع الجحيم، وتصبح جزءًا منه، لدرجة ألا تعود تراه. والطريقة الثانية محفوفة بالمخاطر، وتتطلب اليقظة والترقب الدائمين: أن تسعى وتكتسب القدرة على التعرف على الأشخاص والأشياء في الجحيم وليسوا جزءًا منه، فتعينهم على التحمُّل وتمنحهم الفرصة للتطور.

هذه الكلمات، حظيَت بحفاوة كبيرة مستحقة واقتُبِسَت مرارًا وتكرارًا؛ إذ إنها تنقل فلسفة كالفينو، ونصيحته الحكيمة بشأن رواية القصص، بالإضافة إلى وصفه لأسمى وظيفة للحكاية الرمزية والحكاية الخرافية.

كانت أنجيلا كارتر، مِثل معاصرها الإيطالي، قارئة نهمة متعمقة للحكاية الخرافية؛ وتناولت المجموعات القصصية، بطريقة تأريخية بحثية، وتبحَّرت في التعبيرات الساخرة الغامضة لمدام دالنوي وشارل بيرو. وبين يديها، دائمًا ما تُكتب الحكاية الخرافية بمستويَين من اللغة، في حين تستخدم في الموضوعات الرومانسية الجادَّة (مثل «الليدي في منزل الحب» و«القط ذو الحذاء») تعابير بذيئة وقحة؛ ويتقوض حبها لذلك النوع من الفن بحكمتها الساخرة ووعيها الماكر. وتخدم هذه التلميحات أهدافها السياسية، مثل: فضح نفوذ الأرستقراطيين والآباء وغيرهم من أشكال السلطة، وتحرير شهوة الفتيات الجنسية من قيود الآداب اللائقة، وسرد الأمور على ما هي عليه — وما يُمكن أن تكون عليه. وهكذا، تُعتبر كارتر خليفةً حقيقيةً لفولتير وكافكا، أي مناصرة للتنوير؛ لأنها حوَّلت الحكايات الخرافية إلى أدوات للاستقراء العقلاني ونصوص مقدسة للتحرير. ومن خلال مجموعة مذهلة من المسرحيات الإذاعية وسيناريوهات الأفلام والروايات (والأدب القصصي الخيالي القصير أيضًا)، واصلت كارتر هجومها على ذلك الفن، بدافع من مشاعر الحب والكراهية الملتهبة.

في رواية «ليالي في السيرك» (١٩٨٤)، التي يشير عنوانها إلى «ألف ليلة وليلة»، تبسط البطلة لاعبة السيرك الضخمة جناحَيها المصبوغَين باللون الأرجواني وتحلِّق في الهواء. «أهي حقيقية أم خيالية»؟ يتكرر طرح السؤال في الرواية. وفي سبيل التأكيد على أهمية صدق الرواية، تتيح استحالة الحكاية الخرافية — امرأة ذات جناحَين — للمؤلفة أن تلفت الأنظار إلى نفسها، باعتبارها وسيطًا أمينًا.

ولا يزال الحالمون العقلانيون ينظرون في موضوعات الجنس وآثار وسائل الإعلام الجديدة والمفاهيم عن النفس وعلاقات البشر بالعالم الطبيعي وطرق تجنب جحيم الحياة. كما تواصل بعض التفاعلات مع الرؤى السياسية ظهورها في تقليد الحكاية الخرافية، سائرةً على خُطى الحداثيين الناقدين، وأسلافهم المثاليين (يستخدم ديكنز الأشباح لتعذيب سكروج البخيل؛ ويخفي جورج ماكدونالد عظاته الغريبة اللطيفة في قالب الحكايات الخرافية ذات الأجواء المتقلِّبة). وتُعطى ليرا، بطلة فيليب بولمان، «أداة الكشف عن الحقيقة». وهي أداة سحرية، على غرار «المفتاح الذهبي» لجورج ماكدونالد، تقود البطلة إلى عوالم أفضل وفهم أعمق لحقيقة الحياة. ويعاود مشهد التحول الحيواني الصادم الظهور في «حكايات الخنزير» (١٩٩٦) الرواية الأكثر مبيعًا للكتابة الفرنسية ماري داريوسيك، وهي هجاء لاذع على طريقة فولتير لخطيئتَي الشهوة والجشع: وتُطلِق كاتبة المقالات والروائية الناقدة دوبرافكا أوجريشيتش، في خبث، ثلاث عجائز شمطاوات إلى عصرنا، كما في «بابا ياجا وَضعَت بيضة»، بينما يصدِر فيلم «المخطوفة» (٢٠١١)، لرسام الرسوم المتحركة الياباني العظيم هاياو ميازاكي بيانًا سويفتيًّا (نسبة لجوناثان سويفت) ضد الشراهة الاستهلاكية.

وهكذا، يواصل مستودع الحكاية الخرافية للإمكانات الخيالية تزويد الكتاب والآخرين بمبضع رفيع للبحث في ظروف النجاة اليومية، ثم تصوُّر بدائل وحلول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥