الإسكوريال في إسبانيا

(١) دير الإسكوريال ومكتبته

الإسكوريال اسم لدير عظيم شُيِّدَ سنة ١٥٦٧ على بعد خمسين كيلومترًا من مجريط،١ بأمر الملك فيليب الثاني (١٥٦٢–١٥٨٤) وفيه دُفِنَ. وقد طالعنا وصفًا لهذا الدير ومكتبته جديرًا بالاعتبار بقلم السيد محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق قال:٢
وأهم ما يلفت النظر في هذا الدير دار كتبه، وفيها ٤٥ ألفًا من المجلدات حوت كثيرًا من المخطوطات والنقوش والرسوم. ومنها الكتاب المقدس الذي كان يقرأ فيه بعض ملوك إسبانيا في القرون الوسطى وبعضها كتب باللاتينية، ومنها ما كتب بالإسبانيولية أو اليونانية، ومنها المزيَّن بأجمل الرسوم، ومنها المذهَّب المكتوب على رق. ويهمنا من هذه المكتبة مجموعة الكتب العربية، وهي ألفا مجلد كانت السفن الإسبانية غنمتها من مركب لأحد ملوك مراكش المتأخرين. وكان في هذا الدير قبل القرن السابع عشر نحو ثلاثة آلاف مخطوط عربي، فالتهمتها النار في الحريق الذي نشب في الدير٣ مع ما التهمت من الكتب الأخرى.

(٢) مصدر مخطوطات الإسكوريال

روى السيد محمد كرد علي عن مصدر مخطوطات الإسكوريال قال:٤ «فليست الكتب العربية في خزانة الإسكوريال إسبانية المصدر كلها،٥ كما أكد لنا أحد علماء الإسبان — وصاحب البيت أدرى بالذي فيه — أخبرني أن الإسبان غنموا هذه الكتب من سفينة كانت لأحد سلاطين المغرب الأقصى،٦ فوقعت في أيدي الإسبان، وقال آخر: إن أصل هذه المجموعة كان لأحد سفراء إسبانيا لدى الباب العالي، ولما غادر الآستانة أهداها لمليكه، فوضعها هذا في الدير الذي كان ملكًا له ولآله من بعده، والرواية الأولى أصح.»

(٣) وصف مكتبة الإسكوريال واحتراق قسم منها

طالعنا وصفًا لهذه المكتبة في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق نورده بنصه:٧ «في دار كتب الإسكوريال في إسبانيا جملة قيمة من المخطوطات العربية، يبلغ عددها ألفي مجلد، جمع نواتها الملك فيليب الثاني من أنقاض المكتبة الأندلسية الإسلامية القديمة. ثم أضاف إليها الملك فيليب الثالث في القرن السابع عشر عددًا عظيمًا من المخطوطات العربية، كانت تتألف منه خزانة كتب مولاي زيدان أحد السلاطين المراكشيين من السلالة السعدية. أما كيفية انتقال هذه الكتب من مراكش إلى إسبانيا، فجديرة بالذكر لما فيها من ذكرى وعبرة.
«قال ليڨي بروڨنسال في مقدمة المجلد الثالث من هذه القائمة ما خلاصته: خرج على مولاي زيدان في عام ١٦١٢ أبو محلي، واستفحل أمره وقامت بينهما وقائع دامية دارت دائرتها على مولاي زيدان (١٠١٢–١٠٣٧ﻫ / ١٦٠٣–١٦٢٨م)، فاضطرَّ في شهر مايس من السنة المذكورة مغادرة قصره مع حاشيته، والالتجاء إلى سافي Safi، وهو ثغر على الساحل المراكشي، على أن يذهب منه إلى السوس Süs. فاستأجر من سافي مركبًا بثلاثة آلاف دوق (٣٦ ألف فرنك) إلى أغادير، وحمَّله جميع كنوزه وكتبه التي ورثها عن والده السلطان السعدي مولاي أبي العبَّاس أحمد المنصور الذهبي، وعند وصوله إلى أغادير أبى الربان، واسمه جان فيليب كستلان أن يفرغ محمول المركب قبل أن يتقاضى الأجرة بتمامها. وإذ لم يتمكن مولاي زيدان من دفعها فورًا غادر الربان ليلًا ساحل أغادير إلى مرسيليا فارًّا بمركبه، وبما فيه من التحف والكنوز الثمينة. ولما بلغ ساله Salé التقى بثلاثة مراكب بقرصان إسبانيين، فاستولوا عليه وذهبوا به إلى إسبانيا غنيمة باردة. فأمر الملك فيليب الثالث أن توضع الكتب في الإسكوريال، وعددها نحو من ٤٠٠٠ مخطوط على ظهر الصفحة الأولى من كل منها عبارة تنص على ملكية السلاطين السعديين إياها، وفي ٧ حزيران عام ١٦٧١ حدث حريق عظيم في الإسكوريال التهم قسمًا كبيرًا من هذه الكتب، ولم ينجُ منها سوى ألفي مجلد، وهي الموجودة اليوم في تلك الخزانة التاريخية.»

(٤) تعاقب عالمين شرقيين في إدارة مكتبة الإسكوريال

ظلت مكتبة الإسكوريال مجهولة حتى منتصف القرن الثامن عشر، فدفعت الحمية عالمًا لبنانيًّا يدعى ميخائيل الغزيري إلى السعي لدى فردينند السادس (١٧٤٦–١٧٥٩) ملك إسبانيا لتنظيم تلك المكتبة، فأجابه العاهل بالرضى والاستحسان، واستدعاه إليه سنة ١٧٤٨ للنهوض بالمهمة المشار إليها. وما مر على الغزيري ثمانية أعوام حتى خوَّله الملك لقب «أمين مكتبة الإسكوريال»، وكلفه أن يضع فهرسًا شاملًا لمخطوطاتها. ولما كان هذا المشروع يتطلب عناءً جزيلًا، وزمنًا طويلًا كتب ميخائيل الغزيري إلى صديقه بولس خضر اللبناني أن يوافيه من رومة ويساعده في تنظيم فهرس المكتبة فتعاونا كلاهما، ودوَّنا أسماء المخطوطات العربية، ووصفاها وصفًا دقيقًا في مجلدين بقطع نصف. وقد صدر المجلدان ما بين سنتي ١٧٦٠ و١٧٧٠ ٨ بعنوان: Bibliotheca Arabico-Hispana Escurialensis.

فكان لنشرهما فائدة عظمى لأبناء الضاد، ولبث ميخايئل الغزيري أمينًا لمكتبة الإسكوريال من السنة ١٧٥٦ إلى السنة ١٧٩١، وهي سنة وفاته. فخلفه في منصبه عالم شرقي آخر يدعى إلياس شدياق تلقَّى العلوم في مدرسة بروبغندا برومة، وكان من المقربين في البلاط الملكي. وتولى إلياس إدارة هذه المكتبة بأمر الملك كرلس الرابع (١٧٨٨–١٨٠٨) إلى أن حضرته المنية عام ١٨١٨.

(٥) فهارس المخطوطات العربية في الإسكوريال

لفهارس المخطوطات العربية في الإسكوريال وصف قام به المستشرق الفرنسي هرتفيك دي رنبورغ Hartvig Dérenbourg (١٨٤٤–١٩٠٨) ابن المستشرق جوزيف دي رنبورغ (١٨١١–١٨٥٩). وقد نُصب هرتفيك أستاذًا للعربية الفصحى في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، ثم سمي عضوًا في المجمع العلمي الفرنسي، وكان مغرمًا كأبيه باللغة العربية تواقًا إلى الوقوف على مخطوطاتها القديمة، فسأل وزارة المعارف العامة والفنون الجميلة بباريس أن ترخِّص له السفر تحت رعايتها لدرس المخطوطات المحفوظة في إسبانيا. فقصد أولًا إلى مجريط (مدريد)، حيث اطَّلع فيها على مخطوطات خزائن المجمع العلمي التاريخي، ثم وجَّه اهتمامه إلى درس المخطوطات العربية في مكتبة الإسكوريال، وأنشأ لها فهرسًا مدققًا يقع في مجلدين نشر أولهما سنة ١٨٨٤ في ٥٢٥ صفحة ما عدا المقدمة التي استغرقت صفحاتها ثلاثًا وأربعين. ونشر ثانيهما سنة ١٩٠٣ في ١٠٨ صفحات، حيث انتهى بالمخطوط ذي الرقم ٧٨٥ فقط. ثم فاجأ الموت هرتفيك دي رنبورغ فلم يُتِمَّ عمله.
وفي عام ١٩٢٤ عهد إلى ليڨي بروڨنسال مدير جامعة الدروس المراكشية العليا في متابعة عمل هرتفيك، وإتمام قائمة المخطوطات العربية في الإسكوريال على أن يستعين بمذكرات العالم المتوفَّى هرتفيك، وذلك بموافقة زوجته. فذهب ليڨي بروڨنسال إلى الإسكوريال وأقام فيه مدة طويلة. وفي عام ١٩٢٨ أخرج المجلد الثالث وهو الأخير من هذه القائمة، وأوله مخطوط رقمه ١٢٥٦، وآخره المخطوط ١٦٣٣، وهي تتعلق بالعلوم الدينية والجغرافية والتاريخية. أما القسم الباقي من المجلد الثاني، وأوله المخطوط ٧٨٥ إلى المخطوط ١٢٥٥، ويختص بالطب والتاريخ والطبيعي والرياضيات والقضاء، فإنه لم ينشر بعد.٩

(٦) تحف مكتبة الإسكوريال

اشتملت خزانة الإسكوريال على تحف كتابية لا أثر لها في سائر الخزائن شرقًا وغربًا. ففيها أشكال خطوط كوفية وقيروانية وأندلسية ومزركشة وغيرها، وفيها مصاحف مذهبة ومخطوطات مصوَّرة أو مزخرفة بشتى الألوان. وفيها جلود نفيسة وقماطر مطرزة أو مطعَّمة بالميناء، وفيها أيضًا مخطوطات جُلِّدَتْ بأديم الأفاعي، وذلك من أندر أنواع التجليد وأغربها.

(٧) إخفاء نفائس الإسكوريال في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية

لما نشبت الحرب الأهلية الإسبانية (١٩٣٦–١٩٣٨) نقلت الحكومة من دير الإسكوريال إلى مجريط العاصمة جميع التحف الفنية، والكتب الخطية والآثار القديمة النفيسة؛ خوفًا عليها من التلف الذي قد تتعرَّض له من جرَّاء الحرائق والقنابل، ومن المعلوم أن عدة معارك طاحنة وقعت حول الإسكوريال، وهو على مسافة قريبة من العاصمة المشار إليها. ولما اشتد الهجوم على مجريط وتساقطت عليها القنابل من كل صوب نقلت تلك الذخائر الثمينة إلى بلنسية، ريثما تنتهي المعامع المشئومة ويعود الأمن إلى نصابه، فكان تصرُّف حكومة مجريط في صيانة تلك الآثار القيمة مدعاة إلى الثناء والطمأنينة.١٠
١  هو الاسم الذي أطلقه العرب على مدينة مدريد عاصمة إسبانيا.
٢  كتاب غابر الأندلس وحاضرها ص٩٨.
٣  تسبب هذا الحريق عن صاعقة انقضت على الإسكوريال، فأحرقت أكثر من ألفي مجلد من مخطوطاته العربية، وحدث ذلك عام ١٦٧١، وليس قبل القرن السابع عشر كما أفاد البحاثة شارل غرو Charles Graux, Essai sur les origines du fond grec de l’Escurial, p. 319.
٤  غابر الأندلس وحاضرها ص٩٨.
٥  المراد بلفظتي «إسبانية المصدر» هنا أن تاريخ كتابة تلك المخطوطات يتصل عهده بأيام عرب الأندلس في إسبانيا.
٦  هو مولى زيدان سلطان مراكش في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة (تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان مجلد ٣ ص١١٤).
٧  مجلة المجمع العلمي العربي: مجلد ٩ سنة ١٩٢٩ ص٢٥٢–٢٥٣.
٨  مجلة «المنارة» في جونية: مجلد ٧ سنة ١٩٣٦ عدد ١ ص٢٦–٢٧.
٩  مجملة المجمع العلمي العربي: مجلد ٩ سنة ١٩٢٩ ص٢٥٣–٢٥٤.
١٠  مجلة «الرسالة» بالقاهرة: سنة ٤ ص١٨١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤