المازني القصاص

تَحَدَّثَ المازني نفسه على لسان إبراهيم الثاني بطل القصة التي تَحْمِل هذا الاسم عن القصص، فقال: «إن الروايات ليست، ولا يمكن أن تكون خيالًا بحتًا أو شيئًا يخلقه الإنسان من لا شيء، ولا يُحَوَّر فيه إلى أصل من حقائق الحياة»، وأَنْكَرَ قدرة الإنسان على هذا الخلق من لا شيء، وذهب إلى أن كل ما يسعه هو التوليد، وهو أن يُلَفِّق القصة من جملة ما شهد، وما جرب، وما سمع، ويكوِّن الشخصيات من أشتات ما عرف، ثم تعمل الفطنة الطبيعية واللب العبقري فِعْلَهما بعد ذلك، فليست القصص خيالًا ولا ما تصفه محالًا.

وهذا الحديث الذي رواه المازني عن بطله إبراهيم الثاني، هو في الواقع حديث المازني الخاص عن فنه القصصي، فهو لم يكتب قصصًا من العدم، ولا مِنْ نَسْج الخيال، بل استقى مادة قصصه مما رأى أو جَرَّبَ أو سَمِعَ، بل إن بطل قصتيه الأساسيتين وهما «إبراهيم الكاتب»، و«إبراهيم الثاني» هو المازني نفسه، بل لعلنا لا نعدو الحق إن قلنا: إنه هو نفسه بطل معظم ما كَتَبَهُ من قصص وأقاصيص، كما كان محور الكثير مما كتبه من مقالات تَدُورُ حول ذكرياتِ حياته أو مَشَقَّات عمله الصحفي أو تجاربه في الحياة، وشتى علاقاته الاجتماعية، بحيث يمكن القول بأن أدب المازني كله — شعرًا أو نثرًا وقصصًا ومقالات — أدب شخصي، ومع ذلك استطاع المازني — بما وهبه الله من روح شاعرية شفافة، وبما أفاده من الحياة من فلسفة فَكِهة ساخرة — أن يعطي هذا الأدب طابعًا إنسانيًّا جديرًا بالخلود.

لقد كتب المازني من القصص «إبراهيم الكاتب»، و«إبراهيم الثاني»، و«عود على بدء»، و«ثلاثة رجال وامرأة»، و«ميدو وشركاه»، كما كتب عددًا كبيرًا من الأقاصيص أو المقالات القصصية في مختلف الصحف والمجلات، وجَمَعَ منها مجموعات في «ع الماشي»، و«في الطريق»، و«من النافذة»، فضلًا عما انتثر منها وسط مجموعات مقالاته الأخرى مثل «حصاد الهشيم»، و«قبض الريح»، و«صندوق الدنيا»، و«خيوط العنكبوت»، كما أن له أقصوصة بعنوان «على الهامش» نَشَرَها ضِمْن مجموعة من الأقاصيص لعدد من الأدباء المصريين نُشِرَتْ باسم «أقاصيص».

والملاحَظ بوجه عامٍّ على قصص المازني وأقاصيصه أنها لا تُعْنَى بالأحداث ولا تُغْرِب في الخيال، وقد قَرَّرَ هو نفسه أنه لا يُعْنَى في قصصه بسرد الأحداث، وإنما هَمُّه الأول هو تحليل النفوس وتصوير الشخصيات، حتى إن الكثير من أقاصيصه لا يُعْتَبر قصصًا فنيًّا، بل مقالات قصصية لا حبكة فيها ولا بناء للقصة، بل سردًا لحوادث أو ذكريات أو تجارب بَالِغة البساطة، ومِنْ حولها فيض من التحليلات النفسية أو التأملات العقلية، وكأن القصة عنده مجرد مسمار يشجب فيه لوحاته الفكرية أو الجمالية؛ ولذلك لا نراه يُعْنَى في الكثير من قصصه وأقاصيصه بخواتمها، حتى قال بعض النقاد: إنه كاتب هروب من الحياة، وهم يستدلون على ذلك بأَهَمِّ قصة كَتَبَهَا، وهي إبراهيم الكاتب؛ حيث نتابع بطلها إبراهيم في سلسلة مغامرات مع ماري وشوشو وليلى.

وإذا كنا قد عَرَفْنا مصير بعض تلك الشخصيات كشوشو التي تزوجت بالدكتور محمود، فإننا لم نعرف شيئًا عن مصير الشخصيات الأخرى، وبخاصة بطل القصة الذي لم نعلم عنه إلا أنه لم يتزوج بواحدة من هؤلاء الفتيات، دون أن نتبين آثار تلك الخيبة في نفسه ولا تأثيرها على حياته، وإن كنا نعود فَنَلْقَى نفس البطل في قصته الثانية «إبراهيم الثاني»، حيث نشهد زواجه من تحية، ثم مغامراته البريئة مع عايدة وميمي، وقد تطوَّر البطل تطورًا كبيرًا بفضل السن وتراكُم تجارب الحياة وخمود فورة الشباب، واتساع العقل والقدرة على فَهْم الغير والتفكير في مصيرهم، وهو تطوُّر أَفْقَدَ هذا البطل الذي يختلط بالكاتب اختلاطًا تامًّا — بحكم وحدة الشخصية — الكثيرَ من حرارة السخرية التي أَفْسَحَت المجال لنظرات الفكر الهادئة إن لم تكن الباردة، ولتحليلات العقل ومناجاة النفس التي تصل إلى حدِّ تجريدها وإجلاسها أمام البطل على مقعد، واضعة ساقًا على ساقٍ!

وفي الحق إن القصتين الأساسيتين اللتين كتبهما المازني وهما «إبراهيم الكاتب»، و«إبراهيم الثاني»، لا يُعْتَبَرَان قصتَيْن بقَدْر ما يُعْتَبَرَان ترجمة شخصية للمازني أو لبعض تجارب حياته، وإن يَكُنْ قد حاوَل أن يُدْخِلَ فيهما بعض العناصر الخيالية أو يُعَمِّي في بعض وقائعهما؛ لِيُخْرِجَهُما مَخْرَج القصص، أو نزولًا على بعض مقتضيات الحياة، وكل من هاتين القصتين تُمَثِّل مرحلة واضحة في حياة الكاتب الفنية والعقلية، كما تُمَثِّل طورًا من أطوار فلسفته في الحياة، تلك الفلسفة التي وإن نكن قد قسمناها فيما سبق إلى قسمين؛ قسم التذمر والسخط والشكوى والتشاؤم — وفي هذا القسم يدخل شعره — ثم قسم السخرية والتَّهَكُّم والاستخفاف بالحياة، وهو القسم الذي يَتَنَاوَلُ معظم أدبه النثري، نقول: إننا وإن نكن قد اكتفينا فيما سبق بهذا التقسيم العام، إلا أن النظر الدقيق يُمَكِّننا من أن نلاحظ تطورًا واضحًا في القسم الثاني من حياته وفلسفته وإنتاجه؛ ففي أول هذا الطور كانت روح الشعر لا تزال طاغية على نفسه، حتى لتطالعنا من خلال نثره بعد أن هجر القريض، وهذه الروح واضحة في الكثير من صفحات إبراهيم الكاتب، حيث يَصِفُ مظاهر الطبيعة، أو يتحدث عن خوالج النفس بروح شعرية نافذة، وكذلك الأمر في السخرية؛ فقد كانت في أول هذا الطور سخرية مُرَّة يُلَوِّنها الأسى، أو تُومِض من خلالها جمرات النفس الثائرة.

أما في آخر هذا الطور وعندما كتب «إبراهيم الثاني» فقد ضَعُفَت الروح الشعرية بضَعْف الانفعال العاطفي، كما أصبحت السخرية مجرد فكاهة، بل قد يصطنعها الكاتب أحيانًا دون أن يحفزه إليها دافع إنساني، ودون أن تُتَرْجِم عن حقائق نفسية دفينة، وذلك بينما نرى التفكير العقلي قد استفحل حتى أَوْشَكَ أن يقترب من «الفنقلة» الأزهرية، أو «الفرضية» المسيحية casuistique، وهي ذلك المنهج العقلي الذي يقلب كل مسألة على كافة وجوهها، ويلتمس حلًّا لكل فَرْض، حتى ولو كان هذا الفرض مستحيلًا أو بعيد الاحتمال.

وبالرغم من أن قصص المازني قد لا تُعْتَبَر مستوفيةً لكافة الشرائط الفنية للقصة، إلا أنها مع ذلك تُعْتَبَر كنزًا ثمينًا من القيم الإنسانية والقيم الجمالية التي أَضْفَاها عليها تفكيره النافذ وروحه الشعرية المُجْنِحة، وفلسفته الساخرة المؤثِّرة، كما تُعْتَبر كنزًا في تحليل النفوس وتصوير الشخصيات، وفي طليعتها شخصية إبراهيم عبد القادر المازني نفسه، الذي يُعْتَبر في طليعة كُتَّابنا المحدثين، بل لعله يتميز عنهم جميعًا بما له من فلسفة خاصة في الحياة، ومن أسلوب عقلي متميز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤