الفصل الثالث

(١) خَلاصُ الْأسْرَى

وَلَمَّا كُتِبَ النَّصْرُ لِـ«بَطَلِ أتِينا»، فَكَّرَ في الْعَوْدَةِ، فَعادَ في طَرِيقِه — دُونَ عَناءٍ — مُسْتَرْشِدًا بِالْخَيْطِ الْحَريرِيِّ الَّذِي أَمْسَكَ بِه حَتَّى بَلَغَ بَابَ «قَصْرِ التِّيهِ»؛ فَرأَى «حَسْناءَ الْجَزِيرَةِ» تَنْتَظِرُهُ، وَهِيَ على أَحَرِّ مِنَ الْجَمْرِ. فَلَمَّا رَأتْهُ صَفَّقَتْ بِيَدَيْها طَرَبًا، وهَنَّأَتْهُ عَلى انْتِصارِهِ الْباهِرِ الَّذِي فاقَ كلَّ انْتِصارِ، ثُمَّ قالَتْ لَهُ: «أسْرِعْ بِالْعَوْدَةِ — مَعَ رِفاقِكَ — إلَى بَلَدِكَ قَبْلَ أنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَيَنتَقِمَ أبِي مِنْكَ أشْنَعَ انْتقامٍ.»

فَذهَبَ «بَطَلُ أتِينا» مَعَ «حَسْناءِ الْجَزِيرَةِ»، وَأيقَظا الْأَسْرَى، فَهَبُّوا منْ نَوْمِهِمْ وَهُمْ لا يَكادونَ يُصَدِّقُون بِالنَّجاةِ مِنَ الْهَلاكِ. وَلَمَّا بَلَغُوا السَّفينَةَ شَكَرَ «بَطَلُ أَتينا» لِـ«حَسْناءِ الْجَزِيرَةِ» ما أسْدَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ مَعُونَةٍ وفَضْلٍ، وَتَوَسَّلَ إليْها أنْ تَعُودَ مَعهُ إلَى بَلَدِهِ، حتَّى تَنْجُوَ منْ سُخْطِ أبيها وَعِقابِهِ؛ فَقالَتْ لهُ: «لا سَبِيلَ إلَى الْعَوْدَةِ مَعكَ؛ فَإِنَّ في ذلِكَ عُقُوقًا لأبِي، وهُوَ شَيْخٌ هَرِمٌ، لا يَجِدُ غَيْرِي في الْحَياةِ كلِّها عَزاءً وَسَلْوَى. وَسَيَغْضَبُ عليَّ أَوَّلَ الْأمْرِ، ثُمَّ يَصْفَحُ عَنِّي بَعْدَ قَلِيلٍ؛ لأنَّني لَمْ أَقُمْ بِما أسْتَحِقُّ علَيْهِ اللَّوْمَ والتَّثْرِيبَ (التَّوْبِيخَ)، بَلِ اشْتَركْتُ في تَخْليصِ بَنِي الْإنْسانِ مِنْ وَحْشٍ فاتِكٍ سَفَّاحٍ.»

فَشَكَرَ لَها «بَطَلُ أتِينا» كَرَمَها، وَإِخْلاصَها لِلْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، ثمَّ وَدَّعها، بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْها بِما هِيَ أَهْلُهُ مِنَ الثّناءِ.

ثمَّ أَقْلَعُوا السَّفِينَةَ عائِدِينَ إلَى أَرْضِ الْوَطَنِ الْحَبيِبِ. وَما زَالَتْ تَمْخُرُ عُبابَ الْبَحْرِ، وَتَنْهَبُ الْماءَ نَهْبًا، حَتَّى اقْترَبَتْ مِنْ أَرْضِ الْوَطَنِ.

وَلا تَسَلْ عَنْ سُرُورِ «بَطَلِ أَتِينا» وَرِفاقِهِ حِينَ لاحَتْ لَهُمْ أَعْلامُ بلادِهِمْ (جِبالُها)، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ مُلاقُو أهْلِيهِمْ وأَحْبابِهِمْ سالِمينَ آمِنِين.

(٢) الْأَشْرِعَةُ السُّودُ

أَيُّها الطِّفْلُ العَزِيزُ: كُنْتُ أَوَدُّ أنْ أَقِفَ عِنْدَ هذا الْحَدِّ مِنْ قِصَّةِ «بَطَلِ أَتِينا»، ولكِنَّ أَمانَةَ النَّقْلِ تَحَتِمُ عَلَيَّ أَنْ أُفْضِيَ إليْكَ بالْأُسْطُورَةِ كَمَلًا (أُخْبِرَكَ بِها كَامِلَةً وَافِيَةً)، دُونَ نَقْصٍ أَوْ تَحْرِيفٍ: لقَدْ كانَ مِنَ الطَّبِيعِيِّ أَنْ تَنْتَهيَ الْأُسْطُورَةُ نِهايَةً طَبِيعِيَّةً، فَيَلْتَقِيَ الوَالِدُ الْحَدِبُ (الْعَطُوفُ) الرَّحِيمُ بِوَلَدِهِ الْبارِّ الشَّفِيقِ. وقَدْ كانَتْ كلُّ المُقَدِّماتِ مُؤَدِّيَةً — بِلا شَكٍّ — إلى هذهِ النَّتِيجَةِ السَّارَّةِ. ولكِنْ حَدَثَ ما لَمْ يَكُنْ فِي الْحُسْبانِ، وشاء القَدَرُ الْمُتَصَرِّفِ في الْعِبادِ — ولا رادَّ لِمَشِيئَتِهِ — أَلَّا يَلْتَقِيَ الْوالدُ بِوَلَدِهِ.

أراكَ تَعْجَبُ مِمَّا تَقْرَأُ، ولَكَ الْحَقُّ فِي عَجَبِكَ.

عَلَى أَنَّ مَصْدَرَ النَّكَباتِ نَشَأَ عَنْ خَطأ تَفِهٍ، كانَ غايَةً فِي الْيُسْرِ، وَلكنَّ عَواقِبَهُ كانتْ جَسِيمَةً، غايَةً فِي الْخُطُورَةِ.

أَلمْ أَقُلْ لكَ — فِي أَثْناءِ هذه الْأُسْطُورَةِ — إِنَّ «مَلِكَ أتِينا» قَدْ أوْصَى ولَدَهُ أنْ يَرْفَعَ الأشْرِعَةَ السُّودَ، ويُحِلَّ مَحَلَّها أشْرِعَةً أُخْرَى بِيضًا، إذا كُتِبَ لَهُ الْفَوْزُ والنَّصْرُ، ورُزِقَ السَّلامَةَ والْإِياب؟

فاعْلَم — عَلِمْتَ الْخَيْرَ، وأُلْهِمْتَ الرُّشْدَ، وسَلِمتَ مِنْ كلِّ أَذُى وضُرٍّ — أنَّ «بَطَلَ أتِينا» ورِفاقَهُ جَميعًا لَمْ يَذْكُروا نَصِيحَةَ الْمَلِكِ، وأنْسَتْهُمْ لَذَّةُ الْفَوْزِ والِانْتِصارِ ما أوْصاهُمْ بِهِ «مَلِكُ أتِينا». فَعادَتِ السَّفِينَةُ — كما خَرَجَتْ مِنَ الْمِيناء — وهِيَ مُجَلَّلَةٌ بِالأشْرِعَةِ السُّودِ.

وكانَ «مَلِكُ أتِينا» يَتَرَقَّبُ عَوْدَةَ السَّفِينَةِ — بِفارِغِ الصَّبْرِ — على قِمَّةِ جَبَلٍ شاهِقٍ، وهُوَ شَدِيدُ الشَّوْقِ إِلَى لِقاء ولَدِهِ الْعَزِيزِ، وقَدْ عَظُمَ قَلَقُهُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا دَنَتِ السَّفِينَةُ مِنَ الْمِيناءِ، كانَ أكْبَرَ هَمِّهِ أنْ يَنْظُرَ إلَى أشْرِعَتِها، لِيَتَعَرَّفَ مَصِيرَ وَلَدِهِ الشُّجاعِ. فَلَمَّا أبْصَرَ الْأَشْرِعَةَ السُّودَ — كما هِيَ — أيْقنَ بِهَلاكِ «بَطَلِ أتِينا»، وعَرَفَ أَنَّ «عِجْلَ مِينُو» قَدْ صَرَعَهُ كما صَرَعَ كَثِيرًا مِنَ الضَّحايا مِنْ قَبْلُ. فَزَاغَ بَصَرُهُ (اضْطَرَبَتْ عَيْنُهُ)، وغُشِيَ عَلَيْهِ (ذَهِلَ)، وَدارَ مُتَرَنِّحًا (مُتَمايِلا)؛ فَهَوَى — مِنْ فَرْطِ الْحُزْنِ — من قِمَّةِ الْجَبَلِ الْعالِيَةِ إلى الْبَحْرِ مُتَرَدِّيًا، وابْتَلَعَتْهُ الْأَمْوَاجُ الْهائِجَةُ، قبْلَ أَنْ يَمْلأَ ناظِرَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ الْحَبِيبِ.

figure

خاتِمَةُ الْقِصّةِ

وَلا تَسَلْ عَنْ حُزْنِ «بَطَلِ أتِينا» حِينَ بَلَغَ أَسْماعَهُ مَصْرَعُ والِدِهِ الْحَدِبِ (الْعَطُوفُ) الرَّفِيقِ؛ فَقَدْ أَنْسَتْهُ هذه الْمُصِيبَةُ لَذَّةَ الْفَوْزِ والِانْتِصارِ على عَدُوِّهِ. وَلا تَسَلْ عَنْ حُزْنِ الْأهْلِينَ لِمَصْرَعِ ملِيكِهِمُ الْعادلِ الرَّحِيم، وفَرحِهِم بِانْتِصارِ ولدِهِ: «بَطَلِ أتينا» الَّذِي خَلَّصَ أبْناءَهُمْ وَبَناتِهِمْ مِنْ «عِجْلِ مِينُو».

وهكَذا امْتَزَجَ الحُزْنُ بِالْفَرَحِ، واخْتَلَطَتْ أصواتُ الْبُشْرَى وَالسُّرُورِ برَنَّاتِ الْحُزْنِ والأسَى (أَصْواتِ الباكينَ).

ولكِنَّ الْأيَّامَ تُنْسِي الْمَصائبَ والْخُطُوبَ (الْأُمُورَ الْمَكْرُوهَةَ)، كما تُنْسِي الْمَسَرَّاتِ والْأفْرَاحَ جَمِيعًا. فَإنَّهُ لَمْ يَمْضِ زَمَنٌ قَلِيلٌ حتَّى هَدَأَتِ النُّفُوسُ، واسْتَتَبَّ الْأمْرُ لـ«بَطَل أتِينا»، وأحْضَرَ أُمَّهُ إلى مَقَرِّ مُلْكِهِ ومُلكِ أبيهِ مِنْ قَبْلُ. وظَلَّ يَعْمَلُ بِنَصِيحَتِها، ويأْخُذُ بِرَأْيِها السَّدِيدِ، ولا يَعْصِي لها أمْرًا. فَأَصْبحَ حَبِيبًا إلى نَفْسِ كلِّ فَرْدٍ منْ أفْرادِ الشَّعْبِ، وصارَ مَضْرِبَ الْأمْثالِ — بَيْنَ مُلُوكِ عَصْرِهِ — في الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، والبِرِّ بِالنَّاسِ، وإقامَةِ الْعَدْلِ، وَتَوَخِّي الْإِنْصافِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤