الفصل التاسع

على المسرح وفي السينما: أشكال الوهم

عرفتُ دائمًا أن
الحكايات الخرافية يمكن أن تصبح حقيقة،
وحقيقة اليوم كانت حكاية خرافية الأمس.
فيليمير خليبنيكوف

مِثل الكثير من الفتيات، ولِعَت الأميرة فيكتوريا، بالباليه أيَّما وَلَع، وكانت راقصتها المفضلة على الإطلاق — التي استحقت خمس علامات تعجب جذلة وأربع شُرُط تحتية في دفاترها اليومية — ماريا تايوني، أوَّل من وضع حشوة في حذاء الرقص، حتى تستطيع الوقوف على رءوس أصابعها، مما يزيد من إحساس الخفة الملائكية التي كان يتطلع إليها مدربو الباليه الكلاسيكي الرومانسيون. وملأت الملكة المستقبلية صفحات ألبوماتها الملونة، بلوحات لتايوني، على هيئة جنِّية تحيط بها فرقة من البجع أو الويليز (الحوريات في الثقافة السلافية) أو الجنيات الصغيرة، ترفرف بتنانير رقص تشبه الرغوة، وأجنحة شفافة. هذه هي الإشارات المباشرة الوحيدة للحكاية الخرافية في دفاترها، وفي ذلك تُمثِّل فيكتوريا ظاهرة منتشرة، يغفل عنها الكثيرون عند الحديث عن الحكاية الخرافية ومحاولة تعريفها. لم تكن الحكايات الخرافية محصورة مطلقًا في التقاليد الشفهية، وينبع التفاعل الغامض بين نقلها شفاهة وكتابة على مدار تاريخها، من إعادة معالجتها مرارًا وتكرارًا كي تُعرض على خشبة المسرح وفي السينما، بدءًا بالبانتومايم وانتهاءً بمسرحيات العرائس، مما يعكس مرة أخرى تقاربها مع الألحان المهاجرة والنباتات المُلقِّحة. وفي حين شكَّل أطفال الطبقة الراقية مثل الأميرة فيكتوريا، أهم شريحة يستهدفها باليه «كسارة البندق» أو أوبرا «هانسل وجريتل» في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يسير التيار بقوة الآن نحو استهداف جماهير عريضة، على مستوى العالم، بموضوعات أكثر كآبة وإزعاجًا، تُعرض على المسرح وشاشة السينما والتلفزيون.

«ما أجملها من فرحة عندما نرقص ونغني!»

تعكس نصوص الباليه — مثل «الجميلة النائمة» و«بحيرة البجع» وكثير غيرهما — ذلك المزيج من الابتكار والاستعارة، كما تبرز العناصر المتنوعة للحكاية الشفهية الوطنية (الحكايات الشفهية الروسية) والكلاسيكيات الأدبية (بيرو، إي تي إيه هوفمان). لكن المصادر الأصلية لا يُمكن التعرف عليها بسهولة دائمًا؛ إذ يعالجها خيال المبدعين بحرية كبيرة؛ على سبيل المثال، «طائر النار» و«جيزيل» عملان دراميان أصليان في حد ذاتهما. لكنهما في جوهرهما حكايتان خرافيتان أيضًا، تألفتا من مزج السمات المميزة للحكاية الخرافية، مثل: الكائنات الخارقة للطبيعة والغامضة، وشيوع التعاويذ والعجز تجاه حوادث القدر، والانفتاح على عالم خيالي آخر لا سبيل إليه إلا من خلال العمل الفني. كما أنهما، بحسب التعريف، تؤديان على حلبة الرقص؛ فينجم سحرهما عن المهارات المجتمعة لأعضاء الفرقة، ويتوزع الأصل أو المسئولية النهائيان على المشاركين في العمل الفني. ويكشف عرض الباليه أو المسرحي أو الغنائي أو السنيمائي للحكاية الخرافية، بصفته تحفة وعملية تعاونية فنية، سببَ صعوبة تعريف هذا الفن؛ فهو عمل سردي، وثمرة جهود متضافرة مستمرة، ولا ينحصر في وسيلة بعينها، كما أن تعبيراته مائعة؛ أي لا تبقى ساكنة.

عند غناء الحكايات الخرافية، تتحول إلى أشكال جديدة لا مثيل لها أيضًا؛ وقد نقَّب الملحنون في الأوبرا في الحكايات الكلاسيكية والتقاليد الشفهية الوطنية باحثين عن مواد يعتمدون عليها في نسج أعمالهم الفنية؛ على سبيل المثال، استند الشاعر جاروسلاف كفابيل، في نص الأوبرا التراجيدية الجميلة «روسالكا» التي هي رائعة الموسيقي الروسي دفوراك، على حكاية حوريات تشيكية؛ وفي «قلعة ذي اللحية الزرقاء»، أجرى بارتوك وبلاس تعديلات كبيرة على حكاية شارل بيرو، لتأليف دراما ميتافيزيقية. أما الحكايات الخرافية الأقل شهرة، التي كتبها الكاتب المسرحي الألمعي والمدافع عن المسرح التقليدي من مدينة البندقية كارلو جوتسي (١٧٢٠–١٨٠٦)، فقد كانت مصدر إلهام للملحنين، بدايةً من أول أوبرا لفاجنر «الجنيات» إلى الملحمة المذهلة لهانز فيرنر هينتسه «الهدهد»، التي هي عبارة عن تنقيح لحكايات «ألف ليلة وليلة».

وتكشف حالة جوتسي، آخر المدافعين الشجعان المتحمسين عن تقاليد الكوميديا الهجائية القديمة، ذلك الرباط بين الحكاية الخرافية الحديثة والمسرح. وفي سبيل روح الشك التنويرية الرشيقة، لفَّق جوتسي قصصًا خيالية مرحة من تجواله في «ألف ليلة وليلة»، و«بينتاميروني» لباسيلي، وغيرهما من مجموعات الحكايات الخرافية. ومن اللافت للنظر أن الأنشطة الترفيهية في البلاط في القرن السابع عشر، التي هي نظائر الكوميديا المرتجلة، أسست الحوار الثري بين شطحات الخيال والأوهام الخرافية التي تُمثَّل على المسرح. وقد حشدت مسرحيات الماسك في البلاط في عصر النهضة، وبعد ذلك في القصور الملكية والمنازل الريفية الضخمة للنبلاء والنبيلات، الممثلين الإيطاليين على منصَّات شديدة البذخ، وألبستهم أزياء غريبة لإحياء فعاليات مذهلة. واجتمع الرقص والموسيقى والهزل والاحتفالات والطقوس والمهرجانات في هذه العروض الأسطورية. كما كانت مسرحيات الجنيات المُحفِّز الرئيسي للابتكارات المدهشة في آلات المسرح، مثل العربات الطائرة والرحلات تحت الماء وحذاء فراسخ السبعة والشياطين التي تنفجر ويخرج منها ألعاب نارية، وغير ذلك من التأثيرات الدرامية الطامحة الرائعة التي تشهد على عبقرية عظيمة.

وتستمر التفاعلات المتوالية بين الحكاية الخرافية والوسائل الأدائية بقوة أكثر من ذي قبل، في عصرنا الحاضر، لكن مثال جوتسي يسلط الضوء أيضًا على بُعد محوري للحكاية الخرافية الحديثة، وهو ظهورها بالتعاون مع حركة التنوير.

كثيرًا ما كان يُنظر إلى الحبكات ووصف الشخصيات ونص كلمات الأوبرا على أنها مجرد مظاهر داعمة للعرض الفني أو إطارات فنية للموسيقى العذبة. ولحسن الحظ، يتبيَّن من تجربة الذهاب إلى عرض «لا شينيرينتولا» أو «حب البرتقالات الثلاث» (لحَّنها بروكوفييف مستلهمًا حكايةً من حكايات باسيلي)، أو «بلوند إيكبيرت» (لحَّنتها جوديث وير مستلهمة إحدى حكايات الشاعر الألماني لودفيج تيك) خطأ هذا التصور وقصوره، ولذا نُحِّي جانبًا بشكل عام. واليوم، عندما يتطرق ملحن أو كاتب نصوص الأوبرا إلى العالم الخرافي، فإنه يغوص في مجريات القصة لخلق تجربة أكثر تأثيرًا وإحاطة أو تحقيق مفهوم «العمل الفني الشامل» الذي كثيرًا ما أعلن عنه فاجنر.

لكن خلط الأوبرا والباليه مع السحر، لا يقتضي إذعاننا، بصفتنا مستمعين، للكون الخاص الذي تستحضره القصة — فلا يدعونا «المدد الغيبي» الذي يُقدَّم على خشبة المسرح إلى الإيمان بوجوه خارج المسرح. ولا يُطلَب منَّا أن نصفق بأيدينا لنقول إننا نؤمن بوجود الجنيات. كما لا يُطلَب منا تعطيل عدم إيماننا؛ فتثير الجنيات والسحرة والحوريات والعفاريت نوعًا مختلفًا من الموافقة مرتبطة بفترة تطور الرقص والأوبرا في وسائل الترفيه المتعددة التي نشهدها اليوم. وليست الأوبرا موشحًا دينيًّا مقدسًا يُنشَد في الكنيسة، أو تكرارًا لطقوس باكوس إله النبيذ. إنها تستوعب وظائف كلٍّ منهما؛ لكن بصفتها قالب فني، خرجت إلى الوجود في عصر العقل، وأنزلت الأسطورة من برجها العاجي من خلال مزجها بالحكاية الخرافية.

يقول ديفيد بوتش المؤرخ في علم الموسيقى: «إن الدروس الأخلاقية الجوهرية، في الحكايات الخرافية، جعلتها أيضًا وسائط للرموز التنويرية، حيث حلَّ «الارتقاء» بالجمهور محل الارتقاء بالأطفال.» ولم يكن مؤلفو أعمال الأوبرا العظيمة في القرن الثامن عشر منغمسين في حنينهم للتراتبية والجلال الضائعين، وإنما ابتكروا عروضًا علمانية جديدة، تنظر عبر عدسات العالم العجيب، في كل أنواع الأسئلة العميقة عن الشعب والكيانات السياسية، والحِمية والطاعة، والسلطة والقَدَر. كما تطلُب تفاعلنا ومشاركتنا في حل المعضلات التي هي محل النظر، وتتعلق بالمشكلة الرئيسية التي تتناولها الأساطير، وهي مكان البشر فيما يتعلق بالحب والموت. وللمفارقة، تعاون فولتير العقلاني والساخر والشكوكي والفيلسوف العظيم مع الملحن الفرنسي رامو في عدد من أعمال الأوبرا، لكن لم يُكتب النجاح لأيٍّ منها.

إن العالم المغاير من الآمال والأحلام الذي تستحضره الحكاية الخرافية يفيض بالعجائب والأوهام، التي تحفز حصول نهاية عقلانية، ينتصر فيها الانسجام والعدل والرحمة على تهديدات قُوى الشر. ومن أشهر الأمثلة على ذلك، «الناي السحري» لموتسارت، التي عُزِفت لأول مرة في ١٧٩١، وهي مسرحية موسيقية ألمانية تجمع بين الرموز والكوميديا والحكاية الخرافية، وتنتهي — بعدما يخوض البطل محنًا كثيرة — بفرحة التحرُّر من الخطر والسعادة في الحب. تردِّد كارتر هذه البهجة في السطر الأخير من روايتها الأخيرة: «ما أجملها من فرحة عندما نرقص ونغني!»

ولأن الحكايات الخرافية تقبل التدخُّل في أحداثها ومزجها وقلْبها، بأساليب تقاومها النصوص المعروفة المصدر، أصبحت المنبع الأساسي للترفيه الجماهيري المعاصر، كما أن ثمارها تشهد حالة تحوُّل دائمة. في عام ١٨٩٠، عندما حوَّلت أديلهايد فيته أخت الملحن إنجلبيرت هومبردينك حكاية الأخوين «هانسل وجريتل» إلى مجموعة من الأغاني، كي تعزفها في البيت أمام عائلتها في عيد الميلاد المجيد، خفَّفت قسوتها، فأظهرت جريتل حنان الأمومة وهانسل الحماية والرجولة، والاثنان يتلوان صلواتهما. كما يظهر رجل الرمل ليهدهد الأطفال حتى يناموا، وليس فيه أدنى شبه بالشخصية المرعبة المذكورة في مقالة «الغريب» التي يناقشها فرويد، بل يصير زائرًا ملائكيًّا، يهدئ من روع الأطفال، بشأن أهوال الغابة المظلمة المخيفة.

وتطوَّر حفل عيد الميلاد المجيد العائلي هذا، في نهاية المطاف، إلى الأوبرا المذهلة الذائعة الصيت «هانسل وجريتل» لإنجلبيرت هومبردينك. وفي ختامها، يأتي والدا الطفلَين راكضَين إلى خشبة المسرح بحثًا عنهما؛ إذ لم يقصدا فقدهما في المقام الأول، ولا تعريضهما لخطر الموت. وكل ضحايا الساحرة، الذين حولتهم إلى كعك الزنجبيل، عادوا إلى الحياة. وتلا ذلك فرحة وطمأنينة عارمتان. حتى الساحرة، خرجت من الفرن حيَّة (نوعًا ما)، في هيئة قالب حلوى.

وربما كان صغار هومبردينك آنذاك، والأطفال في البانتومايم أو المسرحية الآن، لا يعرفون القصة، أي يخوضون في الغابة المظلمة لأول مرة، ومن ثَمَّ يحتاجون إلى مَن يقودهم بلطف للقاء الأم القاسية والساحرة التي تتصف بالشراهة وإنزال العِقاب بغيرها، التي تؤدي دورها نفس الممثلة التي تؤدي دور الأم في كثير من الأحيان. ولا تزال الحكايات الخرافية، للجماهير التي تشاهدها للمرة الأولى، تنتهي بنهاية سعيدة، وتحتوي على كثير من المشاهد الكوميدية لتخفيف حدة التهديدات.

السحر والتكنولوجيا: السينما والحكاية الخرافية

منذ التجارب الأولى لجورج ميليس في باريس في تسعينيات القرن التاسع عشر، إلى هيمنة شركتَي ديزني وبيكسار على صناعة الأفلام في عصرنا الحاضر، والحكايات الخرافية تُعرض في دور السينما. مفهوم الوهم في الفيلم كوسيلة ترفيهية يحمل معنيَين متناقضَين عميقَين مميزَين: أولهما، أن الفيلم وهمٌ في حد ذاته، وباستثناء تلك القلة من الجماهير في بدايات السينما، الذين ارتعبوا عند رؤية قطار يتحرك على الشاشة، كل من في قاعة السينما يعلمون أن ما يثير دهشتهم من صنع التكنولوجيا.

كل الصور السينمائية هي امتداد لتقنيات قديمة مثل خيال الظل، والخدع البصرية، لكنها تطورت لتصبح أكثر براعة في خلق الوهم، تعتمد السينما على تقنيات متقدمة مثل: التصوير الحاسوبي الذي ينتج صورًا زائفة تتنفس وتنبض بالحياة، كما نرى في فيلوسيرابتور (فيلم الحديقة الجوراسية)، أو قلاع الأقزام (سيد الخواتم)، أو الديناصورات الهندسية الإلكترونية الحيوية الطائرة (أفاتار)، أو الوحوش المخيفة (مسلسل «فضائي»)، أما في رابونزل فتمتد خصلات شعرها الغزير مثل الوَهَق (حبل في طرفه أنشوطة يُطرح حول عنق الدابة للإمساك بها) أو السوط أو تبسط كجسر لعبور المشاة. تُصمم تلك المؤثرات البصرية لإبهار المشاهدين، وهي تفلح في ذلك بجدارة؛ لقد أبدع صانعو الرسوم المتحركة لدرجة أنهم لم يتركوا للمشاهد فرصة ليتخيل. لقد أصبحت شخصيات مثل الملكة الشريرة في «بياض الثلج» (١٩٣٧) مطبوعة في أذهاننا، وتحتفظ بالسمات نفسها عندما تعود إلى القصة؛ كما تفوقت آريل، حورية البحر ذات الشعر الأحمر الناري حسب ديزني، على صورها السابقة المتَّسمة بالضعف والحزن، التي شكَّلتها كلمات حكاية أندرسون بشكل أساسي.

هناك صورة أخرى من الوهم، تزداد حضورًا في صميم الأفلام الخرافية، خاصة تلك التي تستهدف الأطفال أو جمهورًا ذا أذواق متباينة. ولقد واصلت السينما التجارية المعاصرة تحوُّلها الفيكتوري من الترفيه غير المسئول إلى التوجيهات المسئولة، واستمرت في دعمها للحكايات الخرافية التي تناهض أشكال الظلم. وتُقدِّم الكثير من الأفلام العائلة الحالية بدائل حماسية مفعمة بالأمل (في فيلم «شريِك»، على سبيل المثال، تتسم الأميرة فيونا ببدانتها وقِصرها، وسرعة غضبها، وقبح ملامحها، ولكنها تتسم بالقوة وخفة الروح؛ وفي «رابونزل» تظهر البطلة في صورة شابة خارقة، واسعة الحيلة، وقوية البنية؛ وفي فيلم ديزني الذي حقق نجاحًا ساحقًا «ملكة الثلج» (٢٠١٣)، المتأثر بحكاية «بياض الثلج»، تتغلب آنا، الشقيقة الصغرى للبطلة إيلسا، على العواصف والانهيارات الثلجية والشتاء الأبدي لإنقاذ إيلسا). يتحدى كُتَّاب السيناريوهات الصور النمطية السائدة، ويراهنون على أن الخدع البصرية السينمائية يُمكن أن تبدو واقعية لدرجة تجعلنا نصدقها. إن «التمني» عقيدةُ الأفلام، وسببُ تعرضها للنقد الحاد بدعوى أنها تبيع الوهم وتعد بأحلام وردية. وفي هذا السياق، تستهجن الكاتبة تيري ويندلينج، المتخصصة في الأدب الروائي للناشئين، تلك النزعة السابقة نحو التفكير الإيجابي والنجاح المشرق، فتقول:

قد تبدو الحكاية الخرافية مثل رحلة شاقة للخارج، عبر السهول والجبال والقلاع والغابات، ولكنها أيضًا رحلة داخل النفس، نحو مملكة الروح. فالغابة المظلمة التي تظهر في الحكاية الخرافية ليست مجرد بيئة خارجية، بل ترمز إلى أعماق عقلنا اللاوعي. والسفر إلى الغابة، ومواجهة أخطارها، يعني أن تخرج من هذه التجربة إنسانًا آخَر. وبالنسبة إلى الأطفال، الذين لا يشبه عالمهم عالم المسلسلات الكوميدية الساذج … تُشكل القدرة على السفر داخليًّا، ومواجهة الخوف والتغلب عليه، مهارةً مهمة سيحتاجون إليها طيلة حياتهم. نحن نضرُّ الأطفال — وأنفسنا — بشكل بالغ، عندما ننقح الحكايات القديمة، ونغض الطرف عن فقراتها المخيفة وتعبيراتها الغامضة …

تتمتع الحكايات الخرافية والأفلام بعلاقة عميقة؛ إذ تبث السينما الحياة في الظواهر بصرف النظر عن جمودها؛ فبحسب تكوينها من الضوء والحركة، تنسجم خدعها البصرية مع حيوية العالم المسحور في الحكاية الخرافية، بما يحتوي من حيوانات ناطقة وبساط الريح وجمادات تتحرك وتتصرف بإرادتها الحرة. ويجدُر بالذكر أن إحدى الأدوات الموسيقية ذات التاريخ القاتم السابقة على ناي موتسارت، أداة غريبة تُعزف في عدد من القصائد الروائية والقصص، وتتكون من عظمة تشهد على جريمة. في حكاية الأخوين جريم «العظمة المغنِّية»، يفزع الراعي عندما يجدها ويطلق ساقَيه للريح، لكن يُحدِّث نفسه قائلًا: «ما أغربها، تغني كما تريد! لا بد أن أحملها للملك.» هناك تغني العظمة حقيقة ما حدث لها، ويُستخرج الهيكل العظمى الكامل للمقتول، وتُعرَف هوية قاتله — أخيه الأكبر ومنافسه في الحب — فيُوضَع في كيس، ويُغلَق عليه بإحكام، ويُعاقَب بالغرق.

fig13
شكل ٩-١: خيال الظل الشرقي: تستمد أفلام الرسوم المتحركة الأولى أفكارها من «ألف ليلة وليلة». علاء الدين ودينارزاد، من «مغامرات الأمير أحمد»، وإخراج لوتا رينيجر، ١٩٢٦.

هذه النسخة أقل من صفحتين طولًا، مثل محلول ضئيل الكمية فائق التركيز، وتشتمل على تفاصيل مُروِّعة شنيعة، وديناميكيات غريبة عن «الحياة في الموت»، والورع الأخلاقي، والعدالة القاسية. لكن القصة تُقدِّم استعارةً حيَّة للفيلم نفسه، وهي العظام المُغنِّية. (ومن هُنا تحصل المفارقة الغريبة؛ لأن أوراق السيلولويد، التي كانت تُصنع منها أفلام التصوير الخام في السابق، كانت مؤلفة من عظام مُذابة.)

تكشف اختيارات صانعي الرسوم المتحركة الأوائل، عن شكل استجابتهم للانسجام العميق بين الوسيلة الفنية التي يستخدمونها في التعبير وهي الفيلم، وبين الحيوية الغريبة للأشياء الجامدة. على سبيل المثال، صنعت لوتا رينيجر، التي كتبت وأخرجت أول فيلم رسوم متحركة كامل «مغامرات الأمير أحمد» (انظر شكل رقم ٩-١)، شخصيات كرتونية (عرائس من خيال الظل)، مستوحاة من الحكايات الخرافية للأخوين جريم، وأندرسون، وفلهم هاوف؛ واستمرت تصنع الأفلام على مدار ثلاثين عامًا، في مدينتها الأصلية برلين أولًا، ثم في بريطانيا ثانيًا، لتلفزيون الأطفال. كما أن فيلمها «سندريلا» عبارة عن تحفة فنية مُروِّعة وكوميدية.

وتعكس أفلام ديزني الأولى، التي صنعها والت ديزني نفسه، تشخيصات الحكايات الرمزية التقليدية للحيوانات مثل الفئران والبط والقطط والثعالب؛ لكن في عصرنا الحالي، تدب الحياة في كل الأشياء، بصرف النظر عن جمودها؛ إذ لا تعرف تقنيات الحاسوب أي حدود عند إنتاجها لواقع مرئي سيبراني حركي حي.

الأحلام المثالية/التفكير القائم على التمني

لعل أهم التطورات في التحالف بين الحكاية الخرافية والسينما، بصفتهما وسيلتَين للترفيه العائلي، كان ظهور الحساسية السياسية، وما نتج عنها من تعديلات للحكايات الخرافية لزيادة الوعي بمسائل نوع الجنس والعلاقات بين القوى والتمثيل العرقي. ولقد أثَّرت المنهجية الثقافية-التاريخية ومنهجية التحليل النفسي، في التعامل مع الحكايات الخرافية، في وعي المخرجين بالهندسة الاجتماعية. وفي حين تستعرض رينيجر المرح الصاخب عند الحريم والأمير أحمد وهو يعاقر الخمر مع الحور العين المثيرات للشهوة على غرار جوزفين بيكر، لا يستطيع كاتب ومخرج «بياض الثلج والصياد» (٢٠١٢) إنهاء القصة بزواج الأمير أو الفقير. لقد أُجبرت بياض الثلج، «التي أدت دورَها الممثلةُ كريستين ستيوارت من سلسلة أفلام الشفق»، على البقاء وحدها، كقدوة للمرأة المستقلة بذاتها، بكامل درعها في بعض الأوقات. وأما قواعد هذا الفن الأدبي، التي تتطلب حلًّا لعقدة القصة، فضُرب بها عُرض الحائط لصالح إعداد أنماط نموذجية للجنسَين.

ومن المثير للاهتمام أن أولى محاولات بناء الشخصية من خلال المؤثرات السحرية السينمائية، حدثت في ظل الأنظمة الاشتراكية والشيوعية. فقد أمر زعماء الاتحاد الروسي السوفييتي والكتلة الشيوعية الفنانين والكُتاب بالاحتفاء بالعمال البطوليين، والإنتاج الزراعي، ومشاعر الأخوة الإنسانية؛ وإذا تركت نفسك للأحلام والخيالات، فأنتَ في خطر التغزُّل في أساسيات الجمال الطبقية المنحطة والدنو من السريالية المنحطة أو الفراغ الأخلاقي للمشاعر الشخصية. وقد ذهب الكثيرون إلى معسكرات الاعتقال بسبب شطحاتهم الخيالية الشخصية.

لكن معالجة الحكايات الخرافية، كي تلائم جمهور الأطفال، كانت ذريعة لتقديم رسائل بديلة، وقلب البرنامج السياسي الرسمي للفنون رأسًا على عقب، فاختفت الجرَّارات وحلَّت بُسُط الريح محلها؛ وسبحت الأسماك الذهبية إلى المقدمة، وقفزت على الشاشة الخيول وحيدة القرن الزرقاء الخرافية برموشها الذهبية الطويلة. ولم تكن المعجزات التي تحققت نتاج خطط خمسية. ومن الاتحاد السوفييتي إلى تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا (كما عُرفتا في ذلك الوقت)، كان المبدأ التأسيسي للأخوين جريم — أن تعبر الحكاية الخرافية عن الشعب والأمة — هو الحجَّة لنفض الغبار عن القصص التقليدية من كل أنحاء الإمبراطورية. ولقد خلقت هذه المحاولات لتلميع القصص، كي تناسب الترفيه العائلي، صورةً سعيدةً للوحدة في ظل التنوع.

وفي الأيام الماضية التي أراد فيها ستالين أن تسود السعادة في قلوب الجميع في أرجاء الإمبراطورية الشاسعة، جُمعَت الحكايات الخرافية ونُشرَت (في نسخٍ جميلة مزودة بالصور في كثير من الأحيان) ومُثِّلَت على الشاشة، لتعزيز روح الجماعة. ورُويَت القصص العِرقية — من بلجراد إلى فلاديفوستوك، والبحر الأسود إلى المحيط المتجمد الشمالي — وغُنِّيت ومُثِّلت، بالأزياء الوطنية المحلية في كثير من الأحيان، لتقوية الإحساس بالانتماء. وأُصلحَت حبكات القصص لنشر روح التفاؤل، وفيها يرفض الخياط الشاب الشجاع الزواج بالأميرة، ويتزوج بابنة البستاني، ويهلك جامع الثروات الشره.

ولقد أُنتجَ أحد أنجح الأفلام الخرافية القديمة الملونة، «الشجرة الرنَّانة المغردة»، في سنة ١٩٥٧ بألمانيا الشرقية، بواسطة الاستوديوهات المملوكة للدولة، دي إي إف إيه. تمزج القصة عناصر كثيرة من الحكايات الخرافية المشهورة؛ مثل الحيوانات المعاوِنة، والقزم الشرير، والأميرة المتغطرسة، والبطل الجسور وضيع النسب. كما أن النضال الذي تعرضه ملحميًّا وينطوي على مخاطر مظلمة ومحن مرعبة. وتنبض الشجرة بسحرٍ قوي، كما في «شجرة العرعر». لكن هذه العناصر تنحرف في ظل سياسات ألمانيا الشرقية، فتتعلم الأميرة المدللة المغرورة مَحبَّةَ الشعب، وتتعاون مع قوى الحق والعدل، وتقود ثروةً على القزم.

ومع ذلك احتدمت بالفعل النقاشات في ألمانيا الشرقية بشأن استخدام الخيال عامةً، و«الشجرة الرنانة المغردة» خاصةً؛ وتبدو هذه النقاشات مألوفة. وُطرحت أسئلة مثل: لماذا تدور القصة حول أميرة أصلًا؟ ولماذا تركز على إدراكها لخطأ أساليبها المتعجرفة؟

ألا تتواطأ هذه النقاشات بشكل مشين مع أفكار الإصلاح ومقتضيات النبالة الرجعية؟ ماذا عن النهاية السعيدة التي تتزوج فيها الأميرة بالفقير؟ ترددت الاتهامات ﺑ «البرجوازية» و«الانتقامية» في أرجاء مكتب الرقابة.

وأُوقف عرض الفيلم وأُودع في الأدراج وذهب طي النسيان، وكان المنتجون يتحرجون من الإتيان على ذكره عندما كانت تُوجَّه إليهم من المعجبين المتحمسين الأسئلة بشأنه. لكن في سنة ١٩٦٢، اشترت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حقوق الفيلم، وخلقت جوًّا لا يُنسى من الإثارة في جيل من الأطفال البريطانيين، واستمرت الحماسة بين عشَّاق السينما.

إن مسألة ألمانيا الشرقية تُلقي الضوء على التوترات الراهنة في طريقة تناول الحكايات الخرافية. من ناحية، يذهب رأي إجماع مع مذهَب ديكنز وتولكين وبيتلهايم ويندلينج الذين اتفقوا، لأسباب مختلفة، أن تنقيح الحكايات يساوي بالضبط تخريبها. لكن، في الوقت نفسه، تظل التعديلات تُجرى على الحكايات الخرافية، في ضوء التصور الحالي — الذي ينطوي على تخفيف حدَّة هذا وإخفاء ذاك — دون الاحتياج لتدخل أي رقابة رسمية.

ويشبه التمني السياسي الذي انبثق عن الكتلة السوفييتية السابقة ما نُسميه حاليًّا «بي سي» أو الصوابية السياسية، التي تتعرض للسخرية في كثير من الأحيان، وتُطبَّق بشكلٍ مبالغ فيه في أحيان أخرى. لكن هذا المصطلح يقوم على أساس أن ما نراه في الكتب أو غيرها من وسائل الإعلام في صِغرنا ينطبع في أذهاننا، إذ تنقل القصص قيمًا أخلاقية، مثل الخرافات، وتشكِّل طريقة فهمنا للعالم.

ومن النتائج المترتبة على ذلك أن ظهرت الرقابة الذاتية بين الناشرين والمخرجين وكُتَّاب السيناريوهات والمحررين، خاصةً عندما يكون الأطفال هم الجمهورَ المستهدَف. خلف كل كتاب موجَّه للصغار، وكل مُنتَج عالمي مصمَّم للترفيه العائلي، يُمكنكَ سماع طنين النقاشات الدائرة في قاعة الاجتماعات حول السياسات التي يشير إليها. وفي هذا السياق، تجد كتَّاب سناريوهات والمُخرجين يتناولون شخصية سندريلا السلبية ويحوِّلونها إلى مناضلة مناصرة للحرية، أو ينقلون شخصية جاك قاتل العمالقة في صورة روبن هود، لنقل قواعد سلوكية مُستحسَنة، تلك القيم الأخلاقية التي ستكسب رضا الجمهور وتحقق نسبة مشاهدات مرتفعة.

ويسعى قطاع الأفلام العريض («هوليوود») سعيًا حثيثًا لإنتاج بطلة خرافية تتناسب مع حقبة الرئيسة التنفيذية، لكن سعيه لم يؤتِ ثماره المرجوة عند المشاهدين، ولا يزال يثير انتقادات حادة من المختصين في شئون الأطفال في كل مجال.

وممَّا نجَم عن القضايا الحساسة السياسية والاجتماعية في القرن الحادي والعشرين، أن حدث انقسام واضح، في بعض الحالات، بين المواد المستهدفة للأطفال والبالغين، وهو يُشبه ذلك الفارق الواضح بين المجلات الإباحية والمجلات العامَّة على الحامل المخصص للصحف، أو بين البرامج المخصصة للأطفال في التلفاز قبل التاسعة مساءً، وللبالغين بعد التاسعة مساءً. وتتطلب إعادة صياغة الحكاية الخرافية، في عصرنا الحاضر، الإشراف الأبوي؛ إذ يُصنَّف الكثير منها «للبالغين فقط».

في الحقيقة، تكشف الحكايات الخرافية الراهنة، في المسرح والسينما، قلقًا حادًّا بشأن الطريقة التي تُشكَّل بها الهُويَّة الجنسية، لا الاجتماعية، للإناث، ويواصل هذا الفن الأدبي بقوة أكثر من ذي قبلُ معالجةَ السؤال الشهير عن رغبات النساء الذي مفاده: «ماذا تريد النساء؟» وتشتهر بعض الحكايات الخرافية في أوقات، ويخفت نجمها في أوقات أخرى بشكل غير متوقع؛ على سبيل المثال، تتكرر حكايات خرافية على الساحة مثل «بياض الثلج» «والجميلة النائمة»، وفي أعقابهما حكاية «ذو اللحية الزرقاء». تنبع مناشِدة النساء بوجوب التوقف عن العيش في غفلة، من الغضب النسوي بشأن نموذج الجميلة النائمة (خُذ على سبيل المثال الفيلم السينمائي «زوجات ستيبفورد»)، لكن لا يزال هذا القلق في ازدياد: في «ماليفسنت» (٢٠١٤)، وهو فيلم أمريكي من إنتاج شركة ديزني، تؤدي أنجلينا جولي دور مالفيسنت كما يقترح عنوان الفيلم، وهي الجنية الثالثة عشرة؛ ومن ناحية أخرى، حوَّل مُدرب الباليه المبتكر المبدع ماثيو بورن شخصية الأمير في «الجميلة النائمة» إلى مصاص دماء، يوقظ الأميرة بعضِّها … فجاءت تعديلات الحكاية الخرافية متأثرة بفيلم «الشفق». ويُعتبر فيلم «بلانك نيِبيس» الإسباني (٢٠١٢)، إعادة صياغة مُبدعة مُثيرة لحكاية «بياض الثلج»، وتدور أحداثه بين راقصي الفلامنكو ومصارعي الثيران وفناني السيرك المتجولين في الأندلس. صُوِّرَت لقطات هذا الفيلم، الذي من إخراج وتأليف المخرج الكتالوني بابلو بيرجر، بالتباين التعبيري بين الضوء والظل، وخلق جوًّا خلابًا بالتناوب بين تلألؤ الضوء وتوهجه على المرايا والأسطح الزجاجية والعيون والشفاه، في تعارض بين سطوع الشمس في حلبة مصارعة الثيران والظلال الكثيفة في الأماكن الداخلية والقلاع والكرافانات.

ولا يتحرَّج راوي القصة عن وصف الشر في الفيلم، حيث تقوم بدور زوجة الأب الشريرة ممرضة، تقتنص الفرصة عندما يُنقل بطل مصارعة الثيران مجروحًا بجروح بالغة إلى مشفاها، وتموت زوجته وهي تضع طفلتها، ويُترك هو مشلولًا؛ ولا يدخر الراوي أي تفصيل من شأنه إظهار قسوتها وغرورها وطمعها، ولا يُضيف أي مؤثرات درامية تُبرِّر أفعالها، على عكس محاولة هوليوود لتلميع البطلة، وهو هدف من أجله يُحَض كتَّاب السيناريوهات على اختلاق خلفية تُستعرَض فيها صدمتها النفسية فتُعذَر نوعًا ما على أفعالها الشريرة. وتمنَح الممثلة، التي تؤدي دور الملكة الشريرة (انظر شكل رقم ٩-٢)، الشخصية المُسيطرة في فيلم بيرجر، طاقة ذكية مذهلة، تكاد تصل إلى حد السخرية، لكنها تحافظ دائمًا على قناعها المخيف، فلا تسمح لضحكة بالإفلات من المشاهدين.
fig14
شكل ٩-٢: «هل تخشين التسمم؟»: الملكة الشريرة في ثياب معاصرة. تؤدي دور زوجة الأب الشريرة، الممثلة ماربيل بيردو، في فيلم «بلانك نيِبيس» للمخرج بابلو بيرجر، ٢٠١٢.

يُعَد الفيلم عملًا تراجيديًّا؛ إذ تنام بياض الثلج للأبد؛ وعلى غرار قصة «فنان الجوع» لفرانز كافكا، تُعرَض بياض الثلج في تابوتها الزجاجي، كجزء من مهرجان متجول، بجوار فتاة كثيفة الشعر وسيدة بدينة وفنان يتضور جوعًا. ويُعَد هذا شكلًا آخَر من أشكال الشبق الجنسي على طريقة بونويل؛ ويقوم القزم الذي يحبها بوضع مساحيق التجميل والأصباغ على وجهها؛ وينتهي الفيلم بدمعة تتسرب من طرف عينها.

ومن أكثر المعالجات المُزعجة للقصة فيلمٌ يُعرِّف نفسه أنه نسوي، وهو «الجميلة النائمة» (٢٠١١) من إخراج جوليا لي، الذي يصوِّر المنحنى المظلم الذي اتخذته الحكايات الخرافية، لا سيما من منظور النساء المبدعات. يحكي الفيلم قصة طالبة ذات جمال ملائكي متألق، تجد إعلانًا لوظيفة وتبدأ في العمل في بيت دعارة متخصص، وتصبح عن طواعيةٍ المحلَّ المُخدَّر لخيالات الزبائن الجنسية. وعلى غرار مقال كارتر «المرأة السادية»، يثير الفيلم أسئلة حول خضوع النساء واستقلاليتهن والدعارة كوسيلة للتبادل الجنسي في مجتمعنا، لا للشذوذ الجنسي.

وقد نتج عن فهم طبيعة الحكايات الخرافية المظلمة أعمالٌ أصلية خلابة: على سبيل المثال، يحشد فيلم «متاهة بان» (٢٠٠٦)، من إخراج وتأليف جيلرومو ديل تورو، الكثير من الأساطير في قصته، حول الإلهة بيرسيفون، التي اختُطفَت وحُملت إلى العالم السفلي. ويستهل الفيلم بإشارة مباشرة إلى واقعة «جنيات كوتينجلي»، عندما أقنعت فتاتان صغيرتان كونان دويل وغيره من الفيكتوريين البارزين، أنهما أبصرتا — وصورتا بنجاح — عفاريت ضئيلة ترقص وتستحم في الشمس في طرف حديقتهما، ثم يتطور إلى حكاية مؤثرة عن رحلة الخوض في غابة معتمة كئيبة، مع دمج واقع إسبانيا التاريخي الحقيقي تحت حكم فرانكو في نسيج السحر وعالم الجنيات.

يتمحور كثير من التعبيرات الشائعة والقوية عن الحكايات الخرافية في عصرنا الحاضر حول نساء، عجائز وفتيات. وسواء كان صنَّاع الأفلام ذكورًا (كاتب السيناريو والمخرج، في فيلم «رابونزل»، على سبيل المثال، رجل)، أو إناثًا (كتبتْ ليندا ولفيرتون مخطوطة الرواية التمثيلية ﻟ «ماليفسنت»)، ينجذب القراء والمشاهدون، بصرف النظر عن نوع جنسهم، إلى الدراما التي تدور أحداثها حول بطلة متقدة المشاعر. وفي حين تواصل هوليوود محاولتها في جلب شبان جذَّابين إلى الأفلام (في فيلم «بياض الثلج والصياد»، على سبيل المثال، حاول العاملون بصعوبةٍ جعل البطل مفتول العضلات رقيق القلب)، يقف هاري بوتر وحده تقريبًا بين الأبطال، كما أن سلسلة أفلام جيه كي رولينج ملحمية معقَّدة التركيب مما يُصعِّب وصفها بالحكاية الخرافية.

لقد تخلَّت أفلام القرن الحادي والعشرين، مثل «الجميلة النائمة» و«بلانك نيبيس»، عن أهم مبادئ الحكايات الخرافية، وهو وجوب انتهائها بنهاية سعيدة. تبثُّ الحكايات الخرافية في النفس التفاؤل، وتبعث على الأمل بشأن المستقبل، عندما تُنزِل الهزيمة وحتى الموت بالجناة، والطغاة المستبدين، والغيلان الشرهين، والمسئولين عن الجحيم العائلي، والآباء القساة، والملكات الشريرات. وتُنذر الحكايات الخرافية المَصوغة حديثًا ببلوغها ذروة القتامة، حتى إنها تفسد النهاية السعيدة نفسها. لكن، في بعض الأحيان، لا تخرِّب هذه القتامة بشكل كامل الجو الذي يخلقه العالم البديل في القصة، حيث ينتصر الخير فنشعر بالبهجة والتفاؤل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥