المازني … شاعرًا، وناقدًا

وصف المازني في حصاد الهشيم شخصية ابن الرومي بقوله: عاش ابن الرومي ما عاش ساخطًا على الحياة، ناقمًا على العصر وأبنائه، مُضْغِنًا على الزمن وصروفه، طافح النفس بالمرارة والألم، إلى حدٍّ لم يَعْرِفْه أحد من الشعراء المعاصرين، وشِعْره الذي قَيَّد فيه كل حالة من حالات نفسه، وأَوْدَعه ما استطاع من الْتفاتات ذهنه، حافل بالشواهد على ذلك، وعُذْره من هذا التمرد عُذْر كل حساس مصقول النفس مثقَّف العقل، تصدم عنده الآراء والعقائد بمظاهر الحياة وواقع الحال، وليس أقسى من أثر ذلك في النفس ولا أوجع، ولسنا نحتاج أن نرجع إلى عصره بصفة خاصة، فإن الحياة كانت قديمًا — وما زالت إلى الساعة، وستظل إلى آخر الزمن، إن كان له آخر — صراعًا دائمًا وجهادًا متواصلًا، وما نظن الحياة الإنسانية خَلَتْ قَطُّ من بواعث السخط ودواعي التذمر، وما كان المرء ليهتدي إلى الشعور بنفسه ولينطق بقوله: «أنا» لولا ذلك، ولولا إحساسه إلى جانب هذا — أو قبله — بحدود قُدْرَته، وباحتكاكه بما يجاوز هذه الدائرة ويحدد هذا المجال، وقد يعين الجهل أو البلادة أو كلاهما على الرضى وإشعار النفس الراحة الحيوانية، فلا يرى المرء فيما يحيط به ويضيق عليه إلا عدلًا مقنعًا وضرورة لا مهرب منها، ولا خير في التبرُّم بها، وليس كذلك المثقف القوي المشاعر، الذي كأنما يحس الحياة بأعصابه العارية، مثل هذا لا يسع طوقه أن يغمض عينيه وينيم أعصابه، حتى لا يرى ولا يحس ما في الدنيا من الظلم والغبن والخلط والفساد والتناقض.

وهذه الصورة التي رسمها المازني لابن الرومي، تكاد تكون صورته الخاصة، وإن كنا قد أَضَفْنَا إليها من ظروف حياته الخاصة، وظروف عَصْره ما يزيد هذه الصورة وضوحًا، غير مكتفين بما اقتصر عليه هو في تصويره لابن الرومي من أن الحياة تَحْمِل في ذاتها أسباب السخط ودواعي التمرد في كل عصر وكل بيئة، وذلك بحكم ما يحسه البشر مِنْ تصادُم دائم بين الرغبة والإمكان، وبين الأمل والواقع، مما يُحْدِث ذلك المرض النفسي الذي تسميه الرومانسية بمرض العصر Mal de sielce، وإن قصدوا به مرض كافة العصور، وهو يصيب عادة الشبان في مستهلِّ الحياة عندما تتفتح نفوسهم إلى أنواع من الطموح المعقول وغير المعقول، ثم يصطدم طموحهم بما يقوم أمامه من صعوبات في الناس والأشياء، ويكون عليهم أحد أمرين، لكي ترضى نفوسهم، وتطمئن بهم الحياة؛ فإما أن يغيِّروا من نفوسهم، وإما أن يغيِّروا الحياة بما فيها من صعوبات مستقرة في الناس والأشياء.

ولَمَّا كان كلا الأمرين شاقًّا عسيرًا، فإن الاصطدام يحتدم، فيولِّد في نفوس الشباب ذلك السخط والتمرد والشكوى والأنين التي تتكون منها تلك الحالة النفسية، التي تُسَمَّى بالرومانسية، والتي يصدر عنها أدب يحمل هذا الاسم، وإذا كان المازني عند حديثه عن ابن الرومي لم يَرَ مخرجًا من هذا المأزق غير الجهل والبلادة أو كليهما، فإنه هو نفسه، قد كَذَّبَ هذا الزعم، وأثبت أن هناك وسيلة أخرى سامية نبيلة، لتخليص النفس البشرية من هذا العذاب المستحكم، وهذه الوسيلة هي الفلسفة الساخرة المستخفة، التي تُنْجي الإنسان من التكالب على الحياة، ومن المبالغة في الحرص على أنواع من الطموح، الذي قد لا يستحق ما نعلقه به من قيمة، بل قد يكون استخفافنا به وعدم التكالب عليه هو السبيل الوحيد إلى تحقيقه، على نحو ما فعل المازني عندما أَفْلَتَ منه أو تراخى عنه ما ظنه مجدًا يستطيع تحقيقه بقرض الشعر، فسخر من الشعر والأدب، بل وسخر من الحياة كلها، وإذا بهذه السخرية وما أنتجَتْه من أدب، هي التي تضمن له المجد والخلود على نحو ما ضَمِنَهما من قبل «دون كيشوت» لسرفانتيس، بعد أن أعياه قرض الشعر والتكالب على المجد الأدبي.

والواقع أن ديواني الشعر اللذين نشر المازني أولهما في سنة ١٩١٣، والثاني في سنة ١٩١٧ كان:

كل بَيْتٍ في قرارته
جثة خرساء مرنانُ
خارِجًا من قلب صاحبه
مثلما يزفر بركانُ

والظاهر أن هذه الحالة النفسية المظلمة الساخطة المتمردة الشاكية، قد ظلَّت تلازمه حتى بعد صدور هذين الديوانين، إذ عثرت السيدة نعمات أحمد فؤاد بين الأوراق المخطوطة على بضعة قصائد ومقطوعات كان قد جَمَعَهَا ليصدرها في جزء ثالث من ديوانه، ومن بين هذه القصائد واحدة وَضَعَ لها عنوانًا «وصية شاعر» على مثال وصية هايني الشاعر الألماني، وقدم له بتبرير نثري ساخر لا يمكن أن يشفع لما فيها من مرارة، بل وحقد على الحياة والأحياء، وفيها يقول:

ستُرْخَى على هذي الحياة الستائرُ
وتُطْفَأ أنوار ويقفر سامرُ
فهل رَاقَ هذا الخلق قصة عيشتي
وماذا تبالي مَنْ طَوَتْه المقابرُ
تَرَكْتُ لهم من قَبْلِ موتي وصية
نظير التي أوصت بها لي المقادرُ
وَهَبْتُ لأعدائي إذا كان لي عِدًا
همومي وما منه أنا الدهر ثائرُ
وأوصيت للمحبوب بالسهد والضنى
وبالدمع لا يرقى ولا هو هامرُ
وبالجُدَرَى في وجهه ليزينه
وبالعرج المرذول والله قادرُ
وبالضعف والإملاق واليأس والجوى
وبالسقم حتى تتقيه النواظرُ
وللشيب بالأوجاع في كل مفصل
ووبالثّكل في الأبناء والجد عاثرُ
وكل سقام قد تركت لذي الصبا
وما كنت منه في الحياة أُحَاذِرُ
وللناس ألوان الشقاء وإنني
إذا متُّ لا آسى على مَنْ يخامِرُ

والديوانان لا حديث فيهما إلا عن نفسه وهمومه وآلامه وذكرياته، ملونة كلها بلون قاتم، فهو يخاطب الماضي بقوله:

القلب قَبْرٌ وأنت ساكنه
لا يبرح القبر ميت سَكَنَهْ

والدار المهجورة:

لم يَدَعْ منها البلى إلا كما
تترك التسعون من غضِّ الشبابْ

وإن كانت عذوبة الأيام التي قضاها بتلك الدار لم تزل عالقة بذكراه:

كنتِ للهو فقد صرتِ وما
أنت إلا طيف أيام عزازْ

وإن كانت تلك الديار لا تزال عزيزة على نفسه، يود أن يحتفظ لها بقداستها فيصيح قائلًا:

أوصدوا الأبواب بالله ولَا
تَدَعُوا العين ترى فِعْلَ البلَا
وامنعوا دار الهوى أن تبذلَا
إن للدار علينا ذِمَمًا
وقبيح خونها بعد الخراب

«والإخوان» قد ضيعوا عَهْده وخانوا وُدَّه، فضجَّ وتألَّم وبالَغَ في الألم صائحًا:

سَلِ الخُلَصَاء ما صنعوا بعهدي
أضاعوه وكَمْ هزلوا بجدِّي
ركبت إليهمو ظَهْر الأماني
على ثقة فَعُدْتُ أذم وخدِي
وصلت بحبلهم حبلي فلما
نَأَوْا عني قَطَعْتُ حبال ودي
وكانوا حليتي فعطلت منها
وغمدي فالحسام بغير غمْدِ
أذم العيش بعدهمو ومَنْ لي
بمن يدري أذموا العيش بَعْدِي
وما راجعت صبري غير أني
أُكَتِّم لوعتي في الشوق جهدي
ولو أطلقت شوقي بلَّ نحري
ورَوَّى وبْلُ غاديْتَيْه خدِّي
… … … … …
… … … … …
على أني وإن أطربْ لِقُرْبٍ
ليعجبني عن المخفار بعدي
إذا ما ضَنَّ بالتسليم قَوْمٌ
فإن الجود بالتوديع رَدِّي
لكلٍّ في احتمال الناس طَبْعٌ
ولَسْتُ على تَمَلُّقِهم بجَلْدِ

… إلخ

وكذلك «فتًى في سياق الموت»:

نَعُدُّ أنفاسه ونحسبها
والليل فيه الظلام يَلْتَطِمُ
إذا خروج الحياة أَجْهَدَهُ
تساقطَتْ عن جبينه الديمُ
صدر كصدر الخضمِّ مضطرب
جحافل الموت فيه تزدحمُ
إن قام مِلْنَا له بمسمعنا
أو نام خَفَّتْ بوطئنا القدمُ
يرتاع من طول نومه الأمل
ويشتكيه الرجاء والسأمُ
كأنما الخوف من تردُّدِه
خيل لها من رجائنا لجمُ
خلناه قد مات وهْو في سِنَةٍ
ونائم الجفن وهْو مخترمُ
قد قَلَّصَت ثغره منيته
كأنه للحمام يبتسمُ

ومعظم قصائده الأخرى الجيدة مثل «أحلام الموتى»، و«ثورة النفس»، و«الوردة الذابلة»، و«بعد الموت»، و«مناجاة شاعر»، و«قبر الشعر»، و«عتاب»، و«ثورة النفس في سكونها»، و«هيهات بابل من نجد» كلها من هذا النوع القاتم الحزين، ولعل قصيدة «ثورة النفس» خير معبر عن الحالة النفسية التي كانت مسيطرة عليه عندئذٍ، وقد كتب هذه القصيدة ردًّا على قصيدة بنفس العنوان ومن القافية المزدوجة، كان قد أرسلها إليه عبد الرحمن شكري، وفيها يقول:

هياج كما هاجت قطاة تعلَّقَتْ
بأحبولة الصياد إذ ليس مهربُ
أما في سكون الليل يا نَفْسُ واعِظُ
أما في سكون الروض ملهًى ومطربُ

فأجابه المازني بقوله:

أخَا ثقتي كم ثارت النفس ثورةً
تُكَلِّفُني ما لا أطيق من المضِّ
وهل أنا إلا رَبُّ صَدْرٍ إذا غلا
شعرْتُ بمثل السهم من شدة النبْضِ
لبست راء الدهر عشرين حجة
وثنتين، يا شوقي إلى خَلْع ذا البُردِ
عَزُوفًا عن الدنيا ومن لم يَجِدْ بها
مرادًا لآمالٍ تَعَلَّلَ بالزهدِ
تُرَاغِمُني الأحداث حتى كأنني
وجدت على كُرْهٍ من الحدثانِ
فلا هي تصمي القلب مني إذا رَمَتْ
ولا ترعوي يومًا عن الشنآنِ
أَبِيتُ كأن القلب كهف مُهَدَّمٌ
برأس منيف فيه للريح مَلْعَبُ
أَوَ انِّي في بحر الحوادث صخرة
تناطحها الأمواج وهْي تقلِّبُ
… … … … …
… … … … …
أكنُّ غليلي في فؤادي ولا أرى
سبيلًا إلى إطفاء حَرِّ جوى الصدرِ
أُعَالِج نفسًا أَكْبَر الظن أنها
ستذهب أنفاسًا حرارًا على الدهرِ
إذا اغتمضت عيناي فالقلب ساهرٌ
يظل طويلَ الليل يرعى ويرصدُ
وما إن تنام العين لكن إخالها
تدير بقلبٍ نظرةً حين أرقدُ

ومن هذه القصيدة قوله:

سأقضي حياتي ثائر النفس هائجًا
ومِنْ أين لي عن ذاك معدًى ومذهبُ
على قدر إحساس الرجال شقاؤهم
وللسعد جوٌّ بالبلادة مُشْرَبُ

وبالرغم من أن المازني قد وصف شعر شبابه هذا بأنه «لا يصور النفس على حقيقتها، ولا يُعَبِّر عنها تعبيرًا صحيحًا؛ لأن الاقتباس فيه بالقديم من شرقي وغربي أكثر من الاستمداد من التجريب»، نقول: بالرغم من هذا الوصف، فإن شِعْر المازني يصور طورًا حقيقيًّا من أطوار حياته، وإن كنا لا نُنْكِر أنه قد تأثَّر في هذا الشعر تأثُّرًا كبيرًا بالشعراء الإنجليز والعرب، وبخاصة الشاعر الرومانتيكي شيلي، والشاعر العاطفي الشريف الرضي، اللذين اعترف المازني في حديث له بمجلة الهلال أنهما كانا الشاعرين اللذين تَأَثَّرَ بهما أَبْلَغ التأثُّر وهو في صَدْر حياته.

وأما عن طبيعة شعره الفنية، فقد سَبَقَ أن قلنا إنه يُكَوِّنُ مع عبد الرحمن شكري وعباس العقاد مدرسة أوضحوا اتجاهها في مقدمات دواوينهم، وفي مقالاتهم ودراساتهم النقدية، وقد كتب العقاد مقدمة للجزء الأول من ديوان المازني، بينما كتب المازني مقدمة الجزء الثاني، كما أَوْضَحَا عددًا من الأصول التي يدعوان إليها في نقدهما لشعر شوقي وحافظ، بل وشعر عبد الرحمن شكري نفسه عندما فَسَدَتْ بينهم العلاقات، ونشبت الخصومة.

وبالرغم من حملتهم العاتية على التقليد في الشعر العربي، وثورتهم على قيوده القاسية في الأوزان والقوافي، فإنهم في الواقع لم يَخْرُجوا بالشعر العربي عن دائرته الغنائية، ولم يفعلوا ما فعله مطران من تحويل الشعر نحو الموضوعية القصصية أو الدراماتيكية، كما أنهم لم يتحللوا من الأوزان؛ لإدراكهم أن الوزن الموسيقي هو في النهاية المميز الأساسي للشعر، وأما القافية فقد تحللوا منها على قدْر؛ إذ قالوا بالاكتفاء بالقافية المزدوجة، أي التي تتحد في كل بيتين فحسب، لا في القصيدة كلها، أو القافية المتجاوبة، التي تتفق في البيتين تقع بينهما مقطوعة من قافية أخرى.

وأما عن أغراض الشعر وموضوعاته فكل ما حملوا عليه كان شعر المناسبات الذي يَنْزِل بهذا الفن الرفيع إلى مستوى المديح الكاذب المصطنع والتملق المعيب، وهذا ما لا نعثر له على أثر في ديواني المازني، كما نادت هذه المدرسة بالصدق وضرورة احترامه، حتى يصبح الشعر تعبيرًا صادقًا عن نفسية الشاعر، وعن عصره الذي يراه خلال نفسه، ومثل هذه النظرة كانت خليقة بأن تنتهي عند رجل مفرط الحساسية، ثائر على الحياة، مُصَابٍ بمرض العصر كالمازني، إلى الشعر الرومانتيكي الذي نطالعه في ديوان المازني.

وأما عن أصول الفن عند هذه المدرسة فنستطيع أن نستنتجها من نَقْد المازني والعقاد لحافظ وشوقي، حيث نراهما يطالبان مثلًا بوحدة القصيدة العضوية، بدلًا من وحدة البيت واستقلاله، وفي ذلك يتفقان مع مدرسة مطران، كما نراهما يهاجمان التفكك والتقليد والإحالة، وعدم الصدق، ويضعان مقياسًا للجودة إمكان ترجمة الشعر إلى لغة أجنبية دون أن يَفْقِد قيمته، وكل هذه أصول ومقاييس تقبل الجدل والمناقشة، ومن المعلوم أن النقد العنيف الذي شَنَّه المازني والعقاد على العمالقة الذين كانوا يغمرونهما بظلالهم، لم يَخْلُ من هوًى وتحامُل، والبَوْن شاسع بين نَقْد هذين الأديبين الكبيرين للعمالقة المعاصرين، وبين نَقْدهما لشعراء العرب الأقدمين أو شعراء الغرب، حيث يخلو نَقْدهما من التحامل والهوى، ويصبح نقدًا موضوعيًّا تفسيريًّا، يبحث عن الخصائص والمميزات، ويحاول تفسيرها، وإذا حَكَمَ جاء الحكم إما سليمًا، وإما مخطئًا بحسن نية وسلامة قَصْد، على نحو ما نجد في دراستهما لابن الرومي بنوع خاصٍّ، ثم في دراسة المازني لبشار بن برد في كتاب قائم بذاته.

ولقد كتب المازني في عدد نوفمبر ١٩٤٥ من مجلة الكتاب مقالًا يقول فيه عن النقد: «لا يخلو كاتب ما مِنْ نقْص، ولو خلا — وتلك مرتبة لا تُنال — لَمَا كان إنسانيًّا، ولكان خليقًا بقارئه أن يُحِسَّ أن صاحبه ليس من بني الإنسان، وأن ينظر إليه نظرة فيها رهبة، وأن يستوحش من جانبه، بل أنا أذهب إلى أن من البواعث الخفية على الإعجاب أن يفطن القارئ إلى مواضع النقص ومواطن الضعف، وأن يُحِسَّ — ولو إحساسًا غامضًا — أن الكِتَاب من الكتب — على جلالة قَدْره، وعِظَم شأنه، ونُدْرة مثله، وعَجْز الأكثرين عن الإتيان بما يقاربه — لا يخلو من زلات وعثرات، ووَهَنٍ هنا وسقوط هناك، أو إسفاف أو خمولة، أو قصور أو تقصير، أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى ويَلْحق به، وهذا الشعور، لك أن تقول هذه الثقة من القارئ بأن الكتاب لا يبرأ من العيوب والمآخذ — حتى ولو كان يعييه أن يبينها ويضع إصبعه عليها — يحفظ له احترامه لذاته، أو يستبقي له القَدْر اللازم لحياته من الغرور، ويُشْعِره أن الكاتب — مهما سما — قريب منه وإنسان مثله، فيهون عليه أن يُولِيَه الإكبار الذي يستحقه دون أن يشعر بغضاضة من ذلك على نفسه، ومن هنا كان شر الكتب الإنسانية أو أشدها استفزازها للنفس واستثارة لسخطها، ذلك الذي يُشْعِر القارئ بهوانه، ويُبْرِز له مبلغ ضعته وضآلته، وليست ثورة القارئ على الكتاب الذي يكون من هذا القبيل، إلا مظهرًا من مظاهر الدفاع عن النفس.»

ولسنا ندري إلى أي حد تُعَبِّر هذه الآراء عن طبيعة المازني الحقيقية، أو يصدر فيها عن بعض النظريات النفسية والفلسفية، التي يمكن أن يكون قد قرأها، فأقواله هذه تُذَكِّرنا بفقرات قرأناها منذ سنين في خطبة ألقاها السياسي الكبير بركليس، تأبينا لجند أَتِينا الذين استشهدوا في سبيلها في الحرب التي قامت بينها وبين أسبرطة في القرن الخامس قبل الميلاد، وفيها يقول: «إن الإنسان لا يستسيغ من مَدْحٍ للغير إلا بقدر ما يعتقد أنه قادر على مثله»، كما أن من علماء الأخلاق المتشائمين من يَرُدُّون كثيرًا من أعمال الخير والبطولة والكرم إلى الأنانية البشرية الدفينة التي تجد في مثل هذه الأعمال الخيرة ما يرضي غرورها واستعلاءها وكبرياءها المسرف.

وإنه وإن تكن عبارات المازني السابقة لا تخلو من لبْسٍ وغموض، عندما يتحدث عن الكتب التي تُشْعِر القارئ بهوانه وضعته وضآلته، إلا أن السياق العام يوحي — لسوء الحظ — بأنه لا يَقْصِد الهوان والضعة والضآلة البشرية في ذاتها، بل يَقْصِد الهوان والضعة والضآلة التي قد يستشعرها الأديب عندما ينقد كتابًا أو قصيدة أو قصة لأديب آخر يتفوق عليه بملكاته، فيجد سرورًا خفيًّا في أن يتلمس مواضع النقص والقصور والتقصير والخمولة والإسفاف والزلات والعثرات التي يتحدث عنها المازني، ويكون تَلَمُّس تلك النقائص عندئذٍ مظهرًا من مظاهر الدفاع عن النفس، ولو صحَّ هذا لكان فيه ما يُحْزِن، وإننا لنخشى أن يكون قد صح عند المازني، على الأقل في صدر حياته وقبل أن تستوي له فلسفته التي كبحت جماح نفسه، بل ومَكَّنَتْه في أغلب الأحيان من أن يقهر تلك النفس الأمارة بالسوء، فالكتاب الجيد ليس عدوًّا لقارئه، بل هو خير صديق، وهو لا يمكن أن يجرح كبرياءه، بل هو بلسم يضمد جراح النفس، ويرفع القلب إلى المثل الأعلى، وإلا كانت النفس مريضة وكان القلب سقيمًا.

وعلى أية حال فإن نقد المازني الشاب للعمالقة من معاصريه كحافظ إبراهيم والمنفلوطي، بل وعبد الرحمن شكري، لا يخلو من تحامُل شديد قد يدخل في نطاق الدفاع عن النفس، الذي يتحدث عنه المازني، والذي نظن أن العقاد قد شاركه الإحساس به، فجاء نقده هو الآخر بالنسبة للمعاصرين شبيهًا بنقد المازني متضامنًا معه.

والواقع أن المازني ورفاقه قد استشعروا الكثير من الضيق من الظلال التي كان يلقيها عليهم عمالقة العصر، وكأنهم يحجبون عنهم ضوء الشمس ووَهَج المجد، حتى لَيُخَيَّل إلينا أنَّ صَمْت شكري وهَجْر المازني للشعر يرجعان — إلى حدٍّ ما — إلى احتلال شوقي وحافظ بنوع خاص قمة الأولمب، وظنهما أن تلك القمة لا سبيل إليها، وإن تكن هناك فيما يبدو أسباب أخرى متعددة، حَمَلَت المازني على هجران الشعر وإيثار النثر، منها — بل وفي مقدمتها — تَغَيُّر نَظْرته إلى الحياة، وتكوُّن فلسفته الخاصة، التي يواتيها النثر أكثر مما يواتيها الشعر، الذي سيظل لغة النفس الحارة وانفعالاتها المتقدة، ومنها اضطراره إلى تغيير مهنته من التدريس إلى الصحافة، فالتدريس كان يكفل له الحياة المادية ويترك له الفراغ اللازم لتحقيق هوايته في نظْم الشعر ومعالجة فن القول، فلما أصبحت الصحافة التي لا ترحم هي وسيلة حياته، لم يَرَ بدًّا من أن يتحرر من قيود الشعر ومشقاته؛ لكي يَنْطَلِق في مجال النثر المطلق السريع الذي يستطيع بواسطته. حق الصحافة، وأن يضمن لنفسه ولذويه لقمة العيش، المعجونة بعرق الجبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤