الفصل الأول

(١) فِي سَفْحِ جَبَل

مُنْذُ آلافٍ مَضَتْ مِنَ السِّنِينَ وُلِدَ بَطَلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ — أَعْني: «بَطَلَ أَتِينا» — فِي إحْدَى المَدائِنِ الْيُونانِيَّةِ الْقَدِيمِة، الْواقِعَةِ عَلى سَفْحِ جَبَلٍ شاهِقٍ مِنْ جِبالِ الْيُونانِ.

وقَضَى «بَطَلُ أَتِينا» طُفُولَتَهُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ الشَّاهِقِ. وَعاشَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِيشَةً راضِيَةً، حَيْثُ تَرْعاهُ أُمُّهُ الْحَنُونُ، وتُعْنَى بتَنشِئَتِهِ وتَثْقيِفه، وَتَقُصُّ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وتَرْوِي لَهُ كلَّ مُعْجِبٍ مِنْ أَخْبارِ الْأَوَّلينَ، وتَواريخِ الْقُدَماءِ والْمُحْدَثينَ؛ لِتُبَصِّرَهُ بِحَقائقِ الْحَياةِ وعِظاتِها، وتَنْفَعَهُ بِما تَحْوِيهِ تِلْكَ الأحادِيثُ مِنْ عِبَر سامِيَةٍ، ومُتَعٍ شائِقَةٍ.

(٢) مَلِكُ «أَتِينا»

وكانَ أَعْجَبَ ما تُحَدِّثُهُ بِه أُمُّهُ — مِنْ تِلْكَ الْأَحاديثِ الْبارِعَةِ — حَدِيثُها عَنْ أَبِيهِ؛ فَقَدْ قَصَّتْ عَلَى وَلَدِها: «بَطَلِ أَتينا» — ذاتَ يَوْمٍ — أَقاصِيصَ مُعْجِبَةً، وصَفَتْ فِيها ما أَتاهُ والِدُهُ منْ جَلائِلِ الْأَعْمال، وعَظائِم الْأُمُور، وقالَتْ لَهُ فِيما قالَتْهُ: «لقد عَهِدَ إلَيَّ أَبُوكَ أَنْ أَقُومَ ساهِرةً عَلَى الْعِنايةِ بِأَمْرِكَ؛ لِيَفْرُغَ هُوَ إلى الْعِنايَةِ بِالْمُلْكِ، والسَّهَرِ عَلَى راحَةِ النَّاسِ، وإقامةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ يَعِيشُ فِي قَصْرِهِ الفاخِرِ فِي مَدينَةِ «أَتينا».»

(٣) حوار الأم وولدها

فقَالَ لَها «بَطَلُ أتينا» مَدْهُوشًا: «وما بالُ أبي لا يَأتي إلَى بَلَدِنا هَذا لِيَعيشَ مَعَنا وادِعًا، قَرِيرَ الْعَيْن بِرُؤْيَةِ ولَدِهِ الْعَزِيزِ؟»

فأَجابتْهُ أُمُّهُ باسِمًةً: «كَيْفَ السَّبِيلُ إِلىَ تَحْقيقِ هَذِهِ الْأَمنِيَّةِ، يا وَلَدِيَ الْعَزِيَز؟ إنَّ أباكَ مَشْغُولٌ بِسِياسَةِ الْمُلْكِ، وإقامةِ الْعَدْلِ بَيْنَ رَعِيَّتِه. ولَيْسَ في قُدْرَتِهِ أنْ يَتْرُكَ هَذِهِ الْفُرُوضَ والْواجِباتِ الْمُقَدَّسَةَ، لِيَبْحَثَ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغيرِ.»

فَقال لَها وَلَدُها: «صَدَقْتِ — يا أُمِّي — فِيما قُلْتِ. ولَكِنْ خَبِّرينِي — أيَّتُها الْعَزِيزَةُ البارَّةُ — ماذا يُعَوِّقُني عَنِ السَّفَرِ إلى مَدينَةِ «أتِينا»، حَيْثُ ألْقَى أبِي، وَأَنْعَمُ بِهِ، وأُمَتِّعُ ناظِرَيَّ بِرُؤْيَتِهِ؟»

فَقالَتْ لهُ أُمُّهُ: «لَكَ ما تُحِبُّ وتُريدُ — يا وَلَدِي — ولَكِنِ الْوَقْتُ لَمْ يَحِنْ بَعْدُ؛ فأنْتَ لا تزالُ فِي سِنِّ الطُّفولَةِ، فاصْبِرْ — يا عَزِيزي — حَتْى إذا كَبِرَتْ سِنُّكَ، واكْتَمَلَتْ قُوَّتُكَ أَذِنْتُ لَكَ فِي السَّفَر إلَى أبيكَ؛ فإِنَّ الطَّرِيقَ وَعْرَةٌ مُخِيفَةٌ، ولَسْتُ آمَنُ عَليْكَ أخْطارَها وأحْداثَها (مَصائِبَها الْمُفاجِئَةَ).»

(٤) صَخْرَةُ الجَبَل

فَقالَ «بَطَلُ أتِينا» مُتَعَجِّبًا: «ومَتَى تُؤْمِنينَ — يا أُمَّاهُ — بِأنَّني على حالٍ مِنَ السِّنِّ والْقُوَّةِ، تُبِيحُ لي أنْ أُسافِرَ وَحْدِي، وأجْتازَ تِلْكَ الطَّرِيقَ الْمَخُوفَةَ، دُونَ أنْ تَخْشَيْ عَلَيَّ أحْداثَها وأخْطارَها؟»

فَقالتْ لَهُ أُمُّهُ مُتَوَدِّدَةً: «إنَّكَ — يا وَلَدِي — لَمَّا تَعْدُ سِنَّ الطُفُولَةِ. ولَنْ أسْمَحَ لَكَ بِالسَّفَرِ إلى أبيكَ، إلَّا إذا بَلَغْتَ مِنَ الْقُوَّةِ مَبْلَغًا يُمَكِّنُكَ مِنْ رَفْعِ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، الَّتي نَجْلِسُ عَليْها الآنَ فِي سَفْحِ هَذا الْجَبَلِ!»

فأَسْرَعَ الصَّبيُّ إلى تلْكَ الصَّخْرةِ، وَبَذَلَ قُصارَى جُهْدِهِ لِيَرْفَعَها؛ فَلمْ يَقْدِرْ على تَحْريِكها — من مَكانِها — قِيدَ أَنْمُلَةٍ (مسافَةَ رَأْسِ إصْبَعٍ)، وَخُيَّلَ إلَيْهِ — لِضَخامَتِها وَثِقَلِها — أَنَّها لاصِقَةٌ بِسَفْحِ الْجَبَلِ.

فَقالَتْ أُمُّهُ باسِمَةً: «أَرَأَيْتَ — يا وَلَدِي — كَيْفَ عَجَزْتَ عن تَحْريكِ الصَّخْرَةِ مِنْ مَكانِها؟ فاصْبِرْ حَتَّى تَكْبَرَ سِنُّك، وَيَقْوَى ساعِدُك، فَتَرْفَعَ الصَّخْرَةَ مِنْ مَكانِها بِأَدْنَى مُحاوَلَةٍ وَأَيْسَرِ جُهْدٍ، وَترَى ما خَبَأْناُه لَكَ تَحْتَها مِنْ عَتادِ السَّفَرِ. وَمَتَى تَمَّ ذَلكَ أَذِنْتُ لَكَ في الذَّهابِ إلى أَبيكَ، وَتَمَلِّي رُؤْيَته.»

(٥) بَعْدَ أَعْوامٍ

وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ الْحَديثِ أَعْوامٌ قَلِيَلةٌ. وَكانَ «بَطَلُ أتينا» وَأُمُّهُ يَخْتَلِفانِ إلى ذَلِكَ الْمكانِ، وَيَجْلِسانِ عَلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ — كلَّ يَوْمٍ — حْيثُ يَتَجاذَبانِ أَطْرافَ الْحَديثِ، وَيَتَمَنَّيانِ أَطْيَبَ الْأمانِيِّ.

وَذا صَباحٍ جَلَسا — عَلَى عادَتِهِما — عَلَى تلْكَ الصَّخْرَةِ الْعالِيَةِ، فَذَكَرَ «بَطَلُ أتينا» حَديثَ أُمِّه الَّذي حَدَّثَتْهُ بهِ مُنْذُ أَعْوامٍ. واشتَدَّ حَنِينُهُ إلى لِقاء أَبيِه؛ فَبَرَقَتْ عَيْناهُ مِنْ شِدَّةِ الْحَماسَةِ، إذْ لاحَ لَهُ أَنَّ تَحْقيقَ أُمْنِيَّتِه وَشِيكٌ (سريعٌ). وَأَنَّ إدْراكَ مَطْلَبِه العَزِيزِ أَصْبَحَ يَسِيَرًا علَيْهِ، فالْتَفَتَ «بَطَلُ أَتينا» إلى أُمِّهِ قائِلًا: «أُمِّيَ الْعَزِيزَةَ، لَقَدْ أَصْبَحْتُ الآنَ — فِيما أَعْتَقِدُ — رَجُلًا شَديدَ الْبَأْسِ. وَأَغْلَبُ ظَنِّي أنَّني قَدْ بلَغْتُ مِنَ الْعَزْمِ ما يُمَكِّنُني مِنْ رَفْعِ هَذِهِ الصَّخْرَةِ الْعظِيمَةِ، فماذا أَنْتِ قائِلَةٌ؟»

فَأَجابَتْهُ أُمُّهُ: «ما أَظُنُّ الْوَقْتَ — يا وَلَدِي — قَدْ حانَ لِبُلُوغِ هَذا الْمَرَام!» فقال لَها واثِقًا مَزْهُوًّا (مُعْجَبًا بِنَفْسهِ): «إني جِدُّ واثِقٍ منْ قُوَّتي. وَسَتَرَيْنَ مِصْداقَ ما أَقُولُ.»

(٦) عَتادُ السَّفَرِ

وَكانَتْ هَذهِ الصَّخْرَةُ الْهائِلَةُ مُنْغَرِسَةً في الأرْضِ، وَقَدْ أَنْبَتَ علَيْها طُولُ الْعَهْدِ كَثيِرًا مِنَ الْحَشائِشِ وَالطَّحالِبِ، فَجَعَلَ «بَطَلُ أَتينا» يَبْذُلُ كُلَّ ما في وُسْعِه مِنْ قُوَّةٍ وَجُهْدٍ، حتَّى زَحْزَحَ الصَّخْرَةَ مِنْ مَكانِها؛ ثُمَّ رَفَعَها قَليلًا، وَقَلَبَها عَلَى جانبِها الآخَرِ. وَما انْتَهى منْ ذَلكَ حَتى جَهَدَهُ التَّعَبُ، وَبَلَغَ منْهُ الْإعْياءُ كُلَّ مَبْلَغٍ. فَنَظَرَ إلى أُمِّهِ نَظْرَةَ الظَّافِرِ الْمُبْتَهجِ؛ فَرَآها تَبْتَسِمُ لهُ، وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْناها مِنْ دُمُوعِ الْفَرَحِ لِانْتِصارِ وَلدِها وَنَجاحِه ما مَلَأَ قَلْبَهُ ثِقَةً وَيَقينًا. ثُمَّ قالَتْ لهُ: «سَلِمَتْ يَمِينُكَ يا عَزِيزي، وَأَتمَّ اللهُ لكَ النَّصْرَ، أَيُّها الْفارِسُ الْغَلَّابُ؛ فَلا تَتَوانَ عنِ السَّفَرِ بعدَ الآنَ، وَلا تَلْبَثْ في الْمَديِنَةِ لَحْظَةً واحدَةً، وَاذْهَبْ مُسْرِعًا إلى أَبيكَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ؛ فقَدْ أَوْصانِي أَلَّا أَسْمَحَ لكَ بِالسَّفَرِ قَبْلَ أَنْ تُزَحْزِحَ هَذهِ الصَّخْرَةَ الْعظِيمَة مِنْ مَكانِها بِذِراعَيْكَ الْقَوِيَّتَيْنِ، وَقَدْ تَرَكَ لَكَ تَحْتَها عَتادَ السَّفَرِ.»

figure

وَنَظَرَ «بَطَلُ أَتينا»؛ فَرَأَى فَجْوَةً تَحْتَ الصَّخْرَةِ، وَرَأَى فِيها سَيْفًا مَقْبِضُهُ ذَهَبِيٌّ، وإلَى جانِبِهِ نَعْلَا أَبيهِ اللَّتان تَرَكَهُما لهُ لِيَحْتَذِيَهُما في أَثْناءِ سَفَرِهِ إلَيْهِ.

(٧) وَصِيَّةُ الجَدِّ

فَقالتْ أُمُّ الْبَطَلِ: «هَذا سَيْفُ أبيكَ، وَهاتانِ نَعْلاُه، فاذْهَبْ إلى مَمْلَكَتِهِ، وَأعِدْ عَهْدَ شَبابِهِ، واقْتَحِمِ الْعِقابَ، وذَلِّلِ الصِّعابَ، وانْهَضْ بِجَلائِلِ الْأعْمالِ، وأعِدْ سِيرَةَ أبيكَ الْجَرِيء المِقْدامِ.»

فَصاحَ «بَطَلُ أتِينا»: «إنِّي راحِلٌ إلى أبِي، وذاهِبٌ تَوًّا لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْأمْنيَّةِ الْحَبِيبِ إلى نَفْسِي تَحْقيقُها.»

وَما عَلِمَ جَدُّهُ بِما اعْتَزَمَهُ، حتَّى أقْبَلَ عَلَيْهِ يُوَدِّعُهُ، وَيَدْعُو لهُ بِالتَّوْفِيقِ فِي مَسْعاهُ، وَيقُولُ لهُ: «أمامَكَ — يا حَفِيديَ الْعَزِيزَ — طَرِيقانِ، إِحْداهُما: طَرِيقُ الْبَحْرِ، وَهِيَ طَرِيقٌ آمِنَةٌ مُيَسَّرَةٌ، والْأُخْرَى طَرِيقُ الْبَرِّ، وهيَ شَدِيدَةُ الْوُعُورَةِ، مَحْفُوفَةٌ بِالمَخاوِفِ والْأَخْطار، مَلِيئَةٌ بالوُحُوشِ واللُّصُوصِ والثَّعابِينِ، وَلَسْتُ آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَقْطَعَ هَذِهِ الطّريِقَ الْمَخُوفَةَ مُنْفَرِدًا، وَإنْ كُنْتُ أرَى فِيكَ — مِنْ شَمائِلِ الْفُروسِيَّةِ، وَدَلائِلِ الْقُوّةِ — ما يُرَجِّحُ عِنْدِي أَنَّ التَّوْفِيقَ حَلِيفُكَ، مَهْما تَلْقَ مِنْ أخْطارٍ وَمَتاعِبَ. فاَخْتَرْ لِنَفْسِكَ ما يَحْلُو، وَلْيُبارِك لكَ الله في حِلِّكَ وتَرحالِكَ، فَأَنتَ بالنَّجاحِ جَديرٌ.»

(٨) طَرِيقُ «أتينا»

فَشَكَرَ «بَطَلُ أتِينا» لِجَدِّهِ نَصِيحَتَهُ الثَّمِيَنةَ، ثُمَّ وَدَّعَهُ مُسْتأْذِنًا في السَّفَرِ. وَوَدَّعَ أُمَّهُ الْحَنُونَ — في احْتِرامٍ وَأدَبٍ — وَسارَ في طَرِيقِهِ راضِيَ الَّنفْسِ، صادِقَ الْعَزْمِ، ثابِتَ الْجَنانِ (مُطْمَئنَّ الْقَلْب).

وَقَدِ اخْتارَ لِنَفْسِهِ طَرِيق الْبَرِّ؛ لِيُثْبِتَ — في تاريخ مَجْدِهِ — صَحَائِفَ مِنَ الْبُطُولَةِ لا تُنْسَى عَلَى مَرِّ الْأجْيالِ، وَتَعاقُبِ الْأزْمانِ.

وَكانَ شَدِيدَ الشَّوْقِ إلى لِقاءِ الْوُحُوشِ، وَمُناجَزَةِ اللُّصُوصِ (مُحارَبَتِهِمْ)، وتَقَحُّم الْأهْوَالِ، والتَّغَلُّبِ عَلى الْأخْطارِ.

وَقَدِ لَقِيَ — في طَرِيقِهِ — كَثِيرًا منها، وَكَتَب الله لهُ الْفَوْزَ عَلَى أعْدائهِ، وَالْغَلَبَةَ (الِانْتِصَارَ) على ما لَقِيَهُ مِنْ متاعِبَ وَعَقَباتٍ.

وَلَنْ تَسَعَ هَذِهِ الصَّفَحَاتُ وَصْفَ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا لَقِيَهُ «بَطَلُ أتِينا» في طَرِيقِهِ مِنْ الْأحْداثِ وَالْمَخَاطِرِ، الَّتي بَهَرَتْ رِجالَ عَصْرِهِ، ورَفَعَتِ اسْمَهُ، وأذاعَتْ شُهْرَتَهُ في جَمِيعِ الْآفاقِ.

وَحَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلى «أتينا» حتَّى أطْلَقَ عَلَيْهِ الْأهْلُونَ لقبَ «فارِسِ الْعَصْرِ، وَبطلِ أتِينا الْمِقْدَام».

وَكانَ — عَلَى الْحَقِيقَةِ — أَصْغَرَ فُرْسانِ عَصْرِهِ سِنًّا؛ فَأصْبَحَ مَثارَ إِعْجابِ النَّاس، ومَوْضِعَ تَقْدِيرِهِمْ، ومَضْرِبَ الأمْثالِ عِنْدَهُمْ في الشَّجاعةِ والْإِقْدامِ.

(٩) مُؤامَرَةُ الْحُسَّادِ

وكانَ لِلْمَلِكِ — أَعْنِي: والِدَ هَذا الْبَطَل الصَّغِيرِ — كَثيِرٌ مِنَ المُنافِسِينَ مِنْ أَبْناءِ أَخِيه، وَكانُوا يَحْسُدُونهُ وَيَتَرَقَّبُونَ مَوْتَهُ — يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ — بفارِغِ الصَّبْرِ، لِيَرِثُوا مُلْكَهُ الْعَظِيمَ مِنْ بَعْدِهِ.

فَلَمَّا سَمِعُوا بِمَقْدَمِ هَذا الْبَطَلِ الشُّجاعِ، دَبَّ إلَيْهِمُ الْيَأْسُ، ودَفَعَهُمُ الْحَسَدُ والْغَيْظُ إلَى الِائْتِمارِ بِهِ لِيْقُتُلوهُ.

وكانَ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْمُؤَامَرَةِ الدَّنِيئَةِ امْرَأَةٌ ذاتُ كَيْدٍ ودَهاءٍ، يُطْلَقُ عَلَيْها لَقَبُ «ساحِرَةِ أَتِينا». وهِيَ رَأْسُ هَذِه الْأُسْرَةِ، ومُدَبِّرَةُ كلِّ دَسِيسَةٍ، ومُحَرِّكَةُ كلِّ فِتْنَةٍ.

فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى لِقاءِ «بَطَلِ أَتِينا» والتَّرْحِيبِ بِهِ، لِيخْدَعُوهُ عَمَّا دَبَّرُوهُ لِقَتْلِهِ مِنْ مُؤامَرةٍ خَسِيسَةٍ وكَيْدٍ دَنيءٍ.

وقَدْ أَفْلَحُوا فِي مُخادَعَتِهِ، وأوْهَمُوهُ أَنهُمْ أَصْدَقُ خُلَصائِهِ، وأَبَرُّ رُفقائِهِ، وقالُوا لَهُ مُتَظاهِرِينَ بِالنُّصْحِ: «خَيْرٌ لكَ أَنْ تُخْفِيَ اسْمَكَ عَنْ أَبِيكَ، وَأَنْ تَلْقاهُ — أَوَّل الْأمْرِ — كأَنَّكَ غَرِيبٌ عَنْهُ؛ حَتَّى يَتَبَيَّنَ — مِنْ حَدِيثك ومَلامِح وَجْهكَ — أَنَّكَ ولَدُهُ؛ فَيَكُونَ لِهَذِهِ المُفاجَأَةِ السَّارَّةِ أَطْيَبُ الْأثَرِ في نَفْسِهِ.»

فَأَقَرَّهُمْ (وافَقَهُمْ) «بَطَلُ أَتينا» عَلَى اقْتِراحِهِمُ الْخَبِيثِ، وهُوَ لا يَعْلَمُ ما يُضْمِرُونَهُ لَهُ مِنْ كَيْدٍ وحَسَدٍ.

(١٠) «ساحِرةُ أتِينا»

وأَسْرَعَ أوْلادُ عَمِّهِ — وعَلَى رَأْسِهِمْ «ساحِرَةُ أتينا» — فَأَوْهَمُوا الْمَلِكَ أَنَّ «بَطَلَ أتِينا» قادِمٌ لِيقْتُلَهُ وَيسْلُبَهُ تاجَهُ المَلَكِيَّ. ثُمَّ أشارُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ، حَتَّى يَأمَنَ شَرَّهُ.

فَذُعِرَ الْملِكُ مِنْ إقْدامِ ذَلِكَ الشَّابِّ (جُرْأتِهِ)، وحَسِبَهُم صادِقِينَ فِيما زَعَمُوا؛ فَوعَدَهُمِ بَتْنفِيذِ اقْتِرَاحِهِمْ.

ثُمَّ قالتْ «ساحِرَةُ أتينا» مُتَظاهرَةً بِالنُّصْح للْمَلكِ: «الرَّأْيُ عِنْدِي — يا مَوْلايَ — أَنْ تَسْقِيَهُ مِنْ هَذِهِ الْكَأْسِ الْمَسْمُومَةِ الَّتي أعْدَدْتُها لِقَتْلِ هَذا الشِّرِّيرِ؛ لِيَمُوتَ مِنْ فَوْرِهِ (للِحالِ).» فَأمَّنَ الْحاضِرُونَ عَلَى كلامِها، وأَعْلَنُوا ارْتِياحَهُمْ لِرَأْيِها، ولَمْ يَرَ الْمَلِكُ بُدًّا مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ الِاقْتِرَاحِ الْخَبِيثِ.

وَكانَتْ «ساحِرَةُ أتينا» مِثالًا للِشَّرِّ، ومَصْدَرًا لِلْإِثْمِ والْخَدِيعِة، وَلَمْ يَلْقَ مِنْها الْأَهْلُونَ — مُنْذُ قُدُومِها إلَى «أتِينا» — غَيْرَ الْإساءةِ والْأذِيَّةِ. وكانَ لها مَرْكَبَةٌ مَسْحُورَةٌ، تَجُرُّها جَمْهَرةٌ مِنَ الثَّعابينِ الْمُجَنَّحَةِ (ذَواتِ الْأجْنِحَةِ)، وتَطِيرُ بِها في أَجْوَازِ الْفَضاءِ إلَى حَيْثُ تَشاءُ.

وبَعْدَ قَلِيلٍ حَضَرَ «بَطَلُ أتِينا» إلَى قَصْرِ الْمَلِكِ مُسْتَأذِنًا فِي الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقالَتْ «ساحِرَةُ أتينا» لِلْمَلِك: «ائْذَنْ لَهُ فِي الْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَادْعُهُ إلى شُرْبِ هَذا الْقَدَحِ المَسْمُومِ، لِتَخْلُصَ — وَيخْلُصَ النّاسُ جَميِعًا — من شَرِّهِ وأَذاهُ.»

(١١) افْتِضاحُ السِّرِّ

فَلَمَاَّ مَثَلَ «بَطَلُ أتِينا» بَيْنَ يَدَيْ أَبِيه، رَآهُ جالِسًا عَلَى عَرْشِهِ الْمَلكِيِّ، والتَّاجُ على رَأْسِه يَكاُد سَناهُ يَأْخُذُ بِالأَبْصارِ، وَصَوْلَجَانُ الْمُلْكِ في يَدِهِ، ورَأى لِحْيَتَهُ الْبَيْضاءَ تُزَيِّنُ وَجْهَهُ، وتَكْسُوهُ وَقارًا وجَلالًا؛ فَتَمَلَّكهُ الْفَرَحُ والْأسَى (الْحُزْنُ) معًا، وبَكَى مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ برُؤْيَتِهِ. وإنَّما حَزِنَ لِما رآهُ بادِيًا على أسارِيرِ أبيهِ (خُطُوطِ جَبِينِهِ) مِنْ ضَعْفِ الشَّيْخُوخَةِ، وفَرِحَ لِأنَّهُ سَيَكُونُ لِأَبِيهِ خَيْرَ ناصِرٍ ومُعِينٍ على تَدْبِيرِ شُئُونِ الْمُلْكِ. وهَمَّ «بَطَلُ أتِينا» بِالْكلامِ، فانْعقَدَ لِسانُهُ مِنْ فَرْطِ الدَّهشِ، واخْتَنَقَ صَوْتُهُ بِالدُّمُوع.

فَخَشِيَتْ «ساحِرَةُ أتِينا» أنْ يَفْتَضِحَ السِّرُّ، وأسْرَعَتْ إِلى «بَطَلِ أتينا» تَأْمُرُهُ أنْ يَشْرَبَ الْكأْسَ — تَلْبِيَةً لِمَشِيئَةِ الْمَلِكِ — بَعْدَ أنْ هَمَسَتْ في أُذُنِ الْمَلِكِ أنَّ مَصْدَرَ ارْتِباكِ الْفَتَى وسِرَّ خَبالِهِ، إنَّما نَشَآ مِنْ تَفْكِيرِهِ في جَرِيمَتهِ الشَّنعاء الَّتي يَهُمُّ بِاقْتِرَافِها.

ومَدَّ الْفَتَى يَدَهُ فأَخَذَ الكأْسَ. وما أدْناها مِنْ فِيهِ حتَّى ارْتَعَدَتْ فَرائِصُ الْمَلكِ وقالَ لهُ: «حَذارِ أن تَشْرَبَ قَطْرَةً واحِدةً منْ هَذِهِ الْكَأْسِ الْمَسْمُومَةِ، وَإلا هَلَكْتَ لِساعَتِكَ!»

وَإنَّما فَعَلَ المَلِكُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَحَ مَقْبِضَ سَيْفِهِ الذَّهَبِيَّ مُعَلَّقًا عَلَى مَنْكِبِ ولَدِهِ تَحْتَ رِدائِهِ: «فَصاحَ بِهِ مَذْعُورًا: أَنَّى لَكَ هَذا السَّيْفُ؟»

فَقاَل لهُ: «لقَدْ خَلَّفَ لِي أَبي هَذا السَّيْفُ وَهاتَيْنِ النَّعْلَيْنِ، فِيما أَخْبَرَتْني أُمِّي.»

ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ «بَطَلُ أَتيِنا» قِصَّتَهُ كُلَّها.

فَصاحَ الْمَلِكُ فَرْحانَ مَسْرُورًا: «ما أسْعَدَني بِلُقْياكَ يا وَلَداهُ!»

ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْهِ يُعانِقُهُ وَيُقَبِّلُهُ، وَيَحْمَدُ الله على ما يَسَّرَ (هَيَّأَ) لَهُ مِنْ أسْبابِ السَّعادَةِ وَالْهَناء.

(١٢) فِرَارُ الْسَّاحِرَةُ

وَلَما رَأتْ «ساحِرَة أتِينا» افْتِضاحَ السِّرِّ، وَإِخْفاقَ الْمُؤَامَرَةِ، أَسْرَعَتْ إِلَىَ كُنُوزِ الْقَصْرِ، تَنْتَهِبُ مِنْها كُلَّ ما وصَلَتْ إِليْهِ يَدُهَا مِنْ حُلِيٍّ وَنَفائِسَ، حَتَّى مَلَأتْ مَرْكَبتَها الْمَسْحُورَةَ، وَطارَتْ بِها الثَّعابينُ الْمُجَنَّحَةُ فِي أَجْوَازِ الْفَضاءِ. وَظَلَّتْ تَقْذِفُ الْجَمَاهِيرَ بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ الْكَرِيْمَةِ، وَهِيَ مُحْنَقةٌ (شَدِيْدَةُ الْغَضَبِ) تَكَادُ تَتَمَيَّزُ (تَنْشَقُّ) مِنَ الْغَيْظِ، حَتَّى غابَتْ عَنِ الْأَنْظَارِ.

وَلا تَسَلْ عَنْ بَهْجَةِ الْأَهْلِينَ، حِينَ عَرَفُوا آَخِرَةَ تِلْكَ الظَّالِمَةِ، وتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ قَدِ أرْتاحُوا مِنْ دَسائِسها وَآثَامِها.

وَجَمَعَ الْأَهْلُونَ كُلَّ مَا قَذَفَتْهُمْ بِهِ مِنَ الْأَحْجارِ الْكَرِيمَةِ، وَذَهَبُوا بِهَ إِلَى مَلِيكهِمْ؛ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا مِمَّا حاوَلُوا رَدَّهُ، وقالَ لَهُمْ: «لَقَدْ وَهَبْتُ لَكُمْ هَذه النَّفائِسَ شُكْرًا للهِ عَلَى ما يَسَّرَهُ لِي مِنَ السَّعادَةِ بِقُرْبِ وَلَدِيَ الْحَبِيبِ.»

•••

وَعاشَ الْملِكُ وَوَلَدُهُ وَشَعْبُهُ رَدحًا (مُدَّةَ طَوِيلَةً) منَ الزَّمَنِ فِي يُسْرٍ وَهَناءٍ وَصَفاء، دُونَ أَنْ يَفْطُنُوا إلَىَ مَا يَخْبَؤُهُ لَهُمُ الْقَدَرُ مِنْ مَصائِبَ وَأَحْداثٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤