نقل المخطوطات من بلاد الشام إلى أوروبا

(١) تأسُّف العلامة محمد كرد علي على مخطوطات دمشق

للسيد محمد كرد علي بحث قيِّم في المخطوطات التي نقلت من الشام إلى أوروبا نورده بنصه قال:١

من المصائب التي أصيبت بها الكتب أن بعض دول أوروبا — ومنها فرنسا وحكومات جرمانيا وبريطانيا العظمى وهولاندة وروسيا — أخذت تجمع منذ القرن السابع عشر كتبًا تبتاعها من الشام بواسطة وكلائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين. وكان القوم ولا سيما بعض من اتَّسموا بشعار الدين ومن كان يرجع إليهم أمر المدارس والجوامع، بلغ بهم الجهل والزهد في الفضائل أن يفضلوا درهمًا على أنفس كتاب، فخانوا الأمانة واستحلوا بيع ما تحت أيديهم أو سرقة ما عند غيرهم، والتصرف فيه كأنه ملكهم.

حدثني الثقة أن أحد سماسرة الكتب في القرن الماضي كان يغشى منازل بعض أرباب العمائم في دمشق، ويختلف إلى متولي خزائن الكتب في المدارس والجوامع، فيبتاع منها ما طاب له من الكتب المخطوطة بأثمان زهيدة، وكان يبيعها على الأغلب، وأكثرها في غير علوم الفقه والحديث من قنصل بروسيا إذ ذاك بما يساوي ثمن ورقها أبيض. وبقي هذا سنين يبتاع الأسفار المخطوطة من أطراف الشام، فاجتمع له منها خزانة مهمة رحل بها إلى بلاده، فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها، والغالب أن معظم الكتب العربية المحفوظة في خزانة الأمة في برلين هي من بلاد الشام. وفهرس هذه الخزانة من الكتب العربية فقط في عشرة مجلدات ضخمة ما عدا الملحق. وتكون فهارس الكتب العربية في خزائن الغرب اليوم خزانة برأسها. وإن بعيدًا يُحسن القيام على هذا التراث الوافر لأحرى به من قريب يبدده جزافًا. وإن أممًا عرفتنا أكثر مما عرفنا أنفسنا، حتى قال أحد علمائهم: إن العرب وضعوا من المصنفات ما لا يستطيع أحدنا أن يقرأه طول عمره، لجديرون بإرث الشرق في مادياته ومعنوياته، كما قلنا من فصل في مجلة المقتطف منذ أربع وعشرين سنة. نعم إن كتبًا تترك للأرضة تعبث فيها، والعفن يعبث بجمال جسمها ورسمها، وتحرم النور ويعفي أثرها الغبار والأوساخ، ويحرم النظر فيها على من يحسن الاستفادة منها، أو تفضل عليها دريهمات معدودة، حرية بأن تكون في ملك من يستفيد منها ويفيد.

(٢) سماسرة الإفرنج والمخطوطات العربية

عرفنا فريقًا من سماسرة الإفرنج الذين ابتاعوا كميات وافرة من مخطوطات بلاد الشام، وبعثوا بها إلى غلاة الكتب في أوروبا. نذكر منهم أدمون دوريفلو في صيدا وهنري داريكارير مدير فندق السياح ببيروت في عهد مضى. وكان هذا الأخير خبيرًا بالخط الكوفي على اختلاف أشكاله يقرأه بسهولة وسرعة، كأمهر علماء الاستشراق.

وممن لم يزل في قيد الحياة من عشَّاق المخطوطات الشرقية وسماسرتها بين الإفرنج مسيو لپين Lépine الفرنسي النِّحلة، فقد اعتاد هذا الرحالة أن يختلف إلى الأمصار العربية عامًا بعد عام؛ للتنقيب عن مخطوطات نفيسة ونادرة فيشتريها بأغلى الأسعار، ثم يعود بعد كل رحلة إلى بلاده حاملًا ما لا يُحصى من التحف الكتابية.

(٣) غليوم الثاني عاهل ألمانيا ومخطوطات الجامع الأموي

ثم أردف السيد محمد كرد علي قوله بقوله:٢ «ومن الخزائن المشهورة التي بعثرت في عهدنا، ولم نعرف متى جُمعت هي خزانة صحن الجامع الأموي بدمشق. وكانت مملوءة برقوق نفيسة، ففتحت سنة ١٣١٧ﻫ الموافقة للسنة ١٨٩٩ ميلادية بأمر السلطان عبد الحميد الثاني؛ إجابة لمقترح الإمبراطور غليوم الثاني (١٨٨٨–١٩٤١) الألماني،٣ فعثروا فيها على قطع من الرقوق كتبت فيها سور من القرآن الكريم بالخط الكوفي، ومنها قطع مهمة من مصاحف وربعات، وقطع من الأشعار المقدسة بالآرامية الفلسطينية، وكتابات دينية وأدبيات دينية، وقصص رهبانية ومزامير عربية مكتوبة بالحرف اليوناني، ومقاطيع شعرية لأوميرس، وكراريس وأوراق بالقبطية والكرجية والأرمنية في موضوعات دينية إلا قليلًا. وجذاذات عبرانية وسامرية فيها نسخ من التوراة، وتقاويم أعياد السامريين، وصلوات وصكوك للبيع والأوقاف وعهود زواج. وبينها مقاطيع لاتينية وإفرنسية قديمة، وقصائد شعرية يرتقي عهدها إلى أيام الصليبين، ونسخ إنجيل برقوق، فأهدى السلطان معظمها لعاهل ألمانيا، ووزع قسم منها على بعض رجال الآستانة ورجال دمشق، واستخلصت بعض قطع منها حفظت الآن في دار الآثار في هذه المدينة. وأهمها تلك القطعة الكوفية المكتوبة على رق من ربعة شريفة، وقفها عبد المنعم بن أحمد سنة ٢٩٨ﻫ، وعلى الوجه الثاني نقش مذهَّب باسم واقفها. ورأى شيخنا الإمام طاهر الجزائري في تلك القبة جزءًا مكتوبًا عليه: أنه حبس على مشهد زين العابدين — صلوات الله عليه وعلى أبنائه الأيمة — سنة نيف وسبعين وأربعمائة.»
١  خطط الشام: جزء ٦، ص١٩٨–١٩٩.
٢  خطط الشام: جزء ٦، ص١٩٩–٢٠٠.
٣  جرى هذا الاقتراح عندما زار غليوم العاهل الألماني صديقه عبد الحميد في الآستانة، ذلك على أثر رحلته إلى فلسطين وسوريا في خريف السنة ١٨٩٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤